السبت، 12 ديسمبر 2020

تصفير مجلس الأمة من الكويتيات

منى عباس فضل

في إطار الاستراتيجيات التنموية الوطنية وأهداف التنمية المستدامة الخاصة بتمكين النساء والمساواة بين الجنسين، شهدت الكويت في السنوات الأخيرة حضوراً نسائياً في المشهد السياسي المحلي وتمثيلاً نسبياً في الهيئات التشريعية والإدارية، لم لا والمرأة الكويتية أثبتت وجودها في الفضاء العام بما تعكسه من مستويات متقدمة في مجالات التعليم والاقتصاد والتي بدورها فرضت سن التشريعات والقوانين التي أنصفتها ومنحتها الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بيد أن تجربتها البرلمانية وما رافقها من تجاذبات، إضافة إلى نتائج مشاركتها الأخيرة في الانتخابات كشفت عن فجوة نوعية صادمة في عدم حصولها على أي مقعد في مجلس 2020، ذلك رغم الخبرات السياسية التي اكتسبتها وراكمتها في العمل التشريعي ترى ما الأسباب الكامنة وراء تصفير مجلس الأمة من تمثيل الكويتيات؟ وهل هن حقاً مسؤولات عن تلك النتيجة؟  

 لا يمكن تحليل واقع المشاركة السياسية للكويتيات بمعزل عن واقع الكويت السياسي والاقتصادي بل وطبيعة بنية المجتمع التي لاتزال تخضع في تشابكها وتفاعلها للعلاقات القبلية والعشائرية والطائفية، كذلك على التضاد أو التقارب بين هذه المكونات والنظام السياسي أو بين بعضها البعض، فكل هذا وذاك حتماً له تأثير عميق لما خلصت إليه نتائج الانتخابات الأخيرة.


نظام انتخابي مترهل

صحيح أن الكويت تعد أول دولة خليجية تعتمد النظام البرلماني منذ عام 1962، لكن الصحيح أيضاً أنها تفتقر إلى قانون ينظم الحياة السياسية فيها، فلا أحزاب ولا أي شكل من أشكال التنظيمات السياسية؛ هي فقط الديوانيات والتجمعات الدينية الرجالية التي تشكل محور النشاط السياسي المتحرك وحاضنته في العملية السياسية التي تتشابك امتداداً مع القاعدة الشعبية التي يبرز حراكها من خلالها التضادات والتفاعلات والتواصل المباشر بين المرشحين والناخبين الذين يتفاعلون في بيئة التنافس السياسي المعتمد وأدواته المتعارف عليها المشروعة منها وغير المشروعة؛ في بيئة الديوانيات والتجمعات يعتمد الرجال على تسويق أنفسهم وإقناع الناخبين بتبني قضاياهم وحل مشكلاتهم، وهي كما ذكرنا ذات طابع قبلي وعشائري وطائفي يتداخل فيها حراك جماعات الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، وجميع هذه المكونات في حقيقتها لا تعترف بوجود المرأة في العملية السياسية، وغالباً ما تسعى إلى إقصاءها من منطلقات دينية وثقافية وايديولوجية تتعلق بولاية المرأة العامة والخاصة، وبهيمنة وسطوة الأعراف والتقاليد التي لا تؤمن بخبرات المرأة في المجال السياسي بل عدم كفاءتها وبأن العمل السياسي والبرلماني مصمم للرجال، وبالتالي لا مجال للحديث عن وجودها ونشاطها في فضاء هذه التجمعات الذكورية التي يمكن من خلالها كسب أصوات الناخبين وإقناعهم ببرامجها وأدئها.

 في السياق يعاني النظام الانتخابي وأدواته من ترهل ونواقص، يأتي على قمتها تقسيم الدوائر الانتخابية بشكل يعزز الانحيازات الفئوية والقبيلة والطائفية، أما آلية نظام الصوت الواحد المعتمدة منذ 2013 فهي تسمح للناخب باختيار مرشح واحد فقط من بين قائمة المرشحين في دائرته؛ ولطالما سعى الإصلاحيون إلى تعديل هذا النظام الذي عملت الحكومة على تغييره لصالحها باستمرار؛ حيث تغير في 1981 من عشر دوائر إلى 25 دائرة انتخابية ومنه إلى خمس دوائر. في هذا الصدد تتفق العديد من الآراء بأن هذه الآلية لا تعمل لصالح النساء للظفر بمقاعد في البرلمان، يضاف إلى تلك الاختلالات غياب هيئة مستقلة تشرف على الانتخابات وتضبط قيودها وعملية الاقتراع وأمنها وسلامتها وتمويل الحملات والمال السياسي وإعلان النتائج وتلقي الطعون والبت فيها، كما إنه وبسبب غياب الحياة الحزبية لا يمكن الحديث عن فرض إدراج المرأة بالقانون على قوائم المترشحين للانتخابات كما يحدث في الدول التي تتمتع بالنظام الحزبي، فضلاً عن عدم اعتماد النظام الانتخابي الحالي "لكوتا" تخصص مقاعد للمرأة والتي غالباً ما ينظر إليها بازدراء وتواجه بالرفض والنفور باعتبار أن هذه الآلية وحسب المعارضين لها تعد تمييزاً يتناقض ومفهوم المساواة بين الجنسين، وكل هذا وذاك يتطلب إصلاحاً سياسياً وهيكلياً وإجرائياً وقانونياً للنظام الانتخابي وبما يهيء بيئة ملائمة وصديقة للنساء تتيح لهن فرصاً واسعة للمشاركة في المنظومة السياسية القائمة والتمثيل فيها على نطاق واسع وفعال في مواقع صنع القرار. 



تشاوريات أم انتخابات فرعية؟

لاشك أن الانتخابات الفرعية "التشاورية" ونتائجها شكلت عنصراً سلبياً تجاه وصول المرأة إلى مجلس الأمة. ففي هذه التشاوريات غالباً ما يلتزم الناخبون بالمرشح الذي تمت تزكيته في الاجتماع الذي عقد من قبل قبائل وعوائل أو حتى تيارات دينية بشقيها أو فئوية، وبالتالي فهي تعد وسيلة لضمان عدد كاف من الأصوات للمترشح يوم الانتخاب، وقد تجرى في أكثر من دائرة انتخابية، وهنا بالطبع الفرص متاحة للرجال وتفتقرها النساء، على الرغم من تجريم هذه التجمعات قانوناً. عند مقاربة نتائج العملية الانتخابية الأخيرة للفائزين مع نتائج "التشاوريات" التي عقدت لذات المرشحين الفائزين، سنجد أن أغلب من فاز فيها قد حقق فوزاً مسبقاً بأصوات قريبة أو أكثر من التي حققها في "التشاوريات" وكما لممثلي قبائل العجمان في الدائرة الرابعة والخامسة والعوازم في الدائرة الأولى والثانية والخامسة والمطير في الدائرة الرابعة والخامسة، وعتيبة وقحطان وبنى هاجر في الدائرة الخامسة وشمر وبني غانم والظفير في الدائرة الرابعة، وهذا السلوك الانتخابي يكفي لإخراج النساء من دائرة التنافسية للوصول إلى مجلس الأمة.


الأصوات الخاسرة ودلالتها 

بينت أرقام الاقتراع العام الذي جرى في 5 ديسمبر مشاركة (567,594) ناخباً من بينهم (293,754) من الإناث، و(273,940) من الذكور، ترشح منهم (326) بواقع (296) رجلاً  و(25) امرأة توزعت على أربع دوائر انتخابية (8) منهن في الدائرة الأولى و(4) في الثانية و(9) في الثالثة و(4) في الخامسة فيما خلت الدائرة الرابعة من أي مرشحة. أسفرت النتائج عن فوز (50) مرشحاً ولا صوت للنساء على الرغم من تفوقهن العددي (52 في المئة) من إجمالي الكتلة الانتخابية، وكما تردد كن طريقاً سالكاً لعبور الرجال إلى المقاعد النيابية، ثمة من يعتقد أن ما حققته بعض المرشحات من أصوات كان جيداً؛ لكننا نرى خلاف ذلك فهي أعداد متواضعة مقارنة بما حققه الرجال.

 

الجدير بالملاحظة أن جميع أصوات المرشحات التي حصلن عليها في كل دائرة لم ترق إلى دخولهن مضمار المنافسة وتحقيق الفوز، فمثلاً حصدت عالية الخالد أعلى الأصوات من بين الأربع مرشحات في الدائرة الثانية وهي (1307) أصوات، لكنها كانت بعيدة عن المنافسة والفوز مقارنة حتى بأقل أصوات الفائزئن في الدائرة، ويكفي النظر عند جمع أصواتها مع الأصوات النسائية المتحققة في دائرتها وعددها (1891) سنجد أن الفارق يساوي (304) أصوات مع أقل الأصوات الفائزة وهي (2195) صوتاً، الأمر نفسه يتكرر في الدائرة الأولى التي حققت فيها غدير أسيري (1119) صوتاً بفارق (1048) صوتاً مع أقل الأصوات الفائزة في الدائرة وبفارق (456) لأصوات جميع المرشحات الثماني المتحققة في نفس الدائرة مقارنة بأقل أصوات الفائزئن وعددهم (2167) صوتاً، فيما كان وضع الدائرة الثالثة ذات التسع مرشحات الأسوأ إذ جاء عدد أصواتهن مجتمعة (1226) صوتاً وبفارق (1678) صوتاً مقابل أقل أصوات الفائزين وهي (2904) أصوات، أما الدائرة الخامسة فهي الأصعب بسبب مكونات بنيتها الاجتماعية القبلية والعشائرية والتي جرت فيها "التشاوريات"، حيث جاء إجمالي أصوات المرشحات الأربع (580) صوتاً فقط وبفارق (4216) مقارنة بأقل أصوات الفائزين في الدائرة وهي (4651) صوتاً. ماذا يعني ذلك؟

 



يعني باختصار أنه لو جمعت كل أصوات المرشحات المتحققة وهي تمثل (5408) أصوات فقط لم تكن لتوفر تنافساً حقيقياً قوياً يتناسب وطبيعة حراك الساحة السياسية كي يحقق فوزاً بمقاعد المجلس، وإن حالفهن الحظ، فلن يحصلن على أكثر من مقعد واحد أو مقعدين في أحسن الأحوال، وهذا يبطل الفرضية القائلة إن عدم الفوز كان بسبب كثرة عددهن وتشتت الأصوات التي كانت ترغب بإيصال العنصر النسائي للبرلمان، وقد نكون الأقرب قناعة بأن دور المرأة السياسي، وهذا ليس في الكويت وحدها بالطبع وإنما في كافة بلدان الخليج، قد اتسم بالوهن والمحدودية والترويج لبرامج التمكين السياسي ورغم تبني مبادئ الديمقراطية والمساواة، إلا إن ذلك جاء نظرياً لا يتجاوز الشعارات، كيف؟

 


قضايا عميقة وتمثيل ضعيف

رغم حداثة منح المرأة الكويتية حق التصويت والترشح للانتخابات في عام 2005، إلا إن الإصرار من قبل الدولة وفئات متعددة من المجتمع كان قوياً لجهة فرض الحقوق السياسية للمرأة، رغم المعارضة الشديدة التي تصدت لنزول النساء الميدان السياسي من قبل تيارات الإسلام المحافظ، ومع ذلك يسجل للكويتيات كسر الحواجز وتحقيق تمثيل نسبي في بداية تجربتهن الانتخابية والفوز بأربعة مقاعد دفعة واحدة في برلمان 2009 وإن كان يعزى الأمر إلى حداثة التجربة والتدخل الإيجابي الرسمي المباشر وغير المباشر بسياساته الداعمة التي اعتمدها لإيصال المرأة إلى مواقع صنع القرار.

 من جانب متصل، معلوم أن انتخابات 2020 عقدت في ظل وضع سياسي هش وأداء محبط للحكومة وتقاعس من مجلس الأمة لمعالجة ما تعاني منه البلاد من أزمات سياسية متراكمة وقضايا عميقة تصدرت شعارات الحملات الانتخابية؛ وأبرزها يمس الاقتصاد الذي يعاني بسبب جائحة كورونا والأزمة المالية والدين العام وعلاقته بحماية الرواتب وشطب القروض والأهم الفساد وحرية التعبير وتوفير وظائف للشباب وقضية "البدون" وسحب الجناسي ووجود لاجئين سياسيين والتعليم والصحة والإسكان وآلية العمل الانتخابي برمته..إلخ، وعليه يحق للمتابع التساؤل عما إذا شكلت القضايا الآنفة والملفات الشائكة محور الأولويات في برامج المرشحات وخطاباتهن؟ وماذا إذا كن يتمتعن بقدرة على إقناع الناخب الكويتي في معالجتها عبر البرامج التي روجن لها، آخذين بعين الاعتبار والموضوعية أحقية إثارة ذات السؤال لأي مرشح رجالي، وكون النظرة الذكورية السائدة غالباً ما تحاسب المرأة بشكل مضاعف عند تقييم الأداء والمهارات.

 في هذا الصدد؛ قيل الكثير منها؛ أن شعبية النائب تعتمد على القضايا الرقابية المتمثلة في الاستجواب والمساءلة الحكومية وطرح الثقة في المسؤولين، فيما لم تتخذ البرلمانيات السابقات هذا الاتجاه، كما تجدر الإشارة إلى ما طرحته الآكاديمية ابتهال الخطيب في مقابلة لها في برنامج ساعة خليجية؛ "من أن الأداء النسائي في المجلس السابق لم يكن حسناً، وقدم نموذجاً غير محبب للشارع وقد انعكس ذلك على ضعف التصويت للنساء، وإن العناصر المترشحة لم تكن بذلك العمق والقوة التي تخاطب قضايا حساسة ومصيرية تمس الأوضاع المحلية السياسية والاقتصادية، كما كان هناك عزوف من قبلهن عن الطرح العميق للقضايا الإنسانية...".

 

الخلاصة، يبقى أن الكويت لاتزال تتقدم عن جيرانها في الحراك السياسي ومرونة اللعبة السياسة، وقد سجلت تمايزاً في إنجازها للعملية الانتخابية والتشريعية بكل ما لها وعليها، ورغم القيود وانكماش حرية التعبير، تظل ساحة الكويت هي الأقدر بخبراتها وطبيعة بنيتها الاجتماعية وتنوعها على تقديم نموذج يفسح فرصاً واسعة للتعددية ولعملية التغيير والتطوير التي يتطلع إليها المواطن الكويتي عامة والمرأة خاصة، بل ونراقبها نحن الخليجيون دائماً بشغف وتقدير. 

منى عباس فضل 

المنامة - 12 ديسمبر 2020 

 







السبت، 10 أكتوبر 2020

العقاب

 

منى عباس فضل

 "العقاب" رواية من روايات أدب السجون الزاخر بتجارب إنسانية مليئة بالعبر وبما تتقاطع به وتتشارك من معاناة وظلم وانتهاك للحقوق والكرامة حتى وإن اختلفت تفاصيلها في الزمان والمكان أو من مجتمع إلى آخر. أدب السجون يعرّى الوجه القبيح للأنظمة القمعية ووحشيتها، كما يساعد على ترميم النفس البشرية، لم لا والسرد فيه يعد فناً من فنون البوح والكشف والفضح وتعرية الواقع والمسكوت عنه. 

 

"العقاب" رواية للكاتب المغربي "الطاهر بنجلون" الذي يسرد فيها حكاية أربعة وتسعين طالباً كان هو من بينهم، سجنوا مدة تسعة عشر شهراً، أبان حكم الملك الحسن الثاني، عقاباً لهم على تنظيم مظاهرات سلمية في شوارع الدار البيضاء في مارس عام 1965، وذلك احتجاجاً على أوضاع التعليم في المغرب.

 

يقول بنجلون: "بعد التظاهرة تعرضت إلى عنف دموي، واعتقالي إلى جانب مجموعة من الطلبة، بحكم انتمائنا إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وقد جرى الاعتقال بدعوى إنني العقل المدبر لتلك المظاهرات السلمية".

 

التجربة القاسية التي مر بها بنجلون والطلبة ارتبطت بظرف تاريخي، رافقها التعذيب والإذلال والمعاناة؛ فقد وجد الطلبة أنفسهم مسجونين في ثكنات عسكرية بحجة تأدية الخدمة العسكرية، ومما زاد من مأساتهم أنهم كانوا تحت إمرة ضباط تابعين "للجنرال محمد أوفقير" الذي كان وقتها اليد اليمنى للملك في قمع أي حراك معارض فقد كان نموذجاً للتفنن في القمع والتعذيب وبث الرعب، وهو مع الضباط أنفسهم الذين قاموا بالمحاولة الانقلابية الفاشلة على النظام المغربي المعروفة "بانقلاب الصخيرات العسكري" وتصفية الملك.

 

الاعتقال التأديبي

في الاعتقال التأديبي، قيل لهم بأنهم -أي الضباط- مكلَّفين بـ"إعادة تربيتهم" وذلك بإخضاعهم للخدمة العسكرية الإلزامية عمداً. والتأديب بهذا المنطق الغرائبي له دلالة معنوية يتسع مداها ومفعولها لتأديب الشعوب، فهو يعني فرض العقاب وروح الانضباط وقتل الجرأة والأفكار الثورية والتحررية.

 

في حقيقة الأمر كان اعتقالا سياسياً بغطاء الخدمة العسكرية، إنه نوع من أنواع التفنن في ابتكار وسائل القمع وانتهاك حقوق الإنسان. لقد اتبعت السلطة أسلوباً متعمداً يخلق حالة من الالتباس بشأن "احتجاز/اعتقال" الشباب المتظاهرين. ففي "ثكنة الحاجب" كانوا يسومونهم مختلف أشكال التعذيب والإهانة والمس بالكرامة وسوء المعاملة، بدءاً من شفرة حلاقة الرأس المثلومة التي تسيل دم كل رأس تطاله، إلى عبث أحد قادة المعسكر الذي طلب منهم ذات مرة بناء جدار ثم هدمه، إلى دفعهم لقيادة مناورات بالرصاص الحي الذي تسقط فيه ضحايا ويخلف جرحى، الأمر الذي شكل خطراً على حياتهم، ومع تلك الممارسات كانوا على عتبات الموت، كل ذلك حدث بذرائع عبثية، كان يمكن أن يتم تصفيتهم في أي حرب مع "الجزائر" أو زجهم من حيث لا يعلمون في المحاولة الإنقلابية الفاشلة التي تمت.

 لم تنتهي عذاباتهم إلا مع بداية التحضير لانقلاب الصخيرات حيث أُطلق سراحهم بإجبارهم على التوقيع على وثيقة يقرون فيها تلقى خدمة حسنة ويشكرون فيها القوات المسلحة. وبالطبع وكما تمارس الأنظمة القمعية، أطلق سراحهم من دون تقديم أيّ تفسير لما حدث. يذكر بنجلون في مقابلة له، كل ذلك حدث:

 -  "فقط لأننا كنا طلبة نطالب بتعميم التعليم على المغاربة، وننادي بالعيش الكريم. تصوروا معي لو نجح الانقلاب وحكم هؤلاء المغرب، يقينا كانوا سيقضون على البلاد بشكل نهائي، لأنهم كانوا عسكريين فاشستيين ومرتزقة".

  

البوح بعد 50 سنة

احتفظ الطاهر بنجلون بآلام تجربة الاعتقال وتفاصيلها ولم يفتح صندوقها للبوح والتدوين إلا بعد مرور نصف قرن، نفث من خلال السرد حزنه وألمه النفسي على الرغم من كتابته السابقة لرواية "تلك العتمة الباهرة" عن سجن تازمامارت والتي تتكامل مع "العقاب" وتعد هي الأخرى رائعة من روائع أدب السجون.

 

في رواية "العقاب" يروي الكاتب تفاصيل الاحتجاز عندما كان فى عمر العشرين، مما لاشك فيه أن هذه التجربة أغنت حالة الوعي عنده مع اختمار مواهبه وصقل قدراته حتى شكلت منه كاتباً مبدعاً. جاء السرد فيها بصيغة الحاضر وبأسلوب واقعي يجسد تفاصيل الأشياء والمواقف التي حدثت في وقتها، حين سئل ذات مرة عن سبب التأخير في كتابة هذه التجربة رد قائلا:

 -    "لم تكن هنالك خطة لكي أحكي هذه الفترة العصية والتجربة الحدية من حياتي؛ مرحلة تعرضت فيها لعنف وتعسف وتعذيب، لأن الدولة كانت خائفة يومها من كل المطالب وكل الحركات الاحتجاجية. نتحدث هنا  "يقول" عما يعرف بسنوات الرصاص في المغرب".

 

من هنا ثمة ما يحيلنا إلى طرح أسئلة متعددة تدور في مخيلتنا حول ما يستوجب أن يسرده المناضلون من تجاربهم أثناء الاعتقال، وكيف يسرد، هل هناك منهجية معيارية محددة يفترض اتباعها؟ هل هناك ضرورة للتركيز على البعد السياسي منها أم السياسي والإنساني معاً؟ لحظات القوة والصمود، الضعف والانهيار، الصور المتعددة للانتهاكات والألم، هل نكتب واقع التجربة كما حدثت تماما؟..إلخ.

 

واقع وذاكرة وخيال

في هذا الصدد نستحضر قول الشاعر والروائي الفرنسي جان جينيه "وراء كل كتابة جيدة ثمة مأساة كبرى"، فالمعاناة كما يرى بنجلون ضرورية ليكون ثمة شاعر أو كاتب مبدع ومهم؛ مضيفاً: "إن أي كاتب يحتاج إلى واقع وذاكرة وخيال، وإذا نحن حكينا الواقع من دون خيال فسيبدو كلاما بسيطاً ومباشراً، وعبارة عن تقرير بوليسي ليس إلا. لكن، عندما تأخذ واقعاً يومياً وتدمجه في لعبة الخيال يمكن أن تمس القارئ مباشرة وأن تثيره أكثر مما يثيره الواقع". إن عملية السرد من وجهة نظره: "لها قدرة على معرفة روح الشعوب، وإذا أنت أردت أن تتعرف إلى روح المجتمع المصري ما عليك إلا أن تقرأ نجيب محفوظ، وإن أردت أن تقوم بزيارة إلى كولومبيا، أمكن لك أن تجعل من روايات غابرييل غارسيا ماركيز أفضل دليل سياحي. صحيح أن الكاتب شاهد على الواقع، غير أن خياله هو الذي يمنح هذه الشهادة صدقها الإنساني وعمقها الفني. إن حياتنا محكومة بالنقص دائماً، والخيال هو من يملأ تلك الفراغات".

 

كما لم يفت بنجلون التأكيد على أن "ذاكرتنا لا تسعفنا في استعادة كل شيء، فلا بد من خيال لاسترجاع ما يضيع وينفلت منا بفعل الزمن. إن للخيال قدرة على تجاوز هذا الواقع الناقص، لنصير أحيانا أمام عالم فوق واقعي، أو سوريالي، وعليه؛ لا بد من خيال لاسترجاع ما يضيع وينفلت منا بفعل الزمن. إن للخيال قدرة على تجاوز هذا الواقع الناقص، لنصير أحياناً أمام عالم فوق واقعي"، ويوضح "إننا نحن المغاربة، مثلا، لنا خيال ثري ونمتلك قدرة خارقة وفائقة على تأويل الأشياء. فإذا ما وقع حدث معين تجد كل واحد منا يقدم روايته الخاصة، ويضفي عليها مسحة من الغرائبية، ويضيف إلى الحدث تفاصيل كثيرة لا منتهى لها".  

 

الخلاصة، تبقى تجارب الاعتقال بغيضة لأنها تجسد ذكرى المظالم والكراهية والقمع الفاحش، هي شاهد على انتهاك حقوق الإنسان وكرامته. ورواية "العقاب" التي لا تشعر معها بأي مبالغة في سرديات تفاصيلها، تمثل مادة توثيقية تضاف إلى وثائق تضمنت تجارب الاعتقال اللإنساني العبثي الذي تقوم به كل الأنظمة السلطوية والدكتاتورية، كما إنها تدين جميع الممارسات القمعية التي تقوم بها المؤسسات الأمنية ورموزها التابعة لهذه الأنظمة.  

منى عباس فضل

المنامة - 10 أغسطس 2020



الخميس، 8 أكتوبر 2020

بَجعات بريّة في زمن الكورونا

 

منى عباس فضل

 منحتني جائحة الكورونا فرصة ثمينة شجعتني لإلتقاط رواية من رف مكتبتي سبق واشتريتها قبل أعوام وركنتها جانباً بسبب ضخامتها التي تمتد إلى ستمئة صفحة، فضلاً عن مشاغلي الدراسية والمهنية آنذاك.

 

اكتشفت من خلال الرواية التي تعتقت واختمرت في مكتبتي كم إني ضعيفة معرفياً بتاريخ الصين العظيم وبالثورة الصينية التي طالما قرأنا عن حزبها الشيوعي وفلسفة تربيته الحزبية، ومع التأمل جعلتني أعيد لملمة ذكريات مبعثرة وحكايات صغيرة حُفرت في أعماق الذات تتعلق بتجربة العمل السياسي والنقابي ومقاربتها بما تضمنته الرواية من أحداث؛ ليس لأمر سوى إن بدايات التجربة التي مررت بها وغيري قد تأثرت في جوانب منها بسرديات مثالية حالمة حول الثورة الصينية وقائدها "ماو تسي تونغ" ومن كون فلسفته وأفكاره وسلوكياته تمثل نموذجاً للتربية الحزبية، كانت الأمثلة والدلالات تصدح بين أرجاءنا وبشئ من الشغف والدهشة والإثارة لاكتشاف مكامن الذات في تحمل تبعات العمل النضالي والخضوع إلى أساليب التربية القائمة على التضحية والتفاني ونكران الذات لأجل القضية والجماعة بل وإعادة تربية النفس وصقلها في إطار ممارسة "النقد والنقد الذاتي" كأداة و"نفذ ثم ناقش" وغيرها من قيم ومفاهم لطالما فتحت جروحاً غائرة في النفوس حد الألم على الرغم من نقاء الفكر النضالي ومثاليته.

الصين القديم والمعاصر

على أي حال، الرواية التي نتحدث عنها هي "بجَعات برّيّة" لمؤلفتها الصينية "يونغ تشانغ". الرواية من عنوانها تؤثق منعطفات دقيقة من تاريخ الصين القديم والمعاصر وذلك في سياق من المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما تبحث في تشكل الظواهر الاجتماعية وتطور قوانين المجتمع التي تُحكى في اسقاطات فنية وعبر أزمنة مختلفة من حياة ثلاثة أجيال من نساء الصين "1909-1978"، ومن خلال السيرة الذاتية للمؤلفة وعائلتها يتم تسجيل واقع المرأة الصينية وما جرى عليها من محن في إطار الانتماء للعلاقات الأبوية والاستلاب والقهر والاستغلال والتراتيبية الاجتماعية والمكانة المتداخلة مع الأعراف والتقاليد التي تمجد السلالة في ظل سيادة نظام الجواري وسيطرة أسياد الحرب قبل اندلاع الثورة، وهي فترة تعج بالصراعات والمحسوبيات والولاءات والزعامات في ظل غياب الدولة المركزية أبان مرحلة انهيار النظام القديم بمؤسساته وتقاليده، فضلاً عن مرحلة ما بعد الثورة.

 

تميز سرد "يونغ تشانغ" لمراحل ما بعد الثورة بالتعبير عن واقع كل حقبة سياسية في شكلها التراتيبي الاجتماعي والسياسي وكيف تغيرت العادات والتقاليد وعلاقات الناس في المجتمع؛ فيما بقيت ترسبات منظومة القيم بتأثيراتها حتى في المجتمع الشيوعي -أي بعد قيام الجمهورية- التي تخلخلت فيها البنى الاجتماعية التقليدية، بيد إن نظام الاستبداد الشمولي أعاد انتاج نفسه بالتسيد على الرغم مما حصلت عليه المرأة من تحرر من القيود القديمة وما منحت به من امتيازات لم تتجاوز تلك العلاقات الأبوية البطريركية، بل إن النظام كما تتضمن تفاصيل الرواية فرض أبوية الدولة والمجتمع بشكل لامنطقي وجنوني على بنية الأسرة وأفرادها وتفريغها من مضامينها كحضن جامع ونواة للمجتمع، وعليه فالرواية تثري القارئ معرفياً وتضعه في مواجهة أسئلة إشكالية لا حصر لها وبل وأمام معضلة مشاعر متناقضة.

 


التعاليم الماوية

تنتمي المؤلفة "يونغ تشانغ" إلى أبوين من قادة الحزب الشيوعي في أقليم سيشوان ممن نذرا حياتهما للحزب، فقد ترعرعت في كنفهما وتفتح عقلها على تعاليم الحزب وأفكاره منذ بدايات شبابها لاسيما حين انضمت إلى "الحرس الأحمر" من الشباب الذين تشير أحداث الراوية إلى إنهم كانوا يجوبون الشوارع والمدارس والجامعات لتطبيق تعاليم "ماو" في التصدى إلى الأعداء من الطبقة البرجوازية، فكانوا يعاقبون بعض المعلمين بالضرب والتعذيب كما تسرد، وقد حرقوا كتب الأدب الكلاسيكي الصيني وحرموا الدراما والمسرح وفتح المقاهي، وفي مفارقة تشير إلى مشاركتها في هذه المواقف التي تصطدم مع طبيعتها المسالمة فتكتب: "فيما كان الطلبة يشعرون بالإثارة لأنهم يستعرضون سلطتهم على الكبار، وقفت في المقهى فوق رأس جل عجوز اعتبرناه عدواً طبقياً وبرجوازياً لأنه يجلس في مقهى والجلوس في المقهى يعد نمطاً من الحياة البرجوزاية السابقة التي يجب أن تمحى وكل ما سبق "ماو" يجب أن يزال، تمالكت شجاعتي وقلت له: قم غادر من هنا. سألني: إلى أين؟ قلت أذهب لبيتك. فقال: أي بيت؟..انني أشترك مع حفيدي في غرفة صغيرة، لدى زاوية محاطة بستارة من الخيزران للسرير فقط وعندما يكون الأولاد في البيت آتي هنا لبعض الوقت للراحة والهدوء لماذا تحرمينني من هذا. "كان هذا الرجل في نظر الطلبة برجوازياً عدواً للطبقة". 


 من  مظاهر الإذلال  

في السياق تحكي عن عملها في فلاحة الأرض وكطبيبة مشاة حافية القدمين وعاملة في مصنع للفولاذ والصلب حتى انتظمت كطالبة لغة انجليزية فمساعدة أستاذ في جامعة سيشوان، ثم أكملت تعليمها العالي في جامعة "يورك" بالمملكة المتحدة وحصلت منها على درجة الدكتوراه في اللسانيات، ومع ذلك نتعرف إلى إن حياتها لم تكن يسيرة على الرغم إنها قضت طفولتها في كنف أصحاب الامتيازات والسلطة، فقد عانت وأسرتها من ظلم النظام ووحشيته التي دفعتها للتساؤل والشك خصوصاً حين تعرض والديها للقهر والنفي إلى معسكرات العمل البعيدة التي تسببت في جنون والدها ومرضه حتى مات، وتم نفي أمها إلى معسكر آخر وهي التي انضمت إلى المقاومة السرية وغامرت بحياتها لتهريب الأسرار إلى الشيوعيين عندما اندلعت الحرب الأهلية بينهم وبين الكومنتانغ، فيما نفيت هي -أي المؤلفة- إلى أطراف جبال الهملايا وتشتت بقية أفراد أسرتها بين المنافي وتعرضوا للضغوط.

 

تأليه الزعيم

ثمة أحداث صادمة تتناولها الرواية في مراحل من حياة الصين سواء على صعيد الواقع العام أم على صعيد الوضع الاجتماعي وحال النساء فيه والأطفال، ومن خلال رصد الأحداث وتتبعها التاريخي نكتشف سوداوية الواقع وحالة التفسخ والخراب والفوضى في ظل اضطراب سياسي وغياب للأمن والأمان بسبب تسلط الفساد واقترانه بالدكتاتورية وترسيخ عبادة الفرد القائد وتأليه "ماو" والتقديس لكل أوامره وتطبيقها في مجتمع مخابراتي عسكري يسوده التخبط والجهل وسوء الإدارة بل وتطبيق العدالة بشكل اعتباطي انتقامي قاس، هكذا تسرد لنا "يونغ تشانغ"، وهي تصف بالتفصيل آمال الشعب الصيني وأحلامه وإحباطاته من خلال ترويج الوهم والخوف بتنميط اتجاهات السلوك الاجتماعي حسب المعايير الثورية المزعومة، وما رافق ذلك من كوارث المجاعة والأسوأ روايتها لأحداث "الثورة الثقافية" التي دعا إليها "ماو تسى يونع" عام 1966 والتي استمرت عشر سنوات نفذ خلالها برنامج للتخلص من عناصر الثورة المضادة والقضاء على الإرث الثقافي القديم وبأيدي الشباب المتحمس "الحرس الأحمر" والتي جاءت على مراحل؛ منها مرحلة "المتمردين" كما في فترة صراع "الأجنحة" بينهم وتحت قيادة ما أطلق عليهم "العصابة الأربعة" التي تضم زوجة ماو وحاشيتها.

 

من مظاهر الاذلال لمن اعتبروهم من الملاك

من مظاهر الاذلال أثناء الثورة الثقافية

الثورة الثقافية

الثقافة هنا لا تشبه الثقافة التي نعرفها، فقد تميزت فترة "الثورة الثقافية" بصراع عنيف ودمار في المجتمع تعرض فيه الملايين إلى الاضطهاد والوفاة بما فيهم قيادين من الحزب، الأمر الذي يحيلنا إلى التساؤل حول ماهية هذه الثورة الثقافية التي تفتقد للحريات وتصادر حق الإنسان في التعبير عن رأيه وخياراته في الحياة، حقاً نحن أمام حالة من التشوهات المثيرة للجدل والتي لم نكن نعاينها ونحن نقرأ بشغف وعن بعد في ذاك الزمن عن "الثورة الصينية الحمراء" وننهل من أدبياتها كونها نموذجاً ثورياً يحتدى بتقاليده في التربية والانضباط، لم يكن المولعين بها كتجربة نضالية في وارد رصد هذه المشاهد والتقاطها والنقاش بشأنها.     

 

محاكمة عصابة الأربعة بعد وفاة ماو

إلى هنا تعد رواية "بجعات برية" نقداً فاقعاً للحقبة الماوية وللممارسات المتطرفة التي ساد فيها الطغيان والتعتيم الإعلامي لإرساء النظام بأيديولوجته الستالينية وشعاراته الاشتراكية الرنانة التي شكلت مأزقاً حقيقياً لاسيما لجهة تكريس عبادة الحاكم القائد التي تجلت أبرز صورها في الحج الجماعي إلى بكين لرؤية الزعيم والمعلقة صوره في كل مكان، صحيح إن مؤيدو "ماو" ينسبون إليه الفضل في بناء الأمة الصينية التي أصبحت اليوم قوة عالمية عظمى بتطورها التكنولوجي وتفردها الصناعي، كما تعززت في نظامه مكانة المرأة وتطوير التعليم والرعاية الصحية، وهو الذي لعب دوراً مهماً في إنقاذ الاقتصاد الصيني وتحويله من الزراعة إلى الصناعة ووضع أول دستور للبلاد وقام باطلاق مشروع القنبلة النووية وغزو الفضاء؛ إلا إن منتقديه ومنهم بالطبع مؤلفة الرواية، يرون بأن سطوته التي تعززت من خلال الحملات ضد ملاك الأراضي وقمع معارضي الثورة وحملات مكافحة الفساد التي اضطهد فيها الآلاف من المثقفين المعارضين، قد تسبب بالكوارث والكراهية والتمييز كما كارثة المجاعة التي أودت بحياة الملايين من الصينين بين الأعوام 1958-1962، إذن هو بالنسبة لمعارضيه قائد لنظام شمولي استبدادي ساد فيه القمع الجماعي وتدمير الآثار والمواقع الدينية والثقافية.


ولعل هذه القراءة النقدية قد جاءت متأخرة للرواية، بيد إنها تثبت ومما لا يراوده الشك، أهمية عدم تفريط الشعوب بحريتها لأي كائن يكون، فالحرية أثمن قيمة تحافظ على كرامة الإنسان وآدميته، ولا عجب إن كتب عنها الفلاسفة والحكماء وتغنى بها الشعراء وضحت من أجلها الشعوب بالأرواح والدماء.

  

منى عباس فضل

المنامة - 8 أكتوبر 2020


الأربعاء، 1 يوليو 2020

نصدق الناجيات وإلى إلغاء المادة "353"

منى عباس فضل
ضجت وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً بالتدوال والسجال حول تفاصيل جريمة من الجرائم المسكوت عنها في المجتمع المحلي، أقصد بالطبع؛ جريمة "الاغتصاب".

أماطت اللثام عن تفاصيلها الصادمة مواطنة شابة قررت في لحظة وعي ومسؤولية كسر صمتها بعد سبع سنوات لما تعرضت إليه من انتهاك؛ ذكرت عبر سلسلة تغريدات بأن "ثلاثة أشخاص داوموا على اغتصابها ودمروا حياتها تدميراً كاملاً وعاشوا حياتهم بمثالية عظيمة"، كشفت بأنهم "ثلاثة إخوة لها"، وطالبت بالتعاطف معها؛ قائلة:

-      "دمروا حياتي، محبوبون من الجميع وأنا منبوذة، مقدسون من الجميع وأنا مضطهدة، قريبون من الجميع وأنا بعيدة. تأثرت نفسياً وسلوكياً واجتماعياً، كنت انطوائية وخجولة ومتعلثمة وفاقدة الثقة بنفسي ولا عندي الشعور بالأمان من الدنيا كلها. كنت أروح للمدرسة سهرانة بعد فعلتهم وأحسّ كل النظرات فيها شكوك وكنت أحسّ أن الكل يدري عني، طفلة وعقلي مشتت وما عندي قدرة على التركيز، وحتى ما أقدر أكوّن صداقات، وكنت دائماً اختار الزوايا في كل مكان أدخله. كنت أعتقد بأني مذنبة واعتبرت نفسي المُجرمة وحمدت ربّي لأنهم ما تكلموا لأحد وستروا عليّ. ولكن بعد موجة الوعي تعرّفت على معنى الاغتصاب ومعنى القاصر ومعنى الضحية. وعرفت إنّي ضحية اغتصاب".
المفارقة إزاء الحدث عكستها ردود الأفعال والمواقف التي كانت متفاوتة حد التناقض، هناك من تعاطف معها بشدة وقناعة تنطلق بأن الصمت على قضايا التحرش والاغتصاب مرده ثقافة المجتمع الذي يحمل المرأة نتائج الاغتصاب مستنداً إلى مفاهيم العيب والشرف والذهنية الذكورية التي تعزز هيمنة الرجال على النساء والتمادي في فرض تسلطهم والوصاية عليهن، إلى جانب القناعة بعدم توفر مساحات آمنة للضحايا كي يسردوا تجاربهم ومعاناتهم، أما الأسوأ كما يجدون فهو عدم اعتراف المجتمع بوجود هذه الجرائم ومطالبته بعدم تداول تفاصيلها حفاظاً على صورته.

بالمقابل هناك من شكك بمصداقية روايتها في البداية، والتشكيك هنا يعني في حقيقته محاولة "طمس قضية الاغتصاب" بل ومساعدة الجناة على التفلت من العقاب. من جهة أخرى هناك من تعاطف بمراوغة عبر توجيه "الضحية" لكيفية التعاطي مع الانتهاك الذي وقع عليها في إطار محدد دون التطرق إلى التفاصيل، قيل؛ هناك فرقاً كبيراً بين "التستر والستر" على هذه الجريمة الوحشية، و"الستر" هنا برأيهم سيوفر ضماناً في حدود كافية من الحماية للضحايا وفي تدوير ملفاتهم عند ذوي الاختصاص لا عند كل من هب ودب، لذا يجب عدم التوجه للإعلام التقليدي أو منصات التواصل الاجتماعي لفضح الاعتداءات الجنسية أيا كان حجمها، إلا وفق ضوابط وأولويات، ذلك لأن الهدف الأسمي يتمثل في مساعدة الضحايا لا جرهم إلى المزيد من المعاناة عبر الاندفاع لكشفها أمام الملأ بل الدعم من خلال من يقدم لهم العون والمساعدة، وما يصح في بلد لا يصح في غيره، هكذا قالوا.

بيد إن "الستر" في جوهره يعني سعياً مبطناً لإسكات "الضحية" باعتبار إن للمجتمع الصغير خصوصيته ولابد من مراعاة البنية الأسرية وعلاقة أفرادها، وفي هذا نجد تعبيراً عن اختلالاً ما في المنظومة القيمية والأخلاقية، بل إن الموقف هنا يكتسى نفاقاً مجتمعياً وثقافة متسامحة مع العنف المسلط على الضحايا والنساء وما يتعرضن إليه من انتهاكات، أما الأسوأ فكان مع من كذبوا واتهموا "الضحية" بالانحراف وحاكموها بإنها تستحق ما أصابها، وجاء ردها فاقعاً قوياً وصادماً بمستوى المعاناة:
-      "بأن لديها الاستعداد للتحقيق في القضية".
أما أحدهن فكتبت متضامنة مع "الضحية" في تغريدة لها:
-   "نصدق الناجيات سراً وعلانية، نتضامن معهن بالقليل الذي اوتينا، نقف لخلق المساحات الآمنة وتشجيع المحاسبة القانونية، نستمع ونتألم ونحاول أن ندعم؛ عسى أن يُضائل ذلك وجعاً، أو يُمهد درباً..".
من جهة قانونية، قيل "بأن عقوبة الجناية تسقط بمرور عشر سنوات، وهناك فرق في العقوبة وأركان الجريمة بين فعل الاغتصاب وفعل هتك العرض ومواقعة أنثى بدون رضاها، كذلك عمر ورضا المجنى عليها له دور في تحديد التهمة المناسبة للفعل"، وهذا صحيح، إلا إن الصحيح أيضاُ إن هذه "الضحية" أصبحت ملهماً بشجاعتها للعديد من الضحايا اللواتي عبر بعضهن من خلال تغريداتهن بالتعاطف والمساندة، في حين يرى العديد من المدافعين عن حقوق المرأة بإن هذه القضية ستحرك قضايا العنف والاغتصاب التي يغلفها الخوف والصمت، وحتما سيكشف المستقبل حقائق ومآسي لما تتعرض إليه ضحايا العنف من انتهاكات، فالمجتمع ليس مثالي وملائكي خال من هذه الجرائم التي تكشفها الوقائع من وقت إلى آخر.  

في كل الأحول، كثيرة هي الأسئلة والتكهنات حول مصير "الضحية" وغيرها، هل سينصفها القانون؟ هل ستتوفر لها ولجميع الضحايا سبل الحماية الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية؟ خصوصا وقانون الحماية من العنف الأسري الصادر عام 2015 لا يجرم العنف وإنما يحيل إلى قانون العقوبات، والحماية من جريمة "الاغتصاب" في القانون الأخير تحكم بالمادة (353) التي لا تتناسب وخصوصية الجريمة وآثارها على الضحايا، لماذا؟

-    لأنها تنص على أنه "لا يحكم، بعقوبة على من ارتكب أية جرائم هتك العرض أو الاغتصاب إذا عقد زواج صحيح بينه وبين المجني عليها، فإذا صدر عليه حكم نهائي يوقف تنفيذه وتنتهي آثاره الجنائية بمجرد إنجاز العقد".

ما يعني إمكانية لجوء الجاني إلى الزواج من الضحية للإفلات من العقوبة وتطليقها فيما بعد، وقد يكرّر جريمته على أخريات. إن جريمة الاغتصاب تستلزم عقوباتٍ رادعةً، وأحكاماً خاصةً لوصفها وتحديد أركانها وأوصافها وحالاتها وطريقة التبليغ عنها وحماية الضحايا وملاحقة المرتكبين جزائياً، إضافة لذلك يعاني قانون الحماية من العنف الأسري نقصاً كونه لم يتطرق صراحة إلى "جرائم زنى المحارم"، وقد سبق وتم رفض مقترحاً من المجلسين لمشروع تعديل المادة (316) مكرراً في قانون العقوبات تتعلق بهذا الشأن، وبنص مفاده:  

-    "أنه يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن 5 سنوات كل ذكر أو أنثى واقع أحد محارمه المحرمين عليه حرمة مؤبدة وكان يعلم أو لديه ما يحمله على الاعتقاد بذلك".

الخلاصة، المعلومات المتوفرة والتقاريرعن هكذا قضايا تبقى شحيحة والتكتم عليها شديد، وهناك حالات من "ضحايا جرائم الإغتصاب" صامتة متكتمة بسبب الضغوطات والأعراف والتقاليد والخوف وتعاني ولم تصل بعد إلى جهات الشكوى والدعم والمساندة، وبالتالي هذا لا ينفي وجودها، كما لا يعني أخذ موقف المتفرج الصامت عليها وعلى ما يتوفر للمغتصبين والمتحرشين "الجناة" من مساحات آمنة لإرتكاب جرائمهم، سواءً بعدم التبليغ عنهم "والتستر" عليهم والتسامح والتساهل معهم بل والتشكيك في شهادات الضحايا، الأمر الذي يستلزم إجراء تعديل تشريعي لحماية الضحايا وإلغاء المادة "353" وإيقاع أقسى أنواع العقوبات الرادعة على الجناة بل والتشهير بهم.

منى عباس فضل

المنامة - 1 يوليو 2020




الثلاثاء، 2 يونيو 2020

الحضارات تغرق كما "التيتانيك"

منى عباس فضل
انطلقت فكرة كتاب "غرق الحضارات" لأمين معلوف من بطن كتابه السابق "اختلال العالم"، فعالم ما بعد انهيار جدار برلين لم يعاد بنائه كما يقول، لماذا؟ لأن الدولة الكبرى الوحيدة والمكلفة عالمياً بالبناء وهي الولايات المتحدة، فشلت في إعادة بناء العلاقات الدولية لتأمين استمراريتها، وهذا بحد ذاته أدى إلى أزمات كبرى تساهم في غرق الحضارات.

أما ما يؤرقه ويقض مضجعه؟ فهو"مشهد غرق سفينة التيتانيك المتلألئة الواثقة من نفسها، المشهورة بأنها لا تغرق، وتحمل على متنها أعداداً غفيرة من الركاب من جميع البلدان والطبقات الاجتماعية وتمضي وسط الصخب نحو هلاكها..تماما كما يحدث لسفينة البشر حالياً. يرى أمين بهلع جبال الجليد تلوح أمامه، ويتضرَّع إلى السماء بورع على طريقته، أن ننجح في تفادي الغرق، بيد إنه يشكك في ذلك معترفاً، بأن قمرة قيادة سفينة البشر قد غرقت عملياً، وأصبحت البشرية جمعاء غريقة، فالأخطار التي حذر منها وصلت إلى حدها الأقصى، إنها مرحلة دفع الفواتير، التي يفتقد فيها العالم لأي سلطة لها مصداقية معنوية، الولايات المتحدة فقدت مصداقيتها معنوياً وسياسياً وأوروبا التي راهن عليها بتأمين دوراً سياسياً ومعنوياً، تراجعت وبدأت تتفكك مع تصاعد التيارات اليمينية التي تشكك في المشروع الأوروبي وترفضه. إنها أحد أسباب الغرق يضاف إليها أسباب عديدة كصعود الهويات الضيقة؛ وما ساهم به عالمنا العربي في نشر الظلمات.  

مع هنتنغتون وضده
محاور الكتاب وتحليلاته مثيرة للجدل والاختلاف، بل وتشتت القارئ بين قضايا إشكالية معقدة ومتشعبة، يتداخل فيها الخاص بالعام، حيث لا يخفي معلوف بأن كتابه جاء رداً غير مباشراً على تنظيرات المفكر الأمريكي هنتنغتون "لصراع الحضارات"، صحيح اتفق مع الأخير في تنبؤه بتفشي ظاهرة الانعزال والردة إلى الهويات الأصلية "الضيقة" وإن الشعوب تستند على الدين في علاقتها مع المختلفين معها عقائدياً، بيد إنه يختلف معه حول "صراع الحضارات"، وعبر عن هذا التباين بقوله "لسنا في عالم تتصارع فيه الحضارات، إنما عالم تنهار فيه كلياً الحضارات، القوي منها والضعيف، الحضارات ذات الدور العالمي الواضح أو نقيضها، المنتصرين منهم والمهزومين، جميعهم في حال تراجع وإنهيار"، كما يرد عليه بإن العالم الإسلامي لا يجسد وحدة متماسكة موحدة كما يفترض، إنما هو ميدان للمعارك والحروب، فقد وقع الصدام من داخل الحضارة الإسلامية نفسها حيث تتصادم الحركات الأصولية المتشددة وتفرز حروباً أهلية وهويات قاتلة. 

من موطني انتشرت الظلمات
كشاهد تتشابك لدى معلوف القضايا والمآسي التي تمس الوجدان العربي، من قضية فلسطين إلى القومية والوحدة العربية وفشل المشروع النهضوي، فهو تارة يصف أحكامه "بالانطباعات" معتبراً "بأن ما حدث في الدول العربية ساهم بشكل ما في خلق شئ غير صحي في بقية العالم"، وأحياناً يقيسها بأحكام يقينية مطلقة مؤكداً بأن "الظلمات انتشرت في العالم عندما خَبَت أنوار المشرق؟.."من موطني الأصلي الذي ولدت فيه أقدم الحضارات، بدأت تنتشر الظلمات"، ومنه ينطلق  في تحليله الذي يتداخل فيه الخاص بالعام من خلال استعادة ذكرياته في نموذجين تناول تفاصيلهما عبر العيش في هواجس مصر والترحم على طبيعة الحياة التي سادت فيها في الخمسيينات وقبل الثورة، وفي حالة التعايش التي زخر بها لبنان في فترة ما من تاريخه وكتب: "كان البلد يملك مقومات حقيقية، وفي طليعة بلدان المنطقة بفضل مدارسه وجامعاته وصحفه ومصارفه وتقاليده التجارية، يتميز بحرية تعبير كبيرة، وانفتاح شديد على الشرق والغرب معاً، وبإمكانه الإرتقاء بالعلم المشرقي والعربي بأسره وإلى مزيد من الديمقراطية والحداثة، لكنه اقتيد إلى الحضيض، إلى مزيد من العنف والتعصب، والشقاء والتخلف، إلى فقدان كل ثقة بالنفس وكل رؤية للمستقبل".

في مقاربته لتأثير اكتشاف النفط على المشرق العربي يقول "استحدث موجة هجرة نحو البلدان النفطية التي كانت قريبة جغرافياً، حيث يستطيع المرء أن يكسب عيشاً كريماً، بل والأكثر شطارة، أن يغتني سريعاً، إنما لا أكثر من ذلك" في دلالة مضمرة إلى طبيعة البيئة الجدباء والقاحلة التي تفتقر وقتها للحياة الثقافية والحريات والصحافة والعمل السياسي وقبول الآخر، "..كان المرء يكدح فيها، ويحلم بصمت، ويسكر خفية، ثم يستسلم للاستهلاك الجامح"، وأضاف بأن عقوداً من  تصدير النفط أدت إلى عدم الاستقرار السياسي والثقافي في الشرق الأوسط، وإن أموال البترودولار منحت بعض المجتمعات التقليدية نفوذاً سلب من المجتمعات الأخرى، فالسعودية ازداد نفوذها على حساب مصر التي لا تمتلك نفطاً لكنها تلعب دوراً ثقافياً وسياسياً هاماً، وقد شهدت تراجعاً لدورها، فمنذ الخمسينيات في وادي النيل زادٌ من نوع آخر، يتمثل في ميادين الموسيقى والأدب وفنون كثيرة أخرى وقد شهدت ازدهاراً حقيقياً وكان جميع المهاجرين إليها من كل الأصول والطوائف يشعرون بأنفسهم مدعوين للانخراط  فيها شأنهم في ذلك شأن السكان المحليين، وسينتشر إشعاع هذه الحركة، انطلاقاً من المشرق واللغة العربية، إلى عوالم ثقافية أخرى، مصر بلد استثنائي، كان يعيش حقبة مميزة من تاريخه"، ويستطرد "بأن البترودولار جلب عدم الاستقرار للكثير من دول المنطقة كالعراق كما أثر على العالم بأسره، لاسيما أثناء أزمة النفط في سبعينيات القرن الماضي وساهم بظهور النهج الاقتصادي التاتشري". 

لكن ثمة حاجة للتذكير بأن مناقشته لقضية النفط في سياقاته الموضوعية تعاني من قصور التحليل والانتقائية، هناك متغيرات نوعية جرت على مجتمعات النفط، لم يكن متعمقاً في تناول عناصرها وربطها ببعضها البعض وبالواقع العربي إجمالاً بل وبنشأة التيارات المتشددة والدولة الرعوية وعلاقتها بالمواطنين فضلاً عن تحالفاتها الدولية التي شكلت صمام أمان لاستمرارها وبروز ظاهرة الهجرة لهذه المجتمعات وانعكاساتها، إنها دوائر تتشابك وتتفاعل مع بعضها البعض تؤثر وتتأثر ولا يجوز اسقاطها من اعتبار أي باحث ومنقب موضوعي.

ومنه قادت المعطيات السابقة معلوف إلى حصيلة واحدة؛ ربط  فيها الاخفاقات في مسار النهضة العربية ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، باختار العالم العربي "للطريق الخطأ"، فقد عجز عن الانحراط الفعلي في دعوات الإصلاح والاستجابة للتحديث، وبقيت المجتمعات أسيرة الماضي، رافضة المساهمة في الحضارة الجديدة. هنا يؤخذ عليه تجنب كشف دور الاستعمار في إبقاء الوضع هشاً ومضطرباً بفعل تدخلاته واستمراره في سرقة ثروات الشعوب العربية والتآمر عليها بالتحالف مع أنظمة الاستبداد والدكتاتوريات، بل تجاهله لدوره عند تقرير مصير الأراضي العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية المهزومة في الحرب، وكيف لعبت بريطانيا وفرنسا لعبتهما القذرة برسم حدودها وتفكيكها إلى مناطق نفوذ لها، وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين، فكانت الكارثة التي لا يزال يدفع العرب والفلسطينيين ثمناً باهضاً لها.  

التجربة الناصرية
قد يختلف الكثيرين معه بشأن تحليله للتجربة الناصرية؛ بما لها وما عليها، حيث يتراءى له أن "جمال عبدالناصر" شخصية عظيمة لا تقل عظمة عن "تشرشل" وما قام به؛ "له مواقف تجعله جذاباً، ووفاته المبكرة، تسثير عندي، وعند الكثيرين من العرب شيئاً من الحنين، مع أنه بلا جدال أحد حفاري قبر المشرق الذي كنت أحب...كان حكمي على الرجل العظيم متبايناً جداً، ولا يزال حتى اليوم، ففي بعض الجوانب، كان آخر عمالقة العالم العربي، وربما آخر فرصة سانحة لنهوضه من كبوته، ولكنه ارتكب أخطاء جسيمة للغاية، بشأن مسائل جوهرية كثيرة، فلم يخلف من حوله سوى المرارة والندم والخيبة".

يعلل موقفه من ناصر؛ كونه ألغى تعددية الأحزاب لإنشاء الحزب الواحد؛ وكمَّم الصحافة التي كانت تتمتع بقدر لابأس به من الحرية في ظلَّ النظام السابق؛ واعتمد على المخابرات لإسكات خصومة؛ وكانت إدارته للاقتصاد المصري بيروقراطية تفتقر إلى الكفاءة ومكلفة؛ وصادر الأموال والاملاك الوطنية وغير الوطنية، ونزع ملكية الباشوات والتأميم وسلب الأقليات الأجنبية المتنوعة وتهجير عدد كبير من عائلات الطبقة الوسطى، وهذا ما لم يفعله "مانديلا" حين استلم مقاليد الحكم. ويضيف؛ دفعت به الديموغوجية القومية نحو الهاوية، ومعه كل العالم العربي، بيد إنه يستدرك أمره في موقفين "..فمهما كان الرئيس دكتاتوراً عسكرياً، وقومياً يكره الأجانب بهذا القدر أو ذاك، وبالنسبة إلى أهلي مغتصباً، إلا أن الأمة العربية كانت في عهده تحظى بالاحترام. كان لديها مشروع، ولم تكن قد غرقت في الشقاء أو في الحقد على الذات"، ويصف حالته النفسية يوم استقالة عبدالناصر بعد هزيمة 1967: "وحتى أنا، لدي أسباب عديدة لكي لا أحب الرجل العظيم تأثرت باستقالته مثلما لم أتأثر في حياتي. لم يكن قط بالنسبة لي شخصية أبوية، ولكني شعرت بنفسي حينذاك يتيماً. تراءى لي بأنني وسط سيل عرم، وأنه الغصن الوحيد الذي أستطيع التعلق به.أعتقد أن الشعوب تعيش ساعات الضياع واليأس على هذا النحو".

هزيمة 1967
بالنسبة لمعلوف، هزيمة 1967 تمثل مرحلة حاسمة ولحظة تاريخية أحدثت انقلاباً في المفاهيم والمقاييس، فيها فقدت القومية العربية كايديولوجيا طاغية في المنطقة كل مصداقيتها، وعلى المدى البعيد سيكون الإسلام السياسي المستفيد الحقيقي من الهزيمة، وسيحلُّ محل القومية باعتباره الإيديولوجيا الطاغية. يقول: "الهزيمة أحياناً فرصة، والعرب لم يحسنوا اغتنامها، هي لحظة فارقعة ولدت اليأس العربي والعرب لم ينهضوا بعدها ولا يزالون يعانون من عقدتها، والانتصار أحياناً فخاً، والاسرائيليون لم يحسنوا تفاديه. إسرئيل اعتبرت نفسها غير ملزمة بتقديم أي تنازلات والتيارات المزايدة منهم تتحفظ على الآراضي المحتلة، وعليه فالعرب ضحية الهزيمة، وإسرائيل ضحية الانتصار، لم تعد ترى أي مستقبل لها في التسوية، ما يعني برأينا الفشل الذريع لمشروع التطبيع ومعلوف لا يجد أفق لأي تسوية في المستقبل المنظور، وإن حدثت فلربما من الخارج في سياق تفادي صراعات بين الدول الكبرى.

ثورات لكنها محافظة
يكتب عن الثورات المحافظة في سنة الانقلاب الكبير عام 1979. ثمة ما يستوجب الملاحظة في استحداث معلوف لمفهوم جديد وهو "الثورات المحافظة" التي أدت إلى تغيرات جوهرية قلبت موازيين العالم ونقلته من حال إلى حال أسوأ، وبالتالي ساهمت في غرق الحضارات. ركز على "الثورة الاقتصادية المحافظة" التي أرستها رئيسة وزارء المملكة المتحدة "مارغريت تاتشر" والتي امتدت إلى الولايات المتحدة في عهد "ريغان"، وما خلفه نهجها على مفهوم الدولة التي أصبحت اليوم تمثل نموذج لأساليب بعض أنظمة الحكم حتى من يميل منها إلى اليسار، ومن أبرز أساليبها؛ الحد من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وتقليص النفقات والمساعدات الاجتماعية واطلاق يد أصحاب المشاريع والتخفيف من دور النقابات العمالية وتأثيرها وغيرها، فهي حسب معلوف أحدثت بلبلة كبيرة في دول العالم.

إلى جانب ذلك انتصار "الثورة الخمينية في إيران" التي اندلعت باسم البؤساء والمستضعفين في الأرض وأدت إلى تغير جوهري في أجواء العالم الإسلامي، وخلقت تحركات في مجمل بلدانه، وعلى رأسها السعودية وافغانستان كما غيرت من أجواء المنطقة عامة، وما رافقها في نفس الفترة من حادثة احتلال "الحرم المكي الشريف" التي قامت به مجموعة أصولية بقيادة "جهيمان العتيبي"، وما أدت إليه نتائج أحداث 11 سبتمبر، إضافة إلى ثورة "دينغ شياو بينع" في الصين عام 1978، فهي ثورة محافظة لكنها انطلقت من روح العصر. ومنه يصل إلى إنه ومنذ سبعينيات القرن الماضي تراجع الدور الأوروبي كصانع للحضارة الحديثة، وتدهور وضع الأحزاب والحركات اليسارية والثورية أمام الأحزاب المحافظة واليمينية المتطرّفة الأمر الذي أدى إلى المزيد من الكراهية والتعصّب واضطرابات خطيرة وفوضى قاتلة قد تغرق العالم.

تسوية طوباوية
الكتاب يتناول بشئ من المثالية والطوباوية المحاولات التي جرت للتآليف والتقارب بين الايديولوجيات المتناقضة ويسوق مثالاً لها بما حدث في ايطاليا لخلق تسوية تاريخية بين الرأسمالية والشيوعية، التي راح ضحيتها اغتيالاً الزعيم الديمقراطي المسيحي الإيطالي "ألدو مورو" في 1978، ووجد بأنها فكرة طوباوية واعدة رُميت في مزبلة التاريخ، بسبب غرور الاتحاد السوفياتي الذي كان صاعداً وقتها ولم يعلم بأنه سينهار ويتفكك بعد عشر سنوات، كما ناقش الدور المهم للأقليات في المجتمعات العربية وقدرة الماركسية على استيعابهم.

الخلاصة، لم يبتعد معلوف في "غرق الحضارات" عن مواقف الغرب في تحميل العرب مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم، وكأن النظام العالمي وتحالفاته ومصالحه مع أنظمة الاستبداد والدكتاتورية بعيدة عن ساحة الصراع والتآمر والمسؤولية في تشكل التيارات السلفية المتطرفة وبما لعبته ولا تزال من أدوار في استبقاء حالة الفوضى والاحتراب ونهب الثروات وتجزئية المجزء استناداً إلى الهويات والانتماءات الضيقة، إلى جانب استجابتها للضغوط لسير في مضمار التطبيع مع كيان العدو الصهيوني. ولعل الإجابة على التساؤلات التي طرحها عن ماهية المنعطفات التي كان يجب عدم سلوكها؟ وما إذا كان في المستطاع تجنبها؟ وهل يمكن اليوم التحكم بالدفة؟ تمثل تحدياً كبيراً قد يدفعه إلى توسيع دائرة القلق تجاه أحوالنا خصوصاً وهو على قناعة راسخة بأنه لا أمل من أي تسويات مع إسرائيل على المدى المنظور، الأمر الذي يؤكد موقف الشعب العربي الرافض للتطبيع، أما بالنسبة لقناعته بأن الصحوة مازالت ممكنة حين تعود أوروبا لتولي مسؤولياتها القيادية وهي التي طالما شكلت مركزاً حضارياً ومعرفياً للمجتمعات الإنسانية، فهى مراهنة كبيرة لا نعلم مدى واقعيتها في خضم تفككك أوروبا وتصاعد اليمين المتطرّف فيها. 

منى عباس فضل
المنامة - 2 يونيو 2020