ليس من اليسير الكتابة عن تاريخ عُمان وثوراتها وحروبها المتشابكة؛ بل والتعبير عن ذاكراتها الاجتماعية والسياسية بعمق كما يستسهل البعض ذلك، بيد إن محمد اليحيائي في روايته "الحرب" تمكن من تجسيد ذلك بنضج فني كسر من خلاله رتابة السردية التاريخية وشد القارئ بمتعة إلى سلالة نص بلغة تصويرية معبرة.
عكست رواية "الحرب" اتساع مدارات نتاجات المؤلف الأدبية، وهو الروائي الإعلامي العماني الذي حصل على جائزة "كتارا" للرواية العربية لعام 2023 عن هذه الرواية، والتي وصفها النقاد بأنها نص أدبي؛ تتأرجح فيه تصاعدياً ستة شخصيات شارك أهلها في "ثورة ظفار" ومثلت فيه شرائح مختلفة من المجتمع العماني نسج من خلالهم خيوط الرواية وغاص فيها ومنحها الحياة والحركة لتلامس قضايا مرتبطة بالتاريخ العماني المعاصر وعبر أزمنة متعددة وأمكنة مختلفة من اليمن إلى السعودية ومصر إلى بولندا والبحرين والعراق والولايات المتحدة وبرلين والكويت، فعبرت في رحلتها عن رؤى واتجاهات فكرية متباينة للوطن والهوية. من خلال تلك الشخصيات استطاع التعبير عما لا تتسع له فضاءات القصة القصيرة التي كتبها كما يشير في مقابلة له، إذ مارس من خلال "الحرب" اللعب الفني والتعامل مع تناقضات الواقع الاجتماعي وتعقيداته والذي تمددت في إطاره مغامرته السردية بانسيابية الحركة وبالتلاعب بالزمن.
ارتكزت رواية "الحرب" على حدث تاريخي رئيسي شكل منعطف مفصلي بتشظياته من "ثورة ظفار" وحرب "الجبل الأخضر" بين السلطنة والإمامة، وتجاوزها إلى الحروب التي يخوضها المرء في الدفاع عن تطلعاته وأحلامه، ومن خلاله طوع ملامح من ذاكراته وتجاربه الشخصية ودراسته وما مر به من أحداث شهدتها عائلته ومحيطه المحلي، فجاء النص بعناصر بنية متقاطعة وإسقاطات تركت آثارها على شخوص الرواية حتى لتشعرك بأنها شخصيات حقيقية، كما شيد عالمه السردي على تقديم قراءة تاريخية تحليلية متباينة في عمقها ومتميزة في بعدها عن القراءات التي مررنا بها ونحن نتتبع تاريخ "الثورة" وشخوصها وما آلت إليه، ساعده في ذلك سعة ثقافته وعمق تجاربه الحياتية وكونه متخصص في دراسة التاريخ العماني؛ ولهذا لم تبتعد سرديته عن نقد هذا التاريخ بل ولم يتردد عن مساءلته بهز المقدس والتابو في إطار إبداعي وفني تداخلت فيه الأحداث مع حكايات الحب التي أبرزت العلاقات الإنسانية السائدة والحالة الصراعية في المجتمع العماني وتوظيفها في سياقات السرد، في هذا الشأن يقول:
- الحب هو العصب المتوتر في حياتنا، من غيره تبدو الحياة مملة، وليست جديرة بالعيش، الحب أيضاً حرب، حرب تخاض من أجل بقاء الحب وانتصاره، ويضيف: شخصيات الرواية "عيسى صالح" التي أعطبتها الحرب، وحولتها إلى كائن تلاحقه الأشباح والهواجس والتوهمات، كان يتعلق بالحب لينجو من الحرب، "كرستينا سعيد" التي وضعتها الحروب على الطرف الآخر حيث الحياة أكثر نعومة، كانت تبحث عن الحب من دون أن تجده إلا في أحلامها، والحال ذاته بالنسبة لـ"سعيد قيصر"، العلاقة بين الحرب والحب في هذه الرواية كما يرى اليحيائي ليست جناساً لغوياً، لكنه في نسيج العمل، والحب والحرب كما يصف: حاضران في مفاصل متعددة من الرواية، حب الأميرة سالمة بنت السلطان سعيد بن سلطان وحربها من أجل العودة من المنفى إلى الوطن، وحب "خليل زاهر" لحياة المتعة والبذخ وحربه للخلاص من ذاكرة القبيلة وهكذا".
في الرواية ثمة تاريخ سياسي وحربي؛ بعضه معلوم وبتحفظ والآخر مضمر ومسكوت عنه، انعكس في شخصية الموظف الإعلامي "سعيد قيصر" بخلفيته الثقافية والسياسية وبالخيبة التي مر بها وعبرت عن وضعٍ مركبٍ يتفاعل بين طموحه وعدم قدرته في إقناع التلفزيون الرسمي الذي كان يعمل فيه لتصوير مشروعه لفيلم وثائقي عن ثورة ظفار "1965-1975"، وهو الذي اشتهر بإنجاز فيلمه الوثائقي الحائز على الجوائز عن حياة السلطانة الصغيرة "سالمة بنت السيد سعيد بن سلطان" التي ولدت في زنجبار وأحبت تاجر ألماني وعاشت الصراع النفسي باتخاذ قرارها للمضي نحو قرار قلبها مع حبيبها ومغادرة زنجبار، في هذا السياق تتشابك شخصية "قيصر" بعمق ودينامية مع شخصية "كريستينا سعيد" المولودة لأم بولندية ولأب عماني كان مناضلاً في "ثورة ظفار" وقدم شهادته عنها، وحين يلتقيان؛ كريستينا وقيصر في معهد أمريكي للاستشراق، ويتواصلان عبر سردها المزدوج بضمير الأنا والغائب عن حياة والدها سعيد في بولندا وعن انتقالها للدراسة والإقامة في أمريكا في زمن الرواية؛ فيما يتمدد بينهما ويمضي النص في "زمن رسالة المذكّرات" التي تتلقاها كريستينا من والدها متضمنة سيرة حياته ومسارها بين الثورة وبين تحوله إلى مواقع السلطة ومغانمها؛ وعلى لسانه يدور الحوار:
- "لكن بخيت بيت عامر غيّر اتجاه البوصلة. لستُ متأكداً إذا كان هو من غير اتجاه البوصلة؛ أم أن رغبة كامنة في داخلي للإلتحام مجدّداً بتراب البلاد الذي روي بدماء رفاق من أجل أن نرى لحظة تحرّرها من قيود الجهل والعزلة وهيمنة البريطانيين ..وضع خطاً بقلم رصاص تحت الجملة التي أرادني قراءتها "أسباب الثورة في الماضي كانت مشروعة، كانت ثورة على التخلف والظلم. لم تكن هناك من وسيلة للتعبير إلا حمل السلاح والعنف" ..وحين سألته كيف عرفتْ السلطة والسلطان بأسمائنا؟ صمت ووضع يده على طرف الطاولة، ..كل الملفات عندهم، وجميعنا معروفون لديهم، والذين لن يقبلوا العفو ولن يستجيبوا لنداء البناء، يكونون قد فوتوا على أنفسهم فرصة لن تتكرر ثانية. وأضاف؛ الوطن ينادينا يا رفيق ..فلنلب نداء الوطن ..إلخ".
كل ذلك جاء في سياقات رواية "الحرب" وهي تتحرك بمضامين "ثورة ظفار" وما تنطوي عليه من مواقف غموض أو تحولات أو خيانات، وبكثافة لا تنقطع عن التداخل مع شخصية أحد قادتها "صالح ناجم" التي يرويها المؤلف عبر ضمير المتكلم لابنه "عيسى صالح" الشخصية الإشكالية المسكونة بالماضي والمأزومة المطاردة بالأشباح؛ يقول:
- عندما وارينا أبي التراب، همس العم سعيد في أذني، وهو يشدّني إليه بقوة، أبناء الأبطال لا يبكون ..تجلّد، فتجلدتُ، وشعرتُ كأنني ابتعلتُ عاصفة رمل جاف تحوس في أحشائي. بكيتُ في صمت، ذرفتُ دمعاً لم يره أحد، بكيتُ الأب الذي انتظرته، وحلمتُ بعودته، وبالجلوس معه والاستماع منه إلى الحكاية كلها، قصة البطل الذي عبر بشحنة السلاح تحت نظر الجنود بابتسامة بطل واثق من بلوغ الهدف. ماذا كان سيفعل بالسلاح، ولماذا؟ ..أبي الذي كتب قصة عن الحرب لم تكتمل، ..هل تعرّض للتعذيب والمعاملة المهينة طوال سنوات سجنه، أم يشعر بالندم على السنوات التي ضاعت في السجن، ليس من عمره فقط، ولكن من عمري وعمر منيرة بوعلي، في الوقت الذي كان فيه بعض رفاق السلاح يلمعون تحت الأضواء في قاعات المؤتمرات مثل مونيكانات؟ هل كان يخاطبهم مؤنباً أو معاتباً على خيانة الثورة؟ هل كان نادماً على الرحلة كلها، على فكرة الثورة من أساسها، على العودة من الكويت إلى ظفار وليس إلى بركاء والى السكينة والهدوء. هل كان بمقدور صالح ناجم المضي في غير الطريق الذي آمن به؟
إلى هنا، ظلت الأسئلة بلا إجابات، فالحرب والثورة الظفارية شكلت حمولة ثقيلة من القيم والمبادئ وأحلام التمرد على واقع صعب تقاذفته قوى التغيير بأفكارها وتداعياتها مع تحديات الظروف الذاتية والموضوعية المحيطة التي تكالبت عليها وقوضت مرتكزاتها ومساراتها؛ فأفرزت وضعاً تصادمياً بين حقيقة الواقع المحلي بكل مخلفاته من المعاناة والفقر والجهل والظلم والاستبداد والواقع الإقليمي الذي تتحرك فيه المصالح في إطار علاقات الحماية التي فرضتها الدول الاستعمارية الكبرى على الدول الإقليمية، وعبرت عنها بجلاء أحداث رواية "الحرب" من خلال شخوصها التي عاش بعضها على أحلام الثورة ثم تخلوا عنها وتحولوا إلى مواقع السلطة، فيما هاجر البعض الآخر رافضاً واقعه الداخلي، وهناك من لا يزال يعيش الماضي بانتمائه القبلي، وجميعهم في تفاعلهم وتشابكهم أو في حيادهم؛ إنما يقدمون في المشهد العام للرواية وثيقة تاريخية محملة بأفكار ومبادئ الثورات ومظاهر الطغيان والاستبداد وما استتبعها من كوارث حلت بالمناضلين والمقاومين ممن حلموا بالتغيير وحملوا مسؤوليته وتكسرت أحلامهم في مواجهة لا عدل فيها ولا توازن.
الخلاصة، حضور الشخصيات وتفاعلها بقوة في معالم النص وسياقاته وإن بمسافات تتباعد حيناً وتتقارب حيناً آخر، إلا إنها تبعث على الحزن، وتحمل في طياتها بعداً إنسانياً وتاريخياً تمكن اليحيائي بمهارته الأدبية والفنية واقتداره على تقديم شهادات تصويرية وبواقعية نقدية عبر استنطاق ذاكرة فئات مختلفة من المجتمع والكشف عما في ضمائرها واستثارة التفكير حول ما تتركه الحروب في أرواحنا من آثار نفسية وأوجاع ومن ندوب على ذاكراتنا.
المنامة - 19 يونيو 2024