السبت، 4 يونيو 2022

عدم المساواة في المنطقة العربية قنبلة موقوتة: من المسؤول؟

 

منى عباس فضل

شاركت مؤخراً بالحضور في المنتدى العربي من أجل المساواة الذي أقيم في العاصمة عمان في الفترة من 30-31 أيار/مايو 2022. المنتدى نظمته وعقدته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) ومجموعة باثفايندرز PATHFINDERS من أجل مجتمعات سلمية وعادلة وشاملة، وبمشاركة ما يفوق 300 مشارك من قادة سياسيين ووزراء وشخصيات من القطاع الخاص وخبراء عرب وعالمين وممثلين عن المجتمع المدني من ذوي الاختصاص في هذا الشأن.

 

أشارت الجهة المنظمة في تقريرها الذي أطلق في المنتدى؛ إلى إن التباينات عالمياً تفاقمت وبما يتناقض مع رؤية المساواة المنشودة في أهداف التنمية المستدامة، وعدد الفقراء زاد والمعاناة جراء كوفيد-19 ارتفعت بسبب نقص الرعاية الطبية، أما في المنطقة العربية فهي تسجّل أعلى مستوى من عدم المساواة وهي المنطقة الوحيدة التي ازداد فيها الفقر منذ 2010 وتمظهرت فيها ظاهرة اللامساواة بين المناطق والطبقات الاجتماعية وبين الجنسين وهي في تزايد وتهدد التماسك الاجتماعي والازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي؛ ليس هذ فقط؛ وإنما كشف التقرير بأن الفئات الأكثر ضعفاً تعرضت لتأثيرات الجائحة في المداخيل والحصول على الخدمات والموارد، مما جعلها عرضة للضعف والفقر في غياب الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية، وإن الاحصائيات بينت أن عدد فقراء منطقتنا في ارتفاع، كما أدت إلى ارتفاع مستويات البطالة وزيادة الضغط على الخدمات العامة التي هي أصلاً قاصرة وإن التحديات التي تواجهها ما هي إلا انعكاس لأزمات عقوداً من الحروب الأهلية والعنف السياسي والتدخلات العسكرية الخارجية والبطالة وعدم المساواة بين الجنسين والتغطية المحدودة للحماية الاجتماعية وبأبعاد مزمنة من الهشاشة لبعض الفئات نتيجة العوز وعدم تلبية الاحتياجات الأساسية.

 

لماذا المنتدى؟

استهدف المنتدى مناقشة القضايا الرئيسية المتعلقة باللامساواة والإقصاء في المنطقة العربية، وإطلاق حوار حولها بين أصحاب المصلحة المتعددين من قادة وخبراء إضافة إلى مناقشة اتجاهاتها وآثارها كظاهرة وبتأثيرات جائحة كوفيد-19، فضلاً عن التداول بشأن الحلول العملية على مستوى السياسات للتصدي لها وللإقصاء وذلك من خلال التركيز على بطالة الشباب بوصفها سبباً رئيسياً من الأسباب المتعددة الأوجه في بلداننا العربية، فضلاً عن دعم تنفيذ السياسات والمبادرات والاستفادة من التجارب والدروس المختلفة للحد منها.

 

وعودة إلى تقرير الاسكوا الذي جاء بعنوان "عدم المساواة في المنطقة العربية قنبلة موقوته" وهو بالمناسبة يستند إلى التقرير العالمي الذي أصدرته مجموعة باثفايندرز PATHFINDERS بعنوان "من الأقوال إلى الأفعال: تحقيق المساواة والإدماج"، فأنه يتضمن تمهيداً أشارت فيه الأمينة التنفيذية للاسكوا بأن أوجه عدم المساواة بين الجنسين، لا تزال عصية على الحل وأعلى من المستويات العالمية وتتراجع فرص خلق الثروات، فأغنى 10% في المائة من البالغين العرب يمتلكون 80% في المائة من مجموع ثروات المنطقة، وما لم تعالج هذه العوامل، فستضرب بجذورها أعمق، لترسخ عدم المساواة، فتصيب بأسوأ آثارها أفقر المجتمعات المحلية وأشدها هشاشة، مضيفة؛ بإن هذه العوامل تمثل وقود للشعور بالسخط والاغتراب بين السكان وعامل تفتيت لتماسك المنطقة الاجتماعي، كما نوهت إلى نقطة مهمة بأن الجائحة كشفت عن أوجه عدم المساواة الاقتصادية، ومدى هشاشة شبكات الأمان الاجتماعي التي لم تتمكن من حماية المجتمعات المحلية المهمشة والمعرضة للمخاطر من الأزمات المتداخلة التي برزت بفعل تفشي الفيروس. أجمع المشاركين بأن التقرير غني بالبيانات وتناوله بالتحليل مواضع الضعف والخلل في مجتمعاتنا العربية وإن كان برأي المتواضع ناعم اللغة في نقده المباشر لأداء الحكومات وهو يتألف من ستة فصول تضمنت أهم الآتي.

 

عالمنا العربي أقل العوالم في المساواة

بحث الفصل الأول من التقرير في العلاقة الوطيدة بين النزاعات المديدة وعدم المساواة في المنطقة مع ملاحظة إنه وسع نطاق استخدام المفهوم من النطاق الجندري إلى الوضع الأشمل في المجتمع، فقدم لمحة عن مختلف الأبعاد التي جعلت بلادنا العربية هي الأقل مساواة في العالم، مشيراً إلى إن نسبة 58% من الدخل القومي حتى عام 2020 هي بأيدي أغنى 10% مقابل 8% فقط بأيدي أفقر 50%، وهناك تفاوت ملحوظ من حيث الدخل وتوزيع الثروة والفرص المتاحة بين الفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية.

 

وخلص إلى إن الفقر متوارث بين الأجيال وإن عدم المساواة بين الجنسين سجل باستمرار أعلى المستويات في المنطقة العربية مقارنة بالمتوسط العالمي، حيث تشير التقديرات إلى أن سد الفجوة بين الجنسين يتطلب 179 عاماً مقارنة بحوالي 142 عاماً على الصعيد العالمي. وإن النزاع ينتشر فيها بحلقات متكررة لها آثار مدمرة وهو يمثل محرك لعدم المساواة التي تحول دون استدامة مكاسب التنمية، وإن دورات النزاع وعدم الاستقرار في الحروب تتمثل في تدمير البنى التحتية والنزوح وانعدام الأمن الغذائي والتسرب من المدارس والاعتماد على المعونة وإنشاء الجهات الفاعلة غير الحكومية والمناطق غير الخاضعة للحكم، والاتجار غير المشروع، وهناك دورة المظالم الجماعية وانعدام الفرص الاقتصادية وغياب المشاركة السياسية، وعسكرة المجتمعات والعوامل الجيوسياسية، إضافة إلى الركود الاقتصادي وانهيار مؤسسات الدولة وتراجع رأس المال البشري والاستثمار وتمزق المجتمعات واقتصاديات الحرب.

 

ونتيجة لهذا وذاك تكبدت المنطقة العربية حوالي 752 مليار دولار نتيجة للكلفة المباشرة للنزاعات في العراق وليبيا وسوريا واليمن علاوة عن الكلفة غير المباشرة للبلدان المجاورة بين عامي 2011 و2015، فيما لا تزال دولة فلسطين تعاني من أطول احتلال شهده التاريخ الحديث، كذلك بلغ عدد الأشخاص المتأثرين بشكل مباشر أو غير مباشر بالنزاعات 180.6 مليون نسمة، وإن عدد الشباب والشابات منهم من أعمار 10 و24 عاما حوالي 56.04 مليون نسمة، ولهذا من المهم فهم ديناميات النزاع وانعدام الاستقرار السياسي لتحليل المسارات المفضية إلى عدم المساواة في المنطقة، كما إن النمو الاقتصادي وحده لا يشكل حلاً للمشكلة بل على العكس إذا لم يشمل النمو الجميع ويعزز من مشاركتهم الاقتصادية فقد تتفاقم أبعاد عدم المساواة.

 

اللامساواة وكوفيد-19

تناول الفصل الثاني الآثار المترتبة من الجائحة والتي أبرزت أن عدم اللامساواة مزمنة وراسخة ومديدة في المنطقة العربية، وإنها عمقت وفاقمت منها، فدفعت بـ16 مليون إنسان إلى الفقر، حيث وصل الفقراء إلى أكثر من 116 مليون -أي قرابة ربع السكان-، وإن الأثر الأشد كان لفقدان الوظائف على الفئات الهشة كالعاملين في القطاع غير النظامي والنساء والشباب وذوي المستوى التعليمي المنخفض وذوي الإعاقة فيما وجد أن العاملين في الوظائف الدائمة ضمن فئات مهنية يسهل عملها عن بعد، لم يعانوا من شدة البطالة، وإن هذه الظاهرة تنذر بتوسيع الفجوة بين العاملين في القطاع النظامي وغير النظامي.

في السياق قيم استجابات الحكومات للجائحة من منظور عدم المساواة، كما تطرق إلى سياق السياسات الاجتماعية في المنطقة قبل تفشي الجائحة، وتدابير تخفيف تداعياتها التي اتخذت في إطار برامج الحماية الاجتماعية، إلى جانب ذلك خلص إلى إن تحول التعليم عبر الإنترنت أدى إلى تزايد أوجه عدم المساواة في المجال التعليمي وتعميق الفجوات القائمة من حيث الوصول إلى التكنولوجيا والإنترنيت حيث تفتقد نسبة 48% من الأسر في المنطقة العربية إلى الإنترنيت في المنزل، كما أدت الجائحة الى انخفاض ساعات العمل بنسبة 10.3% في عام 2020 مقارنة بنسبة 2.1% في عام 2019، وفي بلدان عربية عديدة، تقل نسبة النساء المسنات اللواتي يحصلن على معاشات تقاعد عن نسبة 25%، وذلك بسبب غياب النساء عن القوى العاملة خلال العقود الماضية.

 

تحديات عدم المساواة

ناقش التقرير في فصله الثالث تحديات اللامساواة بتسليط الضوء على محركاتها في المنطقة، مثل الديناميات الديموغرافية، وضعف المؤسسات، والفجوة الرقمية، وتدني جودة التعليم، والفساد والافتقار إلى الشفافية ونقص البيانات المتاحة، كاشفاً بإن هناك 51 مليون شخص في المنطقة العربية يعاني من نقص التغذية مع زيادة مقلقة في "العب الثلاثي لسوء التغذية" أي؛ نقص التغذية وزيادة الوزن والسمنة، وفي الوقت الذي يعاني فيه الكثيرون من نقص في المغذيات الدقيقة، كما ويشيع التفاوت من حيث الموقع الجغرافي؛ حيث يقيم 75% من الفقراء فقراً مدقعاً في مناطق ريفية، كذلك تشمل العوامل المحددة لارتفاع نسب عدم المساواة في فرص الحصول على التعليم الذي له صلة بظروف الأسرة وبدخل الوالدين والتحصيل العلمي وخصائص المجتمع المدني.

 

ورأى إن الوصول إلى التعليم في بلادنا العربية يتأثر كثيراً بعدم الانتشار الكافي للتكنولوجيا، حيث لا تزيد نسبة انتشاره عن 8.8% مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يبلغ 12.1%، والأهم إن متوسط درجات بلدان المنطقة على مؤشر مدركات الفساد مثلت نسبة 32% من أصل 100، وإن تحول توزيع السكان حسب الفئات العمرية قد أدى إلى إن الفئات الأكبر سناً قادت إلى توسيع الفجوة بين من لديهم معاشات تقاعد (وهم غالباً من الرجال) ومن ليس لديهم معاشات تقاعد (وهم غالباً من النساء)، إضافة إلى إن الفساد المنتشر في مجتمعاتنا يسبب المزيد من عدم المساواة وخاصة فيما يتعلق بالقرارات المتعلقة بتوزيع الدخل واستخدام المعونات والإنفاق العام على الصحة والتعليم.

 

استمعوا لهموم الناس، واقضوا على الفساد

الاستماع إلى هموم الناس؛ كان عنوان الفصل الرابع الذي يعد من أهم الفصول التي أبرزت دلالات ومؤشرات خطيرة ومهمة على الرغم من عدم التعمق في تحليل تفاصيلها، حيث عرضت فيه نتائج مسحاً للرأي العام أجرته الاسكوا في بعض البلدان العربية بهدف التوصل إلى فهم أفضل لتصورات السكان بشأن المساواة الاجتماعية والاقتصادية، مع التركيز فيه على بطالة الشباب والشابات. وهنا نسجل ملاحظة على المسح من جهة اختياره للعينة التي جاءت غير متجانسة اقتصادياً أو في بنيتها السياسية والاجتماعية لاسيما بين بلدان المشرق والمغرب العربي كالأردن والعراق ولبنان ومصر والسودان وتونس والمغرب وموريتانيا وبين دولتين فقط من بلدان الخليج وهما الكويت وعمان، مما أثر برأينا على دقة الاستجابات في بعض الأسئلة، ومع ذلك تبقى للنتائج دلالات عميقة ومادة دسمة للمختصين وأصحاب القرار للتركيز عليها ناهيك عن الباحثين في مجال علم الاجتماع.

من أبرز خلاصات المسح المتعلقة بتصور عينة المشاركين حول المساواة الاجتماعية والاقتصادية على المستوى الوطني بين البلدان العشر، بأن سكان المنطقة العربية أعربوا عن تفاؤلهم بشأن المستقبل في بلدانهم من حيث المساواة الاجتماعية والاقتصادية، حيث يعتقد الأفراد في الكويت وعمان أن مستويات المساواة الاجتماعية والاقتصادية مرتفعة الآن بنسبة 60%، و55% على التوالي كما يعتقدون أن بلدهم سيشهد مزيداً من المساواة في غضون خمس سنوات 55% و50% على التوالي؛ بيد إنه وبرأينا المتواضع نجد أن هذه الاستجابة غير دقيقة وتعبر عن حالة التباس بين الحدود التي تعبر في جانب منها بأن بلدانهم مستقرة في أوضاعها الاقتصادية بسبب اعتمادها على العائدات النفطية التي تغطي احتياجات المواطنين في إطار ما يسمى "دولة الرعاية" وبالتالي فهي تمر بظروف شبه مستقرة اقتصادياً وسياسياً، وتشجع على رؤية مواطنيها بأنهم يتمتعون بحال من المساواة فيما الواقع خلاف ذلك، هنا يبدو التقرير متفائلاً تجاه هذا الرأي النسبي؛ لماذا؟ لأن مستويات نسب الفساد في بعض بلدان الخليج في ارتفاع، كما إن بعضها بدأ بالتحول الفعلي من دول رعاية إلى دول تفرض الضرائب على المواطنين وتلغي الدعم عن المواد الأساسية وبما يترافق مع تدني في مستويات حرية الرأي والتعبير، في مقابل ذلك وحسب المسح يعتقد 67% من لبنان بعدم وجود مساواة اجتماعية واقتصادية تامة يليها تونس بنسبة 56% والعراق بنسبة 49% وهي نسبة واقعية تعبر عن حال الاضطرابات السياسية والأمنية والوضع الاقتصادي المتردي المصاحب للفساد التي تمر به هذه البلدان وغيرها وإن بنسب متفاوتة هنا وهناك.

أما من ناحية استجابات العينة بشأن الإجراءات الحكومية لتحسين المساواة الاجتماعية والاقتصادية، وبالتحديد لصالح أي من المجالات التي يجب أن تشكل أولوية بالنسبة للحكومة؟ جاءت أعلى الاستجابات بنسبة 56% لصالح إتاحة فرص العمل للشباب والشابات كخيار مفضل ومثل الأردن فيها أعلى استجابة بنسبة 72%، يليها العراق بنسبة 65% ثم تونس ولبنان بنسبة 58% فـ عمان 57، فالمغرب 56% ثم الكويت بنسبة 53% فالسودان بنسبة 52% ومصر بنسبة 51% وموريتانيا بنسبة 40%، وبخلاف البلدان الأخرى يعتقد اللبنانيون أن أفضل طريق للحد من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية هي مكافحة الفساد التي جاءت بنسبة 65%. 

  


المرأة خيار أقل جاذبية لتحسين المساواة

حظيت الأولويات الأخرى للسياسات الخمس كأجراء حكومي مفضل لتحسين المساواة الاجتماعية والاقتصادية بأكبر قدر من التأييد الذي يلي الخيار الأول، وهي الخيار الثاني بنسبة 39% لمكافحة الفساد مما يعكس قناعة الشعوب بلدان العينة ومن بينها الكويت وعمان اللتان أشار التقرير إلى تفاؤل شعوبها بوجود مساواة، عكس قناعتهم بتفشي ظاهرة الفساد التي تؤثر بعمق على المساواة الاجتماعية والاقتصادية، وجاءت أعلى استجابة لهذا الخيار من لبنان بنسبة 65% يليها تونس والسوادان والأردن على التوالي بنسب 43%، 42، 42، و41، ثم موريتانيا بنسبة 39% فالمغرب 36% ثم الكويت بنسبة 29% وعمان بنسبة 24%. أما خيار زيادة أجور العمال كأجراء حكومي لتحسين المساواة فمثل متوسط الاستجابة نسبة 36% أعلى نسبة منها كانت لصالح المغرب بنسبة 44%، والخيارات الأخرى بنسب 27% للدعم المالي للأسر ذات الدخل المنخفض و23% للتدريب والتعليم المهينان الأكثر ملاءمة لاحتياجات سوق العمل. بيد إن المفارقة تبدو في استجابة أفراد العينة نحو خيار تعميم المساواة بين الجنسين كأجراء حكومي حيث عبرت عن نسبة متوسطية منخفضة جداً تمثل 13% وهي تشمل 17% للكويت والمغرب، 16% لمصر و15% لموريتانيا، 12% للبنان، و11% لكل من عمان والأردن، 9% فقط لتونس و8% للعراق، إضافة إلى ذلك هناك استجابة بنسبة 22% فقط لصالح إشراك المزيد من النساء في سوق العمل كأجراء على الحكومة أن تفعله كأولوية لتحسين فرص العمل.

وعليه فأن استجابة العينة بالنسبتين (13% و22%) تمثلان برأينا موقفاً ذكورياً تجاه المرأة وانتقاصاً لأهمية دورها كعنصر إيجابي في الإجراءات المتوجب على الحكومات اتخاذه لتحسين حالة المساواة الاجتماعية والاقتصادية، إن هذا الخيار كان الأقل جاذبية للمشاركين من عينة المسح، والمفارقة أن التقرير لم يتوقف عند هذه النسب بما هو متوقع؛ ليحلل ماهيتها ودلالاتها وانعكاساتها ولم يناقش مدى خطورتها وتعبيراتها في اتجاهات وأنماط سلوك مواطني البلدان العربية التي شملها المسح. في كل الأحول جاءت متوسطات نسب تعزيز سيادة القانون واعتماد نظام ضريبي أكثر عدالة وزيادة مشاركة المواطنين في سياسة الحكومة وإتاحة الوصول إلى الإنترنت على نطاق واسع على التوالي بنسب 12%، 9%، 8%، 6%، وجمعيها لافتة وتمثل إشكالية عند مناقشتها لجهة الاتجاهات التي يفكر بها مواطني المنطقة العربية فيما يتعلق بمشكلاتهم وتوقعاتهم من حكوماتهم، إذ كيف تمثل سيادة القانون واعتماد النظام الضرائبي والمشاركة السياسية والرقمنة؛ أهمية دنيا في أولوياتهم واحتياجاتهم لتجاوز حالة اللامساواة المزمنة، إنها حالة تستدعى دراسات بحثية اجتماعية سياسية معقمة أكثر للتعرف على حقيقة الوضع الذي بات عليه المواطن العربي ونمط تفكيره لتجاوز الاختلالات التي تمر بها مجتمعاتنا.

أما لجهة تصورهم عن مدى توفر المزيد من فرص العمل اللائق والمنتجة في غضون خمس سنوات المقبلة، أبدى المشاركون استجاباتهم بأعلى نسبة بأنهم متفائلون بدرجة 55%، فيما الإجابة بلا بنسبة 33% و8% ربما و4% لا أدري، حيث جاءت استجابات العمانيون الأعلى درجة بتفاؤلها وهي 85% ومصر 70% والمغرب والسودان وتونس والأردن والعراق موريتانيا ولبنان على التوالي بدرجات 65%، 56%، 54%، 46%، 44%، 42%، 32%، في المقابل كان اللبنانيون الأكثر تشاؤماً إذ قال 60% إنه لن يكون هناك وظائف لائقة ومنتجة في السنوات الخمس المقبلة، يليهم الأردنيون كثاني أكثر المشاركين تشاؤماً بنسبة 51%.

ومن تصورات الشعوب لما ينبغي أن تفعله الحكومات العربية لتعزيز فرص العمل، حظيت أولويات السياسات الخمس لتعزيز فرص العمل بأكبر قدر من التأييد بين المشاركين في الاستطلاع في البلدان العشرة، نسبة 45% إيجاد المزيد من فرص العمل في القطاع الخاص، 46% المزيد من التمويل للمشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر، 39% إصلاح نظام التعليم لتلبية متطلبات السوق، 23% إصلاح القوانين التي تنظم تأسيس الشركات الخاصة و22% إشراك المزيد من النساء في سوق العمل.   




بطالة الشباب والشابات

استعرض الفصل الخامس تحديات بطالة الشباب والشابات من منظور عدم المساواة ومن حيث كونهم موارد غير مستغلة والسمات الخاصة بهم، وتناول القيود التي تحد من إيجاد فرص عمل لهم من طرفي العرض والطلب وتوصل إلى إن البطالة بينهم سجّلت أعلى المستويات في المنطقة العربية على مدى 25 عاماً بنحو 3.8 مرّات من نسبة العاملين البالغين، وإن نسبتها بلغت 26% مقارنة بالمعدل العالمي 12.8% وإن حوالي 85% هم من يعملون في القطاع غير النظامي وإن لبطالتهم آثار وخيمة طوال دورة حياتهم. ويرى التقرير بأن أبرز آثار البطالة يتمثل في الإقصاء الاجتماعي، والفقر، وعدم المساواة في الدخل، والتهميش، والاستغلال، والإحباط، وعدم الاستقرار السياسي، والاضطرابات الاجتماعية والعنف، وسيادة عدم المساواة في العمالة عبر الأجيال، كما إن الارتفاع المزمن في معدل البطالة يُبرز في المنطقة بما يواجه الشباب من عوائق هي الأكثر شدة من تلك التي يوجهها غيرهم من العمّال، وإنه من المتوقع ارتفاع عدد العاطلين عن العمل من 14.3 مليون شخص في عام 2019 إلى 17.2 مليون شخص في عام 2030 وذلك دون أخذ أثر جائحة كوفيد-19 وحلول الآلة محل اليد العاملة في الحسبان.

وإنه وحتى عام 2019 -أي قبل الجائحة- تشير التقديرات إلى الحاجة إلى حوالي 33 مليون وظيفة لضمان بقاء معدل البطالة في حدود 5% بحلول عام 2030 في المنطقة العربية التي سجّلت فيها أكبر الفجوات بين الجنسين في العالم فيما يتعلق بالمشاركة في القوى العاملة والتوظيف، وإن القوى العاملة النسائية هي أقل بنسبة 80% من القوى العاملة من الذكور في الفئة العمرية من 15-24 عاماً، وهي لا تقتصر على الشرائح الأقل تعليماً بل باتت تتطال نسبة كبيرة من الشباب المتعلمين وخريجي الجامعات، وهي تؤثر عليهم حتى في عدم إكمال تعليمهم الرسمي، كما تشير التقديرات إلى أن شابة من كل شابتين في المنطقة هي عاطلة عن العمل وغير ملتحقة ببرامج تعليمية أو تدريبية، مقارنة بشاب في كلّ خمسة شباب. ويُعزَى ارتفاع معدلات البطالة بين الشابات منهم إلى القضايا المتعلقة بعدم تكافؤ الفرص والممارسات التمييزية التي تعامل الرجال والنساء على نحو مختلف، على الرغم مما حققته الشابات من مكاسب هامة في التحصيل العلمي على مدى العقود الخمسة الماضية، إلا إنها لم تترجم إلى زيادات حقيقية وبناءة في مشاركتهن في القوى العاملة، كما تبين أن زيادة مستويات التعليم في منطقتنا العربية لا ترتبط دائماً ارتباطاً إيجابياً بزيادة فرص العمل وتحسينها، لاسيما بين النساء اللواتي تحسّن أداؤهن التعليمي إلى حدّ كبير على مر السنيين. 

هذا وسجل معدل البطالة من عام 2015-2020 نسبة 23%، وبسبب الجائحة ارتفعت في بعض الدول العربية كالمغرب إلى 32% و36.5% في تونس و55% في الأردن في الربع الأخير من عام 2020 فيما تسببت بخسارة ما لا يقل عن 2.4 مليون وظيفة في المنطقة العربية عام 2020، وتوصل التقرير بأن أفضل طريقة لترجمة النمو الاقتصادي هو التوجه نحو المزيد من المساواة في إيجاد فرص عمل لائقة تحدّ من الفقر وتضيّق الفوارق بين أصحاب المداخيل المرتفعة والمنخفضة.

وعليه فإن لهذه الظاهرة تأثير خطير على النمو والتنمية الاقتصاديين في المجتمع وتداعيات اجتماعية خطيرة حين يشعر الشباب العاطلين بأنهم مهملون ومستبعدون اجتماعياً، وهم يواجهون تحديات في العرض والطلب، فمن جهة العرض تظهر ضغوط ديمغرافية ونظم تعليمية ركيكة لا تعد الشباب للعمل، كما يظهر عدم تطابق المهارات وضعفها، ونقص المعلومات عن فرص العمل القائمة وموارد التوجيه المهني للباحثين عن عمل ونقص الخبرة في مجال التوظيف، إضافة إلى عدم تطابق توقعات الباحثين عن العمل من المتعلمين من جهة الرواتب ومزايا الوظائف المتاحة، فيما تواجه النساء كل هذه التحديات إلى جانب أعمال الرعاية التي تقوم بها وغير مدفوعة الأجر والأعراف الاجتماعية المحافظة. أما من جهة الطلب، فالشركات كما خلص التقرير في مواجهة محدودية الوصول إلى البنى التحتية والتمويل والأسواق العالمية، وتواجه قيوداً تنظيمية، ولا يزال الارتفاع النسبي للأجور والمزايا والأمن الوظيفي في القطاع العام يجتذب الشباب ويحثهم على انتظار الوظائف التي تزداد ندرة، يضاف لذلك عجز الاقتصادات العربية عن توليد ما يكفي من فرص العمل اللائقة مما يفرض تحديات منها توسعة فجوة عدم المساواة لأن وظائف القطاع غير الرسمي لا توفر تغطية التأمين الصحي ولا الحقوق الأساسية ولا تغطية الضمان الاجتماعي إضافة إلى الأجور المنخفضة، وساعات العمل غير المنتظمة وظروف عمل غير مستقرة وخطرة. وقد وصلت نسبة الشباب العاملين في أسر فقيرة فقراً مدقعاً في المنطقة العربية إلى 13.3%، إضافة إلى تأثير جائحة كوفيد 19 على نحو غير متكافئ على توظيف الشباب، مما أدّى إلى تأجيج المخاوف من ظهور "جيل ضائع" آخر من الشباب الذين سيحرمون من الحصول على فرص عمل جيدة ومستدامة عند انتقالهم إلى سوق العمل. 

 

هل من حل لمعضلة انعدام المساواة في المنطقة العربية؟

نعم هذا ما قادنا إليه التقرير في خلاصته حين ذكر؛ إنه لا يمكن لأي سياسة بمفردها معالجة عدم المساواة التي هي نتيجة خيارات في السياسة العامة، وإن هناك حاجة لإعادة تأكيد دور الدولة باعتبارها الضامنة للمساواة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وهي في الأساس عملية سياسية تتطلب الإنصاف في توزيع الموارد وتغييرات هيكلية وإصلاحات تنظيمية اقتصادية واجتماعية ومؤسسية وقانونية تعزز من المساواة والإندماج الاجتماعي، وإن هناك حاجة إلى المزيج من السياسات المتكاملة التي يمكن اتباعها وتطبيقها من خلال نهج نموذج المحاور الثلاثة وهي: الأثر الملموس وتأمين المصداقية ونشر روح التضامن، وأنه لابد من إنشاء شراكات بين الحكومة وقطاع الأعمال والنقابات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني، فضلاً عن الاستفادة من المزايا الهائلة التي تتمتع بها المنطقة العربية: من الأفراد ذو المواهب والطاقات والحماس؛ والشبكات الأسرية وأواصر القربي المتينة؛ الموارد الطبيعية الوفيرة؛ الموقع الاستراتيجي؛ والإرث التاريخي والثقافي والروحي المشترك المشيد باللغة العربية والمرتبط بالقرب الجغرافي.  

 

الخلاصة

خلاصة الأمر؛ برغم وجاهة موضوع منتدى الاسكوا وتقاريره المرفقة التي نوقشت على مدى يومين، إلا إننا نجد أنه تم التعامل مع بلدان المنطقة العربية كوحدة متجانسة متكاملة في مسببات انعدام المساواة وبالتالي يمكن تعميم خلاصات تحليل الواقع ونتائجه عليها، فيما الحال يشيء بإن أوضاعها متباينة بسبب الاختلافات العميقة في تكويناتها الديمغرافية والبنيوية وأنساقها الاجتماعية ناهيك عن ظروف وممارسات أنظمتها السياسية التي تآكلت شرعية الدولة في أغلبها وتحول بعضها إلى دول استبدادية ودكتاتورية وتغلغل في بعضها اقتصاد النمط المافيوي-الأمني، كما أشار إليه العديد من الباحثين في تشخيصهم لحال مجتمعاتنا العربية وتأثيرات العولمة عليها التي فرضت متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية أدت إلى تحفيز البيئة التي تحدث عنها التقرير وعلاجها في انعدام المساواة، وهي بالمناسبة يعبر عنها بـ"اللاعدالة الاجتماعية"، ودون أن ينسب -أي التقرير أو مناقشات المنتدى- هذه الظاهرة الخطيرة بشكل مباشر إلى الفشل الذي وقعت فيه أغلب الأنظمة العربية في إدارة مجتمعاتها واختلال علاقتها بمواطنيها خلال العقود الأخيرة.

 

إن خلل الأداء في المنطقة العربية قاد إلى أزمات الدين العام وإلى تدخل المؤسسات المالية الاقتصادية العالمية بنصحائها في تقليل المصروفات والتخلي عن دعم السلع الأساسية للمواطن وخصخصة القطاع العام وفرض الضرائب وتحميل المواطن تبعات مظاهر الفساد وسوء إدارة الاقتصاد حيث أصبحت أغلب هذه الدول تلعب دور الوكيل للشركات المتعددة الجنسية وغيرها. صحيح أن التقرير أشار إلى إن أغلب البلدان العربية خصصت مبالغ عالية للأمن والتسلح على حساب التغطية الاجتماعية والتعليم والصحة وأضيف، تمدد الأجهزة الأمنية والعسكرية وانعكاسه على تقيد الممارسة الديمقراطية والمشاركة الشعبية في صنع القرار والحد من الحريات العامة، إلا إنه لم يتطرق أبداً إلى تأثير وجود العمالة المهاجرة في بلدان الخليج حيث تتجاوز نسب أعدادها المواطنين وتؤثر على فرصهم في العمل، ناهيك عن الجري وراء استقطاب الاستثمارات والثروة التي عمقت من حجم الفجوة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء وتهميش الفئات الضعيفة التي تحدث عنها التقرير واصفاً إياها بإنها ضحية اللامساواة.

كان المتوقع تسمية المتسببين بهذا الوضع الكارثي بأسمائهم وبتحديد مواضع الفشل بشفافية أكثر في عملية الإنجاز التنموي للحكومات، فالأوضاع التي تم تناولها كانت مادة غنية للمناقشة على مدى يومين في المنتدى، وهي لم تأتي من فراغ، فهناك أنظمة فشلت في إدارة مجتمعاتها وقادتها إلى الدمار والانحطاط وساعدت أدوات الحكم فيها على انتشار الفساد والمحسوبية والزبائنية وانتهاك حقوق الإنسان فكيف لها أن تكون شريكاً جاداً في القضاء على انعدام المساواة؟ الأمر الذي جعل التقرير المهم خالي الدسم، ففي الأخير تبقى الحكومات هي من تتولى السياسات العامة وهي من تستحوذ على الأجهزة وكافة السلطات وهي المسؤولة المباشرة والمساءلة بما يضج به الواقع العربي الكارثي من انعدام مساواة ومن غيرها من ظواهر، كما تبقى الحلول والمبادرات المقترحة خطوة رائدة؛ لكنها بحاجة إلى إرادة قوية صادقة من صناع القرار وممن يستحوذون على الثروات.  


المنامة - 4 يونيو 2022