الاثنين، 5 أغسطس 2024

غزة بعد "الانتخابات الأمريكية"


منى عباس فضل

 ما وراء الحكاية؟ ما الرسالة الزائفة التي يروج لها مارثون الانتخابات الأمريكية في ظل خطاب معلن لسياسات الإجرام والإخضاع بما يمارس على الشعب الفلسطيني وبلدان المنطقة؟ ما الذي تبيته الولايات المتحدة لغزة في السباق الانتخابي الحامي الوطيس بين "كامالا هاريس وترامب"؟ 

قبل الإجابة على الأسئلة، من المفيد التأسيس على حقيقة فاقعة مفادها؛ إن انخراط الولايات المتحدة في الحرب على قطاع غزة وإدارة المعركة فيه قد انطلق من موقع الشراكة الاستراتيجية الكاملة بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، هذه الشراكة التي عبرت عن نفسها بمستويات متعدّدة؛ من دعم سياسي ومالي وعسكري وإعلامي؛ لم لا وأمن إسرائيل وقوة ردعها يمثلان قاعدة صلبة في السياسة الأمريكية للمنطقة العربية؛ وهذا الدعم يتكشف للعالم عبر مظاهر فاضحة لا جدال حولها؛ كيف؟

تماهٍ أمريكي إسرائيلي

منذ "طوقان الأقصى" وصمود المقاومة الفلسطينية؛ والولايات المتحدة تقدم دعماً مكثفاً لا حدود له للكيان الصهيوني، وهي لاتزال تفعل ذلك براً وبحراً وجواً، بل وتمنحها الضوء الأخضر لاستمرار الحرب وتبرير جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة، فيما يتدفق كبار المسؤولين فيها لزيارة إسرائيل وإظهار تضامنهم معها، وهي التي توفر لها غطاءً دبلوماسياً في مجلس الأمن باستخدام حق الفيتو ضد أي مشروع قرار لتأسيس دولة لفلسطين أو لوقف إطلاق النار، وتساندها في انتهاك القانون الدولي وتُفشل قراراته التي تدين ممارساتها في الحصار والتجويع ومنع دخول المساعدات.

 وهي -أي الولايات المتحدة- لم تتواني عن إرسال بوارجها الحربية إلى المنطقة وتدشين رصيف بحري عائم بحجة إيصال المساعدات الإنسانية على الرغم من اللغط الذي أثير حول أسباب تدشينه تمهيداً لتهجير أهل غزة ودعماً لمشروع المعبر البديل عن رفح، كما مارست ولاتزال ضغوطاً هائلة على حلفائها في دول المنطقة لحد إحراجهم مع شعوبهم وخلخلة أمن دولهم واستقرارها تحقيقاً لأهداف العدوان الإسرائيلي على غزة، وبوقاحة تطالبهم بوقف إصدار أي قرارات أو مواقف لها علاقة بوقف إطلاق النار على غزة وإدانة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وتدمير البنى التحتية التي يرتكبها جيشها في القطاع؛ فإذا كانت كل هذه وتلك مضامين للسياسة الأمريكية وعناوينها في علاقتها مع إسرائيل، وبما تعكسه فعاليات الحملات الانتخابية لمرشحيها "كامالا وترامب" وشعاراتها المنحازة بشكل مطلق للرواية الإسرائيلية ومغالطاتها وتضليلها؛ فما المتوقع منها بعد فرز صناديق الانتخاب؟

 -       ليس الكثير بل الأسوأ بالطبع!

غزة بعد استراتيجي

فما يحكم الموقف الأمريكي على غزة وفلسطين في سياق السباق الانتخابي ونتائجه؛ تحدده ودون شك المصالح الجيوسياسية الأمريكية في المنطقة والخطوط العريضة لاستراتيجيتها الراسخة التي تمس جوهر أمنها القومي، على الرغم من تشابك هذه الاستراتيجية وتفاعلها مع المدخلات الطارئة والمتغيرة في المشهد السياسي.

 لا يختلف المحللون على حرص الولايات المتحدة وسعيها إلى التفرد بالهيمنة على المنطقة وثرواتها وفرض نفوذها، وغزة في هذا الإطار تمثل منطقة حيوية لهذه المصالح الاقتصادية التي يكمن في جوهرها السيطرة على تجارة النفط ومناطق إمداده؛ خصوصاً وسط حديث الإعلام عن وجود حقول للغاز والنفط والاحتياطي منه بكميات تجارية قرب شواطئ غزة، وهذا سر سعي إسرائيل إلى السيطرة الأمنية والجغرافية الكاملة على قطاع غزة بما يتمتع به من ثروات المياه التجارية ولتمرير مشاريع كـ"قناة بن غوريون" لتأمين الملاحة الإسرائيلية الأمريكية في مواجهة المشروع الصيني الضخم مبادرة "الحزام والطريق" أو ما يسمى "طريق الحرير القديم"، وغزة أيضاً ممراً هاماً لتمرير طاقة الغاز والنفط  وكوابل الألياف الضوئية للاتصالات من الجزيرة العربية، الأمر الذي تخشى فيه إسرائيل من أي نشاط للمقاومة الفلسطينية في هذا الممر الاستراتيجي.

 ليس هذا فقط، فالولايات المتحدة تسعى ضمن استراتيجيتها إلى المحافظة على مستويات أسعار الطاقة بما يدعم اقتصادها، ما يعني إن تأمين إسرائيل وموقعها الإقليمي وحمايتها وتفوقها العسكري والتقني في مواجهة المقاومة الفلسطينية يشكل مسألة في غاية الأهميّة للسياسة الأمريكية، لم لا وهي تساند إسرائيل سنوياً بمبلغ "3.8 مليار دولار" وتمنحها حق الوصول إلى التكنولوجيا العسكرية دون قيود، وترسل إليها بوارجها وتعزز من وضع قواعدها العسكرية في المنطقة حماية لها، حيث تشير المصادر إلى أن عددها وصل إلى "63" قاعدة عسكرية يتواجد جزء منها في "12 دولة عربية". 

تطبيع لتأمين المصالح

ولدعم هذا البعد الاستراتيجي، ستواصل الولايات المتحدة بعد الانتخابات الرئاسية الدفع بقوة بمسار التطبيع بين دولة كيان العدو وبين الدول العربية وعلى الأخص الخليجية منها وتحديداً المملكة العربية السعودية، فهذا هدف استراتيجي لتأمين استمرارية الهيمنة الأمريكية على المنطقة وثرواتها، هدف لم ولن يتغير حتى بتغير الإدارات الأمريكية سواء ربحت " كامالا هاريس" جولة هذه الانتخابات أم منافسها "ترامب". 

إن اختلاف الآراء والتحليلات بشأن مدى تأثير التباين بين إسرائيل والولايات المتحدة حول الحرب على غزة أو تفاصيل إدارة معركتها وحجم عملياتها العسكرية أو ما يدور بشأن المفاوضات حول ملف تبادل الأسرى وتوزيع المساعدات الإنسانية وحتى مشروع إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة أو من يحكمها بعد الحرب..إلخ؛ لن يغير من اتجاهات الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية قيد أنملة، حتى مع التجاذبات التي جعلت من الحرب والتعامل مع مستجداتها وتداعياتها بنداً رئيسياً في سجالات الحملات الانتخابية بين " كامالا وترامب" للحصول على تأييد الناخبين للوصول إلى البيت الأبيض، وما أفرزته الحرب من مواقف مناهضة في المجتمع الأمريكي لسياسة بايدن الداعمة لاستمرار الحرب على غزة ومساندة الولايات المتحدة لإسرائيل.

اللوبي الصهيوني

إن ما عبرت عنه المواقف والاحتجاجات الرافضة التي انتشرت بين طلاب الجامعات الأمريكية سواء المؤيدة للحق الفلسطيني أو المطالبة بوقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية داخل القطاع، علاوة عن التحولات التي تحدثت عنها وسائل الإعلام  في مواقف الناخبين الأمريكيين وخصوصاً العرب منهم والأقليات، وما كشفته استطلاعات الرأي ومنها "لصحيفة نيويورك تايمز" بأن هناك تراجعاً في التصويت لصالح الديمقراطيين بسبب سياسة بايدن الخارجية وتحديداً الحرب على قطاع غزة، أو ما عبر عنه تصويت عشرات الآلاف بـ"غير ملتزم Uncommitted”" في العديد من الولايات ضد بايدين قبل انسحابه من السباق الانتخابي، ومع تحول القضية الفلسطينية ولأول مرة إلى مادة انتخابية داخلية، إلى جانب استياء شخصيات بارزة من أصول أفريقية ومن مثقفين من سياسة بايدين حيث طالبوا بالضغط على إسرائيل واحترام القانون الدولي وحماية المدنيين ووقف إطلاق النار، أقول؛ رغم كل ذلك، إلا إن قوة جماعات الضغط واللوبي الصهيوني وفي مقدمتهم (إيباك) وبخبرتهم في تمويل الحملات الانتخابية للمرشحين وبتأثيرهم المباشر على الناخبين وعلى القضايا التي يتبنونها فأن تأثيرهم إلى جانب الدور الذي يلعبه الإعلام المتعاطف مع إسرائيل ورجال الأعمال الصهاينة بنفوذهم المتغلغل في الاقتصاد الأمريكي وتمويلهم للحملات الانتخابية يلعبون جمعياً دوراً قوياً وعميقاً في التأثير على موقف الولايات المتحدة من الحرب على غزة بل وكل قضايا الصراع العربي الإسرائيلي. 

خلاصة الأمر، لا جديد فيما تبيته الإدارة الأمريكية لغزة وأهلها بل وللمقاومة الفلسطينية على المدى القصير؛ فعلى الرغم من أن حرب غزة قد هزت المشهد السياسي في الداخل الأمريكي نسبياً وقد تنعكس تداعياتها على نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية وتوجهها في الشرق الأوسط لكن بمزيد من الدعم والإسناد لإسرائيل. 

إن الاحتمالات الأكثر ترجيحاً ستكون بمواصلة الحرب المفتوحة، وتدفق الدعم الأمريكي السياسي والعسكري والاقتصادي لإسرائيل؛ خصوصاً بعد الاغتيالات الأخيرة التي نفذتها إسرائيل بحق الرئيس الفلسطيني إسماعيل هنية والقيادي بحزب الله فؤاد شكر؛ إذا لا خلاف جوهري بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي تجاه القضية الفلسطينية ودعم حليفهم الاستراتيجي إسرائيل، ولا عجب إن تورطت الولايات المتحدة هي نفسها بالتدخل المباشر لتحقيق أهداف الحرب الاستراتيجية؛ وهي لن تتواني من أجل ذلك في استنزاف حلفائها من دول المنطقة والعمل معهم على إيجاد منافذ لتنفيذ "خطة تهجير الفلسطينيين قسراً أو طوعاً من غزة" وبما يترافق مع محاولاتها المتجددة في استغلال الظرف السياسي لإعادة تشكيل الوعي العربي لإنجاز مخطط إعادة رسم "الشرق الأوسط الجديد" الذي يتمثل جزء منه في "تهجير سكان غزة" وإثارة الصراعات والنعرات الطائفية والإثنية لإضعاف المنطقة والقضاء على المقاومة الفلسطينية والضغط عليها بشتى الوسائل وإلى  تحريض حاضنتها الشعبية عليها بسبب سياسات الإبادة وقتل المدنيين والحصار والتجويع ومنع وصول المساعدات الإنسانية والطبية إليهم.

المنامة - 5 أغسطس 2024

 ينشر بالتزامن مع مجلة "الهدف" العدد (61) -(1535) - تموز (يوليو) 2024 النسخة الإلكترونية"

الرابط: file:///C:/Users/maf_2/Downloads/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AF%D9%81%20-%2061-%20%D9%86%D8%B3%D8%AE%D8%A9%20%D8%A5%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%B1%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9%203.pdf