الثلاثاء، 7 أبريل 2020

الاقتصاد بين كماشة النفط والكورونا

منى عباس فضل
في غمرة الإنشغال بتداعيات انتشار "فايروس كورونا" المستجد القاتل، ضجّت الأوساط الاقتصادية والبحثية بالحديث عن اشتعال "حرب كسر عظم نفطية" وتداعياتها الصادمة على اقتصاديات المنطقة التي باتت تنذر بمخاطر وانهيارات متزامنة مع تأثيرات أزمة "الكورونا" ودخول الأقتصاد مرحلة الركود. تُرى ما حقيقة الوضع؟ هل هو كارثي حقاً؟ ما التوقعات والسيناريوهات؟


حرب الأسعار
أصل الحكاية حدثت في اجتماع فينّا الشهر الماضي بين السعودية وروسيا حين رفضت الأخيرة الموافقة على قرار منظمة "أوبك" بتخفيض الإنتاج بحوالي "1.5 مليون برميل يومياً" للمساعدة في رفع أسعاره التي تراجعت جراء تراجع الطلب من الصين والدول المستهلكة الأخرى، ما يعني خفض حصتها من الانتاج. إثر الموقف الروسي، اتخذت السعودية قراراً منذ أسابيع برفع مستوى إنتاجها اليومي إلى "13 مليون برميل" وعليه تهاوت الأسعار لتصل إلى "35 دولاراً للبرميل" الذي انعكس مباشرة على أسواق المال. يشير الخبراء الاقتصادين بأن تأثيراته هي الأسوأ مقارنة بالأزمة الاقتصادية منذ 2008، وبأن الخسائر كبيرة إثر التراجع الانحداري لأسعار النفط الذي جاء مصاحباً مع المخاوف من انتشار "كورونا" الأمر الذي جعل من يوم الاثنين قبل أسابيع أشبه "بالاثنين الأسود"، حيث بلغت الخسائر تبعاً لتقديرات "رويترز" أكثر من نصف مليار دولار كما أفقدت النفط أكثر من ثلث قيمته.

مع استمرار احتراب الأسعار، تعددت التوقعات بانخفاض سعر البرميل إلى "25 دولاراً" وربما إلى أقل من ذلك، بعد أن كان "70 دولاراً للبرميل" حتى تراجعه في مارس الماضي إلى "50 دولاراً للبرميل"، علماً بأن سعره سبق وتعرض للانهيار عام 2014 من "120 دولاراً للبرميل إلى 30 دولاراً"، ولذات الأسباب تقريباً وقتها قيل بأن بلدان الخليج خسرت مئات المليارات من الدولارات وتراجعت عوائدها النفطية. 

في السياق ثمة من لا يتوقع من الخبراء والمحللين أن يكون هناك "هدنة ما" لتسوية المعضلة القائمة، بل يرون بأن روسيا مصممة على رفض أي تخفيض للإنتاج والتراجع عن حصتها السوقية ولكونها تخوض حرباً، هنا يشير مفكر وخبير اقتصادي فرنسي يدعى "جاك سابير" بأن لروسيا هدفين؛ أولهما مفاقمة مصاعب شركات النفط الصخري الأمريكية وإنها -أي روسيا- على قناعة بأن انخفاض الأسعار سيؤدي إلى أضرار تحدق بهذه الشركات بل وإلى إفلاسها بسبب ارتفاع تكاليف استخراجه، وثانيهما؛ الرد على الاستهداف الأمريكي لروسيا في مشروع "السيل الشمالي 2"، والنشاط الاقتصادي لشركة "روسنفت النفطية الروسية العاملة في فنزويلا، إلا أنه وتبعاً لآراء أخرى فإن قطاع النفط الصخري اعتاد على تقلبات الأسعار وعلى الإغلاق ومن ثم إعادة العمل. 


الكورونا تحدد الطلب
من جانبة توقع الأكاديمي الاقتصادي عمر الشهابي بأن الإفراط في إنتاج النفط والفوضى الحالية ستؤثر على انهيار الأسعار مصحوباً بتقلبات كبيرة في السوق، خصوصاً وأن النفط سلعة عالية الاضطراب، مضيفاً احتمالاً آخر بأن يتوصل المنتجون فيما بينهم إلى اتفاقيات جديدة للتحكم في عملية الإنتاج، ذلك على الرغم من ارتفاع نسبة تذبذب الإنتاج مقارنة بتذبذب مستوى الطلب عليه كسلعة يتحدد بعوامل متعددة يعود أهمها؛ إلى انخفاض الطلب عليه كسلعة في قطاع النقليات، إذ من المتوقع الاعتماد أكثر فأكثر على السيارات الكهربائية إضافة إلى تأثير تداعيات "فايروس كورونا"، وقد سبق أن تنبأ "صندوق النقد الدولي" في تقرير له قبل أشهر بأن الدول الخليجية أو معظمها، قد تواجه الإفلاس في عام 2034 بسبب تراجع استهلاك النفط إلى حدوده الدنيا لجهة توقف إنتاج السيارات المعتمدة على النفط كلياً، واللجوء إلى مصادر بديلة للطاقة كالرياح والطاقة الشمسية والذرية والسيارات الكهربائية، ولكن ماذا عن روسيا والسعودية بل وبلدان الخليج؟

بالنسبة لروسيا تشير تقارير متعددة إلى قدرتها وإمكانياتها الاقتصادية على امتصاص أزمة الأسعار وذلك لامتلاكها احتياطات مالية قادرة على مواصلة النمو وهي تمثل أكثر من "80 مليار دولاراً" مقارنة بالاحتياطات السعودية، كما إنها راكمت "170 ملياراً من الدولارات في صندوق مخصّص لمواجهة مثل وضع كهذا، وإن عملتها "الروبل" قد تم تعويمها بالكامل وهي تتمتع بتنوع اقتصادها ولا تعتمد النفط وعوائده إلا بنسب محدودة مقارنة ببلدان الخليج التي تمثل عوائد النفط فيها ما لايقل عن "90%" من دخلها القومي، كما إنها تتوافر على اتفاقات طويلة الأجل أبرمتها شركات النفط الروسية مع السوق الصيني وبأسعار شبه ثابتة في المتوسط، إضافة إلى استفادتها من عقود الغاز الضخمة مع أوروبا، الأمر الذي يعزز من قدراتها على الصمود أكثر من الأطراف المقابلة، ومع ذلك فإن لمدير وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني "دميتري مارينتشينكو" رأي مختلف بأن موسكو لم تكن تتوقع انهيار أسعار النفط إلى "30 دولاراً للبرميل"، بل إن هذا شكل مفاجأة غير سارة لمن اتخذوا قرار الإنسحاب من صفقة "أوبك+" في الإدارة الروسية، بالمقابل يتحدث الخبراء عما تملكه السعودية لأكثر من "500 مليار دولار" احتياطي نقدي قد تلجأ إليه لسد المتوقع من العجوزات، بيد إن المسألة أعقد من ذلك كما سنرى لاحقاً.

وعلى الرغم من تحوط اقتصاديين من التسرع في إطلاق التحليلات واستعجال التوقعات، إلا إن التوقعات على  المستوى العالمي قد تشعبت بشأن تأثيرات "فايروس كورونا" المقرونة بإنهيار أسعار النفط، حيث يتوقع الخبراء توقف السلاسل التكنولوجية العالمية إذا ما استمر الحال، وربما يحدث عطلٌ فيها ما يعني توقف مئات المصانع في العالم، وفي هذا تهديد رئيسي للاقتصاد العالمي سينتج عنه انخفاض حاد في الانتاج، وخلل في توريد السلع وارتفاع في أسعارالسلع الاستهلاكية ما يتبعه من ارتفاع معدلات التضخم وتباطؤ الاقتصاد العالمي والكساد ما يؤدي إلى "كارثة اقتصادية" ستتمثل في عجز سداد الديون العالمية، وهذا يمثل أسوأ السيناريوهات التشاؤمية. إلى هنا، نسأل بقلق؛ أين بلدان الخليج من هذا؟  


التأثيرات والتوقعات
في حقيقة الأمر من الصعوبة معرفة حدة التأثيرات واتساعها على المستوى الخليجي وبل انعكاساتها على المدى المتوسط والطويل، إلا إنه حتماً سيكون موجعاً إذا ما تمعنا في توصيف أحدهم إلى أن ما حدث بمثابة "مذبحة" للأسعار، وأضرار فوضى أسواق الطاقة وانخفاض أسعار النفط لهذه المستويات، سواءٌ لجهة البورصات التي تأثرت كثيراً مع تراجع الإنتاج بمعدلات كبيرة بسبب "فايروس كورونا" والأضرار ستشمل الجميع، وربما يعجل بموعد الإفلاس تبعاً لسيناريو المتشائمين، وقد تنزلق فيه دول المنطقة نحو أزمات مالية، صحيح أن بعضها يمتلك مصدات لمواجهة الوضع تتمثل في صناديق الثروات السيادية، كالكويت وقطر والامارات وهي تتوافر على احتياطات كبيرة، إلا إن الصحيح أيضاً إن بعضها سيكون في مهب الريح ومعرض لعجوزات أوسع في موازناتها ولأسباب معروفة كالبحرين وعمان.

 لم لا وأغلب بلدان الخليج تعتمد على النفط في نفقاتها، وهي أصلاً تعاني من ارتفاع الدين العام وعجوزات تنذر بزيادة الفجوة بين الإيرادات والنفقات، وفي المعطيات قفزت مستويات الدين الخليجي إلى نحو "501 مليار دولار مع نهاية الربع الثاني من عام 2019، مقابل "100 مليار دولار في عام 2014"، وتمثل البحرين الثالثة عربياً والأولى خليجياً في حجم الدين العام مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي للعام 2020 إذ بلغت الزيادة "100.19%" وتجاوز الدين حائط "13 مليار دينار"، يليها عمان (61%) وقطر (52%) والسعودية (23.7%) والإمارات (19%) والكويت بنسبة (17.78%)، فيما تتوقع الأوساط الاقتصادية تناقص الاستهلاك العالمي للنفط بحدود "750 ألف برميل يوميا"، وكل هذا وذاك سيضغط لاريب على الاقتصاد ويضاعف العجوزات في ميزانياتها وتتراجع معه معدلات التنمية، وقد يضطر أغلبها إلى اللجوء إلى الاحتياطيات المالية أو صناديق الأجيال القادمة واستنزافها، وفرض ضرائب لم يعتد عليها كأرباح الشركات ومداخيل المواطنين، وربما رفع أسعار الخدمات العامة أو إلغاء مجانيتها، وخفض كبير ونوعي في موازنات الإنفاق العام فضلاً عن تعزيز السياسات التقشفية الصارمة، أو اللجوء إلى الديون والاقتراض من صندوق النقد الدولي في ظل غياب مصادر بديلة للدخل، آخذين بعين الاعتبار تأثر أغلب القطاعات الاقتصادية من "فايروس كورونا" كالقطاعات السياحية والتجارية والخدمية ما سيؤدي إلى المزيد من هشاشة قوى العمل وانخفاض إنتاجيتها وتوقف بعض الأعمال، وهذا بدوره سيساهم في انكماش كبير في الاقتصاد ينتج عنه تسريح قطاعات عمالية في القطاع الخاص المتضخم بالعمالة الأجنبية وقد تتأثر الرواتب وترتفع مستويات البطالة، الأمر الذي يبشر بإنتهاء الدولة الريعية، ومظاهر الترف.

ففي السعودية وحدها يمثل قطاع الطاقة نحو "80%" من صادراتها وثلثي إيراداتها المالية، وهي تحتسب سعر برميل النفط في الموازنة العامة عند مستوى "65 إلى 75 دولاراً"، كما أعلنت موازنتها لعام 2020 بنحو "272 مليار دولار مقابل إيرادات متوقعة بقيمة "222 مليار دولار" أما البحرين فهي بحاجة إلى ما مقداره "91.8 دولاراً للبرميل" والكويت إلى سعر برميل عند "54.7 دولاراً" والإمارات إلى "70 دولاراً" وعمان "87.6 دولاراً"، وبالتالي إذا بقى سعر البرميل عند مستوى "35 دولاراً أو أقل منه حسب توقع الخبراء" ودون إحداث أي تعديلات على سياسة الإنفاق العام، فمن المتوقع أن تواجه اقتصاديات المنطقة المزيد من العجوزات كما سيتأثر صافي احتياطاتها الأجنبية على المدى المتوسط ما لم يكن هناك تنويع في مصادر التمويل، وقد سبق الإشارة إلى تحذيرات "صندوق النقد الدولي" لبلدان الخليج في اعتمادها على الإيرادات النفطية، ودعوته لها للقيام بإصلاحات جوهرية مع تراجع الطلب العالمي على النفط وانخفاض أسعاره، وأن لا خيار أمامها سوى تسريع الإصلاحات الاقتصادية.


في العموم، حتى وإن تريثنا في مناقشة التوقعات، فإن فوضى إنتاج النفط وخفض أسعاره في ظل تأثيرات الوباء الذي يجتاح العالم يعد بحد ذاته مغامرة لما يسببه من خسائر اقتصادية فادحة لا تتحملها اقتصاديات المنطقة الهشة، هناك شلل اقتصادي تعاني منه بعض دول العالم متأثرة بتقييد حركة النقل العالمية التي تمثل مصدراً رئيسياً للاستهلاك النفطي وتوقف شبه كامل لقطاع الطيران الذي خسر حوالي "120 مليار دولار" وربما أكثر منذ بداية الأزمة وإفلاس العديد من الشركات التي تعرضت لخسائر ضخمة بسبب ضعف أو توقف حركة السفر. الاقتصاد العالمي مأزوم ويواجه مخاطر الركود والكساد العالمي، واقتصاديات المنطقة جزء لا يتجزأ من هذا النظام الاقتصادي، وبالتالي لابد من مناقشة الأولويات وماهية السياسات التي تخفف من حدة تداعيات ما يجرى على الساحة العالمية وتأثيراتها.

منى عباس فضل
المنامة - 7 أبريل 2020