الاثنين، 28 يناير 2019

بين عام العار والانتفاضات الشعبية

منى عباس فضل

انتشر خلال هذه الأيام تقرير لمنظمة العفو الدولية بعنوان "عام العار" الذي يتحدث بإسهاب عن حملة الاعتقالات المشينة التي جرت خلال عام 2018 في إيران والتي تم فيها سحق الاحتجاجات باستخدام الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والاعتقال التعسفي لما يزيد عن سبعة آلاف من المعارضين والمعارضات من طلاب وصحفيين ونشطاء بيئة وعمال ونقابيين ومدافعين عن حقوق الإنسان ومحامين وناشطات في حقوق المرأة ومن الأقليات، حيث نالهم جمعياً السجن والجلد والتعذيب وظروف اعتقال مريبة حسب وصف التقرير.


في التقرير أيضاً، أن المعارضين والمعارضات الإيرانيين رفعوا شعارات صارخة ضد الفقر والفساد والاستبداد والحجر على الحق في حرية الرأي والتعبير وتكوين الجمعيات والتجمع السلمي، ووجهوا باتهامات بينها نشر الأكاذيب والخيانة للوطن، ويضيف التقرير بأن النساء المدافعات عن حقوق المرأة تظاهرن في الشوارع ووقفن على أسطح المباني المرتفعة في الأماكن العامة ملوّحات في صمت بغطاء رأسهن على طرف العصى تعبيراً مضاداً للقوانين المسيئة والتمييزية الخاصة بارتداء الحجاب الإلزامي، الأمر الذي جعلهن عرضة لرد فعل قاس ومواجهة اعتداءات عنيفة على أيدي السلطات، حيث تواجه العديد منهن تهماً تتعلق بالأمن القومي والأحكام القاسية بالسجن والإعدام.


ذليت الناس يا رقاص
في نفس الفترة ثمة أخبار ومشاهد متقاربة في الشكل والمضمون طالعتنا بها وسائل الإعلام وهي تحدث في مجتمعات عربية وإقليمية؛ منها الانتفاضة السودانية التي انطلقت من مدينة العمال الفقيرة "عطبرة" وتصدرت فيها النساء حمى المشاركة الاحتجاجية في الشوارع، فيما تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطعاً هتافياً حماسياً بصوت "مروة جبريل" يدوى: تسقط...تسقط..تسقط بس، حكومة الفقر تسقط بس، حكومة الذل تسقط بس، حكومة الموت تسقط بس، حكومة الجوع تسقط بس، حكومة العسكر تسقط بس، تسقط بس تسقط بس وتسقط..تسقط..تسقط بس" وهتاف  آخر يصدح به المحتجون: "يا خرطوم ثوري ثوري ضد الحكم الدكتاتوري، جوعت الناس يا رقاص، ذليت الناس يا رقاص، شردت الناس يا رقاص...إلخ".


 النساء السودانيات حالهن حال العربيات في ثورات الربيع العربي، استجبن لهبة ثورة الجياع وشاركن في الاحتجاجات الشعبية مع قوى الشعب ضد نظام الفرد الدكتاتوري وضد تكميم الأفواه وكبت الحريات وضد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعيشية التي لم تعد تطاق مع ارتفاع نسب البطالة والفقر وتدهور الحياة المعيشية وزيادة الفساد في مؤسسات الدولة وفرض قوانين تقشفية جائرة ومذلة تمس لقمة العيش اليومية في ظل ارتفاع أسعار السلع الأساسية كالكهرباء إضافة إلى القوانين المذلة والمهينة للمرأة وما تتعرض إليه النساء من عوز وفقر مضاعف بسبب الاضطرابات السياسية والحروب.


وتماماً كما في حال الإيرانيات، تعرضت السودانيات للقمع الوحشي ولحملات القتل والاعتقال والترهيب بهدف كسر إرادتهن وكل ذنبهن هو المطالبة بالحريات والعدالة الاجتماعية والمدافعة عن كرامة الإنسان، حيث وثقت المنظمات الحقوقية اعتقال ما يزيد عن (60) مدافعة عن حقوق الإنسان من محاميات وقياديات في الاتحاد النسائي السوداني وصحافيات وطبيبات وغيرهن، ولا يزال بعضهن يعاني من إساءة المعاملة في مراكز الاحتجاز الأمنية سيئة الصيت ويتعرضن للتحرش والاغتصاب والتخويف لكسر شوكتهن والتهديد بتشويه السمعة، يحدث هذا ولا يزال أمام ناظر المجتمع الدولي والعربي الذي وقف بعضه بوقاحة ونفاق لا نظير له إلى جانب النظام.

البطش لا يسكت الشعوب
إذن حال "العار" الذي تناوله تقرير منظمة العفو الدولية لا يقتصر على إيران، إنما يمتد ويتسع مداه إلى كافة البلدان التي تعاني شعوبها من مرارة الظلم واللاعدالة والفقر والفساد. إن الحقائق التاريخية الدامغة تثبت يوماً بعد يوم، أن "فعل العار" في قمع الشعوب وانتهاك حقها في الحريات تتورط فيه غالبية البلدان التي تحكمها وتديرها أنظمة دكتاتورية استبدادية في فكرها وثقافتها وبما يشيع في أوساطها من حكم الفرد والفساد المالي والسياسي وغياب العدالة والتمييز ونهب ثروات الشعوب الذي تقاسي في ظله النساء وفئات الشعب الأخرى المرارة والعذاب أثناء نضالهم اليومي للحصول على الحرية والكرامة وتقرير المصير من الانتهاكات والاعتقال والظلم. وبالتالي فإيران القمعية في ظل نظام الملالي الأوتوقراطي ليست استثناء عن حالة الأنظمة الدكتاتورية الاستبدادية أو الدينية أو الطائفية أو الجمهورية في انتهاك الحريات وتكميم الأفواه، كلهم في الهم سواء.


التاريخ يعلمنا أن العنف والبطش لا يسكت أصوات الشعوب وصداها، بل يضعنا أمام مشهد عميق في مغزاه، بأن للمرأة دائماً حصة كبيرة في المشاركة الفعالة في تحريك احتجاجات الميادين والساحات، كما لها بالمقابل حصة لا يستهان بها من الانتهاكات التي تمارس من قبل أجهزة الأمن أثناء التظاهر والاعتقال والإختفاء القسري وتلقى التهديدات والتحرشات والاغتصاب أثناء الاعتقال والاستجوابات.

التغيير سيرورة التاريخ
يبقى أن التغيير والتجديد صيرورة التاريخ وضرورة إنسانية وظاهرة صحية لاسيما حين يكون ثورةً وانتفاضةً واحتجاجاً على الفساد والمفسدين. صحيح أن لكل ثورة وحركة احتجاج خصائصها وسماتها المتعلقة بطبيعة النظام السياسي وتركيبته ومؤسساته الأمنية وطبيعة بنية المجتمع ومكوناته من نسيج طائفي وعرقي أو قبلي..إلخ، إلا أن هناك بالمقابل قواسم مشتركة بين الشعوب الثائرة كالشعور بالظلم وبضرورة التحرر من الاستبداد وفق مفاهيم الحرية والمواطنة والعدالة والحق. وعليه يرى البعض: "بأنه لا يمكن وضع كل الثورات والانتفاضات في بوتقة واحدة، رغم تأييدها والتضامن معها، ذلك لأن المعيار ليس المعارضة فقط أو أسلوب المسيرات الشعبية، بل الأساس لرؤية أيّ منه يكمن في السؤال عن هدف هذه الانتفاضات؟ وعن هويّة القائمين عليها؟ إذ يرى البعض هنا وجود أيادٍ خفية مشبوهة تلعب في المشهد الاحتجاجي من الداخل وله علاقة بالخارج لافتعال حالة التمرد والأزمات والانقلابات العسكرية الدموية".

أما الرأي الآخر الذي خلص إليه وائل قنديل في مقالته "أسئلة الامتحان السوداني الصعب" جاء عبر إشارته "إلى أن هذا الوضع يفرض امتحاناً صعباً وأسئلة كاشفة للمواقف الحقيقية والانحيازات الصريحة، مع الشعوب وضدها، ومع المبادئ وعكسها، وهو الامتحان الذي أظهر مساحة هائلة من التناقضات وازدواجية المعايير، والتواطؤ، الصامت أحياناً، والصارخ في أحيان أخرى" ويتساءل: "كيف تكون مع حق السوريين في الغضب والثورة، والسعي إلى الانعتاق من الاستبداد، ثم تتخذ موقفاً سلبياً، متواطئاً، ضد حق السودانيين في المطالبة بالتغيير، والتحرّر من استبداد ثلاثة عقود متواصلة؟ ...لماذا يكون الحراك الجماهيري في سوريا سعياً إلى الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، بينما الحراك السوداني تعتبره تخريباً وعنفاً وهدماً لمقومات الدولة السودانية؟ كيف تكون مع الثورة الشعبية في نقطة، وضدها في نقطة أخرى؟".

وعليه، بحق كيف تكون مع ثورة شعبية هناك وضد ثورة شعبية أخرى هنا؟! كيف؟! 

منى عباس فضل

المنامة – 28 يناير 2019



الاثنين، 21 يناير 2019

بنجلّون وزواج المتعة

منى عباس فضل 
من كنز الحكايات الساحرة والنائمة التي لا حدود لدوائرها في المغرب؛ وتحديداً في مدينة فاس مسقط رأس الكاتب المغربي الطاهر بنجلون حيث يقول: "في هذه المدينة التي لا أفق لها، حيث المنازل تتداخل في ما بينها والزنقات تنسج متاهة ضيقة، تبدو الحياة مكتوبة سلفاً، ويُجبر كل شخص على البقاء في مكانه، فبينما على المرأة عدم تجاوز الحدود التي خطتها القرون لها، على الرجل الفقير الاكتفاء بظروفه البائسة، وعلى الثري متابعة طريقه نحو ثراء أكبر دون الالتفاف إلى الخلف أو الشعور بالظلم." 

من خلال العابرين والقابعين في أماكنهم نستعيد مع بنجلون وعلى لسان حكواتي حكيم تفاصيل روايته "زواج المتعة" التي يثير فيها قضية العنصرية في بلاده، وعلى طريقة الراوي العربي وبتقنيات سردية يقول الحكواتي: "هذا المساء سأقص عليكم حكاية حب، حب جارف ومستحيل عاشته شخصياته حتى آخر رمق. لكن كما سترون، خلف حكاية الحب الأعجوبة تلك، يوجد الكثير من الكراهية والاحتقار، الكثير من الشرّ والقسوة. شئ عادي، هكذا الإنسان. أردت أن تكونوا على علم بذلك حتى لا تصيبكم الدهشة".


مع تصاعد الخط السردي يناقش بنجلون محاور درامية متشابكة ومتقاطعة بين الديني والاجتماعي والإنساني عبر شخصيات الرواية، كما يتسلل من ثقوب الجدران بطرح أسئلة ونقاشاً حول إشكاليات لا تزال عالقة بشأن قضايا دينية اجتماعية كقضية "زواج المتعة" ونظرة المجتمع إليه من خلال النصوص التي تناولته، ذلك على الرغم من أن قضية هذا الزواج لم تكن المحور الرئيسي للرواية وبرغم محاولته تجنب الانحياز أو إطلاق الأحكام القاطعة بشأنه بقدر ما حاول أن يعكس كيفية تطويع المجتمع لما ورد في النصوص، بيد إن ثمة من يرى "بأنه ناقش موضوعاً مركزياً وحساساً من خلاله، وهو موضوع تعدد الزوجات الذي يكشف لامبالاة الرجل الشريك لمشاعر الزوجة الإنسانية وللوضع المحرج الذي يضعها فيه والجرح العميق الذي يسببه لها عند اقترانه بامرأة أخرى، هذا الجرح الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى صراع صامت أو علني بين الزوجتين يدفع بأولادهما لأن يدفعوا ثمنه".

بنجلون يضع قارئ النص في محور بأبعاد زمنية وجغرافية وتاريخية أثناء مساره السردي من خلال حكاية أمير الفاسي الميسور الحال الذي يسافر سنوياً إلى السنغال لشراء ما تحتاجه تجارته من بضائع، ومثله مثل الكثيرين من أهل بلده الذين يجبرهم عملهم على الاستقرار فترات طويلة في إحدى الدول الأفريقية وحسب العرف الإسلامي كان يتزوج زواجاً مؤقتاً يتكرر في داكار، لكنه هذه المرة يقرر وهو المتزوج من اللالا فاطمة ولديه ثلاثة أولاد وبنت من عقد قرانه في زواج دائم على شابه سينغالية جميلة تدعى "نابو" حتى لا يسقط حسب اعتقاده في علاقة غير شرعية. نابو كانت مرتبطة بأرضها السنغال وتخاف الموت ولا تدين بأي ديانة هكذا يسرد الحكواتي؛ لكنها تقبل الدخول في الإسلام كي تصبح زوجة للتاجر الفاسي. في السياق يشكل ابن أمير الأصغر كريم الرابط المفصلي بينه وبين العائلة فهو مصاب بمتلازمة داون "المنغولية" ومع ذلك فكان منطلقاً نحو الحياة ومتميزاً في الحساب والموسيقى ومحباً وحنوناً وغالباً ما كان يصطحبه أبوه في زياراته التجارية إلى السنغال، فكان مرافقاً لموكب العروسين "أمير ونابو" من داكار إلى فاس. 


في الأصل كانت الزوجات البيض يعرفن أن أزواجهن يعقدون زيجات متعة مدة إقامتهم بأفريقيا، وزوجة أمير الفاسية تغض الطرف عنه حالها حال النساء الأخريات ولا تطرح الأسئلة، إعتقاداً منها أنه أفضل من أن يعاشر زوجها بنات الهوى، لكن لهذا التسامح حدود وحدث ما لم يكن في الحسبان بأن تجاوز أميرها ذلك النظام وحدود التسامح ووقع في حبّ "نابو" التي عرض عليها الزواج كزوجة ثانية تعيش معه في فاس، فوافقت وذهبت معه إلى فاس، وبرغم كل الصعوبات المتوقعة من هذا الزواج الذي اصطدم بعوائق اجتماعية ومشاكل لا حدود لها فقد اشتغلت غيرة الزوجة الأولى الللا فاطمة وتفاقم الصراع بينها وبين زوجها فيهجرها الفاسي كما تزوجت ابنتها وسافر إبناها الآخران إلى القاهرة للتعليم فشعرت بالوحدة حتى توفيت. انتقلت الأسرة بعدها إلى طنجة ليستقر الفاسي في تجارته هناك حتى فارق الحياة هو الآخر، فيما استمر كريم في العيش مع والديه وشقيقيه الجديدين التوأمين اللذين أنجبتهما "نابو" وكان أحدهما وهو حسين أبيض البشرة استطاع التأقلم والإندماج في المجتمع والنجاح في حياته العاطفية والمهنية فيما فشل الآخر حسن أسود البشرة في العثور على الأمان والسعادة لاختباره شعور العنصرية على حقيقته تماما كما أمه.

من خلال أحداث الرواية وما سيتعرض له الإبن الأسود البشرة وأمه السينغالية من نظرة دونية سيكتشف القارئ كمّ العنصرية الهائل الذي يتعرض له سود البشرة في المجتمع المغربي ومن خلال ثلاثة أجيال أخترقها الطاهر بنجلون لعائلة أمير متنقلاً بين شرائحها وكاشفاً الغطاء عن مفارقات المجتمع وتناقضاته ومواقفه التي يتداخل فيها الصراع والعنصرية الضاربة للقاع في عمق المجتمع المغربي بسبب لون البشرة الذي لا ينجو منه حسن ولا ابنه سليم.

يجسد بنجلون مشاهد هذا الصراع والعنصرية من خلال ترحيل الحفيد سليم ابن حسن بالخطأ من طنجة إلى دكار ذلك لأن الشرطة اعتقلته ولم تصدق بأنه مغربي بسبب لون بشرته السوداء التي شكلت هويته الوحيدة حين لم يكن يحمل أوراق هوية فاعتبروه مهاجراً غير شرعي، كما تصاعد الموقف حين مرافقة سليم لمجموعة شبان سنغاليين أثناء سفرهم من وطنهم إلى المغرب سيراً على الأقدام، هنا يكشف بنجلون مصاعب رحلة المغامرة الخطيرة ومعاناة الأفارقة الذين يتحولون بعد فشلهم في العبور لأوروبا بطريقة غير شرعية إلى شحاذين في الشوارع وإلى مضايقات رجال الشرطة. عندها تختلط المشاعر في مخيلة سليم الذاتية والصور الذهنية العربية والأفريقية التي تتحول إلى مأساة تتكأثر حتى تنتهي حياته عند السياج الحديدي في منطقة التهريب نحو سبتة الواقعة تحت الاحتلال الأسباني حيث ترديه رصاصات حراس الحدود قتيلاً ويتحول إلى جثة هامدة في رمزية حزينة لمأساة ضحايا الهجرة غير الشرعية ولزواج المتعة الذي لم يعترف به، وينتهي المشهد المأساوي بسؤال أطلقه الحكواتي:

-         "كم يلزم الإنسانية المصابة بداء العنصرية من الوقت كي تسأل ذاتها لماذا يحدد لون البشرة مصير البشر؟ هذه البشرة التي ترتقى بالبعض وتنزل بالبعض الآخر إلى الجحيم؟  

على هامش حفل لتقديم روايته يقول بنجلون: "في هذا الكتاب ثمة كثير من الحنين إلى القارة السوداء التي لا نعرفها جيداً، بمن في ذلك نحن المغاربة..ويستطرد ..المغاربة في الماضي كانوا يعبّرون عن مواقف عنصرية إزاء السود حتى من أبناء جلدتهم، مشيراً إلى أن عائلته كانت تضم أشخاصاً من السود وكانوا يعاملون معاملة مختلفة عن الطريقة التي يعامل بها البيض، إذ لم يكونوا يجلسون معنا على طاولة طعام واحدة، بل يأكلون في المطبخ، لقد انتبهت إلى هذا التمييز وأنا طفل صغير".

وأردف بأن كتابة "زواج المتعة" كانت نتيجة هذه الذكريات التي اختزنت في ذاكراته، وكذلك مشاهد عدد كبير من المهاجرين الأفارقة القادمين من بلدان جنوب الصحراء في بداية تسعينيات القرن الماضي أملاً في العبور إلى الضفة الأخرى للمتوسط عبر ميناء طنجة والذين انتهى بهم المطاف مشردين في شوارع مدينة البوغاز..". كما أوضح بأن تطرقه للعنصرية في الرواية جاء لتوضيح عنصرية العرب والمغاربة تجاه "سود البشرة" مثلها مثل عنصرية بعض الدول الغربية تجاههم، إن البعض يطلق ألقاباً ونعوتاً قدحية جارحة على سود البشرة دون الاهتمام بأثرها المهين والقاسي على نفسيتهم".

أما بشأن شخصية الابن المنغولي كريم في الرواية فيضيف "بنجلون" عن تأثير تجربته مع ابنه "من ذوي الاحتياجات الخاصة" على أسلوب ومحتوى كتابته للرواية، مشيراً إلى أن أحد شخوصها يقدم مقاربة لشخصية ابنه وما عاشه رفقته من مواقف إنسانية، قائلاً إن ابنه غمرته سعادة كبيرة حينما أخبره أنه أحد شخوص الرواية.

"زواج المتعة" رواية فلسفية تفيض بمشاعر إنسانية جميلة، تتناول العنصرية والتطرف والكراهية والانكسارات والحب بشفافية عالية. 

منى عباس فضل
المنامة – 21 يناير 2019 


السبت، 19 يناير 2019

تحولات سوق العمل وانعكاساتها على حقوق المرأة العاملة تونس ومصر والبحرين


منى عباس فضل 
 بحث ساهمتُ فيه عن حقوق المرأة العاملة في البحرين إلى جانب الباحث التونسي د.سامي عوادي عن تونس ومن مصر الأستاذة منى عزت وذلك بالتعاون مع مؤسسة فريدريش ايبرت 
 وجاء في مقدمته: ء  Friedrich Ebert Stiftung

"حدثت منذ ما لا يقل عن نصف قرن تحولات هامة في العالم على المستوى التكنولوجي والاقتصادي والاجتماعي وكانت محمّلة بانعكاسات هامة سلبية وايجابية على نمط الحياة عموما وعلى العلاقات الشغلية داخل البلدان وعلى العلاقات الاقتصادية والتجارية فيما بين البلدان.

ولئن استفادت الشعوب خاصة في البلدان الصناعية والبلدان الثرية من التقدم التكنولوجي وظهور مجتمعات المعرفة والرقمنة ويسّرت قضاء المآرب وقرّبت المسافات وفكّت العزلة ووفّرت المعلومات والترفيه، فإنها استدعت في البلدان النامية قيام علاقات اجتماعية وخاصة شغلية جديدة وتحوير التشريعات الاجتماعية في اتجاه التراجع عن العلاقات المهنية القارّة والمستقرة وإرساء المرونة او الليونة (flexibilité) والحراك (mobilité) والأجر المتغير. كما استدعت العولمة الاقتصادية تغيير القوانين الداخلية للبلدان للحد من حماية الاقتصاديات الوطنية وتحرير المبادلات التجارية والتخلي عن الاقتصاد المؤطر لفائدة الاقتصاد المحرّر ما نشأ عنه تحطيم لجزء هام من النسيج الاقتصادي في البلدان النامية وتسريح لأعداد كبيرة من العمال.

انطلاقا من هذا التشخيص تحاول هذه الورقة البحثية تسليط الضوء على هذه التحولات ورصد انعكاسات تحولات أسواق العمل على حقوق المرأة العاملة في كل من :تونس، مصر والبحرين ثم ضبط توصيات لمراجعة آثار هذه التحولات موجهة الى النقابات والحكومات ومنظمات المجتمع المدني.


لقراءة تفاصيل البحث أنقر على الرابط التالي:





المرأة البحرينية ما بعد الانتفاضة

منى عباس فضل
المصدر: منشورات الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
بحث قدمته الباحثة في مؤتمر العدالة الجندرية في العالم العربي ما بعد الانتفاضات
في 3-4 آذار/مارس 2017 
بمعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية 
بالجامعة الامريكية، بيروت-لبنان

file:///C:/Users/Toshiba/Downloads/3658%20INTIFADAT%20wal%20AADALA%20fi%20l%20aalam%20al%20arabi%20Final%20corr21DEC%20(1).pdf






مقدمة

تشير أغلب التحليلات والدراسات التي تناولت الانتفاضات العربية إلى أن الشعوب العربية عاشت زمناً طويلاً تحت وطأة القهر والظلم، وعانت من الانحلال السياسي والعبث بالمقدرات والثروات، فجاءت الثورات العربية كردّ فعل غاضب ويائس من انسداد الأمل أمام الشباب واحتقار الفرد وإمتهان قيمته الإنسانية في ظل عقود من حكم أنظمة الاستبداد والدكتاتورية وانتكاسات سياساتها الاقتصادية والتنموية الفاشلة، تلك الأنظمىة التي انخرطت في عملية التحويل الهيكلي لاقتصاديات بلدانها بتطبيق إملاءات البنك الدولي[1] وترسيخ قيم العولمة المتوحشة.

كما اتسمت أنظمة الحكم في هذه "الدول الغنائمية"[2] بفسادها واحتكارها للسلطة واستحوذها على الثروات وانعدام شفافيتها فيما يتعلق بالمداخيل والمصاريف والصفقات، الأمر الذي عمق من الهوة بينها وبين طبقات المجتمع وفئاته وأشاع الاحباط واليأس، حتى ظن الكثيرين بأن هذه الشعوب لن تنهض لأنها فقدت الثقة بنفسها واستكانت للواقع الذي تعيشه بالقمع تارة وبالترويض والصمت واستلاب الإرادة تارة أخرى. بيد إن صحوة الشعوب واندفاعها في الثورات وموجات الاحتجاجات العارمة قد فاجأ العالم بسرعته الفائقة، وكسره لحاجز الخوف، ومستويات انتشاره والزخم الجماهيري الذي اتسم به، فقد بدأت الاحتجاجات عفوية تطالب بالتغيير رافعة شعارات "حرية، خبز، عيش وحرية، عدالة اجتماعية" وسرعان ما تبلورت وبدينامية في مراحلها اللاحقة وبمساهمات من كل الفعاليات والمفكرين والتنظيمات الحزبية والنقابية والنسائية وجميع فئات الشعب من شباب ونساء باختيار طريق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومناهضة الفساد والاستغلال والإفقار وتعميق الفوراق الطبقية[3].

ست سنوات مضت منذ انطلاقة الشرارة الأولى لعصر الثورات والتحولات في العالم العربي، وهي فترة كافية كي نتعرف فيها على الأدوار التي لعبتها النساء في انتفاضات الشوارع واحتجاجات الميادين، كما إنها مناسبة لمعرفة ما أعقبها من متغيرات كانت ولازالت النساء شريكات فيها، ويشكلن قوة فاعلة ومؤثرة في عملية التغيير الذي أعقب الانتفاضات والثورات ويقدمن التضحيات.

البحرين في قلب الثورات العربية
عرفت البحرين التحركات الشعبية والمطلبية منذ بدايات القرن العشرين وحين كانت محمية بريطانية تحكمها سلطة مركزية خاضعة لحاكم يتم التوافق عليه من عائلة الأمير، وقد تبلورت هذه التحركات وتأثرت بتفاعل عوامل اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة كالوجود الاستعماري، وطبيعة نظام الحكم القبلي، واكتشاف النفط ونيل الاستقلال وكل ما فرضته وتيرة التحولات في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي فأن التحركات لم تأتِ من فراغ أو بشكل مفاجئ أو نتيجة خطط مرسومة، بل جاءت بشكلّ تدريجيّ، وكردّ فعل عن حوادث تاريخيّة معينة لعب فيها البريطانيون والقوى المحليّة السياسية أدوارًا مختلفة، خصوصاً حين اختار البريطانيين البحرين مركزًا لعملياتهم التجارية في الخليج، واضطرارهم للقيام بإصلاحات في الإدارة المحلّية[4] وصاروا في مواجهة تحدّيات تتعلّق بتلبية احتياجات المواطنين في توفير الخدمات البلدية والتعليميّة والصحيّة والقانونيّة كالأوقاف وفرص العمل وغيرها.

تشير الدراسات التاريخيّة إلى إن عمليّة التحول في المجتمع البحريني لم تكن عمليّة سهلة، لاسيما مع إعادة تنظّيم الموارد الاقتصاديّة كإنتاج اللؤلؤ وزراعة النخيل ومصائد الأسماك، وتنظّيم الخدمات العامّة كسياسة الاستيراد والتصدير وعمليّات المرفأ وإعادة تنظيم الخزينة العامّة والحق العام[5]، وهذا فَرَضَ إلغاء نظام الإمارة والحكومة القبليّة الإقطاعيّة، والبدء ببناء تنظّيمات بيروقراطيّة ومؤسّسات للدولة تعتبر في جوهرها إصلاحات إدارية.

شهدت البحرين منذ خمسينيّات القرن الماضي تطورًا ملموسًا ومنعطفًا على صعيد الإصلاحات، وأدّى اكتشاف النفط في 1932 وإنتاجه إلى حدوث زخمٍ اقتصادي قاد إلى نشوء وظائف ودوائر جديدة كالصحة والنقل والأشغال العامّة والكهرباء والماء وغيرها[6]، وهذا ساهم في تنامي التحرّك الشعبيّ وتشكل الطبقة العمالية وبلورة المطالب الشعبية وتجذرها، بيد أنَّ  المحرك الأساسي لهذا التطوّر السياسيّ والإداريّ لم يقتصر على تأثير اكتشاف النفط فقط، إنَّما تزامن مع ظهور الحركة الوطنيّة المعروفة بــ "الهيئة التنفيذية العليا"[7] وهي الهيئة التي اعترفت بها حكومة البحرين والحكومة البريطانيّة رسميًا بتاريخ 20 مارس 1956 كهيئة سياسيّة، وتحت مسمىّ جديد هو "هيئة الاتحاد الوطني"[8] التي اعتبرها الساسة أول حزب سياسي حيث تقدم إلى الحاكم بمطالب سياسيّة كإنشاء مجلس شعبي تمثيلي لإقرار القوانين، وإجراء إصلاحات أساسيّة في نظام الإدارة، إلا إن الحكومة والإنجليز رفضت الاستجابة إلى مطالبها وتم القضاء عليها في 1956[9]، واستمرّت بعدها الحكومة تدار بشكل مركزيّ حتى عهد الاستقلال.

بدأت مرحلة الاستقلال وبناء مؤسّسَات الدولة كحدث تّاريخي في بدايّة السبعينيّات، فوضع دستور للبلاد وبدأت التجربة النيابيّة[10]، ويعتبر 16 ديسمبر1973 البداية التّاريخيّة للتحوّل مع عقد المجلس الوطني أوّل جلسة له، واستمرت التجربة حتى عام 1975 حيث عُلّق العمل بالدّستور حتى عام 2000، وطبقت إثرها مجموعة من القوانين التي كانت محط جدل واختلاف بين النظام والقوى السياسية وقوى المجتمع الأهلي، كما حظر النشاط السياسي لها وللنقابات العمالية[11]، ومن وقتها تولّى مجلس الوزراء إصدار مختلف التشريعات المدنيّة والجنائيّة، ما يعني أنَّ السّلطة التنفيذيّة للدّولة المتمثلّة في مجلس الوزراء كانت ترسم السياسة العامّة بصورة مركزيّة وتتابع تنفيذها وتشرف على سير عمل أجهزة الدولة.

أمّا في عهد الإصلاح السياسي مع بداية الألفية، تم إلغاء قانون أمن الدولة وأقر العفو العام[12]، وصدر ميثاق العمل الوطني في 2001[13] ويعد هذا أهم حدث سياسي توافقي بين المواطنين ونظام الحكم، وتم التصويت عليه في استفتاء شعبي بنسبة (98.4%) في 14 فبراير 2001، وقد تضمن نصه أبعاداً ديمقراطية تؤسس لإصلاحات إدارية ودستورية تلبي احتياجات المواطن والمطالب الشعبية، فنص على إنشاء مجلس تشريعي ونظام حكم ملكي دستوري وقضاء مستقل، وأن تتكون السلطة التشريعية من غرفتين هما "مجلس للشورى" و"مجلس للنواب"، وقد أثرت هذه الخطوة في تخفيف الصدامات الأمنية والتوترات التي سادت فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لكن ذلك سرعان من خفت مع صدرو الدستور الجديد في السنة التالية بتاريخ 14 فبراير 2002، الذي أسس إلى مرحلة جديدة من الصراع السياسي، حيث اعتبرته المعارضة السياسية دستور منحة جاء بإرادة منفردة وغير شرعي لإفتقاده ميزة التوافق وتركيزه السلطات والصلاحيات في يد الحاكم[14].

وعليه فأن خطوة التعديل الدستوري المنفردة من طرف الحاكم، كانت كفيلة بإعادة الإضطرابات السياسية والأمنية والتحركات الشعبية للشارع التي تقودها الجمعيات السياسية المرخصة، مطالبة بالعودة إلى مرجعية الدستور القديم وإجراء تعديلات المواد عليه حسب الآلية المتفق عليها -أي من خلال هيئة دستورية منتخبة أو برلمان جديد منتخب-، وقد ظلت الحركة الدستورية الاحتجاجية في وضع المراوحة بسبب الانشقاقات وتباين الآراء وإرتفاع حدة الخطاب السياسي عند بعض الأطراف، كما ساهم التجنيس السياسي وتردي الأوضاع المعيشية لفئات عريضة من الشعب وتنامي البطالة والفساد في استمرارية الاضطرابات والتوترات التي أدت إلى تركز المطالبات على الإصلاح السياسي والاقتصادي في ظل خطاب وشعارات تراوحت بين السلمية من جانب والتشدد من جانب آخر.

استناداً إلى ما سبق، فقد عبرت التحركات الشعبية المطلبية عن وعي سياسي تميز به شعب البحرين، وخبرة نضالية وطنية تراكمية طويلة في مسيرة النشاط السياسي والحزبي السلمي، وإنعكاس لتلاحم مكَّونات المجتمع الذي لم يكن بعيداً عن عمقه العربي وتأثره بما يحدث في ساحات حركات التحرر العربية، كما تميزت مطالباته دائماً في إطارٍ وطني وخارج الانقسام الطائفي والمذهبي والإثني، وهو ما عكسته الانتفاضة العمالية في 1965 و1972 التي تركزت مطالبها على قضايا وطنية وحقوق عمالية، ساهمت في انخراط جميع فئات الشعب من العمال والنساء والطلاب في التحركات الشعبية وتشكلت جمعياتهم وإتحاداتهم في سياق تطور التنظيمات السياسية في الداخل والخارج، إذ عبرت كل منها عن مطالبها الحقوقية والمهنية، وكان من الطبيعي أن تتأثر هذه التحركات بتنامي المد الديني وبروز الإسلام السياسي خصوصاً بعد الثورة الإيرانية وانهيار الاتحاد السوفياتي ودول كتلة أوربا الشرقية الإشتراكية وطغيان العولمة.

من هنا فأن الحركة الاحتجاجية الشعبية البحرينية التي جاءت في سياق ثورات وانتفاضات الربيع العربي واتسمت بالحماس الشعبي والشعارات التي رفعتها، قد وجدت لها أرضية خصبة ومهيُّأة في البحرين، بسبب الحالة التراكيمة التي خلفتها الاضطرابات وعدم الاستقرار الممتد منذ عقود، فقد بلغ اليأس مداه عند فئات عديدة من الشعب وما تعانيه من تمييز وتهميش وبطالة وفقر، في ظل تصاعد منحى التأزيم والمعالجات الأمنية، وعجز السلطة التشريعية بمجلسيها "المنتخب والمعُّين" اللذين يمثلان حالة سجالية بسبب طبيعية تكوينهما وسلطاتهما وعلاقتهما بالسلطة التنفيذية، وانسداد أفق التوصل إلى حلول للكثير من الملفات التي تستجيب للمطالب الشعبية، خصوصاً فيما يتعلق باستشراء الفساد في الآراضي وهدر المال العام، فكل هذا وذاك أدى إلى المزيد من الاحتقانات وعجز النواب في طرح المبادرات والحلول، فقد كانوا منقسمين بين المولاة للحكم وبين المعارضة وبطابع أخذ شكل الخلاف الطائفي "السني-الشيعي"، فيما ظل المجلس المعين معبراً حقيقياً عن تطلعات الحكم وقراراته وفاقد للدور الوسطي بسبب فقدانه الثقة الشعبية، الأمر الذي عظم من حالة الاستقطاب والتوتر.

هذا هو المشهد الذي سبق الحراك الشعبي البحريني في الربيع العربي الذي ساهمت المرأة البحرينية بوجودها الكثيف فيه، وحيث انتقلت عدوى الحراك الشعبي العربي سريعاً للبحرين، فبدأ حراكاً سلمياً رفعت فيه شعارات سياسية لم تبتعد عن سياق شعارات الحراك السياسي السابقة، بيد إن استشهاد أحد المتظاهرين برصاص قوى الأمن أول يوم من الحراك، وما أعقبه من سقوط شهداء آخرين بعد الهجوم الأول على ميدان "دوار اللؤلؤة"[15] مركز التجمعات الشعبية الكبيرة في قلب العاصمة المنامة، وسقوط جرحى، قد ألهب الشارع وأدى إلى طرح شعارات ذات سقف عالي تحاكي ما تم رفعه من شعارات في تونس ومصر، مما أدى إلى قمع أمني أشدُّ دخلت معه البحرين إلى دائرة العنف والعنف المضاد.

حين سمح باستمرار الحراك مجدداً، تباينت الخطابات بوضوح في ميدان "اللؤلؤة"، وهي خطابات تراوحت بين المطالبة بالإصلاح الدستوري وورفع شعار إسقاط النظام والمطالبة بنظام جمهوري، فقد كان الحماس سيد الموقف ومتجاوزاً لما تم التوافق عليه مع الحكم في مرحلة العشر سنوات الأخيرة، وحدثت في الأثناء مصادمات واشتباكات، الأمر الذي رفع من وتيرة القمع والاضطراب والتوتر خصوصاً مع إغلاق بعض مداخل المنطقة التجارية في قلب العاصمة بالمتاريس الذي اعتبر من قبل النظام تجاوزاً للخطوط الحمراء.

وفي السياق ساهم الاعلام الرسمي في تسعير الحالة الطائفية وتوظيف خطابات التشدد في تصوير المعارضة وكأنها حاملة لمشروع إيراني، مما ساهم في اقتناع أغلب قادة السنة وتخوفهم مما يجري وبأنه سيكون على حساب مصالحهم الطائفية، ولهذا شهدنا بروز "جماعة الفاتح" كحركة سنيّة بشعارات مضادة ومعاكسة وكانت متناغمة مع الخطاب الرسمي وممارساته.

في الاثناء طرحت على الساحة مبادرة ولي العهد لإجراء حوار حول بعض النقاط الإصلاحية، وتباينت المواقف حولها والتذبذب إزاء جديتها، فيما رأي البعض بأنها فرصة ثمينة كمدخل لإنهاء الأزمة فيما لو قبلت بها القوى السياسية المعارضة في الحال ودخلت الحوار، وبعد مرور ثلاثة أيام من الأخذ والرد بشأن جدية المبادرة وجدواها، تمت الاستعانة بـ "قوات درع الجزيرة" بموجب معاهدات الدفاع المشترك لمجلس التعاون لتدخل البحرين في 14 مارس 2011 وتغير المشهد برمُته وتحسم جولة الحراك لمصلحة النظام، فأصبحت الأزمة شأناً إقليمياً يتداخل فيه مستوى تأثير قوى الداخل بتأثير الفاعلين الخارجيين على القرار في مسار التغيير.

وحسب إحدى الدراسات كانت الضغوط والنصائح الخارجية أيضاً منقسمة وفق هذين الاتجاهين، حيث كانت وجهة النظر الدولية بما فيها الأمريكية نحو التفاوض والتسوية، بينما كان الموقف الإقليمي الخليجي أغلبه أكثر ميلاً للحسم الأمني، ومن بين مسوغات ذلك هو إبراز الطابع الطائفي الشيعي للحراك، على حساب طابعه المتنوع الذي ميزه من البداية، وتحويل الصراع من كونه صراعاً سياسياً داخلياً من أجل الإصلاح إلى صراعاً طائفياً وإنه امتداد لمشروع إقليمي إيراني ضد البحرين ودول المنطقة، وساهم ذلك في حشد الكتلة الطائفية الداخلية والإقليمية المقابلة مما أدى إلى تهميش البعد الداخلي للمطالب وإبراز الحراك وكأنه تعبير عن تدخلات إيرانية في البحرين واستطراداً في الخليج[16].

وعليه تم إعلان حالة الطوارئ وتطبيق قانون السلامة الوطنية، ووئدت مبادرة ولي العهد، وبرز انقسام المجتمع بحدة إلى طرفين متقابلين سني-شيعي، في ظل تغلب الحلول الأمنية الشديدة على الحلول السياسية التي أدت إلى حملات اعتقالات واسعة واستشهاد العشرات، ومحاكمة قادة الحراك الشعبي وصدور أحكام تراوحت بين الإعدام والسجن المؤبد للعديد منهم، وتسريح الألوف من المواطنين الشيعة من وظائفهم والتحقيق معهم على خلفية مشاركتهم في احتجاجات الشارع، في ظل حملات الكراهية والإقصاء والتشكيك في الولاء للوطن في كل الساحات الإعلامية الرسمية والطائفية، فدخلت البحرين في نفق وجحيم العنف المظلم.

وبسبب الضغوط الدولية وتردي الوضع، أعُلن عن إنشاء "اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق" برئاسة السيد "شريف بسيوني"، حيث أعدت تقريراً مفصلاً عرف بـ "تقرير بسيوني"[17]، وكان من أبرز نتائجه أن حكومة البحرين استخدمت قانون العقوبات البحريني لمعاقبة المعارضة وردعها سياسياً"، وأن لدى اللجنة عدداً من بواعث القلق بشأن اتساق تطبيق تلك الأحكام مع أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان ومع أحكام دستور البحرين"، وأنه جرى تطبيق "المادة 165" من قانون العقوبات تطبيقاً ينتهك حرية الرأي وحرية التعبير..والآراء التي تدعو إلى تغيير سلمي في بنية الحكم او نظامه".

كما أشار التقرير في مادته "429" بأن المجتمع نساءً ورجال تعرضوا لحملة من الانتهاكات والمرأة كانت متضررة بشكل كبير جداً"، وإن الانتهاكات تضمنت القتل برصاص الشرطة واستنشاق الغازات السامة التي يتم رميها على المتظاهرين، وهناك ممارسات مهينة للمرأة أثناء القبض على المطلوبين واستيلاء على الأموال والحلي، والتهديد باغتصاب الزوجة والأسرة، والتوقيف والفصل عن العمل وفصل الطلبة من الجامعات والمعاهد، وسحب الجنسية وسحب البعثات التعليمية..الخ"[18].

واقع مشاركة المرأة البحرينية في الاحتجاجات
في إطار هذا الواقع الميداني والمشهد السياسي يمكن تناول مشاركة المرأة البحرينية التي خرجت بشكل وبالآلاف في الانتفاضة والحركة الاحتجاجية، فمن المعروف أن بلدان مجلس التعاون الخليجي لم تشهد ثورات وانتفاضات باستثناء البحرين، إلا أنّ صدى ما حدث كان قويًا عليها أيضاً وسرع من إجراء بعض التحولات والإصلاحات السياسيّة.

فقد تفاوت رد فعل الحكومات على الانتفاضات وقد استفادت في هذا الشأن من العائدات النفطية فرفعت أجور العاملين في القطاع العام ودفعت مكآفات وهبات سخية لمرة واحدة كما حدث في البحرين، وأغلبها رفع من مخصصات الدعم وزيادة أو تحسينات في أنظمة التقاعد كالكويت وعمان، أو التصدي لأزمة البطالة كالسعودية وقد اعتبرت هذه الاجراءات في معظمها ذات دوافع سياسية ولهذا فهي لم تترك تأثيراً ثابتاً كما تبين الدراسات[19]، إلا إن إجراءات إصلاحية أخرى كان لها الفضل في إرساء تدابير يعتقد البعض أنها جاءت لصالح النساء كما حدث في المغرب.

إن مشاركة المرأة البحرينية في الانتفاضة ونزولها للشارع لطالما اعتبره الكثيرين انعكاسًا إلى حيوية ودينامية المجتمع المحليّ مقارنة بالمجتمعات المجاورة، وهذا ما جعل استجابة النساء البحرينيات لمطالبات التغييّر والإصلاح والعدالة والمساواة في الحقوق سريعة ومتفاعلة.

لاشك كان هناك وعيّ نسبيّ لدى قطاعات من النساء خصوصًا الشابات منهن، دفعهن للتفاعل مع الحراك السياسيّ والاجتماعيّ، فحضورهن كان بمثابة استكمال لحضورهن المبكر في ساحة العمل السياسيّ منذ بواكير القرن العشرين، وفي كل المراحل المفصلية من تاريخ الوطن، ولهذا فأن مشاركتهن في حركة الاحتجاج وتحمل تبعاتها ونتائجها إنما يمثل حلقة من سلسلة النضال التراكميّ للمرأة البحرينية مهما قيل فيما يتعلق بمسألة جهة الانتماء السياسي أو الايديولوجي، فقد استجابت بسرعة للتعليم مع افتتاح أوّل مدرسة نظامية في 1928 وكذلك في مشاركتها بفعالية في انتفاضة الخمسينيات التي قادها أوّل حزب سياسيّ "هيئة الاتحاد الوطنيّ" وبنشاطها الواسع في كل مناطق البحرين في الانتفاضة العمالية عام 1965، بل أنّ بعضهن مارَسن العمل التنظيميّ السريّ، ونفس الأمر في انتفاضة 1972 وفي تسعينيات القرن الماضي[20].

حضور المرأة البحرينية في الميدان كظاهرة سياسية
أنّ ظاهرة المشاركة النسائية البحرينية في ميدان الاحتجاج لم يقتصر على النساء المنتميات للإسلام السياسيّ إذا شمل ذلك النساء المنتميات للتيارات اليسارية والقومية الوطنية، خصوصاً وقد تميزت العقود الثلاثة الأخيرة بصعود حركات الإسلام السياسيّ في مجتمعاتنا العربية عامة، وبما تحمله من خطاب متفاوت لصورة المرأة ودورها وحقوقها ومكانتها في المجتمع[21].

وقد اعتبر بعض المحللين الاجتماعيين أن مشاركة المرأة البحرينية دلالة على تأثير التنشئة الأسرية ومحيطها الذي ينمي الوعي ويزرع قيم التمسك بالمطالبة بالحقوق وعدم التنازل عنها، وعليه لا يمكن للمرأة في هذا الحال إلا أنّ تتجاوب وتتفاعل بقوة مع الحراك الذي دعا إليه وتصدره الشباب والشابات، ومن ناحية أخرى لها دلالة بأنّ المنعطفات السياسيّة التي رافقتها ثورات اجتماعيّة وثقافيّة في البحرين كما في المجتمعات الأخرى، غالبًا ما كان للمرأة وجود قوي فيها.

إن حضور المرأة البحرينية في حركة الاحتجاج كان مثير للدهشة والإعجاب نظرًا لكثافة وجود المرأة الشابة وجرأتها وقدرتها على التأثير والتأثر في الحراك، وفي اندفاعها بآلاف إلى الشوارع حاملة اللافتات والأعلام والورد والتلويح بإشارات النصر، فقد حطمن كما غيرهن من النساء العربيات مقولة "أنّ صوت المرأة عورة وإن وجودها في الفضاء العام حرام"؛ إذ شاركت المثقفات والمحاميات والمعلمات وأستاذات جامعيات وطبيبات ومهندسات وعاملات وعاطلات عن العمل وصحافيات وإعلاميات وغيرهن، فجميعهن برزن بأدوارهن في المشهد السياسيّ.

أثارت البحرينية الدهشة حتى في صورها ملتحفة بالعباءات السوداء غاضبة يعلو صوتها بالهتافات مع المتظاهرين وتلقى الخطابات أمام الحشود وتنشد الأشعار الحماسية، بيد أنّ نفس المشهد كان مرعبًا لاتجاهات فكرية وسياسيّة مغايرة رأت فيه تهديدًا لمستقبلها ووجودها، البحرينية عاشت حالها حال غيرها في خضم إرهاصات التحركات الشعبية العربية وثوراتها، فهي التي لمست وشاهدت وتابعت بدقة متناهية حالة الميادين في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، ورأت الحشود الغفيرة ومعالجة الجرحي والمصابين وحركة التنظّيم والتحفيزات الالكترونية والاعتصامات في الساحات والإضراب عن العمل في بعض المواقع وعن الطعام أيضًا كاحتجاج ضد الفساد والطغيان، وقد استفادت بحسها ووعيها من كل هذه التجارب.

لقد بدا جليًا كسر النظرة النمطية التقليدية الشائعة عن تلك المرأة المتوارية التي غالبًا ما يتم تصويرها بأنها خاضعة وخانعة ملازمة لبيتها لا تشارك في الحياة العامة، فقد لعبت دورًا كبيرًا وغدت عنصر أساسيّ من عناصر حركة الاحتجاج في الميدان، وأتقنت مهارات التّواصل والإحاطة بتفاصيل الحدث السياسيّ ومتابعته اليومية، لم تعد السياسة بالنسبة لها ترف وشعار أجوف يتداول في المنتديات وورش التدريب التي تنفذها المنظّمات الدولية بالشراكة مع مؤسّسات رسمية أو بعض مؤسّسات النخب النسائية، لم تعد المسألة مسألة محاكاة رقم هنا ورقم هناك، فالفوج يلو الفوج من نساء ميدان الاحتجاج تكفل بتحطيم قيم ونظريات وإعادة تشكيل للرؤية والفكر والإيديولوجيا.

لقد مارست المرأة البحرينية ولا تزال دورًا فعّالاً وبدينامية دائمة وفي مقدمة الموجات الاحتجاجية التي نزلت إلى "ميدان اللؤلؤة"، اصطحبت الأمهات أطفالهن وساندن الأبناء والبنات والأزواج المطالبين بالحقوق، كما علت أصواتهن بالتكبيرات الليلية الاحتجاجية، واستجبن للمشاركة الدؤوبة في مهرجانات المعارضة الأسبوعيّة ومسيراتها وبآلاف، وحين تمت حملة الاعتقالات والاستجوابات واستمرار المحاكمات في فترة السلامة الوطنية وما بعدها، فلم تنجو النساء والشابات ممّا أصاب الرجال من تعسف، فتعرضن للمخاطر والعنف والاعتقال والاستجواب والتوقيف عن الأعمال أو التسريح منها وغيرها بنفس القدر ممّا نال الرجال[22]، اعتكفن في صلواتهن بدور العبادة وشاركن في الصوم والإضراب عن الطعام احتجاجًا على اعتقال النساء أو اعتقال ذويهن، وتصدرن الخطوط الأمامية في خضم المواجهات والتظاهرات التي تصدرتها أحيانًا أمهات الشهداء والمعتقلين والمسرحين من أعمالهم حتى أثناء فرض "قانون السلامة الوطنية" بعد ضرب حركة الاحتجاج.

وعليه، هل يجوز القول أن ما حققته المرأة البحرينية من مشاركتها في الحركة الاحتجاجية، قد تجاوز في واقعه الإنجازات التي تحقّقت لصالحها على مدى سنوات من تشريعات وقوانين ودرجات علميّة ومناصب قياديّة ومكتسبات عبر انخراطها بالنشاط العام وفي قوى سوق العمل؟

بمعنى أوضح، هل يمكن لمشاركتها أنّ تساهم في تحقيق وبلورة شعارات طرحت منذ القرن الماضي ولازالت، تتعلق بتمكين النساء اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وتعليميًا؟ للإجابة على السؤال لابد من النظر والتأمل في وجهات النظر والآراء التي تفاوتت في تحليلاتها حول طبيعة تقييم حضور المرأة البحرينية في خضم الحركة الاحتجاجية والتي يمكن تناولها في الجزء التالي.
  
تفاوت الآراء
تعددّت الآراء واختلفت التحليلات حول تقييم طبيعة حضور النساء البحرينيات وحجم مشاركتهن والمكانة التي احتلتها النساء وتمثيلهن في أطر المؤسسات وهياكلها ما بعد الانتفاضة، خصوصاً وإن بعض الدساتير والتشريعات التي استحدثت في بعض البلدان العربية التي مرت بذات التجربة لم يلحظ عليها الحرص في المحافظة على حقوق المواطنة للنساء إلا في بعض التجارب، وبالتالي فإن الحال كان متفاوتاً في الحقوق وفي طبيعة المشاركة والتمثيل والنظرة إلى المرأة[23].

تشير العديد من التقارير إلى أن هناك من ناهض ولا يزال يستنكر مشاركة النساء في الحركة الاحتجاجية بل ويعتبرها خروجًا عن الإجماع ومعارضة غير مقبولة للحكم يُستحق عليها العقاب والتأديب، وقيل أيضا بإنها نتيجة مؤامرة خارجية ينبغي تحاشي مطبها، وعلى النقيض هناك من وجد فيها تعبيرًا عن تأثير التنشئة في أوساط المنظمات السياسيّة البجرينية وبمختلف اتجاهاتها، وهناك من أختلف حول علاقة مشاركتهن بمستوى وعيهن السياسيّ، ورأي بأن وجودهن في الميدان كان تعبيراً فاقعاً عن تبعية إيديولوجية ذات طابع ديني لا أكثر ولا أقل، وآخرين اعتبروها تعبير عن قهر اجتماعيّ وشعور بالظلم والغبن والتمييّز الطائفيّ بحقهن كمواطنات وكنساء، ووجد البعض الآخر بأنها كانت فرصة سانحة لهن لممّارسة حرية التعبير والاعتقاد والمساواة في التعلّيم والعمل والحماية من ممارسة العنف عليهن بكافة أشكاله.

من هنا، ومهما اختلفت الآراء ووجهات النظر، يمكن القول، أنَّ مشاركة المرأة البحرينية في حركة الاحتجاج تشكل بحد ذاتها حالة من حالات الوعيّ والدافعية نحو المطالبة بالحقوق وترسيخ المكتسبات، خصوصًا بما أفسحته الثورة المعلوماتية وشبكات التّواصل الاجتماعيّ من مجال للتحرك وتحفيز المبادرات وتنوع الإبداعات، إنها تجربة تراكمية لوعي الشباب والشابات وتفتح أذهانه على المستجدات، كما تتيح للمتابع منهم والمشارك فرصة لإعادة إنتاج وعيه الخاص ورؤيته للأوضاع من حوله وكسر حاجز الخوف الذي لمسناه بوضوح عند فئات كبيرة من النساء في ساحات التحرك الشعبي، ممّا يفرض علينا طرح الأسئلة مجددًا:

-       هل تدرك المشاركات في الانتفاضة حجم استحقاتهن من هذه المشاركة في المدى المنظور؟ هل خرجن بعفوية واستجابة لدعوات دينية إيديولوجية، أمّ بهدف المطالبة بالمساواة بين الجنسين، وبمكتسبات حقوقية أكثر من منظور مغاير للمتعارف عليه؟

إنَّ الإجابة على هذه التساؤلات تبقى مرهونة بالنساء أنفسهن وبمصداقية خطاب قوى المعارضة السياسيّة وسلوكها على اختلاف توجهاتها، وكذلك بفريق الحكم ومناصريه، خصوصاً وإن المرأة البحرينية وحقوقها المطلبية فيما يتعلق بالتشريعات كقوانين "الأحوال الشخصية، ومناهضة العنف ضد المرأة" وتعزيز العدالة والمساواة بين الجنسين وغيرها لم تكن موضوعاً جوهرياً في مسار الحركة الاحتجاجية وشعاراتها بل شكلت أحد المواضيع الخلافية.

إن هذا ما نستشفه من إشارة الباحث "أديب نعمة" في تحليله لهذه القضية على مستوى عربي عام وهو غير بعيد عما حدث في البحرين إذ يذكر: "إن لحظة الحراك الشعبي الثوري في الشارع تميزت بإنظمام قوى جديدة واسعة، لكن الوضع تحول إلى اتجاه معاكس مع نجاح الحراك في تغيير رأس النظام، وتشكيل السلطات الانتقالية، حدثت مواجهات بين تيارات تحمل إيديولوجيات مدنية –أي غير دينية- وأخرى لها طابع إيديولوجي ديني "إسلامي" وثقافي ساهمت في زيادة الاستقطاب الشعبي والتحول بانحراف خطير لجهة الأولويات والأجندات التي وقعت فيها "قضية المساواة بين المرأة وبالرجل"، فقضية حقوق المرأة جزءاً عضوياً من منظومة حقوق الإنسان يجب ضمانها وحمايتها من خلال نص بالدستور، وأن تكون في صلب عملية التحول الديمقراطي، ومعياراً حقيقياً لهذا التحول"، وعليه شكلت علاقة الدين بالدولة، وحقوق المرأة، المسألتان الأكثر حضوراً في النقاش الإعلامي، والخطاب السياسي الموجه للعموم في البلدان التي شهدت تحولاً سياسيّاً، والخشية أن يخدم هذا المسار التراجع بطريقة مقصودة عن الأهداف المعلنة للحراك الثوري[24]

في المقابل تشير دراسات أخرى[25] تطرقت إلى تقييم مشاركة المرأة في الحراك الشعبي، إلى استمرار التمييز في الحقوق ضد المرأة، من خلال كشفها عن مضمون خطابات القوى التي شاركت في الحراك، فخطاب "جماعة الإخوان المسلمين" مثلاً تميز فيما يتعلق بحقوق النساء السياسية والمدنية "بمساحات رمادية"، ومكانة المرأة والنظرة إليها بين هذه الجماعة على مستوى البلدان العربية متفاوت، بسبب اختلاف السياقات السياسية والحقوقية والتاريخية التي تميّز الدول والمجتمعات العربية بعضها عن بعض، وعليه من وجهة نظرها أن هذه الجماعة ومعها أيضا الأحزاب السياسية اليسارية والقومية والليبرالية والعلمانية قد أخفقت في إنصاف النساء الناشطات في صفوفها، خصوصاً وإن مكانتها تتناقص كلما ارتقينا في السلم القيادي، ما يعني أن هناك فجوة بين الخطاب والممارسة.

أما "الخطاب السلفي" فهو ينتهك حقوق المرأة ويمس إنسانيتها ويتهدد مكاسبها الأساسية، ومما تحقق وما هو قيد التحقيق، فيما تتميز بعض خطابات "حركات الإسلام السياسي الشيعي" بدعم مشاركة المرأة ومساندة حقوقها وتمثيلها ومواطنتها، إلا إنه لا يمكن إغفال نزعات التطرف والفتاوى الشاذة التي تصدر عن بعض التيارات السياسية الشيعية التي تحط من قدر المرأة وتطالب بمصادرة حقوقها وتكريس تبعيتها، الأمر الذي يتطلب التصدي لمحاولات العودة بالنساء إلى عصور التهميش والإلغاء، وعدم تغليب اعتبارات التحالفات السياسية وحساباتها الطارئة، على مصالح النساء وحقوقهن الأساسية والثابتة[26].

ومنه، فنحن حتى اللحظة أمام تحديات لا زالت قائمة لاسيما مع بروز نساء وشابات لهن آراء ووجهات نظر تمثل النقيض وقد شاركن في تجمعات وتحشيدات مناهضة للحركة الاحتجاجية في البحرين، وهم لا يريدون التغييّر ويكتفون بالموجود من الإصلاح!

نتائج المشاركة وحقائق التحديّات
على الرغم من الترحيب بتواجد النساء البحرينيات في الميادين مع الرجال عندما رفُعت مطالب الإصلاح والديمقراطية، إلا إنه تمّ التصدي لهن بعنف وزجر من بعض اتجاهات التي ناهضت الحركة الاحتجاجية ومثلهم من ذوي النزعة الذكورية ومحاولة إقصاءهن من المشهد فكان حضورهن ضعيف في أي تشكيلات ولجان تتعلق بقضايا التفاوض أو قيادة ما يحدث من أنشطة وفعاليات، ولوحظ كيف تم التعامل معهن في معترك الاحتجاجات، وكيف يرش عليهن بعض المواد الضارة وكأنهن حشرات، وكيف تمّ اعتقالهن في الشارع وأثناء المداهمات على بعض المنازل والتعدي عليهن، فضلاً عن شهادات من تمّ اعتقالهن والتحقيق معهن المثبتة في "تقرير بسيوني" المشار إليه سابقاً فضلا عن التقارير الدولية الأخرى[27].

فقد أشار "تقرير بسيوني" في مادته "429" بأن المجتمع نساءً ورجال تعرضوا لحملة من الانتهاكات والمرأة كانت متضررة بشكل كبير جداً"، وإن الانتهاكات تضمنت القتل برصاص الشرطة واستنشاق الغازات السامة التي يتم رميها على المتظاهرين، وهناك ممارسات مهينة للمرأة أثناء القبض على المطلوبين واستيلاء على الأموال والحلي، والتهديد باغتصاب الزوجة والأسرة، والتوقيف والفصل عن العمل وفصل الطلبة من الجامعات والمعاهد، وسحب الجنسية وسحب البعثات التعليمية..الخ"[28].

إن تكرار اعتقال النساء وحبسهن على ذممّ التحقيق وسوقهن للمحاكم يهدف إلى إذلالهن عقاباً على مواقفهن وممّارستهن لحرية التعبير حتى على مستوى الإعلام الرسميّ، وعما تردّد عن السباب والتفوه بأقذع العبارات للبنات الصغيرات ممّن يخرجن مع أهاليهن في المسيرات، وما جاء من رد عليه وبما مضمونه: "الأولى استهجان من يستغل النساء ويزج بهن في أعمال مخالفة للقانون" ردًا على مشاركتهن في المسيرات والاعتصامات، بيد إن تحديات نتائج مشاركتهن في الحركة الاحتجاجية لا تقتصر على ذلك فهي متعددة ونتناول منها هنا ما يتناسب وعنوان الورقة التي نقدمها في هذا المؤتمر حيث سنركز على بعدين منها في مسألة واقع المرأة البحرينية ما بعد الانتفاضة وهما على النحو التالي:

أولاً: على مستوى تيارات الإسلام السياسي
تميز خطاب جماعات الإسلام السياسي بمختلف مذاهبه في المجتمع البحريني كما بقية المجتمعات العربية فيما يتعلق بحقوق النساء السياسية والمدنية "بمساحات رمادية" أو "برفض" وجود المرأة في الفضاء العام بشكل مباشر أو مستبطن وإن بشكل متفاوت، وقد أخفقت هذه الجماعات ومعها الأحزاب السياسية اليسارية والقومية والليبرالية والعلمانية في إنصاف الناشطات في صفوفها، خصوصاً وإن مكانتهن في قيادة النشاط السياسي تتناقص كلما ارتقينا في السلم القيادي لهذه التنظيمات السياسية، ما يعني أن هناك فجوة بين خطاباتها وبين ممارساتها على المستوى العملي.

ومع أن خطاب "حركات الإسلام السياسي الشيعي" في البحرين في شكله الإعلاني العام، يدعم مشاركة المرأة السياسية ويساند مطالباتها الحقوقية وتمثيلها ومواطنتها، إلا إنه لم يرتقي بعد لتقديم أي مرشحة له في الانتخابات النيابية او البلدية التي خاضها قبل الانتفاضة، وبعض منه ذو نزعات متطرفة في الفتاوى التي تصدر عنهم وتحط من قدر المرأة وتطالب بمصادرة حقوقها وتكريس تبعيتها.

والجدير بالذكر إنه قد ساد في الأوساط الخطاب المتعلق بتأجيل مطلب المساواة كونه أقل أهمية وإلحاح من التحديات والقضايا المرفوعة في الحركة الاحتجاجية؛ وأبرز مثال على ذلك المطالبة بـسن "قانون الأحوال الشخصية في البحرين الجزء الشيعي منهً"، وقيل أن اللحظة التاريخية أخطر وأكبر من الانشغال بقضايا المساواة بين الجنسين، كما ارتفعت الأصوات من بعض الأوساط الدينية المتشددَّة التي تشيطن "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييَّز ضد المرأة السيداو" بل وتستنكر وترفض انضمام الدولة لها وتطالب بتعطيل العمل بها، والبحث عن وسائل قانونية للانسحاب منها، معتبرة أنَّ الاتفاقية تُعَدُّ انتكاسة خطيرة وتُمثِّلُ تهديدًا حقيقيًّا للأسرة البحرينية وانتهاكًا صارخًا للدولة ونظام الحكم وتهديد للسيادة".

ثانياً: على مستوى التمكين والتشريعات
أما بشأن التطورات التي حدثت في مجال تمكين النساء والتشريعات التي تحقق العدالة والمساواة وبين الجنسين فإنه يمكن تسجيل ما يلي:

1.     لا تزال الدولة تتحفط على بعض مواد وبنود من اتفاقية "السيداو CEDAW" وهي المواد رقم (2) والمادة (9 فقرة 2) والمادة (10 فقرة 4) والمادة (15 فقرة 4) والمادة (16)، فقد جاء تحفظها مخلاً بجوهر الاتفاقية ومتعارضاً أيضاً مع المادة (18) من دستور البحرين، كما يعتبر المدافعين عن حقوق المرأة إن استمرار التحفظ يمثل تمييزاً سارياً بسبب عدم ترجمة نص المادة (18) واستكمالها في هئية قوانين وتشريعات تساوي بين المرأة الرجل، كما في "قانون الجنسية" وغياب (القسم الجعفري) من قانون أحكام الأسرة. وتجدر الإشارة إلى إن صدور المرسوم  رقم (70) لسنة 2014 المعني بتعديل بعض أحكام القانون رقم (5) لسنة 2002 بالموافقة على الانضمام إلى "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" والذي تمت مناقشته في مجلسي النواب والشورى وإعلان موافقة مجلس النواب عليه في 5أبريل 2016، حيث تضمن المرسوم إعادة صياغة بعض التحفظات بعد أن كانت مطلقة، وتحديداً في المواد (15/4) و(16) وبما يضيق  نطاق التحفظ؛ إلا إنه ومن الناحية العملية يعني بأنه ما حدث هو مجرد تعديل وتقليص للتحفظات التي أبدتها الدولة وليس رفعاً خالصاً لها كونها لا تزال سارية وتنتقص من حقوق المرأة المواطنة.

2.     على الرغم من التقدم المتحقق في بعض مجالات تمكين المرأة سياسياً وبما تمنحه المادة (18) من الدستور من حق متساو في التصويت والمشاركة في الانتخابات؛ إلا إن نسب وصول المرأة البحرينية إلى مواقع صنع القرار لا تزال متدنية، في ظل عدم تفعيل لأي نوع من آليات رصد أشكال التمييز كالميزانيات المستجيبة للنوع الاجتماعي أو إحصاءات النوع الاجتماعي، وتشير التقارير إلى أن نسب وصولها إلى عضوية المجلس التشريعي والشورى لا تزال ضعيفة ووجودهن في البرلمان المنتخب يقتصر على (3) نساء فقط مقابل (37) من الرجال، و(8) منهن مقابل (32) للرجال في مجلس الشورى، و(7) نساء في سلك القضاء دون أن يكون لهن وجود في المحاكم الشرعية، ومديرة واحدة فقط في النيابة العامة، أما المدعين العاميين فيقتصر ووجودهن على (3) نساء فقط، فيما توجد وزيرة واحدة فقط في الحكومة من أصل (22) وزير.

3.     تزايد أعداد العاطلات البحرينيات عن العمل حيث تشير بيانات وزارة العمل والتنمية الاجتماعية إلى أن عدد العاطلين قد بلغ (7414) عاطلاً عام 2014 منهم (3377) ممن يحملون البكالوريوس، و(19) يحملون الماجستير، فيما يبلغ إجمالي عدد الإناث العاطلات من هذا العدد (6368) عاطلة، أي أن نسبة البطالة في أوساطهن تمثل (86%)[29]، وتشير بيانات متصلة أن أغلب العاطلات يحملن مؤهلات جامعية في مجالات مختلفة كالتمريض وتدريس ذوي الاحتياجات الخاصة والحاسب الآلي واللغة الانجليزية وغيرها من التخصصات، من دون أن يُطرح أي بديل من الجهة الرسمية المسؤولة لإعادة تأهيلهن كي يستطعن العمل في مجالات أخرى كالتدريس مثلا، حيث يتم الاستعانة بمدرسات من الخارج ويُغفل أمرهن، وهذا يتعارض مع مبدأ سد الفجوة بين مستويات التعلم التي تصل إليها المرأة وفرص العمل المتاحة أمامها.

4.     كما إن هناك تميزاً صارخاً تعاني منه البحرينيات بسبب عدم إلغاء المادة (353) من الفصل الثالث (3) من قانون العقوبات والتي تنص على أنه "لا يحكم بعقوبة على من أرتكب أية جريمة من جرائم هتك العرض، أو الاغتصاب إذا عقد زواجاً صحيحاً بينه وبين المجني عليها، فإذا صدر عليه حكماً جنائياً قبل عقد الزواج يُوقف تنفيذه وتنتهي آثاره الجنائية". وتتفق قوى المدافعة عن حقوق النساء بأن حكم المادة (353) يشكل تمييزاً صارخاً ومصادرة واضحة ومباشرة إلى حق أساسي من حقوق المرأة وانتهاك فاقع لإنسانيتها، إلى جانب أن هذا القانون يُعزز من سيادة الصورة النمطية السائدة في المجتمع البحريني والعربي؛ حيث لا تتجاوز قيمة المرأة الوجودية حدود جسدها المادي وتعويضها بورقة الزواج المبرمة، ما يعني نقل ملكيتها من الأسرة الميلادية إلى ملكية الزوج المغتصب، وهو الذي يزيد من فداحة جريمة الأغتصاب.

لقد أثبتت عدد الحالات ونوعها التي أوردها "الاتحاد النسائي البحريني" في تقاريره وكذلك دور الرعاية الأخرى، أن جريمة الاغتصاب تعد شكلاً من أشكال الاتجار بالمرأة واستغلالها، حيث يعمد الجاني إلى إبرام عقد الزواج بموجب المادة (353) وهرباً من تطبيق العقوبة، كما يكون المجال مفتوحاً أمامه لتطليق المرأة "الضحية" في أي وقت يشاء، الأمر الذي يترتب عليه ضياع حقها في الحماية من مختلف أشكال العنف والجرائم الجنسية وتطبيق العقوبة التي يستحقها مرتكبى الجريمة، وهذا يشجع مرتكبي الانتهاكات من الرجال على ارتكاب مزيد من هذه الجرائم بحجة عدم وجود نص تشريعي صارم يردعهم من ارتكاب هذا الفعل؛ وفي الغالب فإن أغلب الأهالي يفضلون اتمام عقد الزواج بين "الجاني والضحية" وإن لفترة وجيزة ثم اتمام الطلاق درءً للفضيحة بحسب العرف الاجتماعي السائد ودونما التفات لتأثير ذلك الفعل على الضحية أو تعويضها عما لحق بها من أضرار مادية ونفسية، والشواهد التي بين أيدينا كثيرة[30].

5.     لا تزال المرأة البحرينية محرومة من إعطاء جنسيتها لأطفالها في حال زواجها من أجنبي، والدولة لا تزال تتحفظ على نص المادة (9) من "اتفاقية السيداو" التي تمنح حقوق متساوية بين النساء والرجال في اكتساب جنسية المرأة أو تغييرها أو الاحتفاظ بها وفي منحها لأبنائها وذلك على الرغم من إعادة صياغة التحفظ المشار إليه في البند (2) من المادة (9). إن قانون الجنسية البحريني الصادر عام 1963، يشترط أن يكون الأب بحرينياً حتى يكتسب الطفل الجنسية البحرينية، على الرغم من أن ذات القانون يمنح الطفل المولود من أب بحريني وأم أجنبية، ويعطي الحق للزوجة الأجنبية باكتساب الجنسية البحرينية بعد مرور خمس سنوات من الإقامة في البلاد، وعليه فأن الكثير من الأمهات البحرينيات تعاني من مشكلات متعددة جراء حرمان أبنائهن من اكتساب الجنسية البحرينية ومن حقوق المواطنة كالحق في التعليم والعلاج والعمل والسكن حتى وإن وجدت إجراءات إدارية للتعامل مع هذه الحالات فهي تبقى إجراءات وليست حق أصيل، وتتعاظم المعاناة خصوصاً في الحالات التي يتوفى فيها الزوج الأجنبي، أو عندما يطلق الزوج زوجته أو يهجرها وهي لا تزال تقيم في البحرين.

إن عدم تمكن الأم البحرينية المتزوجة من غير البحريني من منح جنسيتها لأبنائها يعد انتقاصاً من حقوق المواطنة ومن تحقيق المساواة بين الجنسين، ويجعل أبنائها يعيشون كالغرباء في البلد الذي ولدوا فيه ويشعرون بالانتماء إليه لكنهم لا يتمكنون من ممارسة حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هذا ولا تزال القوى المدافعة تطالب بضرورة اتخاذ التدابير والتوصيات بتعديل المادة (4) من قانون الجنسية البحريني حيث اقترح الاتحاد النسائي البحريني صياغة المادة قانونياً كالتالي: "يعتبر الشخص بحرينياً إذا ولد في البحرين أو خارجها وكان أبوه بحرينياً أو أمه بحرينية عند الولادة"، فضلاً عن مطالبتها برفع التحفظ بالكامل على الفقرة (2) من المادة (9) من اتفاقية السيداو المتعلقة بهذا الحق الذي يحقق مبدأ المساواة بين الجنسين.

6.     استمرار هيمنة قوى الإسلام السياسي في المشهد العام وقدرته على التحكم في الاستفادة من أصوات النساء، وعدم تبنيه لأي مترشحات قد يفرضها القانون، إضافة إلى عدم إلزام المشرع القانوني للجمعيات السياسية بإقرار حصص للنساء في قوائمها الانتخابية أثناء خوض الانتخابات، كما إن قانون الجمعيات الأهلية رقم (21) لعام 1989 وفي مادته رقم (18) يمنع على مؤسسات المجتمع المدني ومنها الجمعيات النسائية من الاشتغال في السياسة وهذا يضعف بالتالي من مشاركة النساء السياسية. إن غياب التدابير التشريعية يقوض من فرص المرأة في الوصول إلى مواقع صنع القرار وبالتالي لا يساهم في تحقيق المساواة بين الجنسين؛ ومن أبرز هذه التدابير الغائبة اعتماد "نظام الكوتا" الذي ورد في المادة رقم "4" من اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز "السيداو" وتحديد نسبة "30% كوتا" كنسبة لمشاركة المرأة في الحياة السياسية والمنتخبة والمعينة على المستوى الوطني، وتعزيز مشاركتها في كافة مراكز اتخاذ القرار في السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وفي جميع مؤسسات الدولة، كما لا يوجد قانون يجرم التمييز ضد المرأة ويحاسب مرتكبيه أيضًا.

7.     أُحرز تقدماً نسبياً حين تم إقرار الجزء الأول من قانون أحكام الأسرة - القانون رقم (91) لسنة 2009، بيد إنه تحقيق العدالة في قضايا الأسرة والإنصاف والمساواة للنساء في كافة مراحل التقاضي لم يستكمل بعد وذلك لعدم اعتماد "قانون موحد للأسرة" ينص على المساواة والوصول الفعلي إليها، إذ لايزال هناك غياب لقانون أحكام الأسرة الشق الثاني (الجعفري)؛ وغيابه يشكل تمييزا ضد النساء البحرينيات من الطائفة الجعفرية حيث يعانين في المحاكم الشرعية من الاختلاف بين الآراء الفقهية وعدم وجود نصوص موحدة للتقاضي فيما يتعلق بالطلاق وحقوق الحضانة والنفقة ومجمل العلاقات الأسرية. 

لقد كشفت الإحصائيات الرسمية عن وجود "12 ألف" قضية مُعطلة من عام 2009 إلى 2015 وهي تتراوح بين نفقة وحضانة وطلاق وخُلع، إضافة إلى وجود "3000" قضية طلاق للضرر معلقة منذ العام 2011[31]، كما تبين أن القضايا تستمر في المحاكم ما بين (4 إلى 16) عاما، الأمر الذي يؤكد الحاجة الضرورية لإقرار الشق الجعفري من قانون أحكام الأسرة، فغيابه يعد إهداراً صارخاً وإجحافاً بحق المرأة كإنسانة كفلت لها النصوص الدستورية الحق في العدل والأمان والطمأنينة، فالمرأة البحرينية من المذهب الجعفري تُعاني أشد المعاناة نتيجة غياب القانون على الرغم من المطالبة المستمرة بسنه والتي مضى عليها حتى الآن أكثر من 20 عاماً[32]، وعلى الرغم تكثيف الحملات الوطنية التي يقودها الاتحاد النسائي البحريني ومعه الجمعيات النسائية لإصدار القانون، إلا إن الجدّية منعدمة من الجانب الرسمي في إعادة طرح الملف باتجاه إحداث توافق مجتمعي لإصدار الشق الثاني من القانون، والجهود لاتزال محدودة لم تتجاوز التصريحات الصحفية والإعلامية، هذا وترى منظمات المجتمع المدني أن الدولة لم تبذل جهود حقيقية وجادة للإيفاء بتعهداتها المتعلقة بإيجاد التوافق المجتمعي لتحقيق ذلك، متذرعةً بحساسية الملف وما يمكن أن يثير طرحه من مشاكل خصوصاً وإنه بحاجة إلى قرار سياسي.

كما إن النظام القضائي في المحاكم الشرعية لا يزال يتطلب المراجعة والاصلاح وإيجاد آلية لمتابعة تنفيذ الأحكام الصادرة من المحاكم الشرعية والوقوف على ما تعانيه النساء من بطء في مرحلة تنفيذ الأحكام، حيث يؤشر واقع المرأة في هذه المحاكم إلى وجود خلل في مراحل التقاضي في المحاكم يستلزم البحث والتدخل من قبل الجهة الرسمية المعنية، فالنساء تعاني بشدة من بطء تنفيذ الأحكام الصادرة في قضايا الأحوال الشخصية، كأحكام حق الزيارة ورؤية الأطفال في حال الطلاق وتقرير حضانة الأب، والمحكمة لا تأخذ إجراءاً سريعاً عند تعنت الأب وامتناعه عن تنفيذ الحكم، وتقضي الأم وقتاً طويلاً ومستمراً (امتد في بعض الحالات إلى سنتين) في ردهات المحاكم دون فائدة، أما بالنسبة إلى إنشاء "صندوق النفقة"، فإنه في حال صدور حكم بالنفقة، فإن الكثير منهن تعاني من البطء الشديد في إجراءات محكمة تنفيذ الحكم بالتحويل إلى "صندوق النفقة" لصرف مبلغها للزوجة والعودة إلى الزوج.

الخلاصة
تشير الوقائع إلى أنَّ هناك من يحاول تجميل واقع النساء بتجاهل ما تعرضن له من عسف وظلم في سياق الحراك الشعبيّ، ومحاولة تسويغ الخيارات الأمنية على حساب إيجاد الحلول فضلا عن استمرار المحاولات في الانقضاض على بعض المكتسبات التي تحقّقت للنساء من خلال تعديل بنود بعض القوانين أو سن تشريعات قد تتناقض مع شعارات التمكين الاقتصاديّة والسياسيّة المطروحة، لقد أثبت واقع الحدث التاريخي أنَّ الأوضاع المتدنية التي تعاني منها المرأة العربية عامة ترتبط ارتباط وثيق بالاختلالات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة من ارتفاع نسب البطالة في أوساط النساء وانتشار الفقر والأمية وشح فرص التعليم وغياب المواطنة وممارسة الحقوق السياسية التي تعيشها البلدان العربية منذ عقود، وهذا يستدعي مجددًا إعادة طرح التساؤلات بشأن نزول آلاف النساء إلى الشوارع، وما إذا جاءت التحولات السياسية تتناسب وتضحيات النساء ومعاناتهن.  

ختاماً نخلص كما خلص غيرنا من الباحثين بأنَّ الحراك الشعبي قد قارب وصالح وإن مؤقتًا بين الجنسين، إلاَّ إنه لم يتمكن من تغير واقع النساء الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ بشكل نوعي، وإن هناك جهد تراكميّ ونوعي مطلوب القيام به من قبل التنظّيمات النسائية والنقابية والسياسية والتيارات الحداثية وإنه من المهم أيضاً إعادة قراءتها لظروف مجتمعاتها خصوصًا في علاقتها مع الإسلام السياسي وعدم الاكتفاء بالتفرج واجترار التحليلات التقليدية.

                                                    المصادر والمراجع
1)    البحارنة (حسين محمَّد).- التطورات السياسية والدستورية في دول الخليج العربية 1820-2004.-  ط1.- بيروت: دار الكنوز الادبية، 2005.- ص 40-44.
2)    نفســـــــــــــــــــه.- البحرين بين دستوريين.- ط1.- بيروت: دار الكنوز الأدبية، 2005.-46-66 صفحة.   
3)    الخوري (فؤاد اسحاق).- القبيلة والدولة في البحرين: تطوُّر نظام السُّلَطة وممُارسَتها.- ط1.- بيروت: معهد الإنماء العربي، 1983.- 130-140+155+182صفحة.
4)    نعمة (أديب).- الدولة الغنائمية والربيع العربي.- ط1.- بيروت: دار الفاربي، 2014.- 105-128+155-163+289-290 صفحة.
5)    الباكر (عبد الرحمن).- من البحرين إلى المنفى: "سانت هيلانة".-ط2.- بيروت: دار الكنوز الأدبية، 2002.- 189-230 صفحة.
6)    مجهول.- تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، 2011، http://www.bici.org.bh/BICIreportEN.pdf..
7)    طرابلسي (فواز).- ثورات بلا ثوّار.- ط1.- رياض الريس للكتب والنشر: بيروت، 2014، ص 14.
8)  فضل (منى عباس).-التربية السياسية للبحرينيات: الأثر والرؤيا.- ط1.- بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2008، ص118-138.
9)    فضل (منى عباس).-"البحرين: ارتداد الحراك واللاتوازن"، ندوة مستقبل التغيير في الوطن العربي: مركز دراسات الوحدة العربية، 9-12 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، بيروت- لبنان
10)      ماضي (عبدالفتاح) وآخرين.- المرأة في خطاب جماعة الإخوان والحركات السلفية العربية؛ مؤتمر المرأة وربيع العرب: عمان بالأردن من 25-26 يناير 2014.
11)      مجموعة خبراء.- وعود الربيع العربي: المواطنة والمشاركة المدنية في مسارات التحول الديمقراطي.-ط1.- بيروت: الأسكوا،  2013، ص 60-61، أنظر الموقع: http://www.escwa.un.org/information/publications/edit/upload/E_ESCWA_SDD_13_3_A.pdf
12)   مجموعة باحثين.- المرأة وربيع العرب: وقائع مؤتمر إقليمي.- ط1.- عمان: مركز القدس للدرسات السياسية، يناير 2015، ص10-11. 
13)      مجهول.- تقرير الظل حول اتفاقية القضاء على كافة أشكال العنف ضد المرأة (CEDAW)-مملكة البحرين.- لاط.- البحرين: الاتحاد النسائي البحريني، 2013، ص 7-9.
14)      مجهول.- البيان الختامي: لوقائع مؤتمر المرأة وربيع العرب: عمان بالأردن من 25-26 يناير 2014.
15)      عزون (عمار).- ثورات العرب في القرن الحادي والعشرين.- ط1.- دار الفاربي: بيروت، 2013، ص7-22+107.
16)      مجهول.- انظر التقرير في الموقع الإلكتروني: http://www.bici.org.bh/BICIreportEN.pdf.
17)      المحرر.- "7414 عاطلاً عن العمل منهم 3396 جامعياً"، صحيفة الوسط البحرينية، عدد 4599، السبت 11 أبريل 2015.
18)      مجهول.- "تقرير مؤسسات المجتمع المدني رداً على تقرير مملكة البحرين المتعلق بتقرير المتابعة بشأن إستفسارات "لجنة السيداو" بالأمم المتحدة".- الاتحاد النسائي البحريني، 28 أبريل 2016.
19)      جناحي (فوزية).- ورقة عمل القيت في مؤتمر-السيداو حقوق لا مزايا، الاتحاد النسائي البحريني، 2015.
20)      المحرر.- صحيفة الوسط البحرينية.- عدد 4587، الاثنين 30 مارس 2015.



[1] فواز طرابلسي، ثورات بلا ثوّار، ص 14.
[2] الدولة الغنائمية؛ تمثل حالة  خاصة من الدولة الإرثية المحدثة (النيوباتريمونيالة) وهي شبه معممة في المنطقة العربية، وتتميز بحالة متقدمة من الاستحواذ على الدولة والحيز العام والفساد وغياب الديمقراطية وتآكلها، والمصطلح يستخدم بصفته التجلي الأكثر تعبيراً عن الممارسة الإرثية المحدثة في البلدان العربية والأكثر صدقاً في التعبير عن واقع الأنظمة فيها، وتتميز هذه الدولة بخصائص منها، شخصنة السلطة، وإمكانية تحويل الموارد السياسية إلى موارد اقتصادية والسلطة إلى ثروة وبالعكس Interchangeabilities))، فضلاً عن التباس الحدود فيها بين السياسي والإداري في عمل الدولة وأجهزتها، وهي إما غنائمية مركزية أو لامركزية، ذات طابع ريعي للاقتصاد، وتأخذ الطابع الأمني-المافيوي خارج أية رقابة قانونية وشعبية. للمزيد أنظر الفصل "6" حول مفهوم الدولة الغنائمية في كتاب "الدولة الغنائمية والربيع العربي" للمؤلف أديب نعمة، صفحة 105-128.
[3] عمار عزون، ثورات العرب في القرن الحادي والعشرين2013، ص 7-22.
[4] فؤاد اسحاق الخوري، القبيلة والدولة في البحرين، ص 130-140.
[5] فؤاد اسحاق الخوري، م.ن، ص 155.
[6] فؤاد إسحاق الخوري، م.ن، ص 182.
[7] حسين محمّد البحارنة، التطورات السياسية والدستوريّة في دول الخليج العربيّة 1820-2004، ص41
[8] هيئة الاتحاد الوطني: هي الحركة الوطنية المعروفة باسم "الهيئة التنفيذية العليا"، بدأ نشاطها كحركة في أواخر عام 1953، وتبلورّت بشكل ملموس خلال السنوات من 1954-1956. تقدمت إلى حاكم البحرين بمطالب سياسية لإصلاح نظام الحكم والإدارة بشكل يشارك فيه الشعب في شؤون الإدارة المحلّية مشاركة فعلية. بعد حرب السويس عام 1956 توحّدت إرادة الحاكم مع المعتمد البريطاني للحدّ من نشاطها، فتدخّل الجيش البريطاني لمساندة الحاكم واعتقل خمسة من قادة الهيئة وسجنهم وحاكمهم وصدر قرار سياسي في 23/12/1956 بسجن ثلاثة منهم لمدة 14 عامًا وتمَّ نفيهم إلى جزيرة سنت هيلانة، واثنان منهم أودعو السجن في البحرين لمّدة 10سنوات. (أنظر كتاب: التطوّرات السياسيّة والدستوريّة في دول الخليج العربيّة 1820-2004 لمؤلّفه د.حسين محمّد البحارنة، ص 40-44).
[9] عبد الرحمن الباكر، من البحرين إلى المنفى، ص189-230.
[10] بعد انتهاء المجلس التّأسيسيّ الذي كُلَّف بمناقشة الدستور بين 16/12/1972 إلى يونيو1973، بدأت التجربة النيابيّة عام 1973 وجرت الانتخابات.
[11] حسين محمد البحارنة، التطوّرات السياسيّة والدستوريّة في دول الخليج العربيّة 1820-2004، ص 44-45.
[12] أصدر مرسوم بقانون رقم (11) لسنة 2001 لإلغاء قانون أمن الدولة لسنة 1972، وإلغاء محكمة أمن الدولة بمرسوم رقم (4) لسنة 2001، ومرسوم بقانون رقم (10) لسنة 2001 بالعفو الشامل عن الجرائم الماسة بالأمن الوطني، أنظر: حسين محمَّد البحارنه، البحرين بين دستورين، ص46-66.
[13] ميثاق العمل الوطني: بمثابة العقد الاجتماعي الذي تمّ التصديق عليه بنسبة 98,4% في استفتاء شعبي بتاريخ 14،15/فبراير/ 2001، وصادق عليه الأمير وأصدره في 16 فبراير 2001 بموجب أمر أميري رقم (17) لسنة 2001.
[14] منى عباس فضل، "البحرين: ارتداد الحراك واللاتوازن"، ندوة مستقبل التغيير في الوطن العربي: مركز دراسات الوحدة العربية، 9-12 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، بيروت- لبنان
 [15] ميدان اللؤلؤة: ميدان "دوار اللؤلؤة" مثل مركز التجمعات الشعبية الكبيرة في قلب العاصمة المنامة أثناء الانتفاضة، وقد تم هدمه بعد دخول "قوات درع الجزيرة" وفك اعتصام المحتجين بالقوة وإعلان حالة الطوارئ وتطبيق قانون السلامة الوطنية في مارس 2011.
[16] أديب نعمة، الدولة الغنائمية والربيع العربي، ص 155-157، 163.
[17] اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق: أنشئت في 2011 بقرار حكومي بعد ضغوط دولية وتردي الوضع في فترة السلامة الوطنية، وقد أعُلن عنها في احتفال رسمي رحب فيه الملك بالتقرير وأكد أن البحرين ستنفذ التوصيات التي توحي بإمكانية وجود مخالفات قانونية بحاجة إلى التحقيق والتعديل، وقد ترأسها السيد "شريف بسيوني"، حيث أعدت تقريراً مفصلاً عرف بأسمه عرضت فيه أبرز النتائج والتوصيات. للمزيد انظر التقرير في الموقع الإلكتروني: http://www.bici.org.bh/BICIreportEN.pdf..
[18] أنظر الموقع الإلكتروني: http://www.bici.org.bh/BICIreportEN.pdf.
[19] مجموعة خبراء في الأسكوا، وعود الربيع العربي: المواطنة والمشاركة المدنية في مسارات التحول الديمقراطي ص 60-61.
[20] منى عباس فضل، التربية السياسية للبحرينيات: الأثر والرؤيا، ص118-138.
[21] مجموعة باحثين، المرأة وربيع العرب: وقائع مؤتمر إقليمي، ص11.
[22] تقرير الظل حول اتفاقية القضاء على كافة أشكال العنف ضد المرأة (CEDAW)-مملكة البحرين، 2013، ص 7-9.
[23] مجموعة باحثين، المرأة وربيع العرب: وقائع مؤتمر إقليمي، ص 11.
[24] أديب نعمة، الدولة الغنائمية والربيع العربي، ص289-290.
[25] عبدالفتاح ماضي وآخرين، المرأة في خطاب جماعة الإخوان والحركات السلفية العربية، مؤتمر المرأة وربيع العرب في عمان بالأردن من 25-26 يناير 2014.
[26] البيان الختامي، وقائع مؤتمر المرأة وربيع العرب، عمان بالأردن من 25-26 يناير 2014.
[27] تقرير الظل حول اتفاقية القضاء على كافة أشكال العنف ضد المرأة (CEDAW)-مملكة البحرين، 2013، ص 7-9.
[28] أنظر الموقع الإلكتروني: htdtp://www.bici.org.bh/BICIreportEN.pdf.
 [29]المحرر، "7414 عاطلاً عن العمل منهم 3396 جامعياً"، صحيفة الوسط، عدد 4599، السبت 11 أبريل 2015.
[30] تقرير مؤسسات المجتمع المدني رداً على تقرير مملكة البحرين المتعلق بتقرير المتابعة بشأن إستفسارات "لجنة السيداو" بالأمم المتحدة، الاتحاد النسائ البحريني 28 أبريل 2016.
 [31] فوزية جناحي ، مؤتمر-السيداو حقوق لا مزايا، الاتحاد النسائي البحريني، 2015.
[32] المحرر، صحيفة الوسط البحرينية، عدد 4587، الاثنين 30 مارس 2015.