السبت، 10 سبتمبر 2022

حلم الأبّة السماوية


 منى عباس فضل

 إنه ذكرى الطفولة وبراءتها هو الزمن الجميل بتلقائيته وسعادته التي لا توصف، المريول كما درج على تسميته، وهو الزي المدرسي للبنات. له هيبته وطقوسه التي كنا نفرح بها كما نفرح وننتعش بفساتين الأعياد والمناسبات.

 

هو عنوان لافتتاح موسم دراسي جديد في كل شيء، من المريول إلى الحذاء إلى شرائط الشعر ومشابكه والملابس الداخلية والجواريب والمناديل حيث لم يعتد الناس بعد على استخدام المناديل الورقية، هو السعادة بيوم شراء القرطاسية والشنطة بما تحتويه من أقلام رصاص وملونة وخلافه وبتجليد الكتب والدفاتر طقوس تتكرر علينا وعلى أبنائنا كل عام دراسي واليوم على أحفادنا بصورة مختلفة ومغايرة تعبر عن تطور المجتمع وتغير نمط سلوكيات أفراده.

 

هي ذكرى معاودة اللقاء مع الصديقات وزميلات المدرسة بعد انقطاع في الإجازة الصيفة، هو الموعد اليومي لمغادرة محيط المكان المحدود إلى الشارع العام سيراً على الأقدام إلى المدرسة وجدرانها حيث تتفتح عقولنا الطرية الصغيرة لتصغي فيه إلى أصوات تنقلنا إلى عوالم شاسعة ينطلق معها الخيال بالأحلام بالتمني.

 

شهد المريول أبو أبّة بلونه الترابي تغيراً عبر عقود من الزمن، حيث كان يحاك من قماش "الترقال أو البوبلين"، أكمامه طويلة، مع ياقة بألوان مختلفة بحسب أسماء مدارس البحرين الابتدائية؛ تغيرت ألوان الأبّة "الياقة" ثم توحدت إلى اللون الأخضر لجميع مدارس المرحلة الابتدائية وتغير بعدها الزي المدرسي بكامله في منتصف التسعينات إلى قطعتين تتكون من قميص أبيض ومريول محفور الذراعين من قماش ذو خطوط يتمازج فيها اللون الأبيض بالأحمر بالأسود والأخضر، واللون الأحمر هو الأبرز فيها.

 

ارتبطت صورة المريول الترابي بالأبّة "الياقة" وشريطة الشعر بطفولتي وأحلامي الصغيرة المدفونة في مراحل تعليمي الابتدائي والتي لا يعرف عنها أحد، إذ لا أحد لديه وقت ليسألك أو يستمع إليك ربما إلا حين تصرخ من وجع وألم.

 

أخذوني من ساحة اللعب فجأة إلى الصف الأول ابتدائي بمدرسة العجاجي بفريق الفاضل وهي بعيدة قياساً في المسافة في ذاك الزمن عن منزلنا الكائن في فريق الحمام، لم أكن أحب مدرستي لأنها حرمتني من اللعب؛ تعهد والدي رحمه الله بتوصلي كل صباح وقبل ذهابه للعمل على سيكله إلى المدرسة، كما تعهدت معلمة رباب الشريفة كما كنت أعرفها وهي صديقة لعمتي آنذاك وتدرس في نفس المدرسة باصطحابي معها للعودة إلى منزلنا ولأننا جيران.

 

كان لون أبّة مريولي الترابي في مدرسة العجاجي نيلي وهي درجة من درجات اللون الأزرق المشع الجميل، كنت أحب لونها لأنني بالأصل أعشق اللون الأزرق بدرجاته المختلفة، لكنني لم أحب المدرسة لأن تقيدني عن اللعب، وبها تلميذات يكبرونني في العمر كثيراً بسبب دخولهن للتعليم متأخراً كما كان سائداً في ذاك الوقت، ستجد في الصف الأول الابتدائي بين التلميذات بعمر الست سنوات، تلميذات أخريات بعمر 15 سنة؛ ولك أن تتخيل ماذا يحدث من مناوشات ومشاغبات يفترض فيها أن تكون محصناً بالقوة والحيلة لمواجهة أي موقف.

 

بعد شهرين تقريباً، وفجأة ودون معرفتي؛ تم نقلي إلى المدرسة الوسطى في فريق الحطب فتقربت المسافة من بيتنا نوعاً ما لكنها لا تزال بعيدة عنه، المدرسة عبارة عن منزل مستأجر من الحاج أحمد بن خلف؛ وهي ملاصقة بجدار منزل ابنه المرحوم عبد الرسول خلف، جاء نقلي لأن معلمة رباب تم نقلها للتدريس بهذه المدرسة التي مديرتها السيدة موزة القحطاني. لم يكن بالمدرسة غير ثلاث مراحل دراسية فقط الأول والثاني والثالث الابتدائي. كان لابد من تغيير أبّة المريول الترابي إلى اللون البني الذي لا أميل إليه ولا يشدني، حيث حلمي كان يهفو إلى الأبّة باللون الأزرق البحري السماوي الذي ترتديه تلميذات مدرسة فاطمة الزهراء القريبة جداً من منزلنا.

 

كنت أخاف الحي الذي به المدرسة الوسطي؛ كونه وسط منازل وعمارات تسكنها الجالية الهندية ممن يعمل أغلبهم في سوق الصاغة وتؤدي طرقه إلى سوقهم ومعبدهم في سوق المنامة، كما إن روائح المكان تزعجني وتثير اشمئزازي، حتى وهي تختلط بالروائح المشهية المنبعثة من مخبز مرزوق، رائحة الكب الكيك الذي أعشقه والبخصم والكماج وبسكويت الشكلمه.

 

لبست مريلتي بالأبّة البنية لثلاث سنوات، بعدها كنت قريبة من تحقيق حلمي لأن أنقل أوتوماتيكيا كما تراءى لي إلى مدرسة فاطمة الزهراء وأرتدي المريول الترابي بالأبّة السماوية، كنت كعادتي ألح وأطحن وأزن على عمتي لنقلي لهذه المدرسة؛ حاولت، وكل محاولاتها بات بالفشل. كانت صدمتي كبيرة ومخيبة للآمال، لم يكن هناك شاغراً وشعرت أن العالم يتآمر علي، حزنت كثيراً، تم التفاكر لنقلي مع أختي وعماتي إلى مدرستهن الغربية قرب القلعة ومريولهم بأبه بنفسجي، كنت أحب اللون البنفسجي، ولأن المدرسة قريبة من محل أحب أكل كبابه وسمبوسته، لكني لم أحلم بالبنفسجي كما حلمت باللون الأزرق السماوي.

 

تم نقلي إلى مدرسة زينب الابتدائية بمريول ترابي وأبه وشريطة شعر حمراء، انتقلت إليها وهي أقرب نسبياً إلى منزلنا، كانت معلمتي الملهمة جليلة الزيرة التي بدأت مع تعليمها وتربيتها مرحلة الانطلاق والسعادة والشطارة بعد الكسل والاهمال والدوائر الحمراء في الشهادات السابقة. بالطبع ضاع حلمي للأبد بأن أكون أحد تلميذات مدرسة فاطمة الزهراء التي كلما مررت عليها في دربي وأنا متجهة لمدرستي زينب، شعرت بالحسرة والغيرة ألا أحصل على هذه الفرصة.

 

في مدرسة زينب كنت قريبة من مخبز حسن محمود أيضاً وروائح المخبز الزكية تثيرني لكنها لا تختلط بالروائح المزعجة، تأخذني أكثر فأكثر إلى عالم الأحلام الجميلة خصوصاً حين أشتري منه الكعكة الصغيرة مستطيلة الشكل والمغطاة بكريمة الزبدة. ارتبطت هذه الكعكة بمناسبة حفل عيد الميلاد الذي كنت أحلم بالاحتفال به وانا أشاهد يومياً برنامج بابا حطاب في محطة أرامكو التلفزيونية أو برنامج ماما أنيسه في تلفزيون الكويت.

 

عموما أربع سنوات قضيتها مع مريولي الترابي بالأبّة وشريطة الشعر الحمراء، وضاع حلم الأبّة والشريطة الزرقاء بلونها البحري السماوي المريح، نتف صغيرة وأشياء عالقة لا يعلم بها أهلنا، لكنها عميقة محفورة لا تنسى، وتضفي سعادة طفولية على حواسنا كلما أمعنا النظر في الصور كلما استرسلنا في استرجاع محطات الذكريات وتبادل الأحاديث. ها نحن اليوم نعايش افتتاح مدارس أحفادنا وهم يمضون كل صباح في مشوارهم المدرسي عبر الحافلات أو السيارات، يرتدون زيهم المدرسي، يحتجون ويفرحون، ونتساءل كيف ستتشكل ذاكرة هذه الأيام والمرحلة في مخيلتهم يا ترى؟

 

المنامة -10 سبتمبر 2022

هناك تعليقان (2):

  1. لذيذ جداً المقال وممتع، شعرت جداً بالطفلة التي تمتلك الألوان والمذاقات حواسها 😁 ..بانتظار مقال مفصل عن كيكة عيدالميلاد 🧁

    ردحذف
  2. جميل جدا..

    ردحذف