الأربعاء، 1 يوليو 2020

نصدق الناجيات وإلى إلغاء المادة "353"

منى عباس فضل
ضجت وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً بالتدوال والسجال حول تفاصيل جريمة من الجرائم المسكوت عنها في المجتمع المحلي، أقصد بالطبع؛ جريمة "الاغتصاب".

أماطت اللثام عن تفاصيلها الصادمة مواطنة شابة قررت في لحظة وعي ومسؤولية كسر صمتها بعد سبع سنوات لما تعرضت إليه من انتهاك؛ ذكرت عبر سلسلة تغريدات بأن "ثلاثة أشخاص داوموا على اغتصابها ودمروا حياتها تدميراً كاملاً وعاشوا حياتهم بمثالية عظيمة"، كشفت بأنهم "ثلاثة إخوة لها"، وطالبت بالتعاطف معها؛ قائلة:

-      "دمروا حياتي، محبوبون من الجميع وأنا منبوذة، مقدسون من الجميع وأنا مضطهدة، قريبون من الجميع وأنا بعيدة. تأثرت نفسياً وسلوكياً واجتماعياً، كنت انطوائية وخجولة ومتعلثمة وفاقدة الثقة بنفسي ولا عندي الشعور بالأمان من الدنيا كلها. كنت أروح للمدرسة سهرانة بعد فعلتهم وأحسّ كل النظرات فيها شكوك وكنت أحسّ أن الكل يدري عني، طفلة وعقلي مشتت وما عندي قدرة على التركيز، وحتى ما أقدر أكوّن صداقات، وكنت دائماً اختار الزوايا في كل مكان أدخله. كنت أعتقد بأني مذنبة واعتبرت نفسي المُجرمة وحمدت ربّي لأنهم ما تكلموا لأحد وستروا عليّ. ولكن بعد موجة الوعي تعرّفت على معنى الاغتصاب ومعنى القاصر ومعنى الضحية. وعرفت إنّي ضحية اغتصاب".
المفارقة إزاء الحدث عكستها ردود الأفعال والمواقف التي كانت متفاوتة حد التناقض، هناك من تعاطف معها بشدة وقناعة تنطلق بأن الصمت على قضايا التحرش والاغتصاب مرده ثقافة المجتمع الذي يحمل المرأة نتائج الاغتصاب مستنداً إلى مفاهيم العيب والشرف والذهنية الذكورية التي تعزز هيمنة الرجال على النساء والتمادي في فرض تسلطهم والوصاية عليهن، إلى جانب القناعة بعدم توفر مساحات آمنة للضحايا كي يسردوا تجاربهم ومعاناتهم، أما الأسوأ كما يجدون فهو عدم اعتراف المجتمع بوجود هذه الجرائم ومطالبته بعدم تداول تفاصيلها حفاظاً على صورته.

بالمقابل هناك من شكك بمصداقية روايتها في البداية، والتشكيك هنا يعني في حقيقته محاولة "طمس قضية الاغتصاب" بل ومساعدة الجناة على التفلت من العقاب. من جهة أخرى هناك من تعاطف بمراوغة عبر توجيه "الضحية" لكيفية التعاطي مع الانتهاك الذي وقع عليها في إطار محدد دون التطرق إلى التفاصيل، قيل؛ هناك فرقاً كبيراً بين "التستر والستر" على هذه الجريمة الوحشية، و"الستر" هنا برأيهم سيوفر ضماناً في حدود كافية من الحماية للضحايا وفي تدوير ملفاتهم عند ذوي الاختصاص لا عند كل من هب ودب، لذا يجب عدم التوجه للإعلام التقليدي أو منصات التواصل الاجتماعي لفضح الاعتداءات الجنسية أيا كان حجمها، إلا وفق ضوابط وأولويات، ذلك لأن الهدف الأسمي يتمثل في مساعدة الضحايا لا جرهم إلى المزيد من المعاناة عبر الاندفاع لكشفها أمام الملأ بل الدعم من خلال من يقدم لهم العون والمساعدة، وما يصح في بلد لا يصح في غيره، هكذا قالوا.

بيد إن "الستر" في جوهره يعني سعياً مبطناً لإسكات "الضحية" باعتبار إن للمجتمع الصغير خصوصيته ولابد من مراعاة البنية الأسرية وعلاقة أفرادها، وفي هذا نجد تعبيراً عن اختلالاً ما في المنظومة القيمية والأخلاقية، بل إن الموقف هنا يكتسى نفاقاً مجتمعياً وثقافة متسامحة مع العنف المسلط على الضحايا والنساء وما يتعرضن إليه من انتهاكات، أما الأسوأ فكان مع من كذبوا واتهموا "الضحية" بالانحراف وحاكموها بإنها تستحق ما أصابها، وجاء ردها فاقعاً قوياً وصادماً بمستوى المعاناة:
-      "بأن لديها الاستعداد للتحقيق في القضية".
أما أحدهن فكتبت متضامنة مع "الضحية" في تغريدة لها:
-   "نصدق الناجيات سراً وعلانية، نتضامن معهن بالقليل الذي اوتينا، نقف لخلق المساحات الآمنة وتشجيع المحاسبة القانونية، نستمع ونتألم ونحاول أن ندعم؛ عسى أن يُضائل ذلك وجعاً، أو يُمهد درباً..".
من جهة قانونية، قيل "بأن عقوبة الجناية تسقط بمرور عشر سنوات، وهناك فرق في العقوبة وأركان الجريمة بين فعل الاغتصاب وفعل هتك العرض ومواقعة أنثى بدون رضاها، كذلك عمر ورضا المجنى عليها له دور في تحديد التهمة المناسبة للفعل"، وهذا صحيح، إلا إن الصحيح أيضاُ إن هذه "الضحية" أصبحت ملهماً بشجاعتها للعديد من الضحايا اللواتي عبر بعضهن من خلال تغريداتهن بالتعاطف والمساندة، في حين يرى العديد من المدافعين عن حقوق المرأة بإن هذه القضية ستحرك قضايا العنف والاغتصاب التي يغلفها الخوف والصمت، وحتما سيكشف المستقبل حقائق ومآسي لما تتعرض إليه ضحايا العنف من انتهاكات، فالمجتمع ليس مثالي وملائكي خال من هذه الجرائم التي تكشفها الوقائع من وقت إلى آخر.  

في كل الأحول، كثيرة هي الأسئلة والتكهنات حول مصير "الضحية" وغيرها، هل سينصفها القانون؟ هل ستتوفر لها ولجميع الضحايا سبل الحماية الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية؟ خصوصا وقانون الحماية من العنف الأسري الصادر عام 2015 لا يجرم العنف وإنما يحيل إلى قانون العقوبات، والحماية من جريمة "الاغتصاب" في القانون الأخير تحكم بالمادة (353) التي لا تتناسب وخصوصية الجريمة وآثارها على الضحايا، لماذا؟

-    لأنها تنص على أنه "لا يحكم، بعقوبة على من ارتكب أية جرائم هتك العرض أو الاغتصاب إذا عقد زواج صحيح بينه وبين المجني عليها، فإذا صدر عليه حكم نهائي يوقف تنفيذه وتنتهي آثاره الجنائية بمجرد إنجاز العقد".

ما يعني إمكانية لجوء الجاني إلى الزواج من الضحية للإفلات من العقوبة وتطليقها فيما بعد، وقد يكرّر جريمته على أخريات. إن جريمة الاغتصاب تستلزم عقوباتٍ رادعةً، وأحكاماً خاصةً لوصفها وتحديد أركانها وأوصافها وحالاتها وطريقة التبليغ عنها وحماية الضحايا وملاحقة المرتكبين جزائياً، إضافة لذلك يعاني قانون الحماية من العنف الأسري نقصاً كونه لم يتطرق صراحة إلى "جرائم زنى المحارم"، وقد سبق وتم رفض مقترحاً من المجلسين لمشروع تعديل المادة (316) مكرراً في قانون العقوبات تتعلق بهذا الشأن، وبنص مفاده:  

-    "أنه يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن 5 سنوات كل ذكر أو أنثى واقع أحد محارمه المحرمين عليه حرمة مؤبدة وكان يعلم أو لديه ما يحمله على الاعتقاد بذلك".

الخلاصة، المعلومات المتوفرة والتقاريرعن هكذا قضايا تبقى شحيحة والتكتم عليها شديد، وهناك حالات من "ضحايا جرائم الإغتصاب" صامتة متكتمة بسبب الضغوطات والأعراف والتقاليد والخوف وتعاني ولم تصل بعد إلى جهات الشكوى والدعم والمساندة، وبالتالي هذا لا ينفي وجودها، كما لا يعني أخذ موقف المتفرج الصامت عليها وعلى ما يتوفر للمغتصبين والمتحرشين "الجناة" من مساحات آمنة لإرتكاب جرائمهم، سواءً بعدم التبليغ عنهم "والتستر" عليهم والتسامح والتساهل معهم بل والتشكيك في شهادات الضحايا، الأمر الذي يستلزم إجراء تعديل تشريعي لحماية الضحايا وإلغاء المادة "353" وإيقاع أقسى أنواع العقوبات الرادعة على الجناة بل والتشهير بهم.

منى عباس فضل

المنامة - 1 يوليو 2020