الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

ناجي وبلاغة الريشة


منى عباس فضل 

قالها حنظلة فاقعة كشمس نهارات الصيف العربية في كبد السماء، قالها ناجي العلي:

-        "الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا القريبة إنها بمسافة الثورة".

لم يكن ناجي العلي شيخ دين بعمامة وفتوى، ولا قائد سياسي أنيق، ولا ضارب ودع، ولا حاملاً لمباخر السياسيين أو الحكام ولا شاعر منكس الرأس في بلاط السلاطين، ناجي الشهيد كان جراحاً بمبضع وقلم فحم وعقل مستنير يخط أحلامه وأحلام الشعب الفلسطيني المشرد بفرشاة الفن الكاريكاتوري تماما كمن يطلق مدفعاً ورشاشاً في وجه الطغاة.


هو الذي ابتدع حنظلة المر، صبياً صغيراً واقفاً عاقداً يديه المكتفة خلف ظهره بعد مغادرة فلسطين، شاهداً منتظراً، تارة في مواجهة هزائم زمن التطبيع والتلويث بالتسوية الأمريكية-الصهيونية-الرجعية في المنطقة منذ بداياتها، وتارة قبالة فلسطين الحلم والمنارة، يالها من بلاغة للريشة المعجزة التي نطقت بلسان الشعب الفلسطيني والوجدان العربي.

كانت الرسائل وعناوينها واضحة؛ من مآسي الذل والقهر والهزائم والتحديات والاصرار وكل الأحزان والأفراح الصغيرة والكبيرة والأهم رسالة الانتماء إلى الهوية العربية النضالية في الميادين.
 سئل ناجي العلي مرة عن موعد رؤية وجه حنظلة فأجاب:

-        "عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته...".

حنظلة صار التوقيع الرسمي لكل رسوماته التي لخص فيها الواقع العربي بمشاهد الحزن في كل المنعطفات، وبكل رمزية العذاب والصعاب التي يعانيها الإنسان الفلسطيني، فخطّت يده رسم حقيقة الوجع على جدران الزنازن منذ الصغر، وقام بتأصيل الفكرة والموقف المبدئي من التشرد في الغربة، إلى الاضطهاد والتمييز العنصري في الأرض المحتلة على يد دولة الكيان الصهيوني، فكانت الرسومات تعبيراً ودلالة عن جوهر رسالته السياسية اليومية التي ينشرها ناقدة فاقعة لا لبس فيها للواقع الفلسطيني والعربي، فهو شاهداً محنك وعميق على ما جرى ويجري من أحداث وموبقات. 

أما فاطمة التي تكرر حضورها في أغلب رسوماته المبدعة، كانت شاهداً ورمزاً معبراً عن شخصية المرأة الفلسطينية القوية الشجاعة في نضالها اليومي بما لا يقبل الذل ولا المهادنة والمساومة على القضية الفلسطينية، يقابلها ذاك المتكرش بمؤخرته العارية دون أقدام رمزاً نقيضاً على حالة الرفاهية والترهل والتكرش والخيانة والانتهازية التي وصلت إليها بعض القيادات في عالمنا العربي، فيما يقف الجندي الصهيوني المرتزق مرتبكاً وخائفاً مهزوزاً تجاه جسارة أطفال حجار الثورة.
 هي فلسطين التي يقف عند حدودها مولياً ظهره لدعاة الذل والخنوع والتطبيع، وهي التي كبرت ولا تزال في الضمائر من جيل إلى جيل.

كان ناجي العلي شجاعاً لا يخشى الموت ولا يهاب تكميم الأفواه في جملة "ريشته البندقية"، التي لم يتحمل مراراتها وشراراتها أصحاب الكروش المتضخمة، ولا آلة الإبادة العنصرية الصهيونية فامتدت إليه برصاصة غدر وخيانة.   

اختلفت الآراء حول غموض اغتياله "استشهاده" في شارع آيفز بلندن، حيث أودت بحياته رصاصة غدر اخترقت رأسه، ليسقط شهيداً في 29 أغسطس 1987، ولتبقى قضية فلسطين التي حملها بريشته وضميره حية تشد رحالها من جيل إلى جيل حتى التحرير، ففي الخاتمة سجل رسالته مدوية:

-        "اللي بدو يكتب عن فلسطين، وإللى بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئ ولو على قطع رقبتي"..!

هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي 
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب إلى الحبيب 
إلا شهيداً أو شريد...
من قصيدة "العرس الفلسطيني"
 لمحمود درويش


منى عباس فضل
المنامة-29 أغسطس 2017

الأحد، 27 أغسطس 2017

تجاذبات بشأن المساواة في الإرث


منى عباس فضل
ثمة منظمات نسائية عربية وخليجية تنظر إلى المنجزات التشريعية المتحققة للمرأة التونسية بشئ من الدهشة والإعجاب المشوب بالحسرة في آن، ذلك على الرغم من التبريكات والتهاني التي ترفع إليها. فهي ربما تبحث عن السر الكامن وراء قوتها وجلادتها وصبرها الذي ساعدها في تحقيق ذلك؛ والذي بالطبع لم يأتى اعتباطاً ولا صدفة ولا نتاج مكرمات وشعارات جوفاء خاوية من المضامين، بل إفرازاً لنضال نسائي واع ودؤوب استند إلى واقع تعليمي متطور وحصيلة معرفية تتميز بها قيادات النشاط النسائي مضافاً إليه تجربتهن السياسية وانفتاح ذهني وعقلي وسلوكي على الأفكار والتجارب الإنسانية التي لم تمنعه من المرور بسبب أي محرمات ذكورية أو دينية.

الأهم من هذا وذاك قدرتهن الاحترافية على التقاط اللحظة التاريخية وبلورة مطالبتهن الحقوقية بجدية وجرأة ووعي عال لا يضيع في خضم مجالس الثرثرة ولا التنافس غير ذي معنى، إذن هي الجدية والوعي والإصرار والمعرفة. 

نعم ربما أسعفتهن الظروف الموضوعية منذ أيام الرئيس بورقيبة، لاسيما حين أقرت "مدونة الأحوال الشخصية" بيد إن المهم، هو تفاعل كل تلك العناصر مجتمعة وتشابكها الذي انتج واقعاً متطوراً أفضى إلى مكتسبات متحققة، وعلى من يخامره شعور الحسرة والغيرة ألا يستغرق فيه طويلاً، وعوضاً عنه أن يمعن النظر بالانكباب على دراسة وتفكيك التجارب المتقدمة للمناضلات التونسيات وغيرهن بعمق وبعد نظر، ومواجهة ذاته بالنقد والى ما وصل إليه من ضعف واهتراء ساهمت فيه أنظمة الاستبداد السياسية والدينية، كذلك بسبب ما يسود في أوساطه من تنافس ووهن وتراجع واستسلام لممارسات هذه الأنظمة وقيودها التي تعزز مفاهيم الذكورة واستلاب النساء بإخضاعهن للثقافة السائدة والفتاوى الدينية ولمنظومة أعراف القبيلة والطائفة وعاداتها، على الرغم من شعارات البهرجة التي تتصدر مشاريع تمكين النساء بإقرار تشريعات وقوانين مبتورة من سياقاتها كي تعيد إنتاج واقع إزدواجي متخلف عن عصر الحداثة من خلال تطبيق بنودها التمييزية ضد المرأة.

حدث ثوري ولكن؟
نعود ثانية للتونسيات، مالذي حدث؟
الذي حدث أن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وبمناسبة "عيد المرأة" الذي تحتفل به التونسيات بمصادفة إقرار المدونة عام 1956، والتي شكلت حدثاً ثورياً متقدماً في تحرير المرأة وإقرار القوانين والتشريعات التي تحميها من الاستغلال وأبرزها منع تعدد الزوجات وزواج القاصرات ومنح التونسية حق الزواج والطلاق والتعليم والعمل والسكن والسفر بمفردها، فقد أفصح السبسي عن مراجعات قانونية جريئة للوصول إلى المساواة بين الجنسين في الميراث، فضلاً عن السماح للمرأة المسلمة بالزواج بغير المسلم، موضحاً بالإحصاءات بأن حضور التونسيات في النشاط العام قوي إذ يشغلن "75 مقعداً في البرلمان من أصل 217 مقعداً"، فيما نسبتهن في أغلب قطاعات المهن كالطب والهندسة والقضاء والمحاماة تمثل "60%، 35%، و41%، و43%"على التتالي، ونسبة "60%" منهن يحملن الشهادات العليا، وتساهم "45%" منهن في مصاريف أسرهن؛ الأمر الذي يؤهلهن برأيه لقضية المساواة في الإرث، لكنه لم يشر إلى حضورهن المتواضع في المناصب القيادية "4%" فقط. 

ومنه يجوز السؤال؛ هل كان السبسي صادما حين ألقى بقنبلة قابلة للانفجار في أي لحظة بشأن النصوص الشرعية؟

بالتأكيد نعم، فقد فتح عش الدبابير حيال المنظومة الذكورية وأكثر القضايا تعقيداً وحساسية في نصوص الشريعة الدينية ومقاصدها فأطلق سجالاً حولها، لاسيما حين أشار إلى أن الدولة ملزمة بتحقيق المساواة كاملة بين الجنسين، وضمان تكافؤ الفرص بينهما في تحمل جميع المسؤوليات، وفق البند "46" من الدستور والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

إضافة لما سبق، كلف لجنة رئاسية تضم رجالاً ونساء قانونيين لدراسة القضية وإعداد تقرير حول الإصلاحات المرتبطة بالحريات الفردية والمساواة استناداً إلى دستور 2014 في فصله "21" المتعلق بالمساواة بين المواطنات والمواطنين في الحقوق والواجبات، وذكر بأنه واثق من ذكاء رجال القانون لإيجاد صيغة قانونية لا تتعارض مع الدين ومقاصده ولا مع الدستور ومبادئه، وتُجنب الاصطدام بمشاعر أغلب التونسيين المسلمين، وإنه لن يمضى في أي اصلاحات صادمة، لكن يجب التوجه نحو المساواة في جميع الميادين، منوهاً إلى أن المنشور "73" المتعلق بزواج التونسيات من أجانب من غير المسلمين قد أصبح عائقاً أمام حرية اختيار القرين، وبالتالى من المهم مراجعته وفق "الفصل 6" من الدستور الذي يقر بحرية المعتقد والضمير ويحمل الدولة مسؤولية حمايتهما، وتسوية الوضعية القانونية للكثير من التونسيات المرتبطات بأجانب وما خلفه من مشاكل.

لا تأويل ولا اجتهاد
تباينت المواقف وردود الأفعال على خلفية تصريحات السبسي بين ترحيب واختلاف، ومما زاد الأمر تعقيداً القراءات المختلفة للدستور الجديد لعام 2014، إذ تشير آراء قانونية بأنه يفتقد إلى قراءة رسمية ومحكمة دستورية تفصل في النزاعات المرتبطة بالدستور، كما لايخلو الأمر من فرط حساسية رجال الدين ممن ينظرون إلى مسألة الإرث استناداً للنص "للذكر مثل حظ الانثيين" وبأحكام شرعية ثابتة لا تحتمل التأويل والاجتهاد، فمن جهة "حزب تيار المحبة"، أدان بشدة تصريحات السبسي وقال: "...وكأن المفهوم ضمنياً من الكلام أن شرع الله ورسوله لم يُعدل في الأمر" كما أطلق عريضة شعبية تسعى إلى جمع مليون توقيع، متهماً إياه بإثارة الفتنة والفوضى، وطالب مجلس نواب الشعب بسحب الثقة منه وعزله بتهمة مخالفته الصريحة للفصل الأول من الدستور.

في هذا الصدد يشير الكاتب التونسي توفيق المديني" إنه وبقدر الثناء على المبادرة الجرئية، التي تدخل في سياق مزيد من دعم الحقوق المادية للمرأة عبرة المساواة، ودعم حرياتها عبر تمكينها من الزواج من الشخص الذي تريد، بقدر ما رأى قسم من التونسيين بأن طرح الرئيس التونسي لا يخلو من التوظيف السياسي الذي يخدم مصالحه نفسه ومصالح حزبه "نداء تونس"، لاسيما مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية للبلديات في ديسمبر القادم، وللتشريعية والرئاسية في 2019، فالمرأة التونسية برأيه أصبحت مصدراً من مصادر شرعية السلطة السياسية القائمة سواء في عهد بورقيبة أو قائد السبسي، لم لا وهي "خزان انتخابي" حيث صوتت له مليون امرأة في 2014، ما يعني إنهن لعبن دوراً حاسماً في فوزه، إذ بلغ عدد أصواتهن نسبة "60%" من مجموع الأصوات التي حصل عليها.   

ومع أن كلام السبسي لقى تأييداً من دار الإفتاء، إلا إنه أثار حفيظة الجامع الأزهر، الذي اعتبر مراجعة أحكام الميراث خطوة عكسية ضد حقوق المرأة، كذلك لم يسلم من الانتقادات الصارمة من مشايخ جامع الزيتونة، كمفتي الديار السابق الذي تساءل قائلاً: "هل يحق للرئيس التدخل في مثل هذه القضايا التي ثبتت بالقرآن القطعي متناً وسنداً. هذه نصوص لا يجب أن نحوم حولها، فالتسوية في الميراث وزواج المسلمة من غير المسلم، لا أقول به ولا ينبغي لأحد أن يقول به، هذا خروج عن الإسلام"، وأضاف عليه وزير الشؤون الدينية السابق: "بأن هناك حكم قطعي ثابت بنص صريح لا يجوز المساس به  أو الاجتهاد فيه. وأحكام المواريث فيها نص قرآني في سورة النساء في الآيات من 11 إلى 14".

مفارقة اليساري والقومي
المفارقة أن موقف رفض المساواة لم يقتصر على التيارات الدينية؛ إنما انضم إليهم بعض الأحزاب القومية واليسارية ممن وجدوا بأن هذه الدعوة ستنقل الصراع ضد رأس المال إلى فتنة داخل الأسرة، أما اللافت فكان في موقف حمائم "حركة النهضة" الذي كان برغماتياً وبأنها لا تمانع في أي مراجعات قانونية طالما أنها تنضوي تحت طائلة الدستور، إلى جانب صمت صقورهم وتلميح بعضهم بأن هذه المقترحات لن تمر.  

بقى القول، إنها ليست المرة الأولى التي تثار فيها قضية مساواة الإرث بتونس، فهناك الطاهر الحداد أول من تجرأ على طرحها عام 1930 في كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" والذي طالب فيه بالتجديد الديني، وواجه بسببه الاتهامات بالزندقة والكفر، وأن بورقيبة نفسه أدرك حساسية المسألة فلم يدرجها ضمن مجلة الأحوال الشخصية..." وقال حرفياً: "سأموت وستبقى مسألة المساواة في الإرث في نفسي". أما في 2016 وتبعاً للتقارير فقد تقدم "27 نائباً" من كتل برلمانية مختلفة بمبادرة تشريعية تتعلق بتحديد نظام المنابات "الأنصبة" في الميراث وهي تتضمن "3 بنود" وتقر المساواة في الإرث بين الجنسين، إلا إنها -أي المبادرة- واجهت معارضة برلمانية شديدة توقفت إثرها النقاشات ودون تبرير.

الخلاصة، لاشك أن انتصار رئيس الدولة لقضية المساواة في الإرث وزواج التونسية بغير المسلم، تعتبر من أكثر القرارات جرأة في مجال تمكين المرأة، وهي منعطفاً يرتكز على تراث أصيل في الإطار الحقوقي للمرأة، وقيمة مضافة في بناء الدولة المدنية التي تقبل بالاختلاف والتعايش، بيد إن الطريق لا يزال عسيراً أمامه للمضي قدماً في تحقيق أي تقدم لمراجعة المساواة بالإرث، لكن ذلك لا يعني التوقف والركون للوضع السائد. 

منى عباس فضل
المنامة-26 أغسطس 2017

السبت، 19 أغسطس 2017

المسكينة بريجيت




منى عباس فضل
إذا كانت بلد كفرنسا يدعي ممارسة الشفافية ويتوافر على مؤسسات ديمقراطية عريقة تخضع للرقابة الشعبية منذ عقود، قد حظيت زوجات رؤساءه المعاصرات بنفقات خيالية غطت أكلاف مكاتبهن ومعاونيهن وأعمالهن العلنية والخيرية ناهيك عن مزايا خدمات الحماية وفرق الحراسة واستخدام الطائرات النفاثة المملوكة للدولة وحضور مصففي الشعر ومنسقي الزهور التي تغطيها جميعاً ميزانية الإليزية السنوية بآلاف تزيد على "7 ملايين يورو"، حتى قيل بإن نفقات شريكة فرنسوا هولاند السابقة بلغت لوحدها نحو 400 ألف يورو عام 2013 "قرابة 15 ألف د.ب" شهرياً، فماذا يمكن تخيله أو قوله بشأن مستوى إنفاق مثيلاتهن في البلدان العربية؟
-        طبعاً الكثير الكثير وفوق المتصور.

زوجات الحكام والأزمات
ثورات الربيع هتكت المستور ولم تخفِ عورات واقع البلدان العربية، حيث كشفت تقارير متعددة أن معظم زوجات الحكام كان ولا يزال لهن دور في أزمات بلدانهن بشكل مباشر وغير مباشر، إضافة إلى دور حاشيتهن الفاسدة. أغلبهن يحرصن على الظهور بأناقة مفرطة، في حين تعاني شعوبهم من الفقر والعوز والبطالة، كما برزت موضة تصدرهن للشأن العام في السنوات الأخيرة وعبر مؤسسات فصلت على مقاسهن فيما يتعلق بأدوارهن الجديدة التي أخذت طابع إصلاح حقوقي للنساء.

عند انطلاق شرارة ثورة الياسمين في 2011 لم تسلم زوجة المخلوع التونسي من الشعارات المضادة لها بسبب يدها الملطخة بالفساد وبنفوذها؛ حيث عرفت بـ"السيدة 20 بالمئة"، لإصرارها الحصول على هذه النسبة من المشاريع التي تحتضنها تونس. قيل أنها هربت بثروة هائلة جمعتها وكميات كبيرة من الذهب بسبب موقعها كسيدة أولى، فيما سعت إلى تقريب أفراد عائلتها من مراكز القرار الرسمية وجعلتهم لوبياً ضاغطاً حتى على زوجها المخلوع. مثلها أو أقل فعلت صفية القذافي التي قدر رصيد ثروتها بـ"30 مليار دولار" وعليهم مخزون من الذهب والمجوهرات، أما "ماما سوزان" فعرفت بحبها المتعطش للمال والسلطة الذي تختفي تحت مظلة أنشطتها الخيرية، والبقية حدث ولا حرج.

لكن حديثنا اليوم عن المدرّسة المسكينة المتقاعدة عالية التعليم وغزيرة الخبرة بريجيت قرينة الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الفتى الذي أحبها حباً جماً منذ كانت معلمته حتى أصبحت شريكة حياته، وهي تكبره بـ"25 عاما" اللهم لا حسد، إذ تصاعد الجدل بشأن وعد قطعه زوجها أثناء حملاته الانتخابية حول نيته "استحداث موقع رسمي فعلي" للسيدة الأولى" بهدف وضع حد للرياء وازدواجية الوضع والكف عن "النفاق" بهذا الشأن.

القانوني الأخلاقي
غير إن مسعاه لإضفاء الطابع الرسمي على هذا الدور ومهامه البروتوكولية، أثار حفيظة أوساط من الرأي العام الفرنسي خصوصاً مع تزامن طرح "مشاريع قوانين تخليق الحياة السياسية" في الجميعة الوطنية الفرنسية. معلوم أن اليسار الراديكالي يعارض في هذا السياق منح أموال لزوجة الرئيس على غرار أعضاء الحكومة والبرلمان، وللحد من امتيازات الوزراء والبرلمانيين الفرنسيين ومنعهم من التوظيف أو الاستعانة بخدمات زوجاتهم وأفراد من أقربائهم. معروف أن ماكرون اقترح أثناء حملته الانتخابية التسريع بتشريع "قانون أخلاقي" يساهم في تنظيف الحياة العامة بعد الفضائح التي هزت فرنسا، بيد أن الأمر ليس بهذه السهولة، فإقرار القانون يتطلب أغلبية من أصوات النواب "289" من أصل "577" صوتاً، مما يشكل حتماً تحدياً ومواجهة مع السياسيين الذين يهددونه بإفشال التصويت، أحدهم قال: "إنه ليس أولوية..وغير مجدٍ وفقير فكرياً" - يقصد القانون الأخلاقي-.

وعليه فالتساؤلات والسجالات التي تم تدويرها بشأن دور "السيدة الأولى" متعددة وتركزت حول ماهية الدور وتأثيره على أخلاقيات العمل العام، وما إذا سيتضارب مع "القانون الأخلاقي"؟ فضلاً عن الأكلاف التي ستتحملها ميزانية الدولة؟ واضح أن المناوئين لماكرون في هذا الصدد، لا يقبلون بسهولة وضعاً كوضع الرئيس الإمريكي دونالد ترامب الذي تتصدر ابنته إيفانكا وزوجها واجهة البيت الأبيض واستقبالاته وأنشطته الرسمية في مشهد يثير العالم بالسؤال عن كيفية قبول المواطن الأمريكي بذلك، أما بالنسبة للعالم العربي الذي تحكم مفاصله دول غنائمية بأشكالها الإستبدادية والدكتاتورية، حتماً لا يجروء الموطن فيها على الاعتراض من شئ كهذا، فالأفواه مكممة لا يمكنها التفوه ببنت شفة بسؤال أو اعتراض.

باي باي "للسيدة الأولى"
ما علينا، نعود لفرنسا بلد الحريات والديمقراطية العريقة التي كشفت استطلاعات الرأي في "هاف بوست ومؤسسة You Gov" أثناء حملة ماكرون الانتخابية في مايو الماضي أن "68%" من الفرنسيين يعارضون أي دور سياسي رسمي لزوجة الرئيس. بدوره تيري بول فاليت رسام وكاتب فرنسي تصدر المعارضة بعريضة انترنتية على موقع "تشانج.أورغ" قبل أسابيع رفض فيها مع الموقعين الـ"275 ألف" موقع على العريضة هذا الدور، وجاء مضمون نصها: "ندين بشدة جميع هجمات التمييز الجنسي التي تتعرض لها بريجيت ماكرون، ولا نشكك بتاتا في كفاءتها، لكن وفي ظل سعى الحكومة لتخليق الحياة السياسية، ومع تبني القانون الذي يمنع توظيف الوزراء والنواب لأقربائهم، ليس بإمكاننا الموافقة على المبادرة لاستحداث لقب رسمي لزوجة الرئيس ماكرون." ونقطة على السطر.

باختصار رفضوا "شاهر ظاهر" وبكل شفافية دون خوف من عقاب أو انتقام، تخصيص لقب وميزانية لزوجة الرئيس من المال العام ومن الضرائب المستحصلة من الشعب الفرنسي، وبرغم نية الإليزية التوضيح بأن المسكينة بريجيت لن تتقاضى أجراً ولن يعدل الدستور لتحديد إطار عملها كزوجة رئيس الجمهورية أو الموارد المخصصة لها، حيث يفتقد الأخير أي نص قانوي وبرتوكولي من الناحية النظرية لهذا المنصب، إلا أن أصواتاً من المعارضة ارتفعت قائلة :"إن بريجيت لديها حاليا قرابة ثلاثة مساعدين وكاتبين ورجلي أمن وهذا كاف". عملياً الأمر ليس كذلك كما أسلفنا، حيث كلفة دور زوجات الرؤساء ونفقاتهن مرتفعة وتتحملها ميزانية الإليزية وجيوب الفرنسيين. 

ضغينة الخصوم
خلاصة الأمر بعد هذا السجال اتخذت الحكومة قرارها النهائي بحرمان بريجيت من لقب "السيدة الأولى" رسمياً، ما يعني عدم حصولها على ميزانية خاصة واقتصار دورها تبعاً "لميثاق الشفافية"، على أنشطة علنية لا تتضمن أي تأثير سياسي. في هذا الصدد أشارت الكاتبة "نبيلة رمضاني" من "الإندبندنت" البريطانية، إلى سبب خوف سيدات فرنسا الأوليات من الاقتراب -ولو قيد أنملة- من هذا المنصب؛ الذي يجلب الحرج والمذلات المتعددة لمن يحملنه، بدءاً من الخيانات الزوجية، وانتهاء بمنعهن من حق التكلم والتعبير عن أنفسهن بتاتاً. رمضاني تقول أن ماكرون مختلف جذريا مقارنة بمن سبقوه، لديه نزعة قوية لمناصرة المرأة والحركة النسائية، ولهذا سعى إلى تغيير الواقع، لاسيما وزوجته ترفض لعب دور الأنثى في مسلسل العذاب المهين، فهي تتمتع بصوت قوي وازن، ولهذا يفضل ماكرون إضفاء الصفة الرسمية على منصبها.

إن مجموعات الضغط من خصوم ماكرون ومناوئي بريجيت كما تختم رمضاني أبدوا ضغينة وموقفاً حاقداً على النساء، ولهذا نظموا العريضة الإلكترونية، التي يتمحور مضمونها حول دلالة المنصب كما يبدو لهم من خلال السيدات الأوليات ليس إلا، فما ذهب إليه ماكرون ومساعدوه مجرد وضع "ميثاق شفافية" لن تكون له أي تكلفة ولا يتطلب جهداً تشريعياً ولن يتقاضى عن المنصب الجديد أي مرتب ولا يتطلب تغييراً دستورياً، فالدور بالنسبة لهم "عام" وليس "سياسي". الأهم تضيف: "أن كسب المال والإحاطة بهالة وجيش من الحرس آخر هم بريجيت".

ومنه إذا صحت رؤيتها بشأن المسكينة بريجيت، فالمرجح والأكيد أن ذلك لا ينطبق على السيدات العربيات الأوليات في عشق المال والسلطة والشهرة.   

منى عباس فضل
المنامة-19 أغسطس 2017

السبت، 12 أغسطس 2017

أبو عدنان..وداعاً للحياة



  
صباح الخير ولو إنه جاءنا اليوم بخبر حزين، في الإعلان عن وفاة الفنان الكويتي والخليجي الأصيل عبدالحسين عبدالرضا، رحمة الله عليه. 

كان الفنان حاضراً في أحلام طفولتنا الجمعية، ويوم قررت الدراسة في جامعة الكويت كان من بعض الأحلام الصغيرة أن نلتقيه وهو يمثل على خشبة مسارح الكويت الشهيرة آنذاك والتي ولأول مرة نتعرف من خلالها وبما قدمته من أعمال؛ على فن المسرح وجماله الذي صال وجال أبو عدنان على خشبته. 

رحل الفنان الذي طالما حمل قضايا الناس والمجتمعات الخليجية والعربية بتلقائية وعمق وجدية رغم طابع الفكاهة والسخرية أحياناً من بعض مظاهر المجتمع في اعماله الفنية والتي قدمها بمرح وابتسامة، دفعتنا للضحك من أعماق قلوبنا في أوقات كنا في أمس الحاجة للابتسام، كما حفز في نفوسنا روح الدعابة والمرح. 

اليوم وإن قال الكويتيون بأنه كان مواطناً مثل طبيعة المجتمع والإنسان الكويتي على أكمل وجه، وإن قالوا بأنه لم يكن طائفياً وكان مخلصاً ومحباً للكويت التي سوف تتذكره في صفحات تاريخ فنها الأصيل ومحطاته، فهم فيما قالوا على حق. 

ونحن في البحرين ومنذ كنا صغاراً وشباباً ولما بلغنا إليه من عمر، لا نرى ولا نشعر إلا بذلك، كنا ولازلنا نحب الكويت وطناً وشعباً أصيلاً أعطى كل شئ جميل لشعبه ولجيرانه وبمحبة، وعبدالحسين عبدالرضا جزء من هذا العطاء الجميل.

رحم الله الفنان القدير الذي أضحكنا بالأمس وأبكاءنا اليوم، وحفظ لنا الكويت سنداً ومحبة لخليجنا العربي ولكل الأمة العربية. 

د.منى عباس فضل 
المنامة 12 أغسطس 2017





الجمعة، 11 أغسطس 2017

تعليق على مقال د.محمد الرميحي


مرحبا ويسعد مساءكم  

في مقال بعنوان "على أي وجه ستنتهي الحرب الأهلية السورية؟ نشر في 5/8/2017 بصحيفة الشرق الأوسط "أنظر الرابط" أدناه، للدكتور محمد الرميحي،

https://aawsat.com/home/article/991081/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%85%D9%8A%D8%AD%D9%8A/%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%8A-%D9%88%D8%AC%D9%87-%D8%B3%D8%AA%D9%86%D8%AA%D9%87%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9%D8%9F

يتساءل عن الكيفية التي ستنتهي عليها الحرب الأهلية في سورية.

في سياق تحليله يقارب بين ما حدث من حروب أهلية في العالم وكيف كانت نتائجها التي لا يختلف إثنان معه على تلك النتائج، وإن كانت منطلقات التحليل وموقف المتابعين تتم من زوايا متعددة ومختلفة، وهي –أي النتائج- تتلخص في التدمير وخراب الأوطان ومعاناة الإنسان الذي تتحول معه الأرض وما عليها كتلة مدمرة أو هشة قابلة للإلتواء والإنكسار والتفتت.

في هذا الصدد، يعرض د.الرميحي بالتحليل خمسة عناصر وجدها الأشمل والمشتركة والجوهرية للحروب الأهلية في العصر الحديث؛ أولها يتمثل في تمدد شرر الحروب من النطاق المحلي الضيق إلى النطاق الإقليمي والدولي، وغالباً ما تكون نتائجها حروب تتم بالوكالة وتدخل في الدول التي تخسر أمنها واستقلالها وسيادتها.

أما العنصر الثاني، فيرى تمثله في الدمار الهائل الذي تخلفه الحروب على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وما تتركه من القتلى وجرحي ومختفين وقبور جماعية ومُهجرين ومشردين ومظاهر الجوع والمرض والتشرد. 

العنصر الثالث يجده في الندوب الغائرة التي تتركها الحروب من كراهية وعداء وحقد وعنصرية بين مكونات المجتمع الواحد والأسوأ منه سقوط هيبة الدولة، حيث ينتهى الأمر إلى القتل على الهوية وسيادة قيم الغابة في ثارات المنتصر ضد المهزوم والعكس، فيصبح النسيج الاجتماعي هشاً قابلاً للعطب.

في العنصر الرابع، يُحمل "الدين والطائفة والحزب" مجتمعين أدواراً مهمة في عملية الصراع والحروب. هنا يتساءل المرء كيف إنه لم يناقش "دور الأنظمة الدكتاتورية والتسلطية" بأشكالها الملكية والقبلية أو الجمهورية التي تتوارث الحكم وباتت تملك الأرض بما عليها، وتتعاطي مع الأوطان كغنيمة "دول غنائمية".

الدكتور وبرغم فطنته وعمق خبرته وعلمه وتنظيراته لم يتطرق إليها –أي الأنظمة- والطريقة التي تحكم بها وتدير الدولة، لم يكشف للقارئ كيف إن أغلبها يحكم بالدم والحديد؛ يُسخر الدين والطائفة والأحزاب والآلة الإعلامية والعسكرية والأمنية وعليهم جماعات المولاة وجيوش العلاقات العامة ومن ينتشرون كالفطر رهن إشارة الأنظمة في وسائل التواصل الاجتماعي بشتى أنواعهم وأشكالهم التي تحكم أنشطتهم وعقيدتهم مفاهيم يأتي على قمتها "من ليس معنا، فهو بالضرورة ضدنا"، وإن على الجميع الانصياع والتحدث بلغة واحدة تنتفي معها قيم الديمقراطية وممارسة حرية الرأي والتعبير في ظل ممارسة ممنهجة للبطش والترهيب والترغيب لكل من تسؤول له نفسه الخروج عن المرسوم والمحدد من ممارسات ومواقف مرغوبة.

لاشك أن د.الرميحي لا يفتقد للفطنة والمعرفة لكشف هذا الجانب، إنما فقط نُذكر بما غفل عن مناقشته في السياق الذي سلط فيه نقده اللاذع لبعض الأطراف دون المس بمن يقابلهم ويضادهم من أطراف أخرى، الأمر الذي يشكل معضلة علمية في منهجية التعاطي والنقاش لأي ظاهرة سياسية أو اجتماعية. إن الموضوعية تقتضي مناقشة العوامل ولاسيما الرئيسة منها والفعالة في اطار تشابكها وتفاعلها وقربها وتضادها وتأثيراتها دون نقصان قدر الإمكان، حتى وإن كانت الانحيازات تجاه طرف دون آخر.

بشأن العنصر الخامس والأخير الذي تطرق إليه باقتضاب عن الكيفية التي تبدأ فيها الدولة بفقد عناصر استقلالها وبعض سيادتها بسبب التدخلات الخارجية، حيث قارب ذلك الأمر بأمثلة على أنظمة ومجتمعات وأحزاب محددة دون غيرها، بالتأكيد نتفق معه فيما أورده من أمثلة لكننا نضيف، بأن الدولة تفقد سيادتها أيضاً حين ترتضي وجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها أيا كانت سواء لجهة روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو الإيرانية أو التركية أو غيرها.

الدول تفتقد سيادتها حتما ويصبح المواطن لا قيمة له حين تستعين بالخبرات الأجنبية لقمع شعوبها والبطش بهم سواء أكانت تلك الخبرات لأجهزة من كيان العدو الصهيوني أو من الولايات المتحدة الأمريكية أو الروسية أو الأوروبية أو التركية أو الإيرانية أو الباكستانية أو من أي خبرات عربية أخرى، وتحت ذارئع المحافظة على الأمن القومي. هنا يبرز السؤال بشأن المواطنة والحريات والحقوق وثقافة حقوق الإنسان.  

نتفق مع د.الرميحي فيما خلص إليه من أن "الدروس الأكيدة في نتاج الحروب الأهلية تؤكد حقيقتين؛ الأولى بمجرد نشوب الحرب الأهلية، فإن الأمور لا تعود أدراجها من جديد، وتفقد الدولة، حتى لو عادت استقلالها الحقيقي، والثاني أن أياً من الدول الخارجية التي تشارك في حرب أهلية بعيدة عنها تخرج بخفي حنين، أي خاسرة لا محالة. قد يطول الوقت لإنهاء الحروب الأهلية في منطقتنا، ولكن النتيجة (للعقلاء فقط) هي الدرسان السابقان!"، انتهى الاقتباس.

هذا بالطبع ينطبق على الجميع، وليس على مجتمع دون آخر، ليس على دولة دون أخرى.
تحياتنا للدكتور وقلمه النابض بالحيوية.

منى عباس فضل
المنامة-11 أغسطس 2017

الأربعاء، 9 أغسطس 2017

عقوبات الكونغرس وتداعياتها على روسيا (2-2)




منى عباس فضل
للأجابة على الأسئلة التي انتهينا إليها في المقال السابق بشأن ماهية العقوبات الامريكية الجديدة على روسيا وكيف ينظر إليها المراقبين، يمكن القول إنها تستهدف العمود الفقري للاقتصاد الروسي، وتحديداً قطاع الطاقة الذي تنشط فيه شركات تطوير الأنابيب الروسية، كما إنها - أي العقوبات - تفرض قيوداً على بعض مصدري الأسلحة الروس. وإذا عدنا لتفاصيل جوهرها فهي تتمثل في عناصر محددة كما أوردتها وسائل الإعلام في النقاط التالية:  

1.    تعمل العقوبات على تجميد الأصول الروسية وحظر التعامل مع أفراد روس، كما لا يجوز لأي شخص أمريكي الجنسية التعامل مع أشخاص محددين جاء ذكرهم في هذه العقوبات من قبل الكونجرس أو بأي طريقة أو وسيلة كانت.
2.    حضر التعامل مع أي شركات روسية من قبل أفراد أو مؤسسات أمريكية محددة في العقوبات.
3.    حُددت العقوبات على قطاعات محددة كالدفاع، والقطاع المالي والمصرفي كونه يتحكم في عملية التحويلات المالية في روسيا فضلاً عن قطاع الطاقة الذي تعتمد عليه روسيا بشكل كبير ويمثل عصب اقتصادها.
4.    يفرض قانون العقوبات قيوداً على الصادرات التكنولوجية الروسية والخدمية النفطية.

تأثير العقوبات على الاقتصاد الروسي
وعليه كثيرة هي السجالات والتساؤلات بشأن تأثير عقوبات الولايات المتحدة على الاقتصاد الروسي، خصوصاً وإن العقوبات تكررت، إذ سبق وفرضت على روسيا عام 2014 بسبب ضمها لشبه جزيرة القرم إلى أراضيها، كما فُرضت بحق أفراد وشركات روسية، حيث طرد إثرها الرئيس السابق بارك أوباما "35 دبلوماسي" وأغلق مقرين دبلومسيين لروسيا في الولايات المتحدة.

"صندون النقد الدولي" تطرق إلى العقوبات السابقة بالتحليل والتوقعات التي لخصها تقرير اقتصادي نشرته قبل أسابيع "محطة CNBC" العربية، مشيراً إلى إن تلك العقوبات ستقلص الناتج المحلي الروسي لتصل به من مستوى "1.5%" إلى "1%" على المدى القصير، كما يتوقع تراجعات في نمو الناتج المحلي على المدى المتوسط قد تصل لنسبة "9%"، وماذا أيضا؟

توقع الصندوق الدولي تراجعاً في الإيرادات الروسية قد تصل نسبة زيادتها إلى "30%"، ولهذا تأثير على تراجع إيرادات الشركات التي تعتمد عليها الأسواق الأوروبية بأكثر من الثلث، فيما ستتراجع حسب توقعهم قيمة أصول الشركات بأكثر من النصف "50%" وينخفض عدد العاملين في تلك الشركات إلى نسبة أكثر من "30%"، أما التكلفة السنوية التي ستؤثر على الاقتصاد الروسي بسبب العقوبات فسوف تكلف الاقتصاد الروسي نحو "40 مليار دولار"، أي ما يمثل نسبة "2%" من الناتج المحلي الإجمالي، وإن هذا التأثير سيكون أكبر وأقسى فيما لو استمر انخفاض أسعار النفط. كيف؟

ستبلغ تكلفته على الاقتصاد الروسي خسارة قيمتها ما بين "90-100 مليار دولار"؛ ما يعني خسارة على مستوى الناتج المحلي الإجمالي من "4-5%"، بيد إن تأثيرات الخسائر تبعاً لتقرير"CNBC"، تكمن في انخفاض أسعار النفط أكثر منه في موضوع العقوبات الأمريكية؟ كيف؟

يخلص التقرير؛ إلى أن تأثير العقوبات سيكون أقل "3 مرات" من تأثير انخفاض أسعار النفط بسبب اعتماد الاقتصاد الروسي على الصادرات النفطية أكثر منه اعتماداً على صارداته من الغاز الطبيعي، كما إن العلاقات التجارية الأمريكية-الروسية ليست بمستوى متقدم، فهي ضعيفة بلغة الأرقام، فالدولتين لا تعتمدان على بعضهما البعض تجارياً، والورادات الأمريكية لروسيا تمثل "2%" فقط، فيما تمثل صادرات أمريكا لروسيا ما نسبته "1%" من  إجمالي الاستثمارات المباشرة فقط؛ وبالتالي فأن نسبة هذا التأثير على الاستثمارات ستكون منخفضة جداً، بيد إن المتأثر بهذه العقوبات أكثر فأكثر ستكون أوروبا التي ستضعها العقوبات الأمريكية في مأزق حقيقي، لماذا؟

العجوز أوروبا متضررة
لأن هناك مؤشرات خطيرة تشير إلى تأثر شركات أوروبية تعمل في قطاع الطاقة، وهي مستثمر رئيسي أيضا في روسيا، يأتي على رأسها مشروع نقل الغاز الروسي عبر بحر البلطيق من خلال إرساء خط أنابيب مشروع Nord Stream 2" " الذي تنوي روسيا إنشاءه ليصل إلى ألمانيا، علماً بأن من يرعى هذا المشروع شركات ألمانية وفرنسية كـ"يونيبر" و"فنترشال" الألمانيتين و"إنجي الفرنسية" و"رويال داتش شل" التي تشارك في ملكيتها المملكة المتحدة وهولندا و"أو إم في جروب" النمساوية، حيث تبلغ قيمة هذا المشروع "9.5 مليار دولار". ماذا يعني هذا؟ 

يعني أن المشروع سيكون على المحك من وجهة نظرهم في حال شهدنا تطبيق فعلي لهذه العقوبات.    

خلاصة الأمر، سياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا ومن وجهة نظر العديد من الباحثين والمتابعين تفتقر إلى الاستيراتيجية المتماسكة والشاملة، ومن الواضح إن قرار أغلبية زعماء الكونغرس بسن قانون العقوبات الجديد على روسيا؛ يبتعد عما كان معتمداً في السابق على "مبدأ الاحتواء Containment" كما كان أيام الحرب الباردة، بل على العكس يستند إلى رؤية متشددة، وقد سبق لمجموعة من الخبراء في المؤسسات البحثية والاستيراتيجية ومنهم محموعة باحثين في "مؤسسة التراث الأمريكية The Heritage Foundation"، سبق، وأن قدموا رؤيتهم لصانعي القرار الأمريكي تجاه روسيا على المستوى الاستيراتيجي، وهي نصائح تعتمد على عناصر عديدة متشددة يأتي على قمتها؛ تكبيد روسيا خسائر سياسية واقتصادية وعسكرية فادحة لا تستطيع موسكو تحملها على المدى البعيد، بسبب تعثر اقتصادياتها.

ولأن موسكو تستمد نفوذها الجيوسياسي من خلال توفيرها ما يقارب "30%" من احتياجات أوروبا للطاقة، حيث تستورد بلغاريا وحدها، وهي إحدى دول حلف الناتو قرابة "95%" من احتياجاتها من غاز روسيا التي تملك ثلاثة أكبر شركات استثمارية فيها، الأمر الذي دعاهم إلى نصح متخذي القرار الأمريكي بعدم الاستجابة للضغط الأوروبي لتقليل أي عقوبات على روسيا بل رفعها، مقابل العمل على تحسين قدرة أوروبا في تطبيق العقوبات وإنشاء خطوط الغاز والنفط البدئلة التي تقلل الاعتماد الأوروبي عليها، فضلاً عن إلغاء التعرفات الجمركية على المنتجات الأوروبية المماثلة وإزالة كافة القيود على صادرات الولايات المتحدة من النفط والغاز الطبيعي لإعطاء أوروبا وآسيا مصادر بديلة للطاقة، إضافة لاستبعادها من نظام التعاملات المصرفية الدولي؛ من جهته يرى ديفيد اغناتوس من الـ"واشنطن بوست" بأن العقوبات أصبحت من الأدوات المبالغ في استخدامها وبإفراط في مجال السياسية الخارجية الأمريكية لاسيما الاقتصادية منها، فنهاك كما يضيف عقوبات جديدة تفرض على مسؤولين في فنزولا إلى جانب كوريا الشمالية وإيران.

حقاً إنه جنون حروب الطاقة بين العملاقة، وعليه جنون الإرتياب واهتزاز الثقة بالنفس في مواجهة التحديات التي تثيرها روسيا لزعامة الولايات المتحدة في النظام الدولي ولنفوذها الحيوي في شتى مناطق العالم، ما يعني أن العالم يضع يده على قلبه أمام احتمالات زيادة وتيرة التنافس الاستيراتيجي بين روسيا والولايات المتحدة على المدى المنظور.   

منى عباس فضل
المنامة-9 أغسطس 2017

الثلاثاء، 8 أغسطس 2017

عقوبات الكونغرس وتداعياتها على روسيا (1-2)





منى عباس فضل
بعد مفاوضات مكثفة قبل أسابيع جاء قرار أغلبية زعماء الكونغرس الأمريكي بسن قانون يفرض عقوبات وتدابير تقييدية جديدة على روسيا، هي الأوسع والأشمل عما كانت عليه منذ 2014، وذلك على خلفية مزاعم اتهامها بالتدخل في انتخابات الرئاسة عن طريق حملة تضليل وقرصنة مارستها.
  
من جانب متصل اعتبر محللين أن القانون الجديد انقلاباً للكونغرس على الرئيس دونالد ترامب يقوض سلطاته كرئيس فيما له علاقة برفع أي عقوبات مفروضة على روسيا دون موافقة الكونغرس، لم لا وهو الذي ألمح في حملاته الانتخابية إلى التفكير في الاعتراف بالقرم كجزء تابع لروسيا واقترح وقتها رفع العقوبات عن موسكو، ذلك برغم قدرته على التصويت بحق الاعتراض "فيتو" على مشروع القانون، لكن ذلك كان سيثير شبهة لجهة دعمه للكرملين، ولهذا وقع على القانون على مضض وبما يتعارض أصلاً مع إرادته ورؤيته تبعاً لبعض التحليلات.

المفوضية تحتج
المفوضية الأوروبية لم يروق لها أمر قانون العقوبات الجديد، وهي تجده يستند إلى اعتبارات محلية بحته كما حذرت من عواقبه المحتملة والمحفوفة بالمخاطر التي يصعب التكهن بها، خصوصاً وإن الاتحاد الأوروبي يبذل جهوداً كبيرة تتعلق بتنويع مصادر طاقته بعيداً عن روسيا، لذا لا عجب أن ارتفعت وتيرة قلقه والتلويح باتجاه اتخاذه اجراءات مضادة فيما لو طالت العقوبات مصالحه الاقتصادية.

بدورها نشرت "الفاينانشيال تايمز" نص وثيقة للاتحاد الأوروبي؛ تلمح إلى أن بروكسل قد لا تعترف بهذه العقوبات على أراضيه أنها تنتهك مصالح أعضاءه، معتبرة إن فرضها "خطوة أحادية" غير محسوبة، كما طالبت بضمانات أمريكية مكتوبة أو علنية توضح أمرين، الأول أن العقوبات لن تؤثر على مصالح الاتحاد والثاني عدم فرضها ضد شركات تابعة له، لاسيما في مجال الطاقة وتحديداً في مشروع بناء خط الغاز "السيل الشمالي 2" بين روسيا وألمانيا.

المفوضية في بيانها نبهت عن استعدادها للتدخل حماية لمصالحها، من خلال وضع القانون الأمريكي تحت التشريع الأوروبي الذي بالنسبة لها يملك اليد العليا فوق تشريعات الدول الأخرى خارج حدوده، وعبر قوانين منظمة التجارة الدولية، كما شددت على تداعيات العقوبات وتأثيرها على استقلالية الاتحاد على صعيد الطاقة والانعكاسات السياسية السلبية المحتملة، وذكرت بأهمية تنسيق سياسة العقوبات بين دول مجموعة السبع، وماذا أيضا؟

أيضاً وضح البيان أن القانون يشمل فرض عقوبات على أي شركة بما فيها الأوروبية التي تساهم في تنمية وصيانة وتطوير أو ترميم أنابيب للطاقة مصدرها روسيا، ما يعني إنها قد تؤثر على البنى التحتية لوسائل نقل الطاقة إلى أوروبا، وعلى مشاريع حاسمة ضمن تنويع الطاقة في أوروبا مثل الغاز الطبيعي المسال في البلطيق، وغيرها مما سيوضح لاحقاً.

ألمانياً كانت الأعلى صوتاً في الاحتجاج وقد حذرت بعدم قبولها لأي عقوبات أمريكية جديدة تطال أي شركات أوروبية. وزير خارجيتها أشار "إلى أنه لا ينبغي أن تصبح العقوبات الاقتصادية آلية لسياسة واشنطن الصناعية، ...إذ لا يحق لها الإملاء على الشركات الأوروبية؛ وكيف تتعامل مع  الشركاء الأجانب؟" هكذا قال، أما الخارجية الفرنسية فأعلنت "بأن العقوبات الجديدة ضد إيران وروسيا وكوريا الشمالية تبدو مخالفة للقانون الدولي، لأن نطاقها الجغرافي يمتد خارج الأراضي الأمريكية".

النتيجة، إن التباينات الأمريكية البارزة والمضمرة بين البيت الأبيض والكونغرس تجاه العلاقة مع روسيا وبرغم توافق الديمقراطيين والجمهوريين بأغلبية على فرض قانون العقوبات الجديد، إلا إن الرئيس ترامب أجبر على توقيع قانون العقوبات الأخيرة، الأمر الذي يضع العلاقة بين أوروبا وموسكو مقابل خيارين عسيرين، فأما أن تجاري أوروبا واشنطن وتجازف بعلاقتها مع روسيا، أو أن تقف ضد قرار الكونغرس الذي سيؤدي إلى علاقة متوترة معها، وفي كلا الحالتين الأمر صعب وشاق عليها، فيما يشير المحللين إلى زيادة فرص انتعاش وتقوية التحالف الروسي - الصيني والإيراني بسبب العقوبات. السؤال المهم هنا، ماذا عن الموقف الروسي وردود أفعاله؟ ما تأثير العقوبات على اقتصاده؟ من المتضرر الأكبر من هذه العقوبات؟

غضب روسي
برغم اتهامات الكونغرس الموجهة إلى موسكو، إلا إن الأخيرة تنفي أي تدخل لها في شأن الانتخابات الأمريكية، ولهذا أثارت حزمة العقوبات الجديدة غضبها واستنكارها، وكرد فعل فوري حال اتخاذ قرار العقوبات؛ أعلن مسؤولون أمريكيون أن روسيا ألغت اجتماعاً مع كبار من ديبلوماسييهم، وأتبعتها لاحقاً بإنهاء خدمات "755 دبلوماسياً وموظفاً" ضمن البعثة الدبلوماسية الأمريكية، الأمر الذي يكشف ماهية العلاقات بين موسكو وواشنطن والتي نزلت لأدنى مستوياتها مقارنة بما حدث أبان الحرب الباردة، إضافة إلى حالة التوتر بين واشنطن والاتحاد الأوروبي كون القرار يجيز فرض العقوبات على شركات أوروبية أيضا.

لوحظ أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يتوانى عن القول "بأن العقوبات ما هي إلا دليل على صراع داخلي في الولايات المتحدة، وإن سياسة فرض واشنطن العقوبات على موسكو بذرائع مختلفة تهدف باستمرار إلى احتواء روسيا"، كما ندد رئيس وزراءه بالعقوبات واصفاً إياها بـ"الحرب الاقتصادية الشاملة" واعتبرت رئيسة مجلس الاتحاد الروسي العقوبات ضد بلادها تعبير عن رغبة لدى واشنطن في التضييق على موردي الطاقة الروس للسوق الأوروبية".

وفي الوقت الذي اتخذت فيه روسيا إجراءات فورية غاضبة بطرد الدبلومسيين، فسرها أحد الكتاب بإنها ردود فعل الطرف العاجز الذي يتصرف بمظهر القوي محاولاً الالتفاف على أزماته الداخلية، ومع ذلك فقد تحركت روسيا بحسب أحد التقارير نحو أسوأ الاحتمالات، وأسرعت العمل في بناء "كيش ستري" أسفل البحر الأسود معتمدة على سفن تابعة لشركة "أول سيز جروب إس إيه" السويسرية،  كما حرصت شركتها "غازبروم" ومنذ مدة في الحصول على معدات لإرساء خطوط أنابيب الغاز أسفل المياه، لتحصين وضعها ضد أي عقوبات، معتمدة على قرض بضمان "غازبروم" حيث دفعت شركة مقاولات روسية "مليار دولار" لبناء سفينة عملاقة في سنغافورة تستخدم في إرساء خطوط أنابيب أسفل الماء لحساب شركة نيجيرية تمر بأزمة مالية.

باختصار الروس أخذوا في اعتبارهم احتمالية فيما لو أخل الشركاء الأوروبيين بالتزاماتهم، فأن "غازبروم" يمكنها الاستغناء عنهم، لاسيما وحسب ذات التقرير المجال متاح أمامها للحصول على المعدات وقطع الغيار من آسيا في إطار اتفاقيات سرية، وهذا تبعاً لخلاصة تقرير "لبلومبيرغ" أن مشكلة العقوبات الأمريكية القديمة والحديثة التي تثير غضب الحلفاء والمؤسسات التجارية، قد تدفع بروسيا نحو المزيد من الاكتفاء الذاتي. 

ومنه يجوز السؤال عن ماهية تلك العقوبات وكيف ينظر إليها المراقبين؟ وهذا ما سيتناوله الجزء اللاحق من المقال؟  

منى عباس فضل
المنامة-8 أغسطس 2017

السبت، 5 أغسطس 2017

رزنامة الوقت


منى عباس فضل 
هي الأرقام بصغيرها وكبيرها من تحرك الأصابع وهي من يلتقطها النظر، ولكل منها حكاية حين تفتح أبواب شهية القلب كل صباح على أحدها ويتحرك العقل ليبرمج يومه ونشاطه.

هذا الصباح لم يكن كمثل غيره من صباحات، فهي على موعد من يوم يليه في بدء حركة دؤوبه، يقولون: "ان الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، يقولون: أن رتم الزمن الحاضر غدا متسارعاً حد اللهاث والركض إلا إنه وفي نهاية المطاف تجدها تركن في أول نفق مفتوح تكون فيه كل الأشياء مبهمة ومنفلتة من بين يديها.

لا يعجبها العجب من تصاميم رزنامات الوقت المنتشرة، لذا فهي تخربش بأقلامها الملونه كما الصغار على تلك التي اختارت أن تضعها على طاولة المكتب، تسرح بعيداً وهي تلون في ذاك الزمن الذي يُستعصى فيه الحصول على دفتر تلوين رسُمت في صفحاته حيوانات أليفة وأشجار تفاح وبرتقال عالية وأزهار وفراشات ملونة وفتيات صغار يشبهون حلاوة وخفة دم "سعاد ودجاجاتها" حيث تنتشر خطوط الأعشاب التي تلونها بالأخضر الفاتح أو الغامق كما تتخيلها في الطبيعة، وتلون السماء بالأرزق والشمس بالأصفر في تدويرها وسط كبد السماء، لا تغفل عن قوارب الصيد التي تجوب بأشرعتها سطح المياه ولطالما حلقت بأحلامها في الترحال على متنها وتركض وراء بريق النجوم من سماء إلى سماء تحدد خطوط القمر في هلاله أو دائرته وسط الشهر.

دفاتر التلوين احتوت بدايات الطفولة والمرح وكانت شحيحة لا تتوفر لكل الأطفال برغم أسعارها الزهيدة، كانت تتسلى بما يتسر لها من قصصات المجلات والصحف بما تحتويه من صور ملونة في عالم رحب من قصص وألوان، عالم الألوان هو الحيز الحقيقي الذي أدركت على متنه الفرح وتعرفت على الحزن واكتشفت متى يبدأ النهار وكيف ينتهي في متن آخر الصفحات.

***

في ذاك المدى الرحب من التأمل، تنقلها الرزنامة المقسمة إلى مربعات كبيرة لترتيب مواعيدها المقبلة، هنا موعد زفاف وهناك موعد سفر وترحال، وهنا موعد لمعاودة الطبيب، لشد ما تتثاقل الخطى لارتياد عيادتة، لم لا ومن حولها لا حديث يتسلون به مع أنفسهم ومع الآخرين سوى التذمر والشكوى والأنين مما أصابهم من أمراض وعلل مزمنة، حتى إن الاختصاصيون الاجتماعيون والنفسانوين المعالجون أو غيرهم ممن يتعاطعون بشغف مع علوم الطاقة والرياضات البدنية والذهنية أو حتى من الطارئين على عالم المعرفة التي يتلقونها كـ"فاست فود" عبر رسائل "الواتس آب، أو الانستغرام..الخ" لا يهم، المهم يجهدون في تعليم الجميع وتلقينهم من خلال المحاضرات أو مقتطفات من كتب "اليجبيات؛ من يجب" المترجمة كاملة الدسم بالنصائح، يجهدون في تلقين النصائح للتخفف من تأثير الأمراض البدنية وضغوط العصر وضبط الصحة النفسية وبناء علاقات اجتماعية سليمة مع الآخرين، كما يضع بعضهم الآخر قوائم افتراضية مفصلة للطعام والشراب الصحي وحتى الدواء الشافي من العلل ووصايا لها أول ولا نهاية لها، نصائح تتغلغل في عمق دواخل المرء وتخترق خصوصيته وتتذاكى عليه وتتعامل معه وكأنه وليد صغير لا حول له ولا قوة، تتعاطى مع المتلقي القارئ أو المستمع للرسائل وكأنها خلاصة علم وخبرة من خبير الخبراء؛ هكذا تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى واعظ ثقيل الوزن على رأسها إضافة إلى مواعظ رجال الدين المنتشرين كالفطر ممن يلقنون المعلومة والسلوك فيما يجب وما لا يجب؟!

الكل غدا مرجعاً ومعلماً واستاذاً وخبيراً وشيخ دين وطبيب معالج وناصح يبث نصائحه وتلقيناته على مدار الساعة والتي غالباً ما تعنون للمتلقي: "أقرأ أفضل وأقوى مقال.."، يبتغي إكسابك الفوائد العظمى لوجه الله، ثم يناشد متلقي الرسالة الموجهة للقيام بإعادة توزيعها على خلق الله كي تعم الفائدة ويحصل هو كما الآخرون على الأجر والبركة والجزاء الكبير من رب العالمين، سلوك يختصر لك حياتك في ثوان مع سرعة وتيرة الزمن، ويجعلك أسيراً وعلى مدار الوقت لتلقي كماً هائلاً مما لا يعد ولا يحصى من رسائل تلقينية ونصائح.

***
تدقق النظر ثانية على تفاصيل رزنامة الوقت التي تشير إلى مواعيد ملونة مزدحمة لأداء المستوجبات، من زيارات مفتوحة وحفلات زفاف وأعياد ميلاد، تغمض عينها وتفتحها لتجد أن أيامها توالت كما الركام على بعضها البعض، فلا هي تشعر بقيمة ما تشفي الغليل ولا بأشباع يحقق الملاذ والراحة، لم يعد للأسئلة متسع من الوقت ولا مساحة لعزلة تبتغيها في زاوية تحتضن فيها أفكارها وأوراقها وأحبارها، فهي أما موضوع زيارة على أجندة الآخرين أو مقصداً لثرثرة على الماشي، أو لتلبية متطلبات لا نهاية لها، ينتهي اليوم وعقلها يتعب من التلوين والخربشة وتركيب مربعات الأفكار على بعضها البعض؛ ومن تجهيز خططٍ غالباً ما تنتهي إلى فقاعات وعجز مكشوف وثرثرة ولا شيء سوى النظر صباح اليوم التالي في رزنامة الوقت وبأمنيات تشطب اليوم الجديد حسرة بالقلم الأسود، عل اليوم الذي يليه يكون مشعاً ببريق كبريق شمس الربيع.

منى عباس فضل