السبت، 22 ديسمبر 2018

المدخنة


منى عباس فضل
يمر الوقت ثقيلاً وشديد الوطأة على الأرواح المكسورة بذاكرتها المثقوبة، يتفكك من بين الأيادي متبعثراً لاعباً بهم كما قطع النرد، وأثقال الماضي ترزح على كواهلهم وحاضرهم يشاغب نفوسهم المشلولة والمعطلة، ليس ثمة منفذ من حالتهم المنكوبة بوجهها الأكثر بشاعة وبؤساً وفوضوية سوى التمسك بعناد ويقين وحتى آخر رمق بقشة الأمل.

هنا برد قارس، بيوت قرمدية متراصة في ليل موحش، تنبعث من خلف ستائر نوافدها الدانتيلية أضواء خافتة تتلألاء، ومن خلفها تتناسل حكاياتهم مع الغربة والتهجير القسري وسفر الزمن.

من مدخنة عالية منتصبة في أعلى ارتفاع لها وبإطلالة مختالة على البيوت تنفث دخانها الذي يتصاعد في الأفق آخذاً مسار الرياح والغيوم والمجهول الذي يذكر بقصص عاملات المصانع وبالتوحش وبالعداء للطبيعة.

شجرة من دون أقرانها وقفت صامدة شامخة متحدية بعناد صقيع البرد، احتفظت بأوراقها الخريفية الصفراء لكنها لن تسلم في الاحتفاظ بها خلال أيام البرد القادمة التي تنذر برياح شديدة وتساقط الثلوج، إن موسم الاخضرار رحل مودعاً الأرصفة والحدائق والناس ماضون مسرعي الخطى وكأن آلات تحركهم إلى أعمالهم وشؤونهم وهمومهم، وبعضهم يمضي بهدوء وسكون في رحاب الضوء، الحزن يمضي والفرح يمضي الزمن يمضي، لاشيء ثابت في قانون الطبيعة وكل الأشياء في حال عبور وجودي بين الحياة والموت ويبقى الخلاص حلماً وشغفاً للمنكوبين من بشاعة واقعهم أقوى من الجحيم.

من دون أسماء أصبحوا منبوذين بلا هوية غدوا وحيدين على الشواطئ، صاروا أجناساً وتواريخ وألقاباً وعبارات تلمع معها عيونهم كلما تجلى الوطن في أوجاعهم وتيقظ كجمرة في أحشائهم مسكونين بلؤلؤ البحار فيما غيرهم سقطوا بضمائرهم في الفخ والتصقوا بالقاع حتى تغيرت ملامحهم وأصبحت وجوههم قوالب جامدة ورائحتم أكثر عفونة.

برلين – 15 ديسمبر  2018
منى عباس فضل