الجمعة، 31 ديسمبر 2021

على أعتاب باب مقفل

 

منى عباس فضل

طريقان متوازيان في خريف العمر؛ يتصارعان ولا نهاية لهما، أسير على دروبهما دون هدى، أمتطي ثقل أحزاني وهمومي باتجاه نور لا يتلاشى.

 

خطوة بخطوة متيقظة ولا أعلم ما ينتظرني في كل ركن ومخبأ، أختبئ في داخلي، ألجأ إلى شرنقتي، أراجع وقتي المهدور على كل ما لا يستحق؛ وأبتدع ألعابي بالتفاؤل بإفراط يتجاوز مرارة الحال.

 

أودع سنة كئيبة مرت كشبح غرابي مخيف، أتوجه إلى القادم بخوف ورجف متشبثة بما أحمله من أمل؛ كم أحتاج إلى النهوض بخفة ونحن على أعتاب باب مقفل ليفتح مجدداً وأكون حرة وسعيدة بامتلاء.

كل عام وأنتم بسلام.

المنامة – 31 ديسمبر 2021


الخميس، 18 نوفمبر 2021

نظرة جندرية لقضية المعلقات

 

د.منى عباس فضل

 تمثل حملات المدافعة عن حقوق النساء مدخلاً إلى مناقشة قضايا المرأة البحرينية ورصداً لعلاقتها بالمجتمع وإثارة الأسئلة عما إذا كان الأخير ينحاز إلى صفها من حيث المفهوم "الجندري" أم لا؟

 حملات المدافعة تكشف عن حالة التسلط والغبن الذي تعيشه المرأة في ظل قوانين وتشريعات تعتريها النواقص والعيوب في تفاعلها وتشابكها مع منظومة الأعراف والقيم والعادات والتقاليد والثقافة السائدة، كما إنها تعري مواقف الاتجاهات الذكورية العقائدية المحافظة في محاولة الانتقاص من المنجزات التي حققتها النساء في مجالات الشأن العام والتعليم والعمل والفكر والثقافة بل حتى في استحقاقهن للمساواة القانونية التي ليست بمستوى طموحات ونضالات الحركة النسائية البحرينية بعد.

 لقد سادت ولا تزال مفاهيم ذهنية واتجاهات سلوكية تعزز من دونية النساء ودورهن في المجتمع خلال عقود من الزمن؛ وصار لازماً تقويم هذا الوضع وبسط النقاش حوله والتصدي له، لاسيما وحملات المدافعة تميط اللثام عن التعصب والتشويه لدور المرأة في الحياة ومكانتها؛ ذلك على الرغم من إبراز الجانب الرسمي للمنجزات المتحققة التي تعكس تطور واقع النساء في التعليم والعمل وإقرار التشريعات والقوانين في مشاهد اختزالية يستعرض من خلالها سرديات وبيانات إحصائية تتناغم مع الاستخدام المفاهيمي الحداثي لتمكين المرأة ومساواتها بالرجل من جهة، ومن جهة أخرى محاولة تطويع تلك المفاهيم بما لا يلزمه كطرف بإحداث تغييرات جوهرية على التشريعات والقوانين المتعلقة بقضايا النساء ومساواتهن القانونية.

 ولعله من المفيد الإشارة إلى تسيّد الرؤية الرسمية المتفاهمة مع الرؤية الدينية بصورة معلنة وغير معلنة وبصفتهما سلطتين تخترقان المجتمع وتتوليان تثقيف الأفراد كل بطريقتها وغاياتها حول أهمية دور المرأة ومكانتها في الأسرة والمجتمع؛ وبتوظيف آليات متعددة للتعبيرعن ذلك، هذا المشهد غالباً ما يضعنا في مواجهة حالة من الإزدواجية والتناقض بين ما يقال وبين ما يمارس فيما يتعلق بحقوق النساء الإنسانية ومساواتهن ومعاناتهن من التمييز القانوني.

 المتتبع للواقع، سيلاحظ التحاشي الرسمي لأي تصدٌ مباشر عند الحديث عن التمييز وعدم المساواة البارزين في "قانون الأسرة" وغيرها من التشريعات التي تركت ضمناً وعملياً في يد المؤسسة الدينية بشقيها رغبة في تأكيد الطابع الديني للدولة وبما يحافظ على سيادة الرجل في المنزل والحياة الزوجية، مما أدى إلى بروز اتجاهات متناقضة وإلى وضع غريب ملتبس يتسم به حال المرأة البحرينية التي حققت المنجزات ولا يزال التعاطي معها يتم عملياً بشكل دوني وقاصر، ولنا في القضية التي شهدها المجتمع مؤخراً وأثارت سجالاً من خلال حملة "معلقات ينتظرن الإنصاف" بين مؤيد ومعارض مثالاً يعكس اختلالاً صارخاً في "قانون الأسرة" الذي يستوجب إجراء التعديلات على بنوده لتحقيق المساواة القانونية، وقبلها حملة إلغاء المادة "353" من قانون العقوبات التي تجيز زواج المغتصب من ضحيته وغيرها مما يمثل نماذج فاقعة على التمييز القانوني بحق النساء. 


تمييز ولامساواة قانونية

عربياً حتى لا نقول محلياً، تعد قوانين الأسرة والأحوال الشخصية نموذجاً بارزاً للتمييز بين الجنسين، وبرغم تأكيدنا على التقدم المتحقق في الجوانب التشريعية المتعلقة بقضايا النساء، إلا إن قوانين "كقانون الأسرة والحماية من العنف الأسري، والعقوبات والجنسية" وغيرها لا تزال جامدة نسبياً لجهة تحقيق مبدأ المساواة، وهي تواصل تقويض الشخصية الكاملة للمرأة ومكانتها، إضافة إلى إنه لم يمسها التغيير بعد مضي سنوات من نفاذها والعمل بها كما هو مع "قانون الأسرة البحريني" الذي صدر في 19 يوليو 2017.

 ولو أمعنّا النظر في المواد التي تحكم معاملات الزواج والطلاق والحضانة والميراث منه؛ سنجد أنها تنكر على المرأة الكثير من الحقوق التي يحميها قانون الحقوق الإنساني الدولي، وهي ترسخ ذلك مؤسساتياً من خلال المكانة المتدنية المقررة للمرأة في الأسرة حيث قوضت موقفها القانوني عندما تعاملت معها باعتبارها قاصراً وخاضعة على الدوام لوصاية أفراد أسرتها من الذكور، فهي بنظر هذه الأحكام جزءً من تنظيم الأسرة، لا كفرد مواطن يتمتع بحقوقه المستقلة والمتساوية مع حقوق الرجل.

 لهذا شهدنا التنمر وفزعة الحملة المضادة للمعلقات عبر وسائل التواصل الاجتماعي بتغريدات للاتجاهات الدينية والمحافظة بوسم "حملة تدمير العلاقات الزوجية" باعتبار أن حملة "المعلقات" من وجهة نظرهم حملة "أكاذيب وتلفيق وذات أهداف ابتزازية، ويراد منها التعدي على أحكام الشرع في المحاكم الجعفرية وهدفها تسهيل الطلاق وتدمير الأسرة..إلخ". في حقيقة الأمر عكس هذا السجال مدى الاستعصاء في إحداث التغيير في بنود "قانون الأسرة" ومقاومته من خلال التلويح باتهامات المس بالشريعة وإضفاء القداسة على القانون وباستحضار القيم والأعراف الاجتماعية التقليدية والثقافة السائدة تجاه المرأة.

 ليس خافياً أن "قانون الأسرة" بما يتضمنه من إجراءات مستمد من الشريعة؛ عملياً لا يتماشي مع الأحكام التي تنص على المساواة في الدستور، وهو يقوم على فرضية أن الرجل أعلى مرتبة من المرأة فيقدم له مزايا في الأسرة بمجالات "الولاية والزواج والطلاق والميراث وحضانة الأطفال" وهي مزايا تنكر عملياً على النساء أو تقدم لهن منقوصة كما يتضح من مادة الخلع "95/2أ" فضلاً عن المادة "353" من "قانون العقوبات" التي تفسح المجال للجاني "المغتصب" من الإفلات من العقاب. إن في هذا انتهاكاً لحق المرأة في المساواة أمام القانون وعدم التعرض لأي تمييز في الزواج والطلاق، وهي حقوق كفلتها المعاهدات الدولية التي صادقت عليها الدولة كـ"اتفاقية السيداو" والعهدين الدولين السياسي والاقتصادي وغيرها. 


التمييز في قانون الأسرة البحريني: الزواج والطلاق

من خلال مواد القانون المتعلقة بالزواج والطلاق يبرز التناقض بوجود نظامين متوازيين وغير متكافئين بين الجنسين، فحسب الفقه السني في القانون تشترط المادة (28-أ) إذا كانت الزوجة بحرينية ينبغي الحصول على رضا الولي عند إثبات عقد الزواج، وهذا بالطبع ينال من رضا المرأة وفيه تمييز ضدها ولاينسجم مع مقتضات المادة (16-أ/ب)، من "اتفاقية السيداو".

 وثمة أوجه لتسويغ الوضع التمييزي القائم، يتم عبر الحديث عن تحصين حقوق المرأة في عقود الزواج من خلال تضمينها شروطاً تنص على حقوق معينة منها؛ كالحق المتساوي في الطلاق، بيد إن الكثيرات وتبعأً للأعراف لا يستطعن ممارسة حق التفاوض بشأن هذه الشروط إلا فيما ندر بسبب الحرج الاجتماعي ووصمة العيب كما إن معظم العائلات ترى في إعطاء المرأة حق الطلاق أسوة بالرجل أمراً غير مقبول ومعيب، ومن الناحية العملية يمارس أولياء المرأة الذين تعتمد عليهم في تمثيل مصالحها، نفوذاً كبيراً في عملية الزواج والطلاق، ما يعني استمرار القيود المفروضة على استقلاليتها والخيارات المتاحة لها إذا ما قررت إنهاء الزواج.

 ضمناً ينص "قانون الأسرة" أن البت في الطلاق هو في يد طرف واحد وهو الأكثر حكمة -أي في يد الرجل-. فالرجال من وجهة النظر الشرعية والمجتمعية التي يروج لها؛ حكماء "تماماً كما أورد الشيخ هاني البناء في خطابه رداً على حملة "المعلقات"، وإن المرأة غير عقلانية وعاطفية بشأن الاختيارات المهمة في حياتها، غير راشدة وتميل إلى السلوك الاندفاعي وبأنها مترددة ومتقلبة المزاج وتحتاج إلى توجيه وحماية، وقد تتسرع في رفع دعوى الطلاق ولا تتوافر على الحرص في الحفاظ على كيان أسرتها مقارنة بالرجل. 

خيارات المرأة في الطلاق

وحين يسعى الزوج إلى الطلاق فهو يوقعه متى ما شاء إلى حكم الرجعة في القانون الذي يكرس حقه في الطلاق بإرادته التحكمية المنفردة دون علم الزوجة وحضورها مما يخلق العديد من المشكلات، فيما يتوجب على المرأة خوض غمار إجراءت قضائية معقدة مثقلة بالصعوبات ومستهلكة للوقت وباهظة التكاليف، كما إنها تفاضل بين خيارين، أحلاهما مر؛ أولهما طلب التطليق للضرر والشقاق بما يستغرقه من وقت طويل نسبياً لكنه يسمح لها الاحتفاظ بحقوقها المالية؛ إذا ما تم تنفيذ أحكام دفع النفقة وإعالة الأطفال، وعليها تقديم أدلة إثبات للعيب والضرر الذي لحقها، وكثيراً ما يكون ذلك بناءً على شهادة شهود عيان، وبعد المرور بعملية التوفيق الأسري الإجباري، وتقديم هذه الأدلة يشكل عبئاً ثقيلاً يقع على كاهلها لإثبات استحالة دوام العشرة مع زوجها، مع ملاحظة أن شهادتها تعادل نصف شهادة الرجل، وتعتبر ضرورة تقديم الشهود عائقاً كبيراً أمام حصولها على الطلاق بسبب الضرر الجسدي، وهنا ننوه إلى أن القانون في الشق الجعفري لا ينص على حق المطلقة في التعويض في حالة الطلاق التعسفي.

 أما خيار المرأة الثاني فيتمثل برفع دعوى مخالعة الزوج التي لا تحتاج إلى تقديم أدلة على الضرر، وإنما تقوم على التنازل عن حقوقها في النفقة وفي مؤخر الصداق وأن تدفع إلى زوجها مقدم الصداق أو أي مبلغ يطلبه، وكما جاء في الشق الجعفري برضا الزوج: "للزوجة أن تطلب إنهاء عقد الزواج بالخلع ببذل منها ورضا من الزوج."، وذلك بسبب استحالة الحياة معه. 


قصور المخالعة

تلجأ بعض النساء إلى الخلع وفي تصورهن أنه أسرع من التطليق لضرر، ولأنهن غير مطالبات بتقديم الأدلة على وقوعه أو توفير الشهود، وقد يدفع بعضهن إلى الاستدانة لتغطية تكاليف الحصول على حريتهن، وعليه إذا كان المقصود بالخلع هو الإسراع بعملية الطلاق وتيسيره وتقصير إجراءاته، فإنه ومن خلال وضع "المعلقات" وجدنا أنه يستغرق وقتاً طويلاُ  بسبب المنازعات حول مبلغ البذل الذي يتعنت بشأنه بعض الأزواج والإصرار على طلب بذلٍ يفوق المهر بسبب ما منحه القانون لهم، حيث تتعرض الزوجات إلى الابتزاز الذي دللت عليه شهادات "المعلقات" اللواتي تحدثن عن معاناتهن، الأمر الذي يضعنا أمام وضع تعجيزي خصوصاً عند عدم رغبة بعض القضاة في الحكم بطلاق الخلع.

 من هنا فإن القانون يجيز صراحة التمييز ضد المرأة في الزواج وعند الطلاق، إذ تم تقنين وضعها في مرتبة ثانية بعد الرجل في الأسرة، كما يعني أن هناك قبولاً بالأنماط السلوكية الانتقامية والعنفية التي يمارسها بعض الرجال ممن يعلقون زوجاتهم عند طلب المرأة للطلاق بالضرر وبالخلع كما لاحظنا في الحملة المضادة "تدمير العلاقات الزوجية"، أو بالسماح بتزويج الجناة من ضحاياهن بعد اغتصابهن حسب المادة "353" خوفاً من الفضيحة، إن في ذلك هدراً لحق المرأة في المساواة وانتهاكاً للإلتزام بتنفيذ "اتفاقية السيداو". 

تطور الحراك النسائي الحقوقي

استناداً إلى ما سبق، نجد أن القوانين والتشريعات المرتبطة بقضايا المرأة تقع في طليعة أجندة المدافعة للحركة النسائية عن المساواة، ولهذا تنظم الحملات منذ سنوات من أجل إيجاد القوانين وإجراء المزيد من الإصلاحات عليها بما يتناسب وتعدد أدوار المرأة ومساواتها بالرجل، لاسيما وأن القوانين القائمة ونموذجها "قانون الأسرة" تعتريها النواقص وهي موضع اختلاف في وجهات النظر والرؤى بسبب المواقف الدينية المحافظة التي تتعامل مع موادها بقدسية وجمود يقوض حقوق المرأة. 

 أثبتت حركة المدافعة عن حقوق النساء بإنها في مسار تتقاطع فيه العناصر الذاتية بالموضوعة الدينية والإيديولوجيه الحداثية والتقليدية، الأمر الذي جعل من نشاطها أكثر تشابكاً وتعقيداً، رغم تطور قضايا النساء الذي تطور معها اهتمام الجانب الرسمي والمدني، وصار مجال معالجتها لا يقتصر على الحركة النسائية متمثلة في الجمعيات النسائية والاتحاد النسائي البحريني وحدهم، وإنما نجد اهتماما من المنظمات الحقوقية ومختلف فئات المجتمع العمالية والشبابية بتعدد اتجاهاتها، وبالتالي نحن بصدد خلفيات متعددة؛ سياسية ودينية واجتماعية وثقافية جعلت من طبيعة النشاط النسائي يتسم بصعوبة الطرح والمعالجة خصوصاً مع توظيف العديد من القنوات التي لجأت إليها الحركة النسائية لايصال أصوات المعلقات ومن يقع عليهن العنف والظلم بمختلف الأشكال؛ وهذا بالطبع يعكس التزامها وقناعتها فيى التعبيرعن معاناتهن وإيصال مشكلاتهن إلى المجتمع الأمر الذي يفرض على الباحث والمتابع تناول هذا الحراك في تشابك أبعاده المتعددة وباختلاف تفاعلها.

 لاشك أن الحركة الحركة النسائية البحرينية حققت بجهودها المستمرة والمضنية جزءاً مهماً مما كانت تطالب به منذ سنوات، ومعظم ما تم إحرازه جاء بفضل الناشطات الحداثيات في الجمعيات النسائية والاتحاد النسائي البحريني؛ كذلك لا يمكن إغفال دور الدولة في تدخلها الإيجابي لمساندة تلك المطالبات وإن ضمن حدود رؤيتها وأهدافها، فضلاً عن موازرة هيئات الأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية التي تساند الدفاع عن حقوق المرأة وتعتبرها جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان، لاسيما مع ظهور العديد من القوانين والتشريعات الدولية التي تنص على مبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات التي غدت من الشعارات الرئيسية في أجندة وبرامج هذه الجمعيات وغيرها.   

استغلال قضايا المرأة

مع حركة التغيير التى يمر بها المجتمع، أدركت الحركة النسائية أبعاد الاهتمام العالمي بالمرأة وتمكينها من حقوقها وأدوارها في كافة المجالات السياسية والقانونية والاقتصادية في ظل حراك سياسي وطني ومناخ ثقافي طالما سعى إلى إرساء مجتمع ديمقراطي يرتكز على أسس المساواة في المواطنة بين أفراده؛ ومع إن القضايا الحقوقية للنساء ظلت معزولة نسبياً عن أجندة العمل السياسي ولم تدمج في برامج عمل الجمعيات السياسية إلا في حالات استثنائية ومحدودة، ومرجع ذلك باعتقادنا إلى عوامل ذاتية تخص طبيعة تكوين الحركة النسائية وتوجهاتها، وموضوعية تحكمها القيود والقوانين التي تتظم أنشطة الجمعيات الأهلية والتي تحرم عليها ممارسة النشاط السياسي، على الرغم من أن بعضها على علاقة وطيدة غير معلنة بمواقف بعض الاتجاهات الفكرية والإيديولوجية والسلوكية في الجمعيات السياسية سواء تلك التي تناصر قضايا المرأة أو التي يفتقر أغلبها إلى مواقف محددة فيما يخصها أو من يعبر منها عن مواقف التيارات الدينية، ففي كل الأحوال هناك اختلاف في الآراء والمواقف حتى في داخل الجمعية السياسية نفسها حين يتم عرض قضايا المرأة التي غالباً ما تتحكم فيها المواقف الظرفية والآنية أو الاستهلاك الخطابي والديني والتوظيف السياسي الضيق الرؤية خصوصاً في فترات الانتخابات للاستفادة من أصوات النساء. 

 بشكل عام تميزت الحركة النسائية في دفاعها عن حقوق المرأة بمستوى من الوعي الذي تراكم لديها وقاد إلى الاقتناع بأن المرأة البحرينية التي تشكل نصف المجتمع هي ثروة بشرية تختزن القدرات العقلية التي تساهم في بناء المجتمع وشريك أساسي في التنمية المستدامة، كما يسجل لها في مسار نشاطها الحقوقي مرورها بمنعطفات مهمة منذ الثماينيات انعكست على مطالباتها بسن قانون موحد للأحوال الشخصية وآخر لمناهضة العنف ضد المرأة وحمايتها منه فضلاً عن مساواتها في حقوق المواطنة ومطالبة الدولة بالتوقيع على الاتفاقيات الدولية "كالسيداو" و"حماية الطفل" وغيرها والالتزام بتنفيذ بنودها ورفع التحفظات عنها، إضافة إلى مساهمتها بإعداد التقارير ووضع مرئياتها التي ساعدت أصحاب القرار في صياغة القوانين الخاصة بالنساء سواء عند إعادة قراءتها أو مراجعة بنود مسوادتها.   

لحظة تحول نوعي

وهي اليوم تواصل جهودها التي لمسناها عبر "حملة المعلقات"، حيث تضاعفت الأصوات النسائية وشكلت لحظة مفصلية من لحظات التحول في المدافعة عن الحقوق والانتقال من ضغط الواقع والشكوى منه إلى المطالبة المباشرة بزيادة الضغط على الدولة لإحداث إصلاح في النظام القضائي لإنصاف المعلقات وممن يتعرضن للعنف؛ إنها في مرحلية قطيعة مع الظلم واللامبالاة والتعسف باستخدام القانون، ومع الخطاب الذكوري المزدوج بشأن دور المرأة وحقوقها، وجاءت تمثلات ذلك في الجرأة والموضوعية برفع سقف المطالبة والمحاججة تجاه مواقف وردود أفعال التيار الديني المحافظ، كما ووضعت الجانب الرسمي أمام مستوجباته؛ مطالبة إياه ببذل المزيد من الجهود والتسريع بإحداث التعديلات لسد النواقص في التشريعات والقوانين المناهضة للعنف والمعنية بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل "كقانون الأسرة" و"قانون الانتخاب" و"قانون الجنسية" بما يسمح بمنح الأم جنسيتها لأبنائها عند زواجها من أجنبي وإلغاء المادة "353" من "قانون العقوبات" المتعلقة بالاغتصاب، وسعياً وراء توسعة حقوق المرأة وحمايتها مع الطفل والأسرة، والتزاماً بنصوص الدستور والميثاق الوطني في حق المرأة بالمواطنة الكاملة، وتحقيقاً لمستوجبات المعاهدات الدولية التي وقعت عليها. 

ومنه يمكن القول أن الحركة النسائية البحرينية قد حققت في مساعيها اختراقاً نوعياً لحالة الظلم واللاعدالة التي جسدتها حالة المعلقات والمطلقات والمعنفات وتقييد حقهن في الطلاق والانتقاص من أهليتهن في منح جنسيتهن لأبنائهن وغيرها، إن مطالباتها بتعديل القوانين والتشريعات تحقيقاً للمساواة يمثل حاجة أساسية تتعلق بمبدأ المواطنة الكاملة والشاملة للمرأة البحرينية وأي تطور يحدث بشأنها لاشك يمثل إنجازاً مهماً وعملاً جريئاً على طريق الدفاع عن حقوق الإنسان، لم لا وقضايا البحرينيات اليوم ومعاناتهن تفرض نفسها بحدة على الساحة المحلية وتستقطب اهتمام المجتمع وتجاوبه.

 

لجم الحراك النسائي

إزاء هذا الواقع نجد أن هناك من يحاول وقف عقارب الساعة، وكبح لجام الحراك النسائي ومطالباته بتعديل التشريعات وإنصاف المرأة؛ بإضفاء طابع القداسة على "قانون الأسرة" وتعزيز رؤيته التقليدية بشأن دور المرأة باستحضار النص الديني والموروث المذهبي وفتاوى المرجعيات الدينية لترسيخ منطق الوصاية والتشكيك في أهلية المرأة التي يتم التسويغ لها بما يعرقل آلية الدفع بقضايا المرأة ومشكلاتها إلى الأطر الرسمية أثناء إعداد مشاريع القوانين والتشريعات أو تعديلها بالاستعانة بمرئيات الاتحاد النسائي والجمعيات النسائية، إن هذا يعرقل نمو المجتمع وتطوره ويعمل على تكريس دونية المرأة وتهميش دورها فيه، فوضع المعلقات لا يبعث على الارتياح وهو مرفوض من الناحية الإنسانية والقيمية، وهو يعني في ذات الوقت أن هناك مسألة جوهرية لم تتغير بعد إقرار "قانون الأسرة" ونفاذه، وإن المرأة لا تزال تفتقد للتعامل معها كذات فاعلة تحقق كيانها كمواطنة تتمتع بكامل الأهلية والحقوق وتتحمل كافة الواجبات كما نص عليها الدستور وأقرتها الشرعة الدولية. 

لقد انقسم المواطنون بشأن المعلقات إلى من هم مع رفع الظلم من حيث المبدأ، ومن هم معارضون للحملة؛ وجزء كبير من التوجه المعارض يستند إلى رؤية عقائدية طائفية محافظة يستحضر الدين والنص والتأويل ويقدم مفهوماً ينظر إلى المرأة من خلال تلك الأقنعة التي تجعل منها ذاتاً تابعة للرجل، وثمة من يلجأ فيهم إلى تهميش قضاياها ويشوهها ويفرغها من محتواها، وهي رؤية تتخطى أصحابها وراء العادات والتقاليد وهوية الانتماء الفرعى والقيم الثقافية والدينية في وجه المطالبة بأي تعديل وتغيير لتطوير وضعية المرأة والتشريعات المتعلقة بمساواتها لاسيما في "قانون الأسرة"، فكل تلك القضايا بالنسبة لهم لا تمثل أولوية. 

يقابل ذلك؛ الرؤية التي يتبناها الحداثيون في محاولتهم وضع قضية المرأة ضمن كفاحها ونضالها السياسي والاجتماعي والاقتصادي العام، ومن منطلق أن تحرر المرأة وحصولها على حقوقها لا ينفصل عن التحرر المجتمعي العام، وهي تتماهى ورؤية المدافعات في الحراك النسائي في شقه الحداثي الذي يعمل على مناهضة العنف الموجه ضد النساء وحمايتهن من مختلف أشكاله، ونشر ثقافة المساواة كقيمة وممارسة وإحداث تغير في مختلف القوانين والتشريعات التي تكرس التمييز ضدها، فضلاً عن تمكينها من المشاركة الحقيقية في مواقع القرار السياسي والتشريعي وتعزيز الصورة الإيجابية عنها في وسائل الاعلام والتربية، لهذا فإن أبعاد الخطاب النسائي الحداثي يتمحور حول إقصاء المرأة وتهميشها والعنف الذي يطالها، على الرغم من التنميط الذي تعمل على أسسه الحركة النسائية وضعف دينامية هياكلها التنظيمية في عملية المدافعة وقصورها في بناء شراكات فاعلة بين أطراف المدافعين عن حقوق النساء وبتأثير من تعدد الخلفيات الثقافية والمرجعية للجهات القائمة عليها وغاياتها التي يتشابك فيها أحيانا الشخصي بالعام. 

الخلاصة

في نهاية التحليل يتضح أن الحركة النسائية البحرينية تجاوزت مستوى المطالب، بتقديم مرئياتها ووجهات نظرها بجرأة أكبر وأكثر تنظيماً وإصراراً ووعياً معرفياً يستند إلى مرجعية حقوقية مفاهيمية تعطي قوة للمطالبات في تطوير التشريعات والقوانين التي تمس حقوق المرأة، وهذا ما يمكن تلمسه من خلال تأسيس مراكز للاستماع والتوجيه الأسري والقانوني والنفسي في الجمعيات النسائية سعياً وراء كسر الصمت وصيانة لكرامة المرأة وانسجاماً مع هويتها ورفع مكانتها وبما يتوافق ومنظومة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وبالتالي فإن حملات المدافعة عن قضايا النساء، تنطلق من مرجعية حداثية توافقية تتقاطع بحكم حراكها الحقوقي بشكل مباشر وغير مباشرة مع النشاط السياسي والثقافي ومع التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي يمر به المجتمع، وهذا حتما يتقاطع مع مواقف الحكومة ويتشابك مع مضامين المرجعيات التنموية والحقوقية الدولية في جوانب متعددة، مما يتراءى للبعض بأنها صوت صدى للحكومة أو إنها لا تبالي بأوضاع النساء السياسيات وتهمل قضاياهن، في الوقت الذي سجلت فيه حضورها ومواقفها التاريخية في كل المنعطفات السياسية وشاركت بقدر ما سمح لها الظرف في الحراك السياسي ووثقت مواقفها في الدراسات والإصدارات ومنها تقارير الظل الأول والثاني للسيداو وغيرها.   

لقد استطاعت حملات المدافعة عن النساء توسيع دائرة المساندة والتضامن باستنهاض جرأة الحالات التي تعرضت إلى العنف والتعسف من استخدام القانون، فعبرت بأصواتها الجريئة عن حالها المعلق منذ سنوات وما تتعرض إليه من ابتزاز مادي وأخلاقي، الأمر الذي استفز المشاعر واستنطق العواطف الإنسانية وأثار الاستنكار حيال ما تعانية المعلقات من تعسف وعنف ولامساواة وفي هذا مكسب للحركة النسائية البحرينية. 

إن ذلك يستوجب على الدولة تبني إصلاحات تشريعية وقضائية وإدارية تضمن تكافؤ الفرص أمام النساء للحصول على الطلاق، والإسراع في معالجة الإجراءات القضائية التحيزية التي تعطل حصولهن عليه، خصوصاً لجهة القوانين والإجراءات التمييزية التي تضع العراقيل أمام المرأة وذلك بهدف تعزيز قدرتها في السيطرة على حياتها وجسمها ومما يمنحها القوة ويقلص مساحة الإفلات من العقاب التي يتمتع بها الرجال حالياً في علاقتهم مع النساء، وأن لا يكتفي المجتمع بالردود التي جاءت في سياق احتواء الوضع واستيعابه في الإطار الديني والطائفي بالاعتراف بوجود مشكلة لكن تفسيرها ووضع الحلول لها لا يزال يدور في رحى إعادة إنتاج السلطة الذكورية ومنظورها التي ترى مكانة المرأة ودورها ينحصر كربة أسرة وأم فقط. 

المنامة – 18 نوفمبر 2021


الأحد، 17 أكتوبر 2021

ارفع رأسك وانهض

 

منى عباس فضل

 

سيرة "ارفع رأسك" للمحامي الدكتور حسن رضي التي تناغم فيها القلم الرشيق والعميق في تعبيره لغويا وأدبياً للكاتبة باسمة القصاب، كشفت عن إرهاصات تجربة حياتية نابضة بالحياة وملهمة تجسد فيها تاريخ الإنسان البحريني بمعاناته ونضاله وتشكل تكوينه بكل الصور والمعاني الجميلة والمنعطفات العابرة والصعبة.

 

عبرت السيرة في مساراتها المتشابكة عن ضمير حي يحاكي ما وراء الصور والعبارات والمواقف والمنعطفات بعنصر من التشويق والإثارة، وعن تصالح مع الذات وتعاطٍ موضوعي مع الواقع ومكوناته، وهي قائمة على مرتكزات من المحبة والسلام والعدالة والكرامة والقبول بالآخر والأهم بالاختلاف.

 

قرأت السيرة بتأمل وتمعن لتجربة تعليمية بسرد روائي غني وممتع؛ وقد استطاعت الكاتبة باسمة العبور بها للقارئ من خلال منهجية سردية مكثفة استخلصت أجمل وأغنى ما في تجارب المحامي حسن رضي التي وثق فيها مواقف ومعاناة مراحل صعبة من تاريخ الوطن والحراك الشعبي وتجربته الخاصة في هذا الإطار العام بمراحله ومناخاته وما ضج به من صراعات وتصادمات بحلوها ومرها في السجن وخارجه، مما جعلها دون ريب جزءًا أصيلًا من ذاكراتنا الوطنية والجمعية.

 

في السيرة ثمة تفاصيل غنية ملهمة للتحفيز والتغيير يبثها إلى جيل الشباب والشابات، من بوابة التعليم والعمل الدؤوب وصقل المهارات، وعلى الأخص إلى من اتخذ مهنة المحاماة والعمل الحقوقي دربًا له، تضمنت رسائل متعددة ومواقف متنوعة ذات دلالات عميقة في التشديد على ضرورة الالتزام بأصول المهنة وبالقسم لها وبما تعهد به المحامي تجاه مصالح موكله ليكون موضع ثقة وأمانة حتى وإن اختلف معه في الفكر أو التوجه.

 

في هوامش الكتاب تعريفات مختصرة عن الشخصيات التي مر بها وتركت تأثيرها في مسيرته الحياتيه والمهنية، حرص على تدوين أهم ما يميزها، إضافة إلى تدوين بعضها تخليداً لذكرى مناضلين استشهدوا أو قدموا التضحيات ولايزالوا، كما لم تغفل معه الكاتبة في تقديم شروحات للعديد من المواقف أو الأحداث بصدقية وموضوعية عالية تعكس التزاماً علمياً بعملية التوثيق وبما يتصف به الكاتب والباحث الموضوعي.

 

تتميز سردية السيرة بتسلسل زمني، وهي تركز في آن على أبرز وأهم المنعطفات والمواقف بتنوعها واختلافاتها وبما عكسته من خيبات أو أفراح فتحت المغاليق عبر ما مر به كاتب السيرة سواءٌ على صعيد حياته الخاصة أو العامة، من خلال حميمية علاقاته الأسرية وفي القرية والنادي والأصدقاء وأثناء الدراسة وشعور الاغتراب والسعادة في العبور من أجواء القرية إلى المدينة ومنه إلى العالم الأوسع بالدراسة والعمل والسفر والانفتاح على الثقافات المختلفة والتعرف على الاتجاهات السياسية والحزبية المتعددة بتجاربها وإيدولوجياتها وقيمها التي نهل منها معرفة بالقراءة والاختلاط، وأطلق عنان العقل للانفتاح وخوض المغامرات التي وقف عند بعضها على حافة السقوط  لكنه لم يسقط بل حقق حلم النجاحات في امتحانات الحياة ومواقفها.

 

أفاض بالبوح بصدق مع النفس وبجرأة متميزة، أقبل على التحديات بجسارة ولم يسقط بل نهض في كل مرة كي يعيد تدوير زوايا حياته ودفة مسيرته المهنية والنضالية ويحقق ما يصبو إليه وبما شكل ثروة وقيمة مضافة لم تقتصر عليه؛ إنما للوطن وأبنائه.

 

في رسالة لها أبعادها وبما يتشابه فيه مع الكثيرين من جيله يكتب: "تفأجات باقتراب نهاية العام الدراسي الذي مر سريعاً دون أن أشعر به، قضيتها بين (النشاط السياسي) أو بالأحرى (الثرثرة السياسية)، وبين أجواء المرح.."، أما في تجارب الصراعات السياسية وأجوائها يشير: "في الحقيقة، لم أكن متحمّسًا للخروج. شعرت أني انتُزعت من وسط أحبّة قضيت مرّ السجن في حلو اجتماعاتهم، قيادات وعناصر من جبهة التحرير والجبهة الشعبية وآخرين مستقلين، يتغايرون في التوجهات والرؤى والأفكار، لكن في المعتقل تذوب الفوراق الحزبية والإيديولوجية كما يذوب الملح في الماء. كُلنا ملحٌ في ماء وطن نحلم به".

 

يجسد رضي من خلال سيرته فعلا لا قولا، أن العمل قيمة عالية يتحقق منها رضا الذات وشعورها بالامتنان والسعادة يقول: "العمل في هذه المكاتب جاد وصارم ومتواصل لساعات طويلة دون كلل أو كسل. تعلمت منهم الصبر والمثابرة في العمل والإنجاز المتواصل، عشقت العمل ودخل حياتي بقوّة وأخذ وقتي وجهدي وحماسي، ليس هناك وقت محدد للعمل عندي ولا ينتهي بانتهاء ساعات الدوام، انتقل معي هذا النموذج إلى مكتبي وإلى المشتغلين معي بدرجة كبيرة، لقد شُغفت بالعمل الذي صار يأخذ معظم يومي إلى الحدّ الذي جعل زوجتي تقول ذات مرة: -لا ينقصك إلا أن تشتري سريّرا تضعه جانب طاولتك في المكتب وتقضي الليل مع ملفاتك".

 

ومن خلاصة تجاربه الحياتية بمغزاها ومعانيها الرفيعة "لعلّ أجمل ما يفعله النضج بنا، هو التبدّل الذي يُحدثه في علاقاتنا بالآخرين ونظرتنا إلى المختلفين معنا، تحويل التشدّد والجفاء إلى التفهم والقبول وتعزيز المشترك، وربما الصداقة. الاحتراب نوع من المراهقة الفكرية، والقطيعة والجفاء نقص في الوعي".

 

المنامة – 17 أكتوبر 2021

 


الثلاثاء، 12 أكتوبر 2021

مُعَـلَّقات ينتظرن الإنصاف

 

د.منى عباس فضل

-      التغيرات الاجتماعية العظيمة مُستحيلة دون ثورة نسائية، وتقدم أي مُجتمع يُقاس من خلاله وضع المرأة فيه. "كارل ماركس-فيلسوف ألماني".

 

-        إن المرأة يصيبها إحساس أليم عندما تكتشف تفاهة الرجل الذي أحبتُه. "جان بول سارتر-فيلسوف فرنسي".

 

-        في كل مرة تقف فيها امرأة لتدافع عن نفسها وتدعم ذاتها، فإنها تدافع عن جميع النساء. "مايا انجيلو- كاتبة وشاعرة أمريكية مدافعة عن حقوق المرأة".

 

يبدو أن قوة حملة "معلقات ينتظرن الإنصاف" وشدتها؛ وتجاوب الرأي العام المحلي والدولي معها، قد استثارت القائمين على حراسة الفقه والأحكام الشرعية، ناهيك عمن نصبوا أنفسهم مدافعين بالمطلق عن القضايا الوطنية  دون سواهم.

 كمدافعات عن حقوق المرأة وكرامتها غالباً ما عهدنا في المحطات التي تشتد فيها المطالبة بحقوق النساء وإنصافهن أو بتعديل أحكام القوانين كقانون الأسرة، بردود أفعال تتعالى فيها الأصوات وتشحن الأجواء بعيداً عن صلب القضية الأساسية التي تدور حولها المدافعة والمطالبة بالعدالة والمساواة وبتجريم التمييز ورفض التعسف الواقع على النساء.

 حملة "المعلقات" الأخيرة؛ بدأت بدعوات إلى المشاركة بالتغريد يوم الاثنين 20 سبتمبر 2021  بشعار "غردوا معنا تضامناً مع النساء البحرينيات المعلقات في المحاكم". قاد الحملة "مركز تفوق الاستشاري للتنمية"، وشارك فيها بنشاط وحيوية منقطة النظير كافة مؤسسات المجتمع المدنية والحقوقية كمؤسسات أو بصفة فردية شملت نشطاء وناشطات في مجال حقوق المرأة إلى جانب بعض المحامين والمحاميات ممن لبوا دعوة المدافعة حيث عقد لهم لقاء حي مع الحالات طرحوا فيه حلولاً قانونية للمشكلة التي تنقلها الحملة والتي بدأت بسرد وقائع معاناة ثلاث نساء معلقات عبر فيديوهات أشعلت منصات التواصل الاجتماعي وأثرت في الرأي العام لما شاهدوه ولمسوه من ظلم وابتزاز فاقع من بعض الأزواج.

 

مخالعة بالابتزاز

يمكن القول أن الحملة حققت عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تجاوباً وتفاعلاً مجتمعياً ودولياً وشكلت موضوعاً رائجاً "ترند"، خصوصاً وقد تخللها عرض لحالات تحدثت لأول مرة عن نفسها وعبرت عن معاناتها وكيفية تعليق قضاياها التي لا تزال في المحاكم ومنذ سنوات طويلة بسبب شروط المخالعة التعجيزية التي وضعت أمامهن للحصول على الطلاق، ناهيك عن معاناتهن عند تسجيل أبنائهن في المدارس أو تلقي العلاج بسبب احتفاظ "الأزواج" بالوثائق الرسمية الثبوتية من جواز سفر وهويات حتى لو كانت الحضانة عند الأم المعلقة مما يشكل جريمة وانتقاماً بحق الأطفال.

 تميزت الحملة بتصدرها وبحماس من الشابات والشباب؛ ومن منطلق الإيمان الراسخ من الجميع بضرورة وأهمية إيجاد حل جذري لمعضلة "المعلقات البحرينيات" ومعاناتهن في المحاكم الشرعية. نوه المدافعون النشطاء في الحملة بأنهم اعتمدوا مصطلح "معلقات" بمعناه اللغوي والرمزي الذي ولد من رحم المادة "95/2أ" في قانون الأسرة والتي يشترط من خلالها حصول الزوجة على موافقة زوجها ودفع عوض مادي له ليتم تطليقها منه، وقد درج بين الرجال التعنت بمنح موافقتهم على إنهاء العلاقة الزوجية إلا مقابل مبالغ مادية وشروط تعجيزية استهدفت في الأغلب الانتقام والمساومة التي تبقى بموجبها القضايا قابعة دون حراك ضمن ملفات المحاكم، وتبقى معها المرأة ولسنوات في حال، لا هي في وضع متزوجة ولا هي مطلقة، وبالتالي لا يمكنها نيل الحقوق المترتبة من كلا الوضعين.

 

معاناة متجددة

ومنه فالحملة لم تنزل ببرشوت من الخارج أو بإيعاز من طرف داخلي؛ إنما انطلقت من منصة شملت عدداً من المعلقات اللواتي يعانين من أحكام المحاكم الجعفرية، حيث تنعدم البيانات الاحصائية الرسمية بشأنهن، ومع ذلك استطاعت تقديم حالات مسجلة لدى بعض مراكز الاستشارات التابعة للجمعيات النسائية فضلاً عن استعانتها بما نشر في الصحافة المحلية التي قدرت مجموع المتضررات على مر السنوات بالألوف. ماذا يعني هذا؟ يعني ببساطة شديدة، أن المعاناة متجددة ومستمرة.

 وعلى الرغم من أن مدافعي الحملة قد نوهوا بوعي ومسؤولية عالية بأن الحملة ومنذ بداياتها لا تسعى إلى التشهير وكسب الرأي العام أو نشر القضية اعبتاطاً حتى وإن ركب موجتها من هو ليس أهلاً لها، وإنما تسعى في الأساس إلى التعبير عن التضامن والتآزر مع جميع الحالات اللاتي يحملن معاناتهن منذ سنوات، إلى جانب محاولة إحداث تغيير فعلي في القانون بما يحفظ للنساء العدالة في قرار الانفصال، إذ لايكفي حل مشكلة عدد من النساء راهناً، فيما يستمر تجدد المشكلة بسبب الثغرات الموجودة في قانون الأسرة.   

 

إتهامات باللادينية

رافق الحملة ردود أفعال متشنجة لا تعالج قضايا تعليق الطلاق وغيرها، باجتراح حلول جذرية موضوعية، إنما تتعداها إلى مساجلات وتوصيفات وكيل اتهامات على شاكلة؛ أن من يقود المدافعة هم من تيار "اللادينية" و"الفكر النسوى" أو "إن وراءها أجندة حكومية أو خارجية تستهدف منظومة المؤسسة الدينية وقواعدها..إلخ التوصيفات بالقول بأنها "حملة تحريضية" تتنافى وفتوى المراجع الدينية والمذهبية، بل والمراد منها "هدم العلاقات الزوجية وتفكيك الأسرة"، فضلاً عن التشكيك في توقيت الحملة واتهام الاتحاد النسائي البحريني كجهة مدافعة عن حقوق النساء، بأنه نخبوي بدون فاعلية ولا أرضية شعبية له وإن ما يثيره مجرد زوبعة بدعم رسمي حول فزعة "المعلقات"، كما تم زجر المدافعات والمدافعين بالقول: "لاتعبثوا بشرع الله..واتركوا الفقه الجعفري للفقهاء والعلماء..هم يعالجون المشكلات..، لا تكونوا سيفاً بيدهم لضرب فريق المعارضة..". في كل الأحوال ردود الأفعال هذه أغلبها فقاعية هدفها حرف الرأي العام عن لب القضية وجوهرها المتمثل في الظلم والتعسف الواقع على "المعلقات"، بل والتعامل مع قرار الانفصال "بالطلاق" كحق منفرد للزوج.

 في السياق وفي محفل رده على "حملة المعلقات" والقائمين عليها؛ نشر الشيخ هاني البناء عبر قناته في اليوتيوب رداً مطولاً وبالتفصيل على الحملة منطلقاً من خلفيته الشرعية وخبرته في القضايا الأسرية وحلها، معرفاً المعنى الشرعي للمعلقات ومدعياً بأن من وصفن بالمعلقات في الحملة لا ينطبق عليهن الوصف، كما تحدث عن التطليق "للضرر" والمنصوص عليه في قانون أحكام الأسرة والمأخوذ كما ذكر من أحكام الشريعة التي استفاض في شرحها، قائلاً بأن النساء قد تحصلن على هذا النوع من الطلاق وقد تفشلن لأسباب أهمها "صعوبة إثبات الضرر".

 بعض الرجال..لا إمساك بمعروف ولا تسريح بإحسان 
وبالإنجليزي
Pay me First
 

دليل إثبات تعجيزي

هنا يستوجب التوقف عند اقراره "بصعوبة إثبات الضرر" الذي على أساسه يتم رفض التطليق ومن ثم يحكم على المرأة إنها ناشز إن تمسك الزوج بطلب رجوعها إلى بيت الزوجية؛ وبالتالي تحرم الزوجة على ضوء هذا الحكم من نفقتها وتدخل في دوامة من الصراعات القضائية والأسرية، مضيفاً بأن على القاضي أن يحكم بدليل، ما يعنى بأن النساء اللاتي ليس لديهن دليل على الضرر أو دليلهن غير مقبول من المحكمة لسبب ما أو آخر ليس لديها من حل سوى اللجوَ إلى طلب الخلع، على الرغم من تأكيده بأن الخلع الواقع من ضرر لا يصح خلعاً، وبالتالي ستبقى حريتها وحقها في الطلاق مرتهنا في يد الزوج حتى لو كان منحرفاً سلوكياً وغير قادر على الإيفاء بالتزامات الحياة الزوجية أو ممارسا للعنف عليها، لاشك إن الشروط التعجيزية "بإثبات الضرر"، ستجعل المئات من الحالات "معلقات" لسنوات لا هن متزوجات ومستقرات، ولا هن مطلقات يستطعن العيش باستقرار وبشكل إنساني وطبيعي.

 كذلك رسم الشيخ أحد الحلول في حال عدم إثبات الضرر للتطليق حتى تتجنب المرأة وضع الخلع، أن لا تكون وكيلة نفسها في الطلاق، وذلك من منطلق أن النساء في الغالب قد "يتعجلن" ذلك، وإدخال وساطة للإصلاح بين الزوجين "بتوكيل من يطلقها" وكأنها قاصرلا أهلية لها لعدم توافرها على القدرات العقلية والنفسية والجسدية السوية لاتخاذ قراراتها لنفسها وبنفسها، لاسيما وإن الرجال تبعاً له؛ غالبا "أكثر اتزاناً في اتخاذ القرار، فيما المرأة غالباً الأكثر انسياقاً لعاطفتها".

 نجد أن الحكم بالإتزان والعاطفة مسألة نسبية، ومن غير الإنصاف إطلاق هكذا أحكام على النساء فيما اثبتن في العالم قاطبة دورهن المتميز في الإرتقاء بمجتمعاتهن ومحيطهن الأسري وحققن عبر مسيرة حياتهن أعلى المراتب من النجاحات العلمية والمهنية، وبالتالي لا يجوز البتة وصفهن بالنقص لملكة التعقل والحكمة ووزن الأمور لما هو في صالح الأسرة والمجتمع وحرمانهن من حقهن في تقرير مصيرهن عند استحالة الحياة الزوجية، وبالمقابل منح الرجال حق تعليق المرأة وابتزازها بذريعة الإتزان. إن في ذلك تشوياً للوعي الجمعي وحرفه عن مسار إيجاد حل جذري لهذه المعضلة اللانسانية. في المحصلة يبقى هذا الخطاب عاجزاً عن تقديم حلٍّ عادلٍ للمعلقات لا سيما ممن أفصحن عن معاناتهن أو لتلك الحالات التي لا تزال قضاياها حبيسة الأدارج أو أروقة المحاكم الشرعية.

 ثمة أمر آخر تطرق إليه بشأن "مؤخر الصداق" كألتزام على الزوج من طرف الزوجة؛ قائلاً: للمرأة الحق في طلب المزيد من الصداق أو وضع الشروط في عقد الزواج، في المقابل يكتسب الرجل حق الطلاق؛ ويتساءل هل يجوز هذا؟ ولا يجوز وضع قرار الخلع بيد الرجل؟ يستطرد: "لك أن تطلبي ما تشائين في عقد الزواج؛ وعند التراجع، من حقه أن يفرض شروطه؛...كأن يطلب مبلغاً نقدياُ مرتفعاً يفوق المهر، ولهذا أسبابه أيضاً، ربما قد يدفع المرأة للتراجع عن قرار طلب الطلاق غير الحكيم من وجهة نظره.. حتى لو تزوج عليها امرأة أخرى...إلخ.

 منطقياً وقيمياً إن هذا لا يصح البتة، فنحن لسنا بصدد تطبيق "مبدأ العين بالعين والسن بالسن، إذ لو كان الأمر كذلك فعلى الرجل أن يسترجع المهر فقط ولا غير ذلك"، ومن غير الموضوعية أيضاً استحضار مثال "مؤخر الصداق" لماذا؟ لسبب بسيط، كونه لا يشكل تقليداً متبعاً في العرف المحلي ونادراً ما وضع كشرط في عقود الزواج، حيث يؤخذ به فقط عند بعض الأسر من أصول فارسية، وبالتالي لا تتمتع البحرينيات بهذه الميزه التي لا يجوز تعميمها والحكم عليها وهي خارج سياق إيجاد حل عادل للمعلقات.

 ومن رأيه أيضاً أن المطالبة بتغيير مادة المخالعة "95/2أ" من قانون الأسرة الشق الجعفري، يكمن وراءها "فكر نسوي" "وكأن هذا الفكر تهمة"، مضيفاً أن ذلك يتنافى مع فتوى المراجع ورائحته واضحة في الحملة التي تستهدف الأحكام الشرعية وتنفذ أجندات خارجية، كما غمز من بين السطور بأن المغردين مع الحملة يجهلون الأمور الشرعية وتحركهم العاطفة لا العقل، متسائلاً، لماذا استحضروا نساء فقط ولم يستحضروا شهادات الرجال؟

 

أين الحل؟

خلاصة الأمر؛ سيبقى هذا الخطاب وعليه ردود الأفعال المتشجنة أمام محك عملي شديد ومحرج للغاية، لماذا؟، لأن عليهم بداية الاعتراف بوجود مشكلة قائمة وصفها النائب السابق في البرلمان عبدالجليل خليل في تغريدة له "بالجريمة"، فهي باختصار مشكلة لابد من التفكير في حلها بشكل عاجل وبأفضل الممارسات والإجراءات القضائية التي تتناسب والمتغيرات المجتمعية التي تُعْلِي من مكانة المرأة، وإشراك الأطراف المعنية حرصاً على تحقيق العدالة والانصاف، فالزيجات الفاشلة العالقة في المحاكم منذ سنوات، والتي تطالب فيها النساء بالطلاق ليست ثابتة على حال، إنما هي متجددة ومستمرة، وغالباً يأتيهن الجواب على شاكلة: "لا طلاق إلا بإثبات الضرر"، بغض النظر عن المعاناة الإنسانية وصعوبة إثبات الضرر المطلوب تبعاً إلى معايير المحاكم الشرعية التعجيزية، أو دفع مبالغ خيالية "ابتزاز"، أو العودة التعيسة للعش الزوجي الذي صار جحيماً وليس عشاً ذهبياً.

 النتيجة، الحملة سعت ولا تزال إلى إنصاف المعلقات وغيرهن من المتضررات، ومن غير العدل الحفاظ على الوضع الشاذ بتقديم تبريرات لا تتناسب وما وصلت إليه المرأة البحرينية من مكانة وما حققته من تقدم، ناهيك عن محاولة حرف المشكلة إلى قضايا السياسة التي لها مجالاتها وأطرها الخاصة بها، كما ليس من الحق حرف مطلب الحملة في تغيير مادة المخالعة "95/2أ"، بقانون الأسرة لمنع تعنت الأزواج، بآراء تطعن في الحركة النسائية وتشويه أهدافها والتحريض عليها، ذلك لأن هذه الحركة ستبقى بمنظماتها وبرغم التحديات مدافعاً مناهضاً للظلم والتمييز الذي تعاني منه النساء البحرينيات وستسعى دائما نحو تحقيق المساواة لما فيه صلاح المجتمع واستقرار الأسرة كونها تتمتع بوعي وإدراك بمسؤولياتها ودورها الريادي. قدموا "الحلول الجذرية" وأوقفوا تعسف الأزواج باستخدام مواد القانون.

 

المنامة – 12 أكتوبر 2021

 


السبت، 2 أكتوبر 2021

إخوتنا الغرباء وهاجس الفناء

 

منى عباس فضل

 كعادته أمين معلوف، في أحدث رواياته "إخوتنا الغرباء" يحفّز مَلَكَة التفكير في عقولنا على مقاربة حال العالم الذي اختل توازنه وبما ينذر بنهايته جراء الاختلالات والصراعات والكوارث الطبيعية التي ساهمنا بها.

 ومع إن معلوف عبّر عن مخاوفه من مخاطر معاصرة تتهددنا في زمن الكورونا، إلا إنه يؤكد على كتابة روايته قبل اندلاع "الجائحة" التي حفّزته في الإسراع على نشرها، وهي تتناسق مع ظروف الوباء الذي تنبأ به قائلاً:

 

-       تخيلوا أن ينتشر فيروس قاتل بسرعة فائقة ولا يدل عليه أي عارض قبل انقضاء عدة أسابيع، في اليوم الذي يكتشف وجوده، سيكون قد فات الأوان، ولن يستطيع أحد أن يوقف انتشاره.."صفحة 255".

 

كما تزامنت كتابة الرواية مع أحداث الانتخابات الأميركية الأخيرة وانتشار النزعات القومية والشعبوية وحاجة البشرية لمن ينقذها من الموت الحتمي والكوارث النووية الناتجة عن اختلال التوازن والصراعات بين الأمم.  

 

رؤية استشرافية

الرواية في مضمونها تكشف عن رؤية مستقبلية استشرافية تمثل مزيجاً من الواقعية الوجودية ببعدها الفلسفي السياسي والأخلاقي الحالم حد "اليوتوبيا"، إضافة إلى كونها من جنس الخيال العلمي والفنتازي بما عكسته من تفاعل عناصر الوقت وموازين القوى، بيد إن بعض النقاد خلصوا إلى أنها تتناول فكرة مجردة، لا أساس عملي لها في كيفية تخلص البشرية من آفاتها، إضافة إلى أنها لم تقدم معرفة تاريخية كما اعتادوا عليها من معلوف لاسيما في رواياته "سمرقند، ليون الأفريقي، صخرة طانيوس"، ولا حتى تحليلاً فكرياً اجتماعياً سياسياً إلى واقع منطقتنا والعالم كما فعل في كتاباته "غرق العالم واختلال الحضارات" ولا حتى بحثاً انثروبولوجياً لا يزال يقرأ ويبحث في تفاصيله كما في "الهويات القاتلة والبدايات" ولهذا يجدون أنها لم تضف متعة معرفية متوقعة من معلوف.

 

 في السياق ثمة أمر لا يمكن إغفاله وهو إن موضوع صراع الحضارات وانتهاءها شكّل على الدوام هاجساً عند معلوف، ولهذا جاءت الرواية لتعكس أفكاره الإنسانية ورؤيته التي دأب على تداولها في مؤلفاته حول الاحترابات والكوارث النووية والصحية، وكل الاحوال التي أثارها في أبعادها المتخيلة بفكر هيغلي استحضره من خلال شخصيات المثيولوجيا الأغريقية وما يتصل بحضارة الإغريق الإثنية التي قدمت للعالم فلسفة وثقافة وفكراً تنويرياً في العلوم والطب والمسرح والفنون والديمقراطية وبما تضمنته كتباً وملاحم بقيت خالدة كالإلياذة والأدويسة، كما أنجبت أحفاداً من سلالة الفترة التاريخية المجيدة لتلك الحضارة بقيمها في زمن التوهج التي عرفت فيه العلوم وتطورت المعارف وتحققت فيه الإنجازات التي سرعان من أخذت دربها في الإنحدار.


 

أحفاد النور

تجسدت شخصيات الرواية "المخلوقات الغامضة" في الأحفاد الذين يقومون بدور مراقب للمخاطر التي تسود عالمنا، فهم منقذون للبشرية بقدراتهم العلمية الخارقة التي ستردع الجنون وتنزع الأسلحة النووية والصواريخ المدمرة وتعيد البشرية إلى جادة الصواب، لم لا وقد واجهوا الجميع بعجزهم، وهم المسالمون الذين لا يملكون شيئاً في جعبتهم سوى "مضمون نفوسهم" لا طموح لديهم للسيطرة والهيمنة أو فرض التبعية على حضارتنا المأزومة العاجزة، إنهم أولاد من حمل النور في داخلهم واختبأوا في الظلمة والظل يسكنهم والآن يعودون.  

 استحضرهم معلوف إلى عالم الحاضر عبر أغاميمنون "ملك من أبطال حرب طروادة في إلياذة هوميروس"، وبوزانياس "أحد رموز انتصار الإغريق ضد الغزو الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد" وديموستين "السياسي الأثنيني والخطيب المفوّه في القرن الرابع قبل الميلاد"، وأمبيدوكل "الفيلسوف الإغريقي الشهير" فضلاً عن الملكة إلكترا "ابنة الملك أغاميمنون" وغيرهم، إنهم فرقة من الحكماء:؛ "أقل وحشية منا، وأكثر موثوقية، وأكثر احتراماً لمصير الضعفاء، لكنهم أقوياء إلى درجة مثيرة للخوف".

 تجدر الإشارة إلى أن هذا النمط من هذه الكتابة لم يعد مقتصراً على علماء الأنثربولوجيا والتاريخ والسياسة والاقتصاد، إنما غدا مادة أدبية للروائيين ممن يجترحون فيه مخيلاتهم ويقدمون سيناريوهات وتنبؤات ستؤدي إلى انتهاء الحياة على كوكب الأرض؛ ذلك برغم التطور العلمي والتكنولوجي.

 كتب أمين معلوف روايته على شكل يوميات في فترة زمنية قصيرة وعلى مدى شهر واحد يعتمد فيها على "الإنترنت"؛ يرسم أحداثاً يرصدها ويتخيلها، يقترب فيها من التعبير عن الكراهية للبشرية بسبب ما يحدث على الكوكب من خلال شخصية إيف، أو ينحو للتأمل ومحاولة فهم العالم وتقبله بشكل أفضل، إلا إن تفاصيل الرواية شهدت انقلاباً جذرياً شكّل عنصراً أساسياً في حبكة القصة عبّر عنه على لسان محاوريه؛ لاسيما بشأن حتمية الموت في حضارتنا فيما تمكن "الإخوة الغرباء" أو "غير المتوقعين" من تطوير الطب وأصبح الموت لديهم أمراً يمكن تجاوزه وتفاديه، كما يمكنهم معالجة أمراض الشيخوخة، وكأنه هنا يناقش فكرة الخلود والأبدية من منظور وجودي لاديني.

 يروي المؤلف حبكته بشكل تصاعدي مع حكايات فرعية عبرت عنها رموز وشخصيات حاضرة في الواقع، اختار أحدها في هيئة الرئيس الأمريكي كونه يمثل أقوى بلد في العالم ورمزاً للحضارة المهيمنة التي تصطدم في صراعاتها النووية والكارثية مع الأمم، في ظل انتشار الأمراض والحروب لكنها تبقى عاجزة عن إدارة السلام والتسامح مع الحضارات الأخرى المختلفة عن جنسها، كما يحذرنا من مغبة المتغيرات الكونية التي تتخفى وراء مباهجها جحيم، رمز إليه بسقوط رمز النظام العالمي واستسلامه إلى من تفوق عليه في الطب والحكمة.

 

اسقاطات ورموز

أما أهم الرسائل التي يبثها معلوف في الرواية، فهي مليئة بالاسقاطات والرمزية التي تدلل عن مأساة البشرية المعاصرة؛ يقدمها في شكل حوارات على لسان "إخوتنا الغرباء غير المتوقعين" الذين يسبقوننا في كل شيء وينطلقون من مهد المعجزة الإثينية، فيستنطق فيهم الطبيب بوزانياس: "حين يتبع بعض البشر طريقهم الخاص، من دون أن يكون ذهنهم مقيداً بالمحرمات والأحكام المسبقة، ومن دون أن يكون لديهم شاغل آخر غير دحر الجهل، ستتمكنون من المضي قدماً بشكل أسرع من الآخرين، ويجدون أنفسهم بعيداً جداً إلى الأمام"، وفي أخرى؛ "بأن العالم أصبح مجرد ساحة معارك للجشع والكراهية، التي صار كل شيء فيه مغشوشاً من فن وفكر وكتابة ومستقبل، الأمر الذي جعل الكوكب بحاجة إلى أن يبدأ من الصفر خصوصاً وهو يعيش مرحلة الانحلال النهائي لحضارتنا"، وعليه فهو من خلال محاولاته على ذات الوتيرة يحثنا على تقييم ما نحن عليه ومعرفة مالذي وضعنا على طريق الخطأ والكوارث والصراعات وكيف يمكننا إعادة توجيه مسيرنا قبل أن تفوت اللحظة.  

 خلاصة الأمر، صدق الكاتب أرنست خوري في تعبيره؛ "لطالما قيل إن أسوأ ما يمكن أن يحدث مع الموسيقى هو الكتابة عنها بدل الاستماع إليها، وربما يكون ألطف ما في "اشقائنا غير المتوقعين" هو قراءتها بدل الكتابة عنها".

 ومع ذلك نجد أنها رواية مثيرة تتوافر فيها عنصر التشويق وبذات المهارة التي تعودنا عليها في كتابات معلوف وإن بشكل مختلف، مليئة بالتأملات التي استحضرمادتها من بطون التاريخ والفلسفة، على الرغم من الرؤية الضبابية المزدوجة للنظر إلى المستقبل، وكونه تركنا أمام أسئلة جوهرية لا إجابات شافيه لها فيما يتعلق بمكان المخلوقات الغامضة "الأخوة غير المتوقعين، الغرباء" عن عالمنا منذ آلاف السنين، وكيف نجحوا في التخفي؟ وما يبرر له ذلك هو باب الأمل الذي يفتحه عند الإشارة إلى أن انفلات التطور التكنولوجي المعقد ليس خارج السيطرة ويمكن ضبطه وتعطيل انحرافه إذا ما وجدت جماعة تؤمن بإشاعة السلام في عالمنا، إنها دعوة إصلاحية لنبذ الصراعات والكراهية وتوظيف منجزات العلم لصالح البشرية ومحاربة عدوها الأساسي الموت، بيد إن البعض وجد أن سياقات الرواية تحولت إلى مواعظة؛ انتهت بدرس أخلاقي على لسان "إلكترا" مندوبة الأخوة الغرباء:

 إن المسألة محسومة بالنسبة إلينا، نحن أصدقاء إمبدوقليس. وماذا عنكم، أيها الإخوة الذين لقيناكم؟ هل أنتم على استعداد لاعتبار الموت عدوّكم الوحيد؟ أجل، الموت، الموت وحده. لا القوى العظمى الغريمة، لا الشعوب الأخرى، لا الأعراق الأخرى، لا نحن. الموت فحسب. إنه العدو الوحيد الذي يستحق أن يُقاتل ويدُحر ويُهزم. هل أنتم على استعداد لإعادة النظر في أولوياتكم، وفتح صفحة جديدة معنا، وفيما بينكم؟" وهنا تتساءل صديقة ألكس عما يجب على البشر فعله بناء على طلب إلكترا، فتجيبها إيف:

 -         أن نصبح راشدين وأخيراً...ذلك هو شرطهم للعودة ص 321".

 المنامة – 2 أكتوبر 2021