الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

الأسرة الخليجية وتحديات الرقمنة


منى عباس فضل

 شاركتُ مؤخرًا في منتدى عقده المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون ومعهد الدوحة الدولي للأسرة وباستضافة كريمة من وزارة الشئون الاجتماعية بالكويت؛ حول "الأسرة الخليجية بين التحديات الرقمية وفرص الاستثمار البشري"؛ حيث تم فيه تداول محاور مهمة تتعلق بسياسات الحمايّة الاجتماعيّة الرقميّة وتأثيرها على الأسرة الخليجيّة إلى جانب الاستثمار البشري الذكي والابتكار في بناء الأسرة المستدامة، والتربيّة الرقميّة وأهميّة تعزيز القيم والأخلاقيات الأسريّة فضلاً عن رأس المال البشري كقوة محركة للتنميّة المستدامة للأسرة الخليجيّة. 

في حقيقة أمر الأسرة الخليجية وتبعًا لإحصاءات رسميّة خليجيّة يمثل أطفال بلدان مجلس التعاون ما دون سن الـ15 عاماً حوالي "12.6" مليون طفل، الذكور منهم "51.1%" والإناث "48.9%"، وإن نسبة "100" من هذه الأسر تتمتع بإمكانية الحصول على خدمات المياه النظيفة والكهرباء إلى جانب إن التغطيّة الصحيّة فيها قد بلغت "72%" مقارنة بالنسبة العالمية "68%"، أضف إليه ارتفاع نسبة الشباب واليافعين ممن يتقنون مهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كما وهناك توسعة في بناء شبكات الضمان الاجتماعي واعتماد سياسات تمكين المرأة وتشجيع للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وتضمين دعم الأسرة في استراتيجياتها السكانية بهدف تعزيز دورها وحمايتها، لكن ومع كل هذه المميزات وتلك؛ إلا إن الأسرة الخليجية وبشهادة الباحثين والاختصاصين تتعرض إلى تحديات متزايدة في ظل الانفتاح الرقمي والتكنولوجي، وهي التي في الأصل تعاني من هدر وجودي في حياة أفرادها اليومية يكاد يطال بنيتها وعلاقاتها الوظيفية؛ كيف؟

تحديات التطوّر الرقمي  

تناول الخبراء والباحثين هذه الإشكاليات والتحديات بالدراسة المتعمقة والتحليل؛ وتوصلوا إلى إن أبرز سمات هذه الإشكاليات تتعلق بأسلوب الحياة المفرط في الاستهلاك والذي أصبح معياراً للقيمة والوجاهة لاسيما في ظل ما تتعرض إليه من طوفان تأثيرات التطوّر الرقمي السريع ووسائل التواصل الاجتماعي التي أوصلت الأفراد عامة إلى حالة من الإغراق في التعامل مع هذه الوسائل والتعرض إلى تأثيراتها بكل ما تعكسه من سلبيات أو ايجابيات تؤثر بهذا الشكل أو ذاك على تماسك العلاقات الأسرية وبنية المجتمع، ففي إحصائية عرضتها الباحثة آمنة النعيمي في المنتدى حول التحديات المرتبطة باستخدام الألعاب الإلكترونيّة ومحتوى الأنترنت على الأسرة؛ تشير إلى إن عدد لاعبي الألعاب الإلكترونية حول العالم في ازدياد وقد بلغ "2,686 لاعب في عام 2024، وإن "21%" منهم في عمر أقل من 18 سنة، وإن عددهم في الشرق الأوسط وأفريقيا وطبعًا من ضمنهم بلدان الخليج يصل إلى "377 مليون"؛ لاسيما وإن المخاطر تكمن كما ذكرت في قصور وعي الأسرة الخليجية لتصنيف هذه الألعاب ومحتواها التي يتم تبادلها في بطاقات الهدايا والتعبئة؛ هذا وتجمع أغلب الدراسات الاجتماعيّة والنفسيّة على تأثيراتها السلبية ومنها بروز ظواهر اجتماعيّة خطيرة كالطلاق والهجر وممارسة العنف الأسري واهمال رعاية أفراد الأسرة لبعضهم البعض ناهيك عن حالة العزلة والاغتراب التي يعيشونها في المجتمع. 

بالطبع أدى ذلك إلى ارتفاع حالات الصراع واتساع الفجوات بين المتطلبات الملحة ومحدودية الإمكانيات المتوفرة، إضافة إلى إشكالية تنشئة ورعاية الأبناء في ظل التعاطي مع المتغيرات السريعة وتطوّر وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي الذي جعل عالمنا المحلي مفتوحًا فأخل بالضوابط السلوكيّة وغابت معه المرجعيّة الوالديّة وكل هذه القضايا الشائكة وغيرها المتعلقة بواقع الأسرة في ظل تحديات التنمية المستدامة؛ قد تم تفكيكها ومناقشتها خلال يومي المنتدى في إطار تفحص لسياسات الحمايّة الاجتماعيّة الرقميّة الخليجيّة من قوانين وتشريعات ومبادرات استحدثتها بلدان الخليج للتعامل مع متغيرات الواقع السريعة وتأثيرات التحول الرقمي وانعكاساتها على العلاقات الأسريّة والتحديات التي تواجهها وذلك بالتركيز على مناقشة أنظمة التعليم والصحة والضمان الاجتماعي  والمبادرات، والتطرق للاستثمار البشري الذكي والابتكار في بناء الأسرة المستدامة فضلاً عن التربية الرقميّة لتعزيز القيم والأخلاقيات الأسرية. 

في ذات سياق التداول؛ شاركتُ في حوارية "رأس المال البشري من كونه قوة محركة للتنميّة المستدامة للأسرة الخليجيّة"، وكان من المجدي أن أتطرق إلى مفهوم "رأس المال البشري" استنادًا إلى النظريات والبحوث التي تناولته؛ لاسيما المتعلق منها من كونه قوة محركة للتنميّة المستدامة في المجتمعات؛ آخذة بعين الاعتبار ما أشار إليه تقرير  CIPD من أن بعض بلدان الخليج لم تستفد إلا بجزء من رأس مالها البشري وإن نحو "44%" منه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غير مُستغل بالكامل. 

رأس المال البشري

يُعرف رأس المال البشري "Human Capital Theory" الذي يتبناه معظم الباحثين والمنظمات والمؤسسات الدولية بأنه "مجموع المعارف، والمهارات والكفاءات، والصحة التي يمتلكها الأفراد والتي تُساهم في زيادة إنتاجيتهم وقدرتهم على الإبداع والعمل كما تُوظَّف لخلق قيمة اقتصاديّة واجتماعيّة، ما يعني إنه؛ استثمار في الإنسان نفسه من خلال التعليم والتدريب والصحة والخبرة، بهدف تحسين قدرته على الإنتاج وتحقيق التنمية، وتبعًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) يعرف بأنه "المعرفة والمهارات والكفاءات والسمات المتجسدة في الأفراد التي تسهل خلق الرفاه الشخصي والاجتماعي والاقتصادي"، أما البنك الدولي فيشير إلى إنه "يتألف من المعارف والمهارات والقدرات الصحيّة التي تتراكم لدى الأشخاص على مدار حياتهم بما يمكنهم من استغلال إمكاناتهم كأفراد منتجين في المجتمع، وتبرز أهميته من كونه يحارب الفقر والفوارق الاجتماعية وبناء مجتمعات الرفاه وتحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة". 

حسب مصادر متعدّدة، برزت نظريّة "رأس المال البشري" منذ خمسينات القرن الماضي خصوصًا بعد الحرب حيث تركز اهتمام أغلب الاقتصاديين على فكرة فوائد التعليم والتدريب الاقتصادية والتي يعود أصلها إلى "نظرية التطوّر الاقتصادي الكلي" التي تتضمن عوامل أساسية للإنتاج من أرض ورأس مال مادي وإدارة، وارتفعت وتيرة بروزها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بين 1988 و1992 بسبب أبحاث نماذج "نمو رأس المال البشري" ومن أهم روادها المساهمين في تطوير المصطلح "ثيودور شولتز"؛ بيد إن التطبيق الأكثر شهرة لفكرة "رأس المال البشري" في الاقتصاد جاءت على يد "غاري بيكر"   Gary Becker من "مدرسة شيكاغو" والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، ففي كتاب له بعنوان "رأس المال البشري" الذي نشر في عام 1964 والذي أصبح مرجعاً معيارياً لسنوات عديدة، عرف "رأس المال البشري" "بأنه الأنشطة التي تؤثر على الدخل النقدي والنفسي في المستقبل من خلال زيادة الموارد لدى الناس"، كما حدد أشكالها الرئيسية في كل من التعليم والتدريب أثناء العمل. 

من جهة متصلة، تشير نظريته إلى أهمية تحقيق الاستثمار منذ الصغر وفي مرحلة الشباب حيث تقل وينخفض الاستثمار في رأس المال البشري مع تقدم العمر؛ وهو يشبه رأس المال البشري بـ"الوسائل المادية للإنتاج"، مثل المصانع والآلات؛ ويؤكد على إنه يمكن للمرء الاستثمار في رأس المال البشري عن طريق التعليم والتدريب والعلاج الطبي، وتعتمد مخرجات المرء جزئيا على معدل العائد على الإنسان رأس المال الذي يملكه، ومن ثم فإن رأس المال البشري يعد وسيلة للإنتاج، ويؤدي الاستثمار الإضافي فيه إلى إنتاج إضافي ولا يمكن نقله كما الأرض أو العمل أو رأس المال الثابت. اللافت أن النظرية تعرضت إلى انتقادات متعدّدة، كونها تتجاهل خبرة العامل ولم تتطرق لقياس الخبرات على الرغم من أهميتها بما تلعبه من دور رئيسي، كما ركزت على التعليم والتدريب الرسمي العام والخاص وتجاهلت التعليم غير الرسمي الناتج من التجارب العملية. 

رأس المال الاجتماعي

يجدر التنويه بإن "نظرية رأس المال البشري" تختلف عن "نظرية رأس المال الاجتماعي" Social Capital Theory والتي أبرز روّادها "بيير بورديو" الذي قدم مفهومًا أكثر دقة "لرأس المال البشري" يتضمن رأس المال الثقافي ورأس المال الاجتماعي ورأس المال الاقتصادي ورأس المال الرمزي" وتشارك معه "جيمس كولمان وروبرت بوتنام" بأن نظرية "رأس المال البشري" تقوم فكرتها على إنه إلى جانب المعرفة والمهارات، هناك شبكات العلاقات والثقة والتعاون الاجتماعي داخل المجتمع أو الأسرة، وكلها تساهم في تعزيز الكفاءة الاقتصادية والتنمية المستدامة، كما إنها مرتبطة بنظرية القدرات Capabilities Approach وصاحبها امارتيا سن  Amartya Sen حيث تدور فكرتها بإن "التنمية ليست فقط زيادة الدخل، بل توسيع قدرات الإنسان وحرياته الفعلية من خلال التعليم، الصحة، الاختيار، المشاركة، ما يعني إن "الأسرة التي تنمي قدرات أفرادها في تعليم البنات، ودعم الشباب، وتمكين المرأة.. إلخ، تساهم في تحقيق تنمية مستدامة أعمق، وهناك أيضاً "نظرية رأس المال المعرفي" Knowledge Capital Theory التي تدور فكرتها؛ حول إن المعرفة Knowledge تمثل رأس المال الأهم في عصر الاقتصاد الرقمي. 

ولجهة "آدم سميث" فقد عرف أربعة أنواع من "رأس المال الثابت" الذي ينتج عائدات/أرباح دون تداول أو تغيير الأساسيات، وهي: الآلات المفيدة، وأدوات التجارة، المباني كوسيلة للحصول على الإيرادات، تحسين الأراضي، القدرات المكتسبة والمفيدة لجميع السكان أو أعضاء المجتمع. وبالتالي انتهى إلى إن "رأس المال البشري" يعني "القدرات المكتسبة والمفيدة لجميع سكان أو أعضاء المجتمع، في الحصول على مثل هذه المواهب، من خلال إعالة الطالب عبر تعليمه أو دراسته، أو التلمذة الصناعية، يكلف دائما نفقات حقيقية، وهو رأس مال ثابت ومتحقق ويتمثل في شخصه ومواهبه التي تشكل جزءًا من ثروته. 

وبناءً عليه فأن تراكم رأس المال البشري يبدأ بالتعليم قبل المدرسي، ومن خلال التدريب داخل الشركة وينتهي بالتعلم بالممارسة، وعلى الرغم من أن رأس المال البشري أقل قابلية للقياس الكمي، إلا أنه يمكن مقارنته برأس المال الحقيقي بعدة طرق، وكلاهما يرفع من قدرة الاقتصاد على إنتاج السلع والخدمات ويمثل عامل إنتاج منتج وقوة محركة للتنمية المستدامة. 

أبعاد ومقومات محركة

استناداً إلى ما سبق، يمكن إثارة سؤال مهم عن أبعاد ومقومات "رأس المال البشري" الذي يمكنه أن يشكل قوة محركة للتنمية المستدامة للأسرة الخليجية لاسيما مع تركيز بلدان الخليج على التعليم والتدريب والصحة باعتبارها استثمار بشري وأولوية من أولويات استراتيجياتها التنموية؟ في المجمل لخصت الدراسات هذه الأبعاد والمقومات بالعناصر التالية: 

1.    تعليم أفراد الأسرة، فإذا تمتع كلا الوالدين أو أحدهما بمستوى تعلم مرتفع أو مهارات متطورة فاحتمالية انعكاسها إيجاباً على الأطفال كبير حيث يُشكّلان بيئة تعليمية فضلى ترفع من إمكانات الأطفال ومستقبلهم كما قد يحسن من استقرار الأسرة المالي ويرفع من جودة الحياة فيها وتمكين الأبناء من التكيف مع اقتصاد المعرفة.

2.    الصحة والرفاه، إن الصحة الجيدة لأفراد الأسرة الخليجية تعني القدرة على العمل، وإنتاج دخل، والمشاركة الفعالة في المجتمع وتأمين بيئة أسرية مستقرة للأطفال والمسنّين، مما يعزز من رفاه الجميع وتحسين جودة حياتهم، وتقليل الفقر والتمييز، وتقوية دور المرأة ورفع مستوى العدالة الاجتماعيّة.

3.    المهارات والتمكين، في عصر التحول الرقمي والاقتصاد المعرفي، أصبحت تنميّة مهارات القدرة على استخدام التكنولوجيا والبرمجة والبحث العلمي والابتكار، والتفكير النقدي، والتعلم مدى الحياة مهمة للغاية، وكلما تطورت قدرة الأسر الخليجيّة على تنمية هذه المهارات لدى أفرادها كلما تعززت قدرتها على التكيّف مع المتغيرات التي تتطلبها سوق العمل المتغيّر.

4.    المشاركة المجتمعية والاقتصادية، عندما يكون أفراد الأسرة لاسيما النساء والشباب مشاركين بنشاط في التعليم أو سوق العمل، فإن ذلك يُعزّز من تنمية الأسرة اقتصاديًا واجتماعيًّا، ويساهم في التنمية المحليّة والوطنية على المدى البعيد، وينتج أفراد متعّلمين وقادرين على تبني ممارسات مستدامة ومواجهة تحديات التغير المناخي أو التحولات الاقتصادية بوعي أكبر.  

الخلاصة، بين التطور والتقدم تبرز التحديات التي تواجه "رأس المال البشري" الخليجي، لاسيما مع استمرار الفجوة بين التعليم والمهارات المطلوبة في سوق العمل؛ ولهذا خلص المنتدى إلى بعض التوصيات المهمة؛ مثل إعداد إطار خليجي موحد للسياسات الرقميّة بهدف الاستخدام الآمن والمسؤول للتكنولوجيا داخل الأسرة، وإعداد دراسات وورش عمل وتدريب والدعوة لتحديث التشريعات والسياسات الاجتماعيّة بما يتناسب مع متطلبات العصر الرقمي ويوفر الحمايّة القانونيّة لأفراد الأسرة من مخاطر الفضاء الإلكتروني ومواجهة تحديات الرقمنة والتحول للعمل عن بُعد، ما يعني إن مهارات السوق المطلوبة قد تغيرت وهذا يفرض على الأسرة الخليجية الاستثمار أكثر في التعلم المستمر والتأقلم مع واقع التغيير السريع بأن ترفع الأسرة من معارفها حول التغيّرات الاقتصادية؛ وتكون على وعي بأن مهارات مثل التفكير النقدي، والإبداع والتقنيات الرقمية أصبحت اليوم محورية وأساسية لسوق العمل.

المنامة - 25  نوفمبر 2025 





الخميس، 4 سبتمبر 2025

آچار ومربى

 

منى عباس فضل

ماذا يعني أن تخصنا العمة رازقية في كل فصل من فصول حصاد ثمرة "البمبر" و"ليمون الترنج" بمرطبانات الآچار ومربى الترنج المهيل بماء الورد والزعفران؟

-       يعني الكثير.  

هي أشياء صغيرة برسالة كرم ومحبة وتدليل لا تخصني وأخواتي وأخواني بها فقط، إنما تخص أولادنا بنين وبنات تكتب أسماءهم عليها جمعيًا ويتجاوز كرمها لأقرب صديقاتها ومن يعز عليها.

من منزلها تدق علينا الهاتف، تذكرنا بمحصول الخير والمحبة المتجدّدة؛ تذكرنا بأن لأبناء وبنات أخيها الذين أسهمت في تربيتهم مكانًا حاضرًا في قلب لا يزال ينبض بالحياة ويفيض بحب لا ينضب.

العطية الموسميّة غدت تقليدًا لعمتي التي هي على عادة أهلنا الذين رحلوا وتركوا البيوت فارغة بأبواب مؤصدة إلا من ذكريات ملتبسة بين سعادة ووجع ينخر بين ضلوعنا. هناك في تلك الليالي بأضوائها الخافتة وبطقوس دافئة تجتمع عائلتي على سفرة عشاء بسيط تتقاسم فيه "مربي الترنج" الذي تم تحضيره في البيت ولكل منا قطعة صغيرة من الجبن ورغيف خبز ساخن للتو أحضره العم عيسى من الخباز.

يلتم شملنا على وقع ضوضاء وأحاديث تتداخل فيها أصوات وانفعالات تعلو على التلفاز الذي نتحلق حوله؛ وفي تلك الزاوية تتربع الجدة بنت زبر وهي نبع من حنان؛ لكنها هذا المساء غاضبة لابسة قناع الصرامة؛ غاضبة تشكوني أو تشكو أحد الأخوة أو الأخوات على أمر ما عند والدي المثقل بأعباء الحياة وكدها؛ نظرات العمات صامتة تكشف أسرارها في الأعماق وهي تنبي بالكثير؛ مصحوبة بوجل وخوف على المشتكى عليها أو عليه؛ غالبًا ما تمضي الليلة بسلام بعد عتاب ونهر وغضب دفين يصاحبه التهام تلك الوجبة فمع الجوع لا مجال للزعل أو الحرده.

مع هذا الطقس يبقى طعم ذلك المربى البيتي عالقًا في الذاكرة يهزنا؛ ولا ينسى؛ وعمتي تشبه نفسها حين يتقمصها الحنين وهي تعد المربى والآجار؛ لا يمكنها مفارقة ذلك الزمن ولا التحرر من ذاك المكان المثقل بالذكريات والأوجاع وقسوة الزمن ولا القفز على شعورها العميق بالواجب التربوي الذي حملته على كاهلها منذ صغرها ولا مسؤولية متابعة كل شاردة وواردة في شأن عائلتها الممتدة؛ فهي لازالت تدور في رحى الدائرة التي تتنفس منها؛ دائرة المحبة والبذل والعطاء بسخاء...

شكرًا عمتي "رازقية" من الأعماق على كل شيء جميل أعددته وصنعته بلمسة حب.

المنامة – 4 سبتمبر 2025

السبت، 30 أغسطس 2025

في رثاء "حسين" الإنسان

 

منى عباس فضل

 رحل من رحل وبقيت صورهم تنتحت في ذاكرتنا وتستفز وعينا لزمنٍ مضى حيث كانت الأحلام والأمنيات على مرمى قدم في زمن الشباب وفي الماضي الجميل الذي تعرفت فيه على الفقيد "حسين السماك" كان في أوج نشاطه الطلابي في الاتحاد الوطني لطلبة البحرين-فرع الكويت؛ خمسين عامًا مضت ولا يزال الأصدقاء والصديقات يتساقطون بيننا كأوراق خريف إنها سنة الحياة ورتمها الحزين.

 استقبلنا مع مجموعة أخرى من طلاب وطالبات الاتحاد الوطني لطلبة البحرين القدامى في الكويت وكنا دفعة جديدة في أول يوم من فترة التسجيل للكورس الدراسي الأول من ذلك العام، تحديدًا في إحدى قاعات كلية العلوم بالخالدية، كان الوقت مساءً بعد الإفطار في شهر رمضان في سبتمبر من العام الدراسي الأول 1975-1976. عرفت بأنه أحد أعضاء وعضوات "لجنة شئون الطلبة"، ومهمته معنا والتي كان يبذل فيها جهدًا واخلاصًا وإلتزامًا بلا مقابل، أن يساعد الطلبة والطالبات الجدد الذين في عهدته على تسجيل كافة موادهم الدراسيّة حسب نظام الجامعة الجديد.

كان الازدحام كثيفًا والجميع في حوسه، وقد تملكني وقتها خوفاًً شديدًا بأن أعود أدراجي بخفي حنين دون التمكن من تسجيل أي مادة من المواد، بخبرة طالب قديم يعرف دهاليز عملية التسجيل؛ شعر بقلقي وخوفي وأخذ يطمئنني وغيري بأن الأمور تسير على ما يرام، لكنني ومن شدة الإجهاد وارتفاع درجة حرارة الطقس والازدحام ممزوجًا بشعور من الحزن والضياع والغربة بعيدًا عن الأهل والديار؛ كاد يغمي علي، لم يتوانى وطالبات أخريات في لجنة شئون الطلبة بالاتحاد من إسعافي، لم يتركوني في هذا الحال الهائج المائج؛ حتى أتممت وغيري عمليّة التسجيل بنجاح؛ إنه يوم فارق في حياتي الطلابيًة؛ إن يتعزز شعوري بأنني لست وحيدة والدنيا بخير!

منذ ذلك الوقت تشكلت علاقة زمالة دراسيّة متداخلة بالنشاط الطلابي بيني وبين الفقيد "أبو إيمان"، علاقة سادها الاحترام والعطاء والبذل ضمن أنشطة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين ولمن حولنا من الطلاب والطالبات البحرينيين خصوصًا الجدد منهم! كان الفقيد حريصًا على المشاركة في كافة الأنشطة الطلابية في أروقة الجامعة أو خارجها من الأيام الرياضية إلى الرحلات أثناء الإجازات وحفلات استقبال الطلبة والطالبات الجدد التي يقيمها الاتحاد، فضلاً عن الحفل السنوي الذي يحرص على المشاركة في فقراته بحيوية والتزام، ولطالما شارك في لجان الاتحاد المتنوعة الثقافية وبرامجها من دورات توعية ثقافية وبرامج اجتماعية ورياضية تميز في أغلبها بالعطاء والحيوية ومساعدة الطلبة في أمورهم الدراسيّة واللوجستيّة.

 ومما عرفته لاحقًا بأن له ذائقة فنية وموهبة في فن الرسم حيث أسعفته الريشة والألوان في مراحل من العلاج للتغلب على صعوبات المرض في السنوات الأخيرة؛ كما عبر من خلالها عن جوهر استيعابه وقناعاته في القضايا الوطنية.

 حدثني صديق لي من أيام الدراسة بأن الفقيد  كان مبدعًا ومن أبرز من برعوا وتطوعوا في استخدام بعض التقنيات الاحترافيّة لعمل بعض البوسترات لصور الشهداء أو المناسبات الطلابية والوطنية، كما سجلت له مواقفه الوطنية الراسخة من قناعات وانحياز ووعي ثقافي وسياسي تعرض عبره للمضايقات ودفع أثمانها غاليًا لاسيما حين جاء قرار إبعاده مع بعض طلبة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين من الكويت ومنعهم من استكمال الدراسة في الجامعة على خلفية خلافات وشجار مفتعل حدث بين أعضاء من نادى الطلبة وآخرين من الاتحاد الوطني لطلبة البحرين – فرع الكويت؛ علمًا بإن النادي أنشئ في الأصل في تلك الفترة لمزاحمة الاتحاد والقضاء على نشاطه الطلابي.

عند عودة الفقيد للوطن، عمل بنشاط والتزام مهني في القطاع المصرفي الذي أكسبه خبرة وعطاء واقترن بصديقتنا الغالية الأم والزوجة الحنون "بدرية القاسمي" التي أنجب منها ثلاث شابات "إيمان وأمل ومريم" حيث أحاطته هذه الأسرة الصغيرة الرائعة بفيض من حنان وحب ورعاية لم يتوقف.

 في فقده اليوم، نترحم عليه إنسانًا خلوقًا عرف بمحبته للخير والعطاء، وندعو له  بالرحمة والسكينة وأن يلهم أسرته الحنون وأفراد عائلته الصبر والسلوان.

 

المنامة - 29 أغسطس 2025






السبت، 23 أغسطس 2025

هل المقاومة ذكورية؟

 


منى عباس فضل

 

بشأن مناقشة الكاتب موسى السادة في مقالة له بعنوان: "إسرائيل الكبرى": حديقة الحيوانات والرجولة في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 21 أغسطس/آب 2025؛ أتفهم حرقة قلبه إلى ما آلت إليه أوضاعنا العربية من واقع انهزامي عبرت عنه ممارسات النظام العربي الفاشل للقيام بأدواره ومستوجباته وتخاذله وتآمره على القضية الفلسطينية والحق العربي؛ لكن من الصعوبة في آن؛ تمرير وتسويغ "منطقه الذكوري" في تحليل عملية المقاومة والنضال ضد الاحتلال وحصرها في شجاعة الرجولة "كقيمة متجذرة في العقل الجمعي" ومسؤولية المقاومة كواجب يخص الرجال الشجعان فقط.  

 

صحيح وله الحق في مقاربته لما تناوله تقرير سوري رسمي حول أحداث الساحل، بأن يساق وبإرادتهم للحرب الأهلية ومسلخ الاقتتال على الهوية 200 ألف مقاتل، أضعاف ما يستدعيه جيش العدو من الاحتياط لاحتلال مدينة داخل غزة، فيما هم عاجزين -أي "مقاتلي العشائر والطوائف والوطنيات العربية"- عن إرسال هذا العدد أو أقل منه واستحضار قيم الشجاعة والمروءة والأخلاق لمواجهة العدو الصهيوني في غزة، نعم تساؤله منطقي وعقلاني، بيد إنه هنا يستثير النخوة العربية الذكورية في مواجهة الاحتلال ولا غير؟!

 

إن ترجمة المعاناة القاسية والمتوحشة التي يمر بها واقعنا العربي؛ لا تمنحنا مبرراً طوعياً للتخلي عن مفاهيم الحداثة التي استوعبنا صياغتها وفهمنا مفاهيمها ودلالاتها؛ والتي يأتي على قمتها مفهوم "المساواة"! إن ما ذهب إليه الكاتب يعكس بعداً فكرياً وسيكولوجياً وسيولوجياً؛ وهو بحق يخترق الذات الجمعية في مجتمعاتنا ويتجاوز من خلالها لغتنا وقناعاتنا وحتى حريتنا في التفكير، فالمرأة في منهجه التحليلي فعل مستتر وغائب ولا وجود له في فعل المقاومة والنضال؛ إن المقالة حمالة بعداً فكرياً ووعياً فاقعاً ومكشوفاً وقائماً على إن العملية النضالية ومقاومة الاحتلال هي في الأصل والتكوين "ذكورية" بحته صفتها ومدلولاتها "الشجاعة والنخوة والإقدام"، وهي كما نعلم فكرة حاضرة ومعاشة في التاريخ العربي والتراثي تخص الرجال، وعليه تبقى المقاومة والتصدي للاحتلال والعدوان والاستعباد والقمع والإكراه بالنسبة إليه تتفاعل وتفسر في داخل أسوار "الأبوية" وقلاعها؛ هذا البعد الخفي يكسر الدائرة المفرغة فنحن أمام صراع فكري حقاً يتجاوز مرارة الواقع والانحطاط الذي وصلت إليه مجتمعاتنا في ظل الاحتلال الصهيوني-الأمريكي ونظام الاستبداد والقهر العربي.  

 

خاضت مجتمعاتنا العربية برغم قسوة الواقع؛ مراحل من التطوّر والتغييّر الذي لا يمكن فيه لجم فكرة وجود "المرأة" في الفضاء العام ولا يمكن تقييّد أدوارها وإلغاءها خارج أسوار "الفعل الذكوري" إن صح التعبير وفي المهمة النضاليّة بالذات ومقاومة المحتل ومواجهة الاستبداد، لا مدلول غامض فيما سوغه فهو واضح في استثارة النخوة العربية بلغة فصيحة لمواجهة الحالة الكارثية والخذلان الذي بتنا عليه، وشئنا أم أبينا إن جزء مما ينمي هذا التوجه في مفاهيم هكذا ومصطلحات، هو اللامبالاة وصمت غالبية نساء مجتمعاتنا العربية وعدم اكتراثها ولنقل قبولها بهذا الواقع وصمتها عن هذا التحليل والقبول به كمسلمة لمجرد إنه مع القضية الفلسطينية وضد الاحتلال الصهيوني.

 

في حقيقة الأمر، نعم لا يمكننا الانفلات من قيود الحاضر ولا استحضار صور الماضي ونماذجه لمواجهة المحتل، إلا إن الحاضر كما يقول هشام شرابي "هو أرض المستقبل وهدفه ودون العمل فيه وتغييّره لا يمكن العمل في المستقبل وبناءه"؛ وعليه لا يمكن لمجتمعاتنا العربية أن تتحرر من الاحتلال والاستعباد وانتهاك الحريات والحقوق طالما قبلنا واكتفينا "بالذكورية" منهجاً وتفكيراً وأسلوب حياة ودرباً للتحرر والانعتاق.

إن قسوة الواقع وكارثيته تتطلب منا كأفراد رجالاً ونساءً وعيّاً مكثفاً لفهم الإشكاليّات والقضايا التي نعايشها ونعاني وزر نتائجها،  صحيح إننا نسعى إلى التحرر من الاحتلال الصهيوني والإخضاع والاستبداد والاستعمار، لكن الصحيح أيضًا إننا مطالبين وبالأخص المثقفين الحداثيين والملتزمين تميز أدوارنا في "المجتمعات العربية الأبويّة المعاصرة"، فنحن كنا ولا نزال في مراحل استهداف التغييّر الاجتماعي أو ما يطلق عليه "الثورة الاجتماعيّة"؛ هذا ليس تنظير من أبراج عاجيّة، إن تغير المجتمع والإنسان يتطلب مجابهة الواقع السياسي المعاش من خلال وعي اجتماعي سياسي يدرك ماهية وطبيعة دور "قوة السلطة القمعيّة في مجتمعاتنا دينية كانت أو سياسيّة أو احتلاليّة"؛ إن في هذا الوعي فرصة لمواجهة حروب الهويّة والاقتتال المذهبي والإثني والارتقاء به إلى تحرر الإنسان والأوطان؛ في هذا الصدد يشير شرابي ثانية وبما معناه وتصرف "إن الخطر الأكبر يأتي من داخلنا من التمسك بالإيديولوجيات الماضيّة والاتجاهات الفكريّة والممارسات السياسيّة التقليديّة التي لم تعد تصلح لمجابهة أوضاع الواقع الحالي وتحدياته...إلخ".

 

إن نزعة التغييّر والتحرر من الاحتلال الصهيوني ومن الاستبداد والقهر يستوجب أن تتوافر في صميمها وجوهرها على إرادة قويّة على المستوى الفردي والجمعي، إرادة التحرر من الاحتلال والاستعمار وإرادة في آن لتغيير النظام الأبوي الذكوري، أن لا يحكمنا هذا النظام في مفاصل حياتنا اليوميّة وقراراتنا؛ أن نتحول إلى نظام آخر يقبل "بالمساواة وبالعلاقات النديّة والأفقيّة" وأن يتجاوز مستوى الوعي فيه وفي حاضرنا مسألة استحضار مفهوم الشجاعة والنخوة بمنطق ذكوري، فهذا المنطق لن يمنحنا الحلول النهائيّة لمشكلات مجتمعاتنا العربية ولن يحررنا ولن يأخذنا إلى حاضرة الحداثة والتطوّر التقني.

 

إن التمسك بالذكورة كأداة حل ومدخل للتحرر من الاحتلال؛ إنما يعكس عورة أيديولوجية ونفاق أخلاقي وقيمي على حساب النصف الآخر من المجتمع، وفيه ما فيه من التكاذب على الذات، فأمثلة الإقدام والشجاعة والمروءة والكرم والنخوة في مجتمعاتنا العربيّة التاريخيّة لها ما لها وعليها وما عليها وهي ليست نموذجًا موضوعيّاً يحتذى به لإعادة قراءة واقعنا الحاضر. إن بروز الوعي الاجتماعي والسياسي على المستوى الفردي والمجتمعي الناقد لذاته وأوضاعه لهو شرط أساسي ومركزي لتغيير الواقع الأبوي وتجاوز تناقضاته بل لمقاومة الاحتلال ومواجهة كوارثه وتحقيق التحرر والعدالة ونيل الحريات.  


المنامة - 23 أغسطس 2025

السبت، 2 أغسطس 2025

"ألبانيز" والعقوبات الأميركية

 

منى عباس فضل

جاء اليوم الذي بتنا فيه شهودًا على ظاهرة مرعبة تتعلق بعدالة القانون الدولي والتي يُستوجب الوقوف عندها. إنها قضيّة جوهريّة ذات دلالات على التكوين البنيوي للإمبرياليّة المتوحشة وتمدّد نفوذها؛ وبما تُعبر عنه من أزمات أخلاقيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وذلك لارتباط شركاتها ومؤسساتها بمنظومة كيان العدو الصهيوني وآلته الأمنية والعسكرية.

 

الظاهرة المرعبة تتمثل في قضيّة المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة "فرانشيسكا ألبانيز" التي فرضت عليها الإدارة الأميركيّة "عقوبات" لا لسبب سوى إنها مارست عملها وحكّمت ضميرها ومبادئها ووثقت تفاصيل الحرب و"الإبادة الإسرائيليّة للفلسطينيين في قطاع غزة" منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، هذه الحرب التي تسببت بسقوط أكثر من 58 ألفا و677 شهيدًا فلسطينيًا و150 ألف جريح أغلبهم أطفال ونساء وألقت فيها 125 طنًا من متفجرات دمرت 88 بالمئة من القطاع وخسائر تفوق 62 مليار دولار وتهجير مليوني مدني وكوارث مجاعة ستخلدها ذاكرة التاريخ.  

 

ألبانيز لم تكتفِ في توثيقها الجرائم الإسرائيليّة في تقرير أو اثنين؛ إنما عدة تقارير أحدثها قدمته الشهر الماضي إلى مجلس حقوق الإنسان، اتهمت فيه أكثر من 60 شركة عالميّة من بينها شركات أسلحة معروفة كـ"لوكهيد مارتن الأمريكيّة" و"ليوناردو الإيطاليّة العاملة في الفضاء والدفاع والأمن"، و"كاتربيلر ّتي ترتكبها إسرائيل في غزة، فهي ضالعة في تزويد إسرائيل بأسلحة ومعدّات تُسهل استخدام أدوات المراقبة، وتدعم مشروعها الاستعماري في تهجير الفلسطينيين واستبدالهم؛ ما يعني تحملها المسؤوليّة القانونيّة بإلحاق الدمار بغزة وتجويع أهلها وانتهاكات حقوق الإنسان فيها. المقررة لم تكتفِ بوصف المأساة وإنما طالبت بملاحقة الجهات والشخصيات الضالعة في جريمة الإبادة. ومنه يبقى السؤال مفتوحًا عن تداعيات هذه العقوبات وآثارها؟

 

التداعيّات

لا شك أن التداعيّات خطيرة ويمكن استنباطها من ردود الأفعال الشديدة التي عبر عنها وزير الخارجية الأميركي في وصفه جهود ألبانيز بغير الشرعيّة والمخزيّة لحثها المحكمة الجنائية الدوليّة على التحرك ضد مسؤولين وشركات ومديرين تنفيذيين أميركيين وإسرائيليين.. قال: لا تسامح مع حملتها بعد الآن من حرب سياسيّة واقتصاديّة على الولايات المتحدة وإسرائيل مؤكدًا مواصلتهم لاتخاذ أي خطوات ضروريّة، وإنهم سيقفون دائمًا مع شريكتهم إسرائيل في الدفاع عن النفس". الأخطر منه تهديدات البعثة الأميركيّة في الأمم المتحدة ومطالبتها بإقالة ألبانيز من منصبها متهمة إياها بـ"معاداة السامية" ومحذرة من أن عدم إقالتها سيضعف الأمم المتحدة وسيتطلب اتخاذ إجراءات جادة على سوء سلوكها، كما اتهمتها بتحريف مؤهلاتها وترخيصها المهني. الجدير بالذكر أنه سبق للولايات المتحدة أن فرضت عقوبات على أربع قاضيات في المحكمة الجنائية، على خلفية قضايا مرتبطة بمذكرة توقيف لنتنياهو ووزير دفاعه السابق، تحظر عليهن دخول الولايات المتحدة وتجميد أي أصول يملكنها فيها.

 

مقابل ذلك توالت الانتقادات الدوليّة على لسان مسؤولي الأمم المتحدة كـ"ستيفان دوجاريك" الذي وجد إن استخدام العقوبات أحاديّة الجانب ضد المقررين الخاصين أو أي خبير أو مسؤول آخر في الأمم المتحدة يعد "سابقة خطيرة" و"أمر غير مقبول"، موضحًا بأن هؤلاء لا يقدمون تقاريرهم إلى الأمين العام، وليس لديه سلطة عليهم أو على عملهم، وعليه يحق للدول الأعضاء التعبير عن آرائهم والاختلاف مع تقاريرهم، فيما أبدى رئيس مجلس حقوق الإنسان "يورغ لاوبر" أسفه قائلاً: "إن السيدة ألبانيز تم تعيينها بواسطة مجلس حقوق الإنسان، وإن المقررين الخاصين يُعدون أداة أساسيّة للمجلس في أداء ولايته المتمثلة في تعزيز وحماية جميع حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، داعيًا إلى الامتناع عن أي أعمال ترهيب أو انتقام ضدهم"؛ أما المفوض السامي "فولكر تورك" فقد حث على التراجع الفوري عن العقوبات، وتوقف الهجمات والتهديدات ضد المقررين وضد مؤسسات كالمحكمة الجنائيّة الدوليّة.

 

إسكات الضمير

من جهتها رأت "ليز ايفنسون" من هيومن رايست ووتس: "أن الولايات المتحدة تعمل على تفكيك المعايير والمؤسّسات التي يعتمد عليها الناجون من الانتهاكات الجسيمة وإن فرض العقوبات محاولة لإسكات خبيرة أممية عن أداء عملها، والتحدث عن الحقيقة بشأن الانتهاكات الإسرائيليّة ضد الفلسطينيين، داعية الحكومات والشركات إلى عدم التواطؤ، وشدّدت على أهميّة مقاومة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية بقوة للجهود السافرة من الحكومة الأميركيّة لمنع العدالة في أسوأ الجرائم في العالم، وأن تدين العقوبات المشينة المفروضة على "ألبانيز"، أما الرئيس السابق للمنظمة وصف العقوبات: "بأنها محاولة لردع الملاحقة القضائيّة لجرائم الحرب الإسرائيليّة والإبادة الجماعيّة في غزة".

 

المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بدوره ندد بالعقوبات واعتبرها مؤشرًا خطيرًا على انحراف السياسة الأميركيّة تجاه منظومة حقوق الإنسان ولردع من يكشف تواطؤها في جرائم الاحتلال ضد المدنيين في غزة، كما إنه يمثل تهديدًا لاستقلاليّة عمل المقررين الأمميين، وجدًد دعمه لألبانيز ولمواقفها داعيًا إلى تحرك دولي عاجل لحماية المنظومة الحقوقية من الضغوط السياسيّة التي تقوّض دورها الرقابي والأخلاقي.

 

في السياق أصدر "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" بيانًا ندد فيه بالعقوبات وذكر بإنها محاولة لإسكات صوت الحق وكسر شوكة الضمير العالمي وإن استهداف ألبانيز يمثل اعتداءً صارخًا على صوت الحق داخل منظومة العدالة الدولية التي فشلت في تحمل مسؤوليّاتها كاملة تجاه فضح الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية. وأكد بأنها مارست دورها بمهنيّة وشجاعة واضعة الحقيقة أمام العالم: أن الاحتلال ليس فقط غير قانوني، بل يقوم على منظومة أبارتهايد وإبادة ممنهجة لا يمكن السكوت عنها.

  

ألبانيز تتحدى

"فرانشيسكا ألبانيز" لم تصمت إزاء الحرب عليها وعلى مواقفها واعتبرت فرض العقوبات أسلوب من "أساليب ترهيب مافياويّة.. وقالت بثقة؛ "أنا منشغلة بتذكير الدول الأعضاء بالتزاماتها وقف ومعاقبة الإبادة الجماعيّة، ومن يستفيد منها.." وأضافت "يستحق المواطنون الإيطاليون والفرنسيون واليونانيون أن يعلموا أن كل عمل سياسي ينتهك النظام القانوني الدولي، يُضعفهم ويعرضنا جميعًا للخطر.. وطالبت هذه الدول بتقديم توضيحات حيال سماحها بتوفير مجال جوي آمن لنتنياهو المطلوب للعدالة الدوليّة لارتكابه جرائم حرب"، منوهة بأنها تواجه الآن تجميد أصولها وقيودًا محتملة على السفر، وحذرت بأنها سابقة "خطيرة" للمدافعين عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، إذ لم تعد هناك خطوط حمراء، إنه أمر مخيف، ربما يمنعني ذلك من التنقل، سيكون له تأثير على الأفراد الذي يتعاملون معي، لأنه بالنسبة للمواطنين الأمريكيين أو حامل البطاقة الخضراء، سيكون هذا الأمر إشكالاً كبيرًا"، واعتبرت إن العقوبات بحقها مصممة لإضعاف مهمتها، لكنها وبإصرار أكدت استمرارها لما تقوم به وإن شكل ذلك تحديًا لها.

 

إلى هنا لا عجب إن انطلقت حملات التضامن من أحرار العالم ومنظماته الحقوقيّة لمساندة فرانشيسكا ألبانيز ومعلنة رفضها للعقوبات الانتقاميّة ودوافعها السياسيّة، ولا مبالغة إن رشحوها لنيل جائزة نوبل. إن "ألبانيز" في هذا الزمن الكالح تمثل نموذجًا للمصداقيّة المتبقية من القانون الدولي؛ ودعمها ومساندتها في حقيقته استنكارًا لجريمة الإبادة وتضامنًا ودفاعًا عن حق الفلسطينيين في الحياة والحرية والعدالة.

 

خلاصة الأمر؛ هذه العقوبات تكشف عن مدى تآكل مصداقيّة المنظمة الدولية وعجزها بل وفشلها في الحفاظ على أمن الأبرياء ومنع وقوع حروب التطهير العرقي وجرائم الإبادة، وهي حلقة من حلقات الترهيب السياسي ومحاولة لإفلات الاحتلال من المساءلة على جرائمه الأكثر همجيّة ووحشيّة ضد الإنسانيّة، كما إنها انعكاس لهيمنة نفوذ الدول الكبرى الشريكة في الإبادة، فضلاً عن أن الفساد الرسمي الذي أصبح شرعيّا في الولايات المتحدة وبما يفسحه من مجال للشركات التي كشفت المقررة كيف تتربح من الدم الفلسطيني والمعاناة اليوميّة لأهل غزة وتهجيرهم وتجويعهم تحت الحصار والعدوان، إنها جزء من نظام امبريالي متوحش وهي ذاتها التي تتبرع وتمول حملات الأقليّة الانتخابية وتوصلها إلى سلطة القرار لتمارس أساليبها القذرة في مواجهة العدالة الدوليّة وفرض نفوذها؛ إنها معركة أخلاقيّة تستخدم فيها الأسلحة الأميركيّة والأوروبيّة كأدوات قتل وتدمير وبكثافة في إبادة المدنيين الفلسطينيين جماعيًّا ما يجعلهم شركاء لإسرائيل في جريمة التطهير العرقي والإبادة الجماعيّة. 


المنامة - 2 أغسطس 2025

 ينشر بالتزامن مع مجلة "الهدف" عدد تموز/يوليو 2025، (1547) بالتسلسل العام العدد 73 رقميًا* 

https://hadfnews.ps/post/133480/  لتصفح رابط المجلة  * 

الخميس، 24 يوليو 2025

سبعون عاماً وصوتها الأقوى

 

منى عباس فضل

تمرنا هذا العام الذكرى السبعون لتأسيس "جمعية نهضة فتاة البحرين" كأول تنظيم نسائي رائد في البحرين والخليج العربي؛ ومع كل منعطف زمني وفي كل مرحلة تاريخية من مراحل التغيير؛ تطوّر مسار "النهضة" وحضورها بفاعلية وتميز وبما يستحق التوقف عنده تأملاً وتحليلاً؛ فهي وبواقع الدلائل والشواهد؛ برزت بصوتها الأقوى الذي تجلى بتعبيراته على وضع المرأة البحرينية وعلى المجتمع ككل، لم لا وهي التي لامست احتياجات النساء ومشكلاتهن ومارست نشاطاً تراكميًا ملتزمًا وملموسًا برزت من خلاله أسماء رائدات تُوجت جهودهن بعصر ذهبي شكل قيمة مضافة في ساحة العمل النسوي في بلادنا، وإن كان ذلك بمقاييس ومعايير وظروف الفترات الزمنية التي خضن فيها نضالهن النسائي وصراعهن الاجتماعي.

 

ثمة ما يجمع عليه المحللون والمؤرخون بأن نشاط "النهضة" المتمرس قد اقترن بثقافة معرفيّة متراكمة؛ تنامت وتطوّرت في إطار عمليّة التغيير والتحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والإداريّة التي مرت بها البلاد وهي تنفتح على العالم بشكل لافت، فتشابكت أنشطتها وأدوارها الريادية وفاعليّة خطابها النسائي وبتأثير متبادل وتفاعلي مع المنظمات الأهليّة والنسويّة المحليّة والعربيّة والدوليّة، وقد استفادت بعمق من هذا الانفتاح في نسج العلاقات والتشبيك على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي؛ الأمر الذي ساعدها في إعادة صياغة رؤاها وأهدافها وأدوارها في المجتمع تلبية لتطوّر احتياجات الأفراد وخصوصًا النساء منهن على الرغم من التحديات والصعوبات التي واجهتها ولا تزال.

 

في سياق الحراك التاريخي الاجتماعي والسياسي برزت مستجدات أثرت على ماهيّة الأدوار التي لعبتها "النهضة" في كافة أنشطتها وفعاليّاتها، ومنها المتغير السياسي المحلي والعربي على مدى عقود إضافة إلى تأثير الثورة التقانية والاتصالاتية؛ ما جعلها في مواجهة جملة من التحديات والتعقيدات المتعلقة بقضايا النساء وحقوقهن وهمومهن الأسريّة.

 

ولتعزيز واقع المرأة ومكانتها وتعدّد أدوارها في المجتمع؛ توجهت "النهضة" نحو مأسّسة عملها التطوعي من خلال أطرها وهياكلها التنظيميّة حيث ساهم في ذلك نهوض الدولة وتطوّرها الإداري لاسيما لجهة التشريعات والقوانين، وكل هذا وذاك قادها إلى التحول النوعي في أداء أنشطتها من العمل "الرعوي الخيري" الذي كان يتم عبر "مشاريع تعليم الكبار ومحو الأمية" ودورات الخياطة وإقامة المهرجانات التضامنية والأسواق الخيرية ومحاضرات التوعيّة الثقافيّة والصحة الإنجابيّة وتأسيس الرياض والحضانات؛ إلى أخذ زمام المبادرة في تبني اتجاهات العمل المطلبي والحقوقي للنساء في منعطفات تاريخية منذ سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وحتى مرحلة الإصلاح السياسي مع بدء الألفيّة؛ فثمة مطالبات لها تركزت حول مطلب إقرار "قانون للأحوال الشخصية" و"منح حق المشاركة السياسية للنساء" وأخرى بتحسين ظروف العاملات "ساعات العمل والرضاعة وتأمين بيئة عمل لائقة" وغيرها.


كما تبنت "النهضة" من كونها حركة نسائية ديمقراطية مطلبيّة؛ مرجعيتها ما جاء في الدستور والميثاق بمنح حق المساواة، و"منهاج بجين" و"مخرجات مؤتمر السكان" و"المعاهدات والمواثيق الدوليّة" "كاتفاقية السيداو" و"الإعلان العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة"؛ تبنت العديد من المفاهيم كالتمكين والمساواة ومصطلح النوع الاجتماعي والأهداف التنمويّة التي تستهدف تمكين النساء والدفاع عن حقوقهن ومصالحهن الماديّة بالسعي إلى إقرار التشريعات والقوانين المنصفة لهن وإلغاء التمييز ضدهن في قانون العقوبات والجنسية وقانون الأسرة وإنصاف المطلقات والأرامل والمعلقات ومنح الأم البحرينية المتزوجة من أجنبي الحق في نقل جنسيتها لأبنائها، واستمرارها في حملات قانون الجنسية والمشاركة السياسية. 

 

والحق يقال؛ فقد تميزت "النهضة" أيضًا بدورها الريادي وقدرتها على تحديد استراتيجيتها وخطط عملها وتبني تحالفاتها مع "الجمعيات النسائيّة" والأهليّة وإدارة التشبيك والحوار معها بفاعليّة؛ أدت إلى تأسيس "الاتحاد النسائي البحريني" وبإرادة نسائية جماعيّة؛ وإلى تحقيق العديد من المكتسبات المتعلقة بقضايا المرأة والتشريعات التمييزية ضدها، فضلاً عن تبني "أهداف التنمية المستدامة" التي تستهدف تمكين المرأة ومساواتها، فيما تركز نشاطها في السنوات الأخيرة وبكثافة على المطالبة بتعديل "قانون الجمعيات الأهلية" وبما يفتح المجال لحرية ومرونة واستقلاليّة أكثر للعمل النسائي الأمر الذي جعلها في حركة تغير حداثي ضاغط لمصلحة المرأة البحرينية في المجتمع.  

 

من هنا؛ وارتكازًا إلى هذا التاريخ الحي المتحرك والممتد بنشاط وحيوية، صار لازمًا و"النهضة" تحتفل بالسبعين عامًا من عمرها؛ التوقف وإمعان النظر لمراجعة الأهداف التي تأسست عليها؛ واحتساب ما لها وما عليها من خلال تبين نقاط القوة والضعف؛ وبالتسلح بالآليّات الدوليّة كقوة معنوية عند المطالبة بتحديث التشريعات والقوانين التي تمثل أبرز الأهداف التي تسعى إليها. وهذا يستوجب مراجعة مسار العمل وإلى أين وصلت به وكيف ستواصل المسير؛ فالزمن يتغير في رتم سريع ويفرض طرح العديد من الأسئلة المتداخلة والمتعلقة بالطاقات والمهارات لكوادرها المتبقية ومدى ملاءمتها لماهيّة البرامج والأنشطة التقليديّة المعتمدة والتي في جوهرها تمس مشكلات المرأة والفتيات خصوصًا مع استمرار ظاهرة عزوفهن عن العمل التطوعي والنشاط في أطر الجمعيات النسائيّة؛ ومنه يحق السؤال: هل الخلل في الأهداف التي رسمت منذ سنوات وجمود البرامج؟ أم إنه يكمن في طرق وأساليب العمل والتواصل التقليديّة في عرضها للبرامج؟

 

فهذه الأسئلة وغيرها تتطلب تدوير نقاش وتبادل للآراء حول حقيقة "واقع جمعيّة نهضة فتاة البحرين" وما تقوم به من دور ومدى فاعليّة الأنشطة التي تمارسها؛ وبما يتلاءم والمتغيرات السريعة التي تجري في عالمنا وتؤثر على واقع المرأة واحتياجاتها المتغيرة؛ كما يستلزم مراجعة العديد من المصطلحات والمفاهيم وخطط العمل التي تبنتها منذ عقود ومناقشة مدى ملاءمتها لواقعنا المحلي، فضلاًَ عن تقييم حالة التشبيك والتواصل بينها وبين الجمعيات النسائيّة الأخرى في سبيل إرساء البعد القادم من العمل النسائي وآليّاته بواقعيّة وموضوعيّة تتناسب والمتغيرات التي تجري في عالم يسوده الفقر والعنف والنزاعات والأزمات.


المنامة – 24 يوليو 2025

v   ينشر بالتزامن مع نشرة "النهضة" إصدار جمعية نهضة فتاة البحرين في عددها الثاني يوليو 2025