الأربعاء، 22 سبتمبر 2021

في درب الشلال

 


منى عباس فضل

كنت في عزلة كينونتك والمشاعر مزدوجة بين الخوف وبين الاستسلام لدفء الشمس ووهجها، بين الأرض والجدران الرطبة المبللة وقدميك اللتين تدوس صخور ملساء وسط مياه تجري بتدفق سريع من حولك في تزامن له ظاهر وباطن لما يدور في وعيك ولاوعيك، في طياته رهبة وخوف وفي ظاهره انتعاش وإصرار على خوض مغامرة نهايتها مجهولة حيث التوقف عن خوضها يعني استسلاماً للكسل وقبولاً بالخمول وبدايةً للنهاية الحتمية.


الحياة في رأسك لم تتوقف بعد، وهي تحملك إلى حيث الصخب المنتشر حولك، تتعالى أصوات المغامرين من السياح في كل أنحاء جسدك، وبرغم قوة جريان المياه الجارف والتضاريس الشائكة التي تطأها قدماك بين صخور كبيرة وصغيرة تعلو وتهبط  في غير انتظام وحذر من أن تتعثر بينها فتسقط، كان الصمت والسكون يخيم عليك بقوة ووقع خطواتك محسوب، أي انزلاق يعني ضرراً قد يترك أثره عليك وعلى من يتتبعك ويهتم لأمرك، يتاخم المشهد من حولك، يكاد يبتلعك ويحملك ثم يقذف بك إلى المجهول.


تحاول تجاوز الخوف فتشيح بوجهك عنه وتتفوق عليه للوصول إلى مبتغاك، هل ستنج المحاولة؟ لا تعلم ولا يمكنك التنبؤ بشئ ما، فأنت تعيش اللحظة الثمينة التي تقبض على ضوئها وصخبها كما هي وتمضي غير عابئ بالنتائج، كمن يسلك درب خلاص برصانة وإصرار.


هناك سرٌ ما، أنت وغيرك تبحثون عنه والجمع يمر معية المرشد السياحي، شئ يغلفه السحر، ثمة ما يوقظ كل الحواس ويحرك الباهت في النفوس، يخلق صلة قربى تصلك بالطبيعة وخباياها، شيء قوي تنصت إلى رنينه بداخلك، يحدثك ويحدث انقلاباً هائلاً في حواسك، عليك أن تستوعبه، وألا تتوارئ خلف الخوف أو التردد، احمل كلماتك كيف تشاء، فالسكينة من حولك تبث التفاؤل والأمل، حيث القمة التي ستصلها عند مسقط الشلال الشامخ بقوته وبرودته المنعشة، فتتفجر طفولتك مع تعالي صراخ الفرح والنشوة والبهجة من حولك، هنا الطفولة حاضرة متيقضة بين الجمع، وهنا يتعطل حزنك وتغادرك الكآبة فتمتلئ برحيق الحياة من جديد.


تعاين عن كثب ما يدور حولك، لوحة متحركة رائعة ترسمها الطبيعة، بصرك يتنقل يميناً وشمالاً لا يرتوي ولا يشبع وأنت تمعن النظر صامتاً مبتهجاً متقافزاً كالعصافير الصغيرة بين رذاذ الشلال المتدفق بقوتة على رأسك، تدرك وقتها أن عليك درباً آخر للعودة في الممرات الصخرية التي يخترقها الشلال.


في درب العودة يتملكك شعور بالنشوة والبهجة تارة، وبالسكينة تارة أخرى، نظرك لا يفارق الصخور ولا المياه المتدفقة بسرعة من تحت قدميك، أي عبور وأنت في حال انتشاء وسكون وتأمل.، تتعلم فيه الخطوات كما طفل صغير، كيف تركز على نقاط العبور، وأين تضع قدميك وأي جهة تسلك، وعلى أي صخرة  تتكئ ذراعيك وفي أي مجرى ماء تركز نظرك وحواسك، إنك في صمت استثنائي، سكون يزيل الاثقال التي تهد كاهلك.


قادك الدرب إلى حالة من التأمل، والحديث بصوت داخلي تردد فيه عبارات؛ عليك التركيز هنا، لا تضع قدميك في مكان مجهول، اعتل الصخور الصغيرة والمساحات المنبسطة كي تصل بأمان، وعند الثغرات المجهولة؛ استحضر كل حواسك، واعتمد على ذراعيك وقدميك معاً، بل وشدً كل أعضاء جسدك وأنت تتحول وتنحدر من مرتفع إلى آخر، هكذا تتعلم السير في الدروب العثرة وتتأمل بحكمة وفطنة.


في هذا المكان الساحر تعيد اكتشاف ذاتك، علاقتك الوطيدة مع الماء وضياء الشمس والصخور ونسمات الهواء الباردة وزرقة السماء التي تتلألأ بأشعة الشمس مع تمايل الأعشاب والطحالب التي تدوسها بقدميك وتحرص على أن لا تؤذيها فتنزلق وتفقد توازنك واتزانك، لقد سبقك الكثيرون إلى قعر هذا الوادي الخلاب بجماله، مكللين بروح المغامرة ورغبة الاكتشاف، تجربة جديدة فريدة تضاف إلى تجارب الحياة، هكذا يبدو أنك رفعت الحظر عن نفسك في خوضها وأن لا تفوتك المغامرة حتى وأنت تمضي إلى مشارف السبعين عاماً.


  رحلة سفاري في الجنوب التركي "فتحية" 1سبتمبر2021 

المنامة - 22 سبتمبر 2021