منى عباس فضل
جاء
اليوم الذي بتنا فيه
شهودًا على ظاهرة مرعبة تتعلق بعدالة القانون الدولي والتي يُستوجب الوقوف عندها.
إنها قضيّة جوهريّة ذات دلالات على التكوين البنيوي للإمبرياليّة المتوحشة وتمدّد
نفوذها؛ وبما تُعبر عنه من أزمات أخلاقيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وذلك
لارتباط شركاتها ومؤسساتها بمنظومة كيان العدو الصهيوني وآلته الأمنية والعسكرية.
الظاهرة
المرعبة تتمثل في قضيّة المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في
الأراضي الفلسطينية المحتلة "فرانشيسكا ألبانيز" التي فرضت عليها الإدارة
الأميركيّة "عقوبات" لا لسبب سوى إنها مارست عملها وحكّمت ضميرها
ومبادئها ووثقت تفاصيل الحرب و"الإبادة الإسرائيليّة للفلسطينيين في قطاع
غزة" منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، هذه الحرب التي تسببت بسقوط أكثر من 58
ألفا و677 شهيدًا فلسطينيًا و150 ألف جريح أغلبهم أطفال ونساء وألقت فيها 125 طنًا
من متفجرات دمرت 88 بالمئة من القطاع وخسائر تفوق 62 مليار دولار وتهجير مليوني
مدني وكوارث مجاعة ستخلدها ذاكرة التاريخ.
ألبانيز
لم تكتفِ في توثيقها الجرائم الإسرائيليّة في تقرير أو اثنين؛ إنما عدة تقارير أحدثها قدمته الشهر
الماضي إلى مجلس حقوق الإنسان، اتهمت فيه أكثر من 60 شركة عالميّة من بينها شركات
أسلحة معروفة كـ"لوكهيد مارتن الأمريكيّة" و"ليوناردو الإيطاليّة العاملة
في الفضاء والدفاع والأمن"، و"كاتربيلر ّتي ترتكبها إسرائيل في غزة، فهي
ضالعة في تزويد إسرائيل بأسلحة ومعدّات تُسهل استخدام أدوات المراقبة، وتدعم مشروعها
الاستعماري في تهجير الفلسطينيين واستبدالهم؛ ما يعني تحملها المسؤوليّة القانونيّة
بإلحاق الدمار بغزة وتجويع أهلها وانتهاكات حقوق الإنسان فيها. المقررة لم تكتفِ بوصف
المأساة وإنما طالبت بملاحقة الجهات والشخصيات الضالعة في جريمة الإبادة. ومنه يبقى
السؤال مفتوحًا عن تداعيات هذه العقوبات وآثارها؟
التداعيّات
لا شك
أن التداعيّات خطيرة ويمكن استنباطها من ردود الأفعال الشديدة التي عبر عنها وزير
الخارجية الأميركي في وصفه جهود ألبانيز بغير الشرعيّة والمخزيّة لحثها المحكمة
الجنائية الدوليّة على التحرك ضد مسؤولين وشركات ومديرين تنفيذيين أميركيين
وإسرائيليين.. قال: لا تسامح مع حملتها بعد الآن من حرب سياسيّة واقتصاديّة على
الولايات المتحدة وإسرائيل مؤكدًا مواصلتهم لاتخاذ أي خطوات ضروريّة، وإنهم سيقفون
دائمًا مع شريكتهم إسرائيل في الدفاع عن النفس". الأخطر منه تهديدات البعثة
الأميركيّة في الأمم المتحدة ومطالبتها بإقالة ألبانيز من منصبها متهمة إياها
بـ"معاداة السامية" ومحذرة من أن عدم إقالتها سيضعف الأمم المتحدة وسيتطلب
اتخاذ إجراءات جادة على سوء سلوكها، كما اتهمتها بتحريف مؤهلاتها وترخيصها المهني.
الجدير بالذكر أنه سبق للولايات المتحدة أن فرضت عقوبات على أربع قاضيات في
المحكمة الجنائية، على خلفية قضايا مرتبطة بمذكرة توقيف لنتنياهو ووزير دفاعه
السابق، تحظر عليهن دخول الولايات المتحدة وتجميد أي أصول يملكنها فيها.
مقابل ذلك
توالت الانتقادات الدوليّة على لسان مسؤولي الأمم المتحدة كـ"ستيفان دوجاريك"
الذي وجد إن استخدام العقوبات أحاديّة الجانب ضد المقررين الخاصين أو أي خبير أو
مسؤول آخر في الأمم المتحدة يعد "سابقة خطيرة" و"أمر غير
مقبول"، موضحًا بأن هؤلاء لا يقدمون تقاريرهم إلى الأمين العام، وليس لديه
سلطة عليهم أو على عملهم، وعليه يحق للدول الأعضاء التعبير عن آرائهم والاختلاف مع
تقاريرهم، فيما أبدى رئيس مجلس حقوق الإنسان "يورغ لاوبر" أسفه قائلاً:
"إن السيدة ألبانيز تم تعيينها بواسطة مجلس حقوق الإنسان، وإن المقررين
الخاصين يُعدون أداة أساسيّة للمجلس في أداء ولايته المتمثلة في تعزيز وحماية جميع
حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، داعيًا إلى الامتناع عن أي أعمال ترهيب أو
انتقام ضدهم"؛ أما المفوض السامي "فولكر تورك" فقد حث على التراجع
الفوري عن العقوبات، وتوقف الهجمات والتهديدات ضد المقررين وضد مؤسسات كالمحكمة
الجنائيّة الدوليّة.
إسكات الضمير
من
جهتها رأت "ليز ايفنسون" من هيومن رايست ووتس: "أن الولايات
المتحدة تعمل على تفكيك المعايير والمؤسّسات التي يعتمد عليها الناجون من
الانتهاكات الجسيمة وإن فرض العقوبات محاولة لإسكات خبيرة أممية عن أداء عملها،
والتحدث عن الحقيقة بشأن الانتهاكات الإسرائيليّة ضد الفلسطينيين، داعية الحكومات
والشركات إلى عدم التواطؤ، وشدّدت على أهميّة مقاومة الدول الأعضاء في الأمم
المتحدة والمحكمة الجنائية بقوة للجهود السافرة من الحكومة الأميركيّة لمنع
العدالة في أسوأ الجرائم في العالم، وأن تدين العقوبات المشينة المفروضة على
"ألبانيز"، أما الرئيس السابق للمنظمة وصف العقوبات: "بأنها محاولة
لردع الملاحقة القضائيّة لجرائم الحرب الإسرائيليّة والإبادة الجماعيّة في غزة".
المرصد
الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بدوره ندد بالعقوبات واعتبرها مؤشرًا خطيرًا على
انحراف السياسة الأميركيّة تجاه منظومة حقوق الإنسان ولردع من يكشف تواطؤها في
جرائم الاحتلال ضد المدنيين في غزة، كما إنه يمثل تهديدًا لاستقلاليّة عمل
المقررين الأمميين، وجدًد دعمه لألبانيز ولمواقفها داعيًا إلى تحرك دولي عاجل
لحماية المنظومة الحقوقية من الضغوط السياسيّة التي تقوّض دورها الرقابي
والأخلاقي.
في
السياق أصدر "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" بيانًا ندد
فيه بالعقوبات وذكر بإنها محاولة لإسكات صوت الحق وكسر شوكة الضمير العالمي وإن
استهداف ألبانيز يمثل اعتداءً صارخًا على صوت الحق داخل منظومة العدالة الدولية
التي فشلت في تحمل مسؤوليّاتها كاملة تجاه فضح الجرائم المرتكبة في الأراضي
الفلسطينية. وأكد بأنها مارست دورها بمهنيّة وشجاعة واضعة الحقيقة أمام العالم: أن
الاحتلال ليس فقط غير قانوني، بل يقوم على منظومة أبارتهايد وإبادة ممنهجة لا يمكن
السكوت عنها.
ألبانيز تتحدى
"فرانشيسكا
ألبانيز" لم تصمت إزاء الحرب عليها وعلى مواقفها واعتبرت فرض العقوبات أسلوب
من "أساليب ترهيب مافياويّة.. وقالت بثقة؛ "أنا منشغلة بتذكير الدول
الأعضاء بالتزاماتها وقف ومعاقبة الإبادة الجماعيّة، ومن يستفيد منها.."
وأضافت "يستحق المواطنون الإيطاليون والفرنسيون واليونانيون أن يعلموا أن كل
عمل سياسي ينتهك النظام القانوني الدولي، يُضعفهم ويعرضنا جميعًا للخطر.. وطالبت
هذه الدول بتقديم توضيحات حيال سماحها بتوفير مجال جوي آمن لنتنياهو المطلوب
للعدالة الدوليّة لارتكابه جرائم حرب"، منوهة بأنها تواجه الآن تجميد أصولها
وقيودًا محتملة على السفر، وحذرت بأنها سابقة "خطيرة" للمدافعين عن حقوق
الإنسان في جميع أنحاء العالم، إذ لم تعد هناك خطوط حمراء، إنه أمر مخيف، ربما
يمنعني ذلك من التنقل، سيكون له تأثير على الأفراد الذي يتعاملون معي، لأنه
بالنسبة للمواطنين الأمريكيين أو حامل البطاقة الخضراء، سيكون هذا الأمر إشكالاً
كبيرًا"، واعتبرت إن العقوبات بحقها مصممة لإضعاف مهمتها، لكنها وبإصرار أكدت
استمرارها لما تقوم به وإن شكل ذلك تحديًا لها.
إلى
هنا لا عجب إن انطلقت حملات التضامن من أحرار العالم ومنظماته الحقوقيّة لمساندة فرانشيسكا
ألبانيز ومعلنة رفضها للعقوبات الانتقاميّة ودوافعها السياسيّة، ولا مبالغة إن رشحوها
لنيل جائزة نوبل. إن "ألبانيز" في هذا الزمن الكالح تمثل نموذجًا للمصداقيّة
المتبقية من القانون الدولي؛ ودعمها ومساندتها في حقيقته استنكارًا لجريمة الإبادة
وتضامنًا ودفاعًا عن حق الفلسطينيين في الحياة والحرية والعدالة.
خلاصة الأمر؛ هذه العقوبات تكشف عن مدى تآكل مصداقيّة المنظمة الدولية وعجزها بل وفشلها في الحفاظ على أمن الأبرياء ومنع وقوع حروب التطهير العرقي وجرائم الإبادة، وهي حلقة من حلقات الترهيب السياسي ومحاولة لإفلات الاحتلال من المساءلة على جرائمه الأكثر همجيّة ووحشيّة ضد الإنسانيّة، كما إنها انعكاس لهيمنة نفوذ الدول الكبرى الشريكة في الإبادة، فضلاً عن أن الفساد الرسمي الذي أصبح شرعيّا في الولايات المتحدة وبما يفسحه من مجال للشركات التي كشفت المقررة كيف تتربح من الدم الفلسطيني والمعاناة اليوميّة لأهل غزة وتهجيرهم وتجويعهم تحت الحصار والعدوان، إنها جزء من نظام امبريالي متوحش وهي ذاتها التي تتبرع وتمول حملات الأقليّة الانتخابية وتوصلها إلى سلطة القرار لتمارس أساليبها القذرة في مواجهة العدالة الدوليّة وفرض نفوذها؛ إنها معركة أخلاقيّة تستخدم فيها الأسلحة الأميركيّة والأوروبيّة كأدوات قتل وتدمير وبكثافة في إبادة المدنيين الفلسطينيين جماعيًّا ما يجعلهم شركاء لإسرائيل في جريمة التطهير العرقي والإبادة الجماعيّة.
المنامة - 2 أغسطس 2025
ينشر بالتزامن مع مجلة "الهدف" عدد تموز/يوليو 2025، (1547) بالتسلسل العام العدد 73 رقميًا*
https://hadfnews.ps/post/133480/ لتصفح رابط المجلة *