السبت، 30 أغسطس 2025

في رثاء "حسين" الإنسان

 

منى عباس فضل

 رحل من رحل وبقيت صورهم تنتحت في ذاكرتنا وتستفز وعينا لزمنٍ مضى حيث كانت الأحلام والأمنيات على مرمى قدم في زمن الشباب وفي الماضي الجميل الذي تعرفت فيه على الفقيد "حسين السماك" كان في أوج نشاطه الطلابي في الاتحاد الوطني لطلبة البحرين-فرع الكويت؛ خمسين عامًا مضت ولا يزال الأصدقاء والصديقات يتساقطون بيننا كأوراق خريف إنها سنة الحياة ورتمها الحزين.

 استقبلنا مع مجموعة أخرى من طلاب وطالبات الاتحاد الوطني لطلبة البحرين القدامى في الكويت وكنا دفعة جديدة في أول يوم من فترة التسجيل للكورس الدراسي الأول من ذلك العام، تحديدًا في إحدى قاعات كلية العلوم بالخالدية، كان الوقت مساءً بعد الإفطار في شهر رمضان في سبتمبر من العام الدراسي الأول 1975-1976. عرفت بأنه أحد أعضاء وعضوات "لجنة شئون الطلبة"، ومهمته معنا والتي كان يبذل فيها جهدًا واخلاصًا وإلتزامًا بلا مقابل، أن يساعد الطلبة والطالبات الجدد الذين في عهدته على تسجيل كافة موادهم الدراسيّة حسب نظام الجامعة الجديد.

كان الازدحام كثيفًا والجميع في حوسه، وقد تملكني وقتها خوفاًً شديدًا بأن أعود أدراجي بخفي حنين دون التمكن من تسجيل أي مادة من المواد، بخبرة طالب قديم يعرف دهاليز عملية التسجيل؛ شعر بقلقي وخوفي وأخذ يطمئنني وغيري بأن الأمور تسير على ما يرام، لكنني ومن شدة الإجهاد وارتفاع درجة حرارة الطقس والازدحام ممزوجًا بشعور من الحزن والضياع والغربة بعيدًا عن الأهل والديار؛ كاد يغمي علي، لم يتوانى وطالبات أخريات في لجنة شئون الطلبة بالاتحاد من إسعافي، لم يتركوني في هذا الحال الهائج المائج؛ حتى أتممت وغيري عمليّة التسجيل بنجاح؛ إنه يوم فارق في حياتي الطلابيًة؛ إن يتعزز شعوري بأنني لست وحيدة والدنيا بخير!

منذ ذلك الوقت تشكلت علاقة زمالة دراسيّة متداخلة بالنشاط الطلابي بيني وبين الفقيد "أبو إيمان"، علاقة سادها الاحترام والعطاء والبذل ضمن أنشطة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين ولمن حولنا من الطلاب والطالبات البحرينيين خصوصًا الجدد منهم! كان الفقيد حريصًا على المشاركة في كافة الأنشطة الطلابية في أروقة الجامعة أو خارجها من الأيام الرياضية إلى الرحلات أثناء الإجازات وحفلات استقبال الطلبة والطالبات الجدد التي يقيمها الاتحاد، فضلاً عن الحفل السنوي الذي يحرص على المشاركة في فقراته بحيوية والتزام، ولطالما شارك في لجان الاتحاد المتنوعة الثقافية وبرامجها من دورات توعية ثقافية وبرامج اجتماعية ورياضية تميز في أغلبها بالعطاء والحيوية ومساعدة الطلبة في أمورهم الدراسيّة واللوجستيّة.

 ومما عرفته لاحقًا بأن له ذائقة فنية وموهبة في فن الرسم حيث أسعفته الريشة والألوان في مراحل من العلاج للتغلب على صعوبات المرض في السنوات الأخيرة؛ كما عبر من خلالها عن جوهر استيعابه وقناعاته في القضايا الوطنية.

 حدثني صديق لي من أيام الدراسة بأن الفقيد  كان مبدعًا ومن أبرز من برعوا وتطوعوا في استخدام بعض التقنيات الاحترافيّة لعمل بعض البوسترات لصور الشهداء أو المناسبات الطلابية والوطنية، كما سجلت له مواقفه الوطنية الراسخة من قناعات وانحياز ووعي ثقافي وسياسي تعرض عبره للمضايقات ودفع أثمانها غاليًا لاسيما حين جاء قرار إبعاده مع بعض طلبة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين من الكويت ومنعهم من استكمال الدراسة في الجامعة على خلفية خلافات وشجار مفتعل حدث بين أعضاء من نادى الطلبة وآخرين من الاتحاد الوطني لطلبة البحرين – فرع الكويت؛ علمًا بإن النادي أنشئ في الأصل في تلك الفترة لمزاحمة الاتحاد والقضاء على نشاطه الطلابي.

عند عودة الفقيد للوطن، عمل بنشاط والتزام مهني في القطاع المصرفي الذي أكسبه خبرة وعطاء واقترن بصديقتنا الغالية الأم والزوجة الحنون "بدرية القاسمي" التي أنجب منها ثلاث شابات "إيمان وأمل ومريم" حيث أحاطته هذه الأسرة الصغيرة الرائعة بفيض من حنان وحب ورعاية لم يتوقف.

 في فقده اليوم، نترحم عليه إنسانًا خلوقًا عرف بمحبته للخير والعطاء، وندعو له  بالرحمة والسكينة وأن يلهم أسرته الحنون وأفراد عائلته الصبر والسلوان.

 

المنامة - 29 أغسطس 2025






السبت، 23 أغسطس 2025

هل المقاومة ذكورية؟

 


منى عباس فضل

 

بشأن مناقشة الكاتب موسى السادة في مقالة له بعنوان: "إسرائيل الكبرى": حديقة الحيوانات والرجولة في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 21 أغسطس/آب 2025؛ أتفهم حرقة قلبه إلى ما آلت إليه أوضاعنا العربية من واقع انهزامي عبرت عنه ممارسات النظام العربي الفاشل للقيام بأدواره ومستوجباته وتخاذله وتآمره على القضية الفلسطينية والحق العربي؛ لكن من الصعوبة في آن؛ تمرير وتسويغ "منطقه الذكوري" في تحليل عملية المقاومة والنضال ضد الاحتلال وحصرها في شجاعة الرجولة "كقيمة متجذرة في العقل الجمعي" ومسؤولية المقاومة كواجب يخص الرجال الشجعان فقط.  

 

صحيح وله الحق في مقاربته لما تناوله تقرير سوري رسمي حول أحداث الساحل، بأن يساق وبإرادتهم للحرب الأهلية ومسلخ الاقتتال على الهوية 200 ألف مقاتل، أضعاف ما يستدعيه جيش العدو من الاحتياط لاحتلال مدينة داخل غزة، فيما هم عاجزين -أي "مقاتلي العشائر والطوائف والوطنيات العربية"- عن إرسال هذا العدد أو أقل منه واستحضار قيم الشجاعة والمروءة والأخلاق لمواجهة العدو الصهيوني في غزة، نعم تساؤله منطقي وعقلاني، بيد إنه هنا يستثير النخوة العربية الذكورية في مواجهة الاحتلال ولا غير؟!

 

إن ترجمة المعاناة القاسية والمتوحشة التي يمر بها واقعنا العربي؛ لا تمنحنا مبرراً طوعياً للتخلي عن مفاهيم الحداثة التي استوعبنا صياغتها وفهمنا مفاهيمها ودلالاتها؛ والتي يأتي على قمتها مفهوم "المساواة"! إن ما ذهب إليه الكاتب يعكس بعداً فكرياً وسيكولوجياً وسيولوجياً؛ وهو بحق يخترق الذات الجمعية في مجتمعاتنا ويتجاوز من خلالها لغتنا وقناعاتنا وحتى حريتنا في التفكير، فالمرأة في منهجه التحليلي فعل مستتر وغائب ولا وجود له في فعل المقاومة والنضال؛ إن المقالة حمالة بعداً فكرياً ووعياً فاقعاً ومكشوفاً وقائماً على إن العملية النضالية ومقاومة الاحتلال هي في الأصل والتكوين "ذكورية" بحته صفتها ومدلولاتها "الشجاعة والنخوة والإقدام"، وهي كما نعلم فكرة حاضرة ومعاشة في التاريخ العربي والتراثي تخص الرجال، وعليه تبقى المقاومة والتصدي للاحتلال والعدوان والاستعباد والقمع والإكراه بالنسبة إليه تتفاعل وتفسر في داخل أسوار "الأبوية" وقلاعها؛ هذا البعد الخفي يكسر الدائرة المفرغة فنحن أمام صراع فكري حقاً يتجاوز مرارة الواقع والانحطاط الذي وصلت إليه مجتمعاتنا في ظل الاحتلال الصهيوني-الأمريكي ونظام الاستبداد والقهر العربي.  

 

خاضت مجتمعاتنا العربية برغم قسوة الواقع؛ مراحل من التطوّر والتغييّر الذي لا يمكن فيه لجم فكرة وجود "المرأة" في الفضاء العام ولا يمكن تقييّد أدوارها وإلغاءها خارج أسوار "الفعل الذكوري" إن صح التعبير وفي المهمة النضاليّة بالذات ومقاومة المحتل ومواجهة الاستبداد، لا مدلول غامض فيما سوغه فهو واضح في استثارة النخوة العربية بلغة فصيحة لمواجهة الحالة الكارثية والخذلان الذي بتنا عليه، وشئنا أم أبينا إن جزء مما ينمي هذا التوجه في مفاهيم هكذا ومصطلحات، هو اللامبالاة وصمت غالبية نساء مجتمعاتنا العربية وعدم اكتراثها ولنقل قبولها بهذا الواقع وصمتها عن هذا التحليل والقبول به كمسلمة لمجرد إنه مع القضية الفلسطينية وضد الاحتلال الصهيوني.

 

في حقيقة الأمر، نعم لا يمكننا الانفلات من قيود الحاضر ولا استحضار صور الماضي ونماذجه لمواجهة المحتل، إلا إن الحاضر كما يقول هشام شرابي "هو أرض المستقبل وهدفه ودون العمل فيه وتغييّره لا يمكن العمل في المستقبل وبناءه"؛ وعليه لا يمكن لمجتمعاتنا العربية أن تتحرر من الاحتلال والاستعباد وانتهاك الحريات والحقوق طالما قبلنا واكتفينا "بالذكورية" منهجاً وتفكيراً وأسلوب حياة ودرباً للتحرر والانعتاق.

إن قسوة الواقع وكارثيته تتطلب منا كأفراد رجالاً ونساءً وعيّاً مكثفاً لفهم الإشكاليّات والقضايا التي نعايشها ونعاني وزر نتائجها،  صحيح إننا نسعى إلى التحرر من الاحتلال الصهيوني والإخضاع والاستبداد والاستعمار، لكن الصحيح أيضًا إننا مطالبين وبالأخص المثقفين الحداثيين والملتزمين تميز أدوارنا في "المجتمعات العربية الأبويّة المعاصرة"، فنحن كنا ولا نزال في مراحل استهداف التغييّر الاجتماعي أو ما يطلق عليه "الثورة الاجتماعيّة"؛ هذا ليس تنظير من أبراج عاجيّة، إن تغير المجتمع والإنسان يتطلب مجابهة الواقع السياسي المعاش من خلال وعي اجتماعي سياسي يدرك ماهية وطبيعة دور "قوة السلطة القمعيّة في مجتمعاتنا دينية كانت أو سياسيّة أو احتلاليّة"؛ إن في هذا الوعي فرصة لمواجهة حروب الهويّة والاقتتال المذهبي والإثني والارتقاء به إلى تحرر الإنسان والأوطان؛ في هذا الصدد يشير شرابي ثانية وبما معناه وتصرف "إن الخطر الأكبر يأتي من داخلنا من التمسك بالإيديولوجيات الماضيّة والاتجاهات الفكريّة والممارسات السياسيّة التقليديّة التي لم تعد تصلح لمجابهة أوضاع الواقع الحالي وتحدياته...إلخ".

 

إن نزعة التغييّر والتحرر من الاحتلال الصهيوني ومن الاستبداد والقهر يستوجب أن تتوافر في صميمها وجوهرها على إرادة قويّة على المستوى الفردي والجمعي، إرادة التحرر من الاحتلال والاستعمار وإرادة في آن لتغيير النظام الأبوي الذكوري، أن لا يحكمنا هذا النظام في مفاصل حياتنا اليوميّة وقراراتنا؛ أن نتحول إلى نظام آخر يقبل "بالمساواة وبالعلاقات النديّة والأفقيّة" وأن يتجاوز مستوى الوعي فيه وفي حاضرنا مسألة استحضار مفهوم الشجاعة والنخوة بمنطق ذكوري، فهذا المنطق لن يمنحنا الحلول النهائيّة لمشكلات مجتمعاتنا العربية ولن يحررنا ولن يأخذنا إلى حاضرة الحداثة والتطوّر التقني.

 

إن التمسك بالذكورة كأداة حل ومدخل للتحرر من الاحتلال؛ إنما يعكس عورة أيديولوجية ونفاق أخلاقي وقيمي على حساب النصف الآخر من المجتمع، وفيه ما فيه من التكاذب على الذات، فأمثلة الإقدام والشجاعة والمروءة والكرم والنخوة في مجتمعاتنا العربيّة التاريخيّة لها ما لها وعليها وما عليها وهي ليست نموذجًا موضوعيّاً يحتذى به لإعادة قراءة واقعنا الحاضر. إن بروز الوعي الاجتماعي والسياسي على المستوى الفردي والمجتمعي الناقد لذاته وأوضاعه لهو شرط أساسي ومركزي لتغيير الواقع الأبوي وتجاوز تناقضاته بل لمقاومة الاحتلال ومواجهة كوارثه وتحقيق التحرر والعدالة ونيل الحريات.  


المنامة - 23 أغسطس 2025

السبت، 2 أغسطس 2025

"ألبانيز" والعقوبات الأميركية

 

منى عباس فضل

جاء اليوم الذي بتنا فيه شهودًا على ظاهرة مرعبة تتعلق بعدالة القانون الدولي والتي يُستوجب الوقوف عندها. إنها قضيّة جوهريّة ذات دلالات على التكوين البنيوي للإمبرياليّة المتوحشة وتمدّد نفوذها؛ وبما تُعبر عنه من أزمات أخلاقيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وذلك لارتباط شركاتها ومؤسساتها بمنظومة كيان العدو الصهيوني وآلته الأمنية والعسكرية.

 

الظاهرة المرعبة تتمثل في قضيّة المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة "فرانشيسكا ألبانيز" التي فرضت عليها الإدارة الأميركيّة "عقوبات" لا لسبب سوى إنها مارست عملها وحكّمت ضميرها ومبادئها ووثقت تفاصيل الحرب و"الإبادة الإسرائيليّة للفلسطينيين في قطاع غزة" منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، هذه الحرب التي تسببت بسقوط أكثر من 58 ألفا و677 شهيدًا فلسطينيًا و150 ألف جريح أغلبهم أطفال ونساء وألقت فيها 125 طنًا من متفجرات دمرت 88 بالمئة من القطاع وخسائر تفوق 62 مليار دولار وتهجير مليوني مدني وكوارث مجاعة ستخلدها ذاكرة التاريخ.  

 

ألبانيز لم تكتفِ في توثيقها الجرائم الإسرائيليّة في تقرير أو اثنين؛ إنما عدة تقارير أحدثها قدمته الشهر الماضي إلى مجلس حقوق الإنسان، اتهمت فيه أكثر من 60 شركة عالميّة من بينها شركات أسلحة معروفة كـ"لوكهيد مارتن الأمريكيّة" و"ليوناردو الإيطاليّة العاملة في الفضاء والدفاع والأمن"، و"كاتربيلر ّتي ترتكبها إسرائيل في غزة، فهي ضالعة في تزويد إسرائيل بأسلحة ومعدّات تُسهل استخدام أدوات المراقبة، وتدعم مشروعها الاستعماري في تهجير الفلسطينيين واستبدالهم؛ ما يعني تحملها المسؤوليّة القانونيّة بإلحاق الدمار بغزة وتجويع أهلها وانتهاكات حقوق الإنسان فيها. المقررة لم تكتفِ بوصف المأساة وإنما طالبت بملاحقة الجهات والشخصيات الضالعة في جريمة الإبادة. ومنه يبقى السؤال مفتوحًا عن تداعيات هذه العقوبات وآثارها؟

 

التداعيّات

لا شك أن التداعيّات خطيرة ويمكن استنباطها من ردود الأفعال الشديدة التي عبر عنها وزير الخارجية الأميركي في وصفه جهود ألبانيز بغير الشرعيّة والمخزيّة لحثها المحكمة الجنائية الدوليّة على التحرك ضد مسؤولين وشركات ومديرين تنفيذيين أميركيين وإسرائيليين.. قال: لا تسامح مع حملتها بعد الآن من حرب سياسيّة واقتصاديّة على الولايات المتحدة وإسرائيل مؤكدًا مواصلتهم لاتخاذ أي خطوات ضروريّة، وإنهم سيقفون دائمًا مع شريكتهم إسرائيل في الدفاع عن النفس". الأخطر منه تهديدات البعثة الأميركيّة في الأمم المتحدة ومطالبتها بإقالة ألبانيز من منصبها متهمة إياها بـ"معاداة السامية" ومحذرة من أن عدم إقالتها سيضعف الأمم المتحدة وسيتطلب اتخاذ إجراءات جادة على سوء سلوكها، كما اتهمتها بتحريف مؤهلاتها وترخيصها المهني. الجدير بالذكر أنه سبق للولايات المتحدة أن فرضت عقوبات على أربع قاضيات في المحكمة الجنائية، على خلفية قضايا مرتبطة بمذكرة توقيف لنتنياهو ووزير دفاعه السابق، تحظر عليهن دخول الولايات المتحدة وتجميد أي أصول يملكنها فيها.

 

مقابل ذلك توالت الانتقادات الدوليّة على لسان مسؤولي الأمم المتحدة كـ"ستيفان دوجاريك" الذي وجد إن استخدام العقوبات أحاديّة الجانب ضد المقررين الخاصين أو أي خبير أو مسؤول آخر في الأمم المتحدة يعد "سابقة خطيرة" و"أمر غير مقبول"، موضحًا بأن هؤلاء لا يقدمون تقاريرهم إلى الأمين العام، وليس لديه سلطة عليهم أو على عملهم، وعليه يحق للدول الأعضاء التعبير عن آرائهم والاختلاف مع تقاريرهم، فيما أبدى رئيس مجلس حقوق الإنسان "يورغ لاوبر" أسفه قائلاً: "إن السيدة ألبانيز تم تعيينها بواسطة مجلس حقوق الإنسان، وإن المقررين الخاصين يُعدون أداة أساسيّة للمجلس في أداء ولايته المتمثلة في تعزيز وحماية جميع حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، داعيًا إلى الامتناع عن أي أعمال ترهيب أو انتقام ضدهم"؛ أما المفوض السامي "فولكر تورك" فقد حث على التراجع الفوري عن العقوبات، وتوقف الهجمات والتهديدات ضد المقررين وضد مؤسسات كالمحكمة الجنائيّة الدوليّة.

 

إسكات الضمير

من جهتها رأت "ليز ايفنسون" من هيومن رايست ووتس: "أن الولايات المتحدة تعمل على تفكيك المعايير والمؤسّسات التي يعتمد عليها الناجون من الانتهاكات الجسيمة وإن فرض العقوبات محاولة لإسكات خبيرة أممية عن أداء عملها، والتحدث عن الحقيقة بشأن الانتهاكات الإسرائيليّة ضد الفلسطينيين، داعية الحكومات والشركات إلى عدم التواطؤ، وشدّدت على أهميّة مقاومة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية بقوة للجهود السافرة من الحكومة الأميركيّة لمنع العدالة في أسوأ الجرائم في العالم، وأن تدين العقوبات المشينة المفروضة على "ألبانيز"، أما الرئيس السابق للمنظمة وصف العقوبات: "بأنها محاولة لردع الملاحقة القضائيّة لجرائم الحرب الإسرائيليّة والإبادة الجماعيّة في غزة".

 

المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بدوره ندد بالعقوبات واعتبرها مؤشرًا خطيرًا على انحراف السياسة الأميركيّة تجاه منظومة حقوق الإنسان ولردع من يكشف تواطؤها في جرائم الاحتلال ضد المدنيين في غزة، كما إنه يمثل تهديدًا لاستقلاليّة عمل المقررين الأمميين، وجدًد دعمه لألبانيز ولمواقفها داعيًا إلى تحرك دولي عاجل لحماية المنظومة الحقوقية من الضغوط السياسيّة التي تقوّض دورها الرقابي والأخلاقي.

 

في السياق أصدر "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" بيانًا ندد فيه بالعقوبات وذكر بإنها محاولة لإسكات صوت الحق وكسر شوكة الضمير العالمي وإن استهداف ألبانيز يمثل اعتداءً صارخًا على صوت الحق داخل منظومة العدالة الدولية التي فشلت في تحمل مسؤوليّاتها كاملة تجاه فضح الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية. وأكد بأنها مارست دورها بمهنيّة وشجاعة واضعة الحقيقة أمام العالم: أن الاحتلال ليس فقط غير قانوني، بل يقوم على منظومة أبارتهايد وإبادة ممنهجة لا يمكن السكوت عنها.

  

ألبانيز تتحدى

"فرانشيسكا ألبانيز" لم تصمت إزاء الحرب عليها وعلى مواقفها واعتبرت فرض العقوبات أسلوب من "أساليب ترهيب مافياويّة.. وقالت بثقة؛ "أنا منشغلة بتذكير الدول الأعضاء بالتزاماتها وقف ومعاقبة الإبادة الجماعيّة، ومن يستفيد منها.." وأضافت "يستحق المواطنون الإيطاليون والفرنسيون واليونانيون أن يعلموا أن كل عمل سياسي ينتهك النظام القانوني الدولي، يُضعفهم ويعرضنا جميعًا للخطر.. وطالبت هذه الدول بتقديم توضيحات حيال سماحها بتوفير مجال جوي آمن لنتنياهو المطلوب للعدالة الدوليّة لارتكابه جرائم حرب"، منوهة بأنها تواجه الآن تجميد أصولها وقيودًا محتملة على السفر، وحذرت بأنها سابقة "خطيرة" للمدافعين عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، إذ لم تعد هناك خطوط حمراء، إنه أمر مخيف، ربما يمنعني ذلك من التنقل، سيكون له تأثير على الأفراد الذي يتعاملون معي، لأنه بالنسبة للمواطنين الأمريكيين أو حامل البطاقة الخضراء، سيكون هذا الأمر إشكالاً كبيرًا"، واعتبرت إن العقوبات بحقها مصممة لإضعاف مهمتها، لكنها وبإصرار أكدت استمرارها لما تقوم به وإن شكل ذلك تحديًا لها.

 

إلى هنا لا عجب إن انطلقت حملات التضامن من أحرار العالم ومنظماته الحقوقيّة لمساندة فرانشيسكا ألبانيز ومعلنة رفضها للعقوبات الانتقاميّة ودوافعها السياسيّة، ولا مبالغة إن رشحوها لنيل جائزة نوبل. إن "ألبانيز" في هذا الزمن الكالح تمثل نموذجًا للمصداقيّة المتبقية من القانون الدولي؛ ودعمها ومساندتها في حقيقته استنكارًا لجريمة الإبادة وتضامنًا ودفاعًا عن حق الفلسطينيين في الحياة والحرية والعدالة.

 

خلاصة الأمر؛ هذه العقوبات تكشف عن مدى تآكل مصداقيّة المنظمة الدولية وعجزها بل وفشلها في الحفاظ على أمن الأبرياء ومنع وقوع حروب التطهير العرقي وجرائم الإبادة، وهي حلقة من حلقات الترهيب السياسي ومحاولة لإفلات الاحتلال من المساءلة على جرائمه الأكثر همجيّة ووحشيّة ضد الإنسانيّة، كما إنها انعكاس لهيمنة نفوذ الدول الكبرى الشريكة في الإبادة، فضلاً عن أن الفساد الرسمي الذي أصبح شرعيّا في الولايات المتحدة وبما يفسحه من مجال للشركات التي كشفت المقررة كيف تتربح من الدم الفلسطيني والمعاناة اليوميّة لأهل غزة وتهجيرهم وتجويعهم تحت الحصار والعدوان، إنها جزء من نظام امبريالي متوحش وهي ذاتها التي تتبرع وتمول حملات الأقليّة الانتخابية وتوصلها إلى سلطة القرار لتمارس أساليبها القذرة في مواجهة العدالة الدوليّة وفرض نفوذها؛ إنها معركة أخلاقيّة تستخدم فيها الأسلحة الأميركيّة والأوروبيّة كأدوات قتل وتدمير وبكثافة في إبادة المدنيين الفلسطينيين جماعيًّا ما يجعلهم شركاء لإسرائيل في جريمة التطهير العرقي والإبادة الجماعيّة. 


المنامة - 2 أغسطس 2025

 ينشر بالتزامن مع مجلة "الهدف" عدد تموز/يوليو 2025، (1547) بالتسلسل العام العدد 73 رقميًا* 

https://hadfnews.ps/post/133480/  لتصفح رابط المجلة  *