الأحد، 31 ديسمبر 2017

قبل تبادل الأنخاب

منى عباس فضل 

يتناقص الزمن، تنمكش الأيام بانحدار لتبدأ نهاية عام وإشراقة آخر جديد، وكعادتنا نتمثّل مظاهر الحياة في الأفئدة ونتبادل الأنخاب والتمنيات مردّدين عبارات المحبة والأمل رغم تجّرع المنغّصات وثقل الغصّة الكئيبة في أعماقنا وهي تعود بنا القهقرى حتى القاع.

لم نعد نعرف حقيقة ذواتنا من فرط الألم، لم نعد ندرك من حولنا، الحزن يزحف بيننا وتلفّنا العتمة التي تزداد قتامة كلما حاصرتنا الحواجز والموانع وتكاثرت الكراهية وانتشر التعصّب كفطر مسموم يفتّت مجتمعاتنا ويمزقها باحترابات مفتعلة وحروب قبائل ومذاهب وطوائف. 

في يوم شتاء قارس من أيام مدينة ميونخ الجميلة، وأمام مقهى بدا أنه الوحيد الذي فتح أبوابه في ذاك الشارع المفعم بالنظارة والحياة حتى في يوم الإجازة الأسبوعية، حيث لجأ إليه العابرون للحصول على الدفء واحتساء كوب من القهوة أو ربما لقاء صديق أو حبيب.


أمامه تتربع جدارية ضخمة في واجهة الشارع علّقت عليها مئات من سترات بحرية بألوان مختلفة، في مشهد استفزازي مثير، وأنت تسير بفضول حول الجدارية باحثاً عن إجابة لسؤال يرتعش في جوفك مع ارتعاشة لفحات البرد التي تخترق العظم، لتدرك في نهاية الدوران أنك قبالة بقايا مقبرة غرق جماعية ينفطر لها القلب وينتابك شعور بالاختناق وبرغبة ملحة في البكاء على نفسك وعلى من كانوا في قوافل الهجرة وقوارب النزوح والترحال مع رفاق التشرد... شاهد من شواهد سترات الموت المجاني وعلامة فارقة لأفعال البشر السوداء وأحقادهم وعلى الخوف والهروب من حروب التدمير والعوز والفاقة والجوع شاهداً على كل الجراحات الدامية التي حطت بكرامة الإنسان إلى الحضيض.

دمع ونحيب صامت في جلالة المشهد المريع، يرتفع مع ارتفاع صخب صيحات المكدّسين في قوراب الموت وأنين الغارقين اللاهثين مشياً في رحلة الأمل والبؤس على أقدامهم عبر الحدود وبحراسة الدرك أو قابعين بين الأسلاك الشائكة حاملين أحزانهم في بواطن قلوبهم ووجوهم المالحة تسرد ملايين الحكايات الحزينة، حالمين بالدفء وفي مخيلتهم بقايا ذكريات من أفراح وأحزان عاشوها في قراهم ومدنهم أو ما سُمِّي بأوطانهم، وفي جيوب سترات الغربة المريعة احتفظوا بقصاصة صغيرة رسمت عليها خارطة لنهاية درب الآلام والتعب، وفيما هم يلفظون أنفاسهم الأخيرة تاركين وراءهم سترات الانقاذ الملتفة حول أجساد جامدة باردة طافية على المياه أو ملقاة على شواطئ الغربة تتقاذفها الأمواج، تركوا معهم قلب مدن البؤس والخطايا مفتوحة على مصراعيها في دوائر النار مشرّعة على أحداث ومآسى تدشّن لانفجارات قادمة يتلوها سقوط دول وعروش مع كل انتهاك لأرواح الأبرياء وهدر كرامة الإنسان.



****

 

قبل إطفاء الشموع وتبادل الأنخاب.. تقرع الأجراس لتعلن "بأننا نقاوم التطبيع، وأن القدس المحتلة منارتنا وستبقى أبد الآبدين عاصمة لفلسطين العربية رغم قرار ترامب وفعلته باعتبار القدس عاصمة إسرائيل"، ستبقى الشعوب العربية بكل أجناسها ومذاهبها وأعراقها هي من يكترث لأمرها ويضحّي ويصمد حين تموت ضمائر الحكام، وستبقى الشعوب العربية عصيّة على التطبيع مع كيان العدو الصهيوني، وسيبقى أهلها يصارعون لقضية فلسطين الحية.

تهويد القدس ليس أمراً عابراً... ومقاومة التهويد ليس أمراً جانبياً، هو ليس نزوة ولا نزهة ولارداءً وجلباب يستبدل في المناسبات، قضية فلسطين لا تعني التعصب الديني أو العرقي، فهي قضية بأبعاد ثلاثية مرتكزها الأخلاق والإنسانية والفكر والسياسة. القدس وبعيداً عن التسطيح والاستخفاف عروس عروبتنا ومهدٌ لثقافة التسامح والمحبة والتعايش والسلام، وهي عنوان كرامتنا ورمز التوّاقين للحرية والانعتاق من الاحتلال والظلم والاستبداد.

سجل كل عربي شهادته: "بأنه المواطن أو المواطنة فلسطيني الهوي عروبي الإنتماء، الرافض للتطبيع مع كيان العدو الصهيوني..ومن يزور القدس المحتلة ويمرّر تهويدها يخون الشعب العربي والفلسطيني، الشعب أعلن براءته من أفعال التطبيع الشائنة وممن يدعمها ويبررها، فلسطين المحتلة خط أحمر في عقول الشعوب العربية وضمائرها ومن يفرط بها ويطبع مع العدو لا يمثلهم... لا يستحق أن يمثلهم".

في القدس كتب محمود درويش قصيدته...
في القدس؛
أعني داخل السور القديم؛
أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوبني ..
فإن الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدّس،
يصعدون إلى السماء ويرجعون أقل إحباطا وحزنا؛
فالمحبة والسلام مقدسان وقادمان إلى المدينة.
كنت أمشي فوق منحدر وأهجس:
كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟
أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟
أسير في نومي. أحملق في منامي.
لا أرى أحدا ورائي.
لا أرى أحدا أمامي ..
كل هذا الضوء لي ..
أمشي؛ أخف؛ أطير ثم أصير غيري في التجلي ..
تنبت الكلمات كالأعشاب من فم أشعيا النبويّ:
"
إن لم تؤمنوا لن تأمنوا".
أمشي كأني واحد غيري،
وجرحي وردة بيضاء إنجيلية،
ويداي مثل حمامتين على الصليب
تحلقان وتحملان الأرض ..
لا أمشي، أطير، أصير غيري في التجلي.
لا مكان ولا زمان.
 فمن أنا؟
أنا لا أنا في حضرة المعراج ..
لكنّي أفكر: وحده كان النبي محمد (ص) يتكلم العربية الفصحى ..
وماذا بعد؟.. ماذا بعد؟
صاحت فجأة جندية: هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟
قلت: قتلتني ... ونسيت، مثلك، أن أموت.
محمود درويش

وكتب سميح القاسم يستنهض سور القدس والأحجار
أنا هنا ... تنفس يا حجري المقدس
يا السور يا الأبراج ... لا بأس يا أسرارنا الحميمة
كم فاتحٍ حاول أن يزحزح الرتاج ... ليستبيح روحنا القديمة
فعاد بالهزيمة.

كل عام وأنتم بخير
منى عباس فضل
المنامة - 31 ديسمبر 2017