السبت، 25 أغسطس 2018

مزوري الشهادات سرقونا مثل المجرمين

منى عباس فضل
 قبل ثلاثة أعوام وفي إطار حملته الأوسع لمكافحة الفساد أمر رئيس تنزانيا بفصل أكثر من (9900) موظف مدني بعد اكتشاف وجود آلاف منهم بشهادات مزورة، لم يكتف بذلك بل أقال مسؤولين بارزين من مناصبهم، وفي السياق تبين وجود أكثر من (19,700) موظف وهميين يتقاضون رواتب من القطاع العام وقال: "في حين نعمل بدأب لخلق فرص عمل جديدة، هناك من يعملون في الحكومة بدرجات علمية مزورة، الحكومة بهذا تخسر ما قيمته "107 ملايين دولار" سنوياً في دفع رواتب لموظفين وهميين أقيلوا الآن من القطاع العام، وأمر المسؤولين بإعلان أسمائهم وفضحهم لأنهم تقدموا بأوراق مزورة..؛ مضيفاً:  

-   هؤلاء الناس شغلوا مواقع حكومية دون مؤهلات كافية... لقد سرقونا مثل المجرمين.

في 2011 قدم وزير الدفاع الألماني "كارل تيودور تسو جوتنبرغ" استقالته من منصبه وهو الأكثر شهرة حيث كان مرشحاً محتملاً لمنصب المستشار الألماني، لماذا؟ بسبب "فضيحة" أكاديمية كشفها أكثر من 200 أستاذ جامعي طالبوا الوزير بالاستقالة منتقدين دعم ميركل له، أما جامعة بايروث التي منحته الدكتوراة أقرت بأنه "انتهك المتطلبات العلمية إلى درجة كبيرة". هل من حكمة في سرد الحكايات أعلاه؟

-   نعم وخصوصاً للجادين في مكافحة التزوير وبناء منظومة إجراءات رادعة لهذه الجريمة.




مافيا التزوير
في مصر تشير صحافتهم إلى أن جامعاتهم منكبّة في مواجهة الشهادات العلمية المزورة، ويقول عميد كلية الحقوق بجامعة القاهرة، إن الأمر تم رصده بكثافة فيما يشبه المافيا، وطبقا للقانون تعتبر هذه الشهادات تزويراً فى محررات رسمية، وعقوبتها قد تصل للأشغال الشاقة المؤقتة، مضيفاً؛ إن الجامعة اتخذت إجراءاتها الاحترازية، واتفقت مع إحدى الجهات السيادية "القوات المسلحة" على استصدار شهادات التخرج مع بداية العام الدراسى، أما جامعة عين شمس فاستعانت بخبرات أجنبية لمحاربة التزوير ومنعه من خلال استيراد أوراق "نماذج الشهادات" من اليابان تتميز بعدم قابليتها للطى والتلف، وهي خطوة تبعاً لهم جيدة وناجحة لمحاربة مافيا التزوير، فيما تكشف تقارير أخرى شن وزارة الداخلية حملات أمنية على مراكز علمية وهمية، تقوم بإصدار شهادات مزورة وتم تشميعها وتحرير محاضر ضد أصحابها بتهمة النصب والاحتيال، وألقي القبض على عاملين بالجهاز الإدارى للدولة بتهمة التزوير لاسيما أحدهم الذي اشتهر بتزوير"11" شهادة دكتوراه. هل هذا يكفي لمكافحة مافيا التزوير؟

غش وتدليس
كتب مواطن سوداني مقالة له بحرقة قلب كاشفاً من خلالها عن عقود أبرمت لعراقيين يحملون تخصصات يحملها عشرات السودانيين العاطلين عن العمل، وأن فضائح التزوير في الألقاب العلمية مرتبطة بوزارة التعليم العالي وكليات التعليم التقني والبحث العلمي وإنه وحسب المستندات التي فحصها وتأكد منها؛ هذه الهيئة تغوص في بركة من الفساد وتساءل عمّن يراجع الأوراق ويحقق في العقود والألقاب التي توزع على كل من هب ودب علينا من أية دولة عربية شقيقة أو أخرى؟ وساق مثالاً عن تعيين دكتور عراقي بقرار وزاري عميداً لكلية الجريف شرق التقنية وهو المتخصص في الاحصاء -أي في مجال يحمله عدد كبير من المواطنين- ورغم ذلك تم التعاقد معه بعقد دولاري كبير دون تمرير العقد للمستشار القانوني لوزارة التعليم العالي إنما عبر وزارة الزراعة، الغريب أن الرجل لا يحمل إلا درجة الماجستير وقت توقيع العقد معه على إنه "دكتور" وتبين أن شهاداته غير موثقة من الخارجية العراقية مما يعد مخالفة للائحة الخدمة المدنية، وتتابع فصول الفضيحة حسب وصفه باختيار هذا العميد نائباً له من نفس جنسيته بزعم أنه دكتور ورئيس لقسم علمي ويوقع معه عقداً بنفس الطريقة عام 2007 فيما حصل على الدكتوارة في 2010 من جامعة النيلين، وفي هذا تلاعب فاضح. وأضاف: "تحدث تلك التزويرات الخطيرة والألقاب الوهمية في مؤسسات تعليم عال يرسل أهلنا المواطنون أبناءهم فيها ليتعلموا وينالوا الدرجات العلمية، فهل ينجح صاحب الدرجات الوهمية في تخريج طلاب يحملون درجات علمية حقيقية؟ وأي فساد هذا الذي يحدث في مؤسسات التعليم وأي استهتار؟ وكيف ستكون المعالجة؟    

ويختتم: "سادتي ولاة الأمر في بلادنا هل تقرون بتوزيع الألقاب على الناس مثل توزيع مطبقات الاعلانات في شارات المرور، ولو كانت الدرجة العلمية تؤخذ هكذا مثلما يأخذ أحدهم احتياجاته من أرفف السوبر ماركت؟ وأين وزراة العدل وديوان شئون الخدمة ووزارة العمل"؟!! أنتم أخوة أشقاء نعم؛ ولكن بلادنا ليست سايبة؛ بلادنا مليئة بالعلماء الحقيقيين وحملة أرفع وأكبر الدرجات العلمية ياهؤلاء، أما تهاون وزارة التعليم العالي وما يسمى بهيئة التعليم التقني فإن إقالة هؤلاء بالجملة لن تكفي لإصلاح هذا الكسر العميق في ساق الأمانة العلمية". 


التزوير جناية
في دولة الإمارات تشهد المحاكم قضايا كثيرة سنوياً حول تزوير الشهادات، وهي تعتبر قضايا "جناية" يحاكم فيها المتهم ويعاقب فيها المزورون بالسجن مدة لا تزيد عن عشر سنوات، كما يعاقب بالسجن كل من زور صورة محرر رسمي وتم استعمال تلك الصورة مدة لا تزيد على خمس سنوات، وفي أبوظبي وحدها كشفت النيابة العامة عن إحالة "100" قضية بتهمة تزوير محررات رسمية خلال 2014 تمثلت فيها الشهادات الدراسية المزورة نسبة "40%"، أما وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فكشفت عن ضبط "33" شهادة مزورة خلال الأعوام من 2011-2013.

في الكويت التي اهتزت مؤخراً بفضيحة بيع "200" شهادة جامعية مصرية مزورة مقابل 4 آلاف دينار عن كل شهادة. انكشفت خيوط الجريمة باعتراف حامل شهادة مزورة في الحقوق بحصوله عليها دون دراسة وبالتعاون مع وافد مصري يعمل في وزارة "التعليم العالي". إثرها تصاعدت دعوات نواب بمجلس الأمة تطالب بسرعة محاسبة المسؤولين والمتورطين، واقترحوا سن قانون للحبس والغرامة والعزل للمتورطين، وطالبوا الحكومة بفضح المتنفذين الواقفين بوجه تحركات وزير التربية والتعليم المنطلقة من مسؤوليته الدستورية والقانونية للقيام بواجب إحالة المتورطين للنيابة، خصوصاً وقد تبين أن بعض من رفض اعتماد شهادات إحدى الجامعات غير المعترف فيها، قد تعرضوا للضغط والتهديد وتم دفعهم للتخلي عن مناصبهم، وأضاف أحد النواب: "عندما تكون الحكومة ضعيفة ولا يتم محاسبة الفاسد، طبيعي سينتشر الفساد وكذلك التزوير سواء في الشهادات أو المعاملات (من أمرك.. قال من نهاني)، متسائلا هل سيتم ملاحقة ومحاسبة أصحاب الشهادات المزورة" أم فقط الوافد؟! "ورونا مراجلكم يا حكومة".

رسمياً الحكومة الكويتية لم تدفن رأسها كالنعامة، لم تلوذ بالصمت وتجاهل الأصوات المحتجة، بل صرحت على لسان أحد مسؤوليها، إن جهود كافة الجهات في مكافحة الشهادات المزورة، تحظى بدعم كامل من رئاسة الوزراء وبأن إحالة الملف إلى النيابة العامة هو استكمال للإحالات السابقة، واستكمال للخطوات التي اتخذتها الأجهزة الحكومية في مواجهة التزوير ومكافحة الفساد، لم لا وقد بينت التحقيقات أن هناك ما لا يقل عن (100) مواطن حصلوا على شهادات مزورة في "الحقوق" من ضمنهم من يتقلد مناصب قيادية ومحامون، والأنباء تتوارد عن استدعاء المباحث لهؤلاء للتحقيق معهم وتم إحالة 20 ملفًا للنيابة بانتظار إحالة 30 ملفًا آخرين.


                      
أما هنا وإذ تتشابه حكايات تزوير الشهادات والجامعات الوهمية بما سبقها؛ وهي آخذة بالتفاقم والتداعي مع غياب الشفافية والتحقيق والمحاسبة واستمرار إنشغال الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي بمن تورط فيها من مواطنين أو أجانب ممن يشغل بعضهم وظائف قيادية، يبدو أن القضية الكارثة دخلت كغيرها دائرة التمييع، ويبدو أن الجهات المعنية بها والتي تستجلب الوافدين والأجانب لمهنة التعليم ومنهم من زور مؤهلاته وشهاداته؛ وكأن البلد خلت من الآف المعلمين المواطنين المؤهلين العاطلين، يبدو إنها في سبات عميق وكأن الأمر لا يعنيها، الأسوأ منه تحوير دفة معالجة تزوير الشهادات والجامعات الوهمية والفساد في التعينات الوظيفية المستندة على التزوير باتهامات الخيانة والعمالة؛ صحيح هذه الظاهرة لا وطن لها، لكن الصحيح أيضا إنها قابعة كالفيل في ركن الغرفة، يعني "تطز العين".

المنامة – 25 أغسطس 2018
منى عباس فضل


الأحد، 12 أغسطس 2018

صدمة ورعب أم تضليل وجريمة؟

منى عباس فضل
مع قرع طبول الحرب الحالية في المنطقة بالتحشيد والتحريض ومع بدء حروب الولايات المتحدة التجارية الاستباقية، وبعد مضي خمسة عشر عاماً على الكارثة التاريخية التي ارتكبتها باجتياح العراق وتدميره تدميراً ممنهجاً لم تنتهِ تداعياته الأمنية والسياسية والاجتماعية حتى اللحظة، يعرض بالتزامن على شاشات السينما فيلم "صدمة ورعب Shock and Awe" للمخرج "روب راينر"، فهل من مغزى لذلك؟  

بالطبع، فحكاية الفيلم في خطوطه الزمنية تستند إلى أحداث ووقائع حقيقية تجعله أقرب للدراما الوثائقية، الفيلم يختصر رسالته من خلال رفع الغطاء عن "أعظم خطأ استراتيجي في التاريخ الأمريكي، وأكثر الأحداث المشينة في تاريخ الصحافة الأمريكية" تماما كما يصفها جنرال سابق. هي حقاً أكبر كذبة عاشتها شعوب العالم عامة والشعب الأمريكي خاصة، نقصد كذبة "امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل" التي أطلقت المبرر الأمريكي لتدميره. 

أحداث الفيلم استقرت بعناية على مرتكزين رئيسيين لهما علاقة بالشعب الأمريكي؛ أولهما مستوى الكذب في قوته اللحظية التي حفزت الشعور القومي ودفعت بشباب اليانكي للمشاركة في مستنقات القتل والاحتلال والتدمير ليعاد بهم للوطن الأم، إمّا في نعوش ملفوفة بعلم أو على كراسٍ متحركة وبأطراف مقطعة وعاهات مستديمة، وثانيهما عبر الـ"فلاش باك" بفضح الإعلام المخادع ودوره المتواطئ مع المؤسسات التي تحكمه في ترويج الكذبة، إلى جانب أصابع الدولة العميقة في السيطرة على الرأي العام لتبرير الحروب الهمجية المدمرة.


 اللافت أن الفيلم لا يعالج تداعيات ما حدث في الضفة المقابلة؛ نقصد بها كارثة الحرب التي جلبت الخراب والدمار الشامل للعراق بتدمير دولته وبناها التحتيه وانهيار الجيش وتفتيت المجتمع إلى هويات طائفية وإثنية وإذكاء صراعاتها العبثية، الحرب الذي راح ضحيتها نحو نصف مليون عراقي وملايين المشردين، وتفشّى بسببها الفساد وسرقة النفط والآثار وانهيار الاقتصاد وتدمير قدرة العراق التنموية وصناعاته الثقيلة والتحويلية والعودة به لعصور التخلف وإدخاله في حالة فوضى لانهاية لها، الغزو لم يجلب الديمقراطية على دباباته وطائراته إنما فكّك الدولة ومؤسساتها واستبدلها بدولة غير منتجة وفاسدة، ومع ذلك فما يعالجه الفيلم يشكل جانباً لفضيحة من الوزن الثقيل إذا ما أمعنّا النظر لما يجري حولنا من تحريض وتحشيد لاستئناف الحروب الجديدة التي ستأكل الأخضر واليابس.   


الكذبة الكارثة
يفتتح الفيلم بمشهد درامي في قاعة المحكمة لجندي أسود يجلس على كرسي متحرك يدعى "لوقا تيني" حضر ليدلي بشهادته أمام لجنة من الكونغرس حول كيف انقطع حبله الشوكي في انفجار بعد ساعات من هبوطه في العراق وليقدم قائمة طويلة من عدد ضحايا الغزو، ويمرر اعتذار رئيس المحكمة الذي طلب منه بصرامة الوقوف للأداء "بقسم الشهاده" لكنه يمكث في كرسيه للبدء بقراءة ما كتبه من بيان ثم يتوقف فجأة ليواصل الحديث ارتجالياً؛ بعدها ينتقل بنا المخرج إلى مشهد عن ضربات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وانهيار البرجين التوأمين ومبنى البنتاغون وتصاعد الدخان والنار وردود أفعال المؤسسات الإخبارية ومحاولة مراسليها تغطية الحدث وفهم الكارثة وانحياز الإعلام الأمريكي بوسائله من صحافة وخلافه إلى موقف إدارة "جورج بوش"، إذ اعتبروا تشخيص الأخير واتهاماته لمن ارتكب الجريمة أمراً مسلماً به وغير قابل للتشكيك والمساءلة، وأن هذا التسليم مرّر الكذبة المصطنعة التي برّرت الانقضاض على افغانستان وغزوه انتقاماً، لتأتي التقارير تباعاً بأن الجناة الفعليين "بن لادن وأتباعه" أحياء يختبئون في مكان ما بين أفغانستان وباكستان، ما يعني فشل محاولة القبض عليهم.

في اللحظة ذاتها يكشف الفيلم عن أجندة خفيّة لإدارة بوش وكيف أنه وعلى نحو متزايد يبدأ التخطيط لغزو العراق، يتبين ذلك من خلال تحقيقات المراسلين التي أشارت إلى دخول رجال أمن إسرائيليين إلى بنايات "وزارة الدفاع" ومقر "سي آي آيه" دون تأشيرة رسمية -أي سرياً- لتنفيذ العملية ودور أحمد الجلبي، ولأن الشعب الأمريكي كما يفيد المخرج في مقابلة له، مفجوع من أحداث سبتمبر فقد تحولت مشاعره وعقله باتجاه حب الوطن وعدم مخالفة الحكومة، فلم يعد يكترث بالمساءلة كيف ولماذا؟  

إعلام متواطئ  
أحداث الفيلم تتمحور حول أربعة صحافيين يعملون في شبكة "نايت رايدرKnight Ridder " المعروفين بتشكيكهم في رواية إدارة بوش للحرب، فهم لم يصدقوا الادّعاء بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، فراحوا يحفرون وينقّبون لتجميع الأدلة بشأن عملية الاحتيال لشن الحرب على العراق، تعرضوا لصعوبات، أخفقوا أحياناً لكنهم في نهاية المطاف نجحوا بفضولهم المهني وبمقارنة الملاحظات مع بعضها البعض وبما توصلوا إليه عبر شهادات موظفين من الـ"سي آي آيه، وزارة الدفاع" الذين كانوا حذرين وتجنبوا ذكر أسمائهم، فكشفت شهاداتهم حقيقة الكذبة، في رحلة التقصّي والإصرار كشفوا عن أن "دونالد رامسفيلد يكذب"؛ واجهوا الرفض والعداء من الحكومة والوسط الإعلامي ومن العامة واتهموا بخيانة الوطن، نالوا التوبيخ والتحقير ونصحهم البعض بمشاهدة ما تبثه وسائل الإعلام الأخرى كـ"سي أن إن ونيويورك تايمز وواشنطن بوست" وغيرها ممن يؤكدون على رواية الحكومة التي صنّفت العراق بدولة مارقة تهدّد السلم والأمن العالمي وتحذر من اعتداءات صدام على الولايات المتحدة بسلاح الدمار الشامل.

في الأثناء يحاول المخرج الذي يلعب دور رئيس تحرير "نايت رايدر" رسم خطِ فاصلِ بين نوعين من الإعلام، ذاك الذي يلوي الحقائق ويتلاعب بها ويكذب ويشوه لأغراض ومصالح ما، وآخر يتعامل بمهنية ونزاهة تحترم عقول الناس، يبرز ذلك في مشهد "راينر" وهو يذكر موظفيه "بأن وظيفتهم ليست طباعة ما تقوله الحكومة كما تفعل وسائل الإعلام الأخرى، بل إن وظيفتهم تكمن في السؤال: هل ما تقوله الحكومة صحيح؟ ذلك لأن قُرّاءهم ليسوا أولئك اللذين يبعثون أبناء الناس للحرب، بل هم من الناس اللذين يُبعث بأبنائهم للحرب".


إعلام فاشل
في مقابلة له مع الإعلامي حسام عاصي يوضح "راينر": "أعتقد أن الغالبية العظمى من الإعلاميين الأمريكيين نسوا مهمتهم، وهذا ما جعل الشعب لا يثق بإعلامه واندفع باتجاه المواقع الإلكترونية الخارجية بحثاً عن الحقيقة التي لا تتحيز لجهة دون أخرى وتركّز على تقديم الأخبار كما هي دون زخرفتها بطابع وطني أو فكرة مسبقة لا تستند إلى الحقائق"، معترفاً بأن الإعلام الأمريكي فشل في كشف الحقيقة، فهو يضلل الشعب فاقداً للمصداقية لكونه يروج لأجندات الشركات الضخمة التي تمتلكه وليس للمبادئ أو الحقيقة، إنهم يلجئون إلى الكذب لتبرير خوض الحروب البشعة تماما كما فعلوا عند تبرير حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي التي أسفرت عن قتل الآلاف من الشباب وحطمت الاقتصاد الأميركي". ومع تنقل الكاميرا وبحركتها الدؤوبة استمرت وسائل الإعلام في إصدار التقارير الملفقة عن أدلة أسلحة الدمار الشامل، وتجاهلت تقارير "نايت رايدر" ورُفض نشرها لأنها كما قيل لا تتماشي وتقارير نيويورك تايمز وواشنطن بوست اللتين جمعتا أكاذيب "جورج بوش وديك تشيني وكولين باول وكونداليزا رايس ودونالد رامسفيلد" وأسست عليها قضية أسلحة الدمار الشامل لصدام فصرفت أنظار السياسيين والمحللين عما وراء خطة الحرب بــ"الصدمة والرعب". 


في المحصلة؛ الصدمة والرعب كان باستعراض القوة وبهما استخدمت ترسانة الآلة العسكرية والتكنولوجية الذكية فائقة القدرة التدميرية، بالصدمة والرعب كان الحشد غير مسبوق، فالغاية كما تشير النظرية هي إرباك العدو وتشتت قدراته وتحقيق نصراً نهائياً عليه باستخدام القوة المفرطة والساحقة للسيطرة السريعة على ميدان المعركة وإيقاع أكبر عدد من الضحايا المدنيين وتدمير البنى التحتية وتعطيل وسائل الاتصالات والمواصلات والإمدادات الغذائية وإنتاج المياه وغيرها، السيطرة على العدو تعني شلّ رؤيته في الميدان والقضاء على إرادته الإنسانية والقتالية وأن لا يجد من الخيارات أمامه سوى التسليم بما يُملَى عليه. إلى هنا لا تعليق على ما حدث من جريمة، وما ننتظره من جرائم في قادم الأيام، لاسيما و"43%" من الشعب الأميركي لا يزال على يقين بأن غزو العراق كان قراراً صائباً.

المنامة – 12 أغسطس 2018
منى عباس فضل


الثلاثاء، 7 أغسطس 2018

الدين العام نفق مظلم

منى عباس فضل
الدين العام يتصاعد ومعه يتكرر تخفيض التصنيف الإئتماني للبحرين من(B1)  إلى (B2)، ما يعني أن سعي البنك المركزي لوكالات التصنيف لرفع التصنيف الائتماني غير الاستثماري للحصول على معدلات فائدة وأفضلية في السوق الدولي باعتبار أن هناك اكتشافاً نفطياً جديداً سيحسن من مستوى الإيرادات، قد صار هباءً منثوراً.

أفتى الخبراء بأن هذا التصنيف تم تحديده تبعاً لفرضية "موديز" بأن البحرين ستتلقى دعماً مالياً خليجياً قد يعدل من حالتها الائتمانية، برغم مما تردد بأن الدعم لم يكن كافياً وشاملاً كي يسعف الاقتصاد المحلي للحفاظ حتى على التصنيف (B2) بسبب سداد صكوك سيادية تقدر قيمتها بـ(750 مليون دولار) مستحقة مع نهاية 2018، فيما تؤشر التوقعات بأن الاحتياجات التمويلية أكثر من (30%) من الناتج المحلي الإجمالي ما بين 2018-2020، وحسب تقديرهم أيضاً أن هذا يمثل مستوى عالياً من المخاطر بمقياس المعايير الدولية، بل وفي ظل ضبابية طبيعة الدعم الخليجي، فقد سبق وأشار الاقتصادي جمال فخرو قبل عام "بأنه لا يمكن إضافة الدعم الخليجي للموازنة لأنه دعم مشروط بتنفيذ مشاريع محددة تحول مبالغه إلى المقاول مباشرة، وبحسب القانون لا يجوز في الموازنة تخصيص إيراد محدد للإنفاق على مصروف محدد"، مضيفاً "نشكر دول الخليج، لكن ما يحك جلدك إلا ظفرك..ويجب الاعتماد على أنفسنا" بيد أن الأسوأ منه يكمن في توقعات الخبراء بمزيد من التعثر عن السداد والنزول لقائمة(Caa1, Caa2, Caa3) . الهذا المستوى وصل الحال؟!

مشهد مخيف
نعم هكذا يبدو المشهد مخيفاً خصوصاً عند إمعان النظر في تطوّر الدين العام وتصاعده تاريخياً والذي وحسب فخرو "سندخل معه في نفق مظلم وهو دين ثقيل على البحرين"، لم لا ومؤشراته سجلت تصاعداً دراماتيكاً، ارتفع من الملايين إلى المليارات التي تخطت حاجز (1.9، 2.5، 3.5 مليار د.ب) بين الأعوام 2009-2010-2011 لتصل إلى (11.6 مليار د.ب) في 2018.  

أسباب تعاظم الدين العام متعددة أبرزها تأثيرات الأزمة المالية العالمية منذ 2008 وما تلاها من تدهور لأسعار النفط وانخفاض الإيرادات كونه يشكل مصدراً رئيسياً للدخل، كذلك بسبب مستوى المصروفات المتكررة في موزانة 2017 و2018 وزيادة حجم الإنفاق الذي تغيب عنه الشفافية، ولأن توقعات ارتفاع أسعار النفط متأرجحة في حدود (68 دولار للبرميل) ولم تصل لحدود حاجة الاقتصاد في إحداث توازن بعد؛ بمعنى أن يصل سعر البرميل قرابة (119 دولار للبرميل)، الأمر الذي دفع باتجاه المزيد من الاقتراض من الأسواق المحلية بنسبة (52.4%) والخارجية بنسبة (47.6%) عام 2016 وذلك لسد عجز الميزانية العامة وتغطية المصروفات.

إذن الاقتراض لم يكن لأجل تمويل الاستثمار أو عمليات التنمية إنما بهدف الاستهلاك ودفع فواتير الواردات السلعية، بل وأسوأ منه دفع فوائد القروض وارتفاع أسعار الفائدة في أسواق المال مما فاقم من حجم المشكلة وزاد من أعباء خدمة الدين العام. بمعنى أن تأثيرات تخفيض التصنيف الإئتماني يفرض شروطاً قاسيةً على عملية الاقتراض ويرفع من سعر الفائدة ليس على الحكومة فقط، وإنما على المؤسسات المالية والمصرفية نفسها، وهذا ما يجعل المخاطر تقفز كأشباح خصوصاً مع تبني سياسة "تسديد الديون بالديون" وزيادة الإنفاق الأمني بسبب الإضطربات السائدة في المنطقة منذ الحراك الشعبي عام 2011.



مؤشر عدم الأمان
عند مناقشة مؤشرات قياس الدين العام لجهة مستوى الأمان أو الخطورة على الاقتصاد الوطني، نجد تصاعداً في معدل النمو السنوى للدين العام يفوق معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، وفي هذا دلالة مقلقة، يضاف إليها تجاوز نسبة الدين العام للرتبة (60%) مقارنة بالناتج المحلي، وهذا أيضاً يقع في منطقة عدم الأمان فما بالك أن وصلت النسبة إلى (75%) عام 2017 و(88%) حتى الآن.

ومع ما تؤكده الدراسات بشأن خطورة هذه المؤشرات وما ستؤدي إليه من تراجع ثقة المستثمرين بالاقتصاد وانعكاسه على تراجع رتبة التصنيف الائتماني وبالتالي ارتفاع كلفة الاقتراض، إلا أن أحد الخبراء المحليين سبق وخفف من وطأة الوضع قائلاً؛ "أن تحديد نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي حسب المعايير الدولية والاقتصادية لا تمانع من تجاوز نسبة (100%) وبالتالي صعود النسبة في البحرين لما فوق (86%) لا يشكل خطراً على الاقتصاد طالما أن الحكومة قادرة على الإيفاء بالتزاماتها وقادرة على سداد الدين،.. موضحاً أن معظم الدول المتقدمة لديها دين عام يفوق ناتجها الإجمالي بأكثر من (100%) كالولايات المتحدة وإيطاليا وإيرلندا وإسبانيا وفرنسا.

الذي لم ينوه إليه الخبير أن هذه الدول تتمتع بمصادر دخل متنوعة زراعية وصناعية وتجارية وسياحية كما لديها مقومات اقتصادية مرنة تسعفها في رفع مستوى إيراداتها إضافة لما تتميز به من نظم وتشريعات ومؤسسات يشارك فيها المواطن في اتخاذ القرار وفي الاستجابة لأي قرارات تتعلق بترشيد الإنفاق أو دفع الضرائب، الأهم لديها شفافية ومؤسسات صارمة تجاه ممارسة الفساد الذي يشكل هدراً للمال العام. في هذا السياق تجدر الإشارة لما ذكره فخرو "هناك دول تقترض لكن اقتصادها ودخلها يعطيها المجال لتسدد ديونها، لكن في البحرين ليست ثمة قدرة للسداد، فالدين يزداد في ظل غياب البرنامج الزمني الذي يوضح كيفية معالجة الدين العام..".



وفي دراسة لغرفة تجارة وصناعة البحرين حول الدين العام؛ ما يشير إلى إن ارتفاع متوسط نصيب الفرد من الدين العام يفترض أن لا يتجاوز نسبة (50%) من متوسط دخله السنوي، فيما تكشف حالة البحرين بإننا بلغنا مرحلة الخطر مع ارتفاع النسبة إلى (60%) عام 2015 وإلى (74%) في 2016، إضافة لمؤشر العجز في الموازنة العامة لمواجهة النفقات والذي وصل في 2015 إلى (233%).  



كيف نسدد الدين العام؟
صحيح أن الدين العام ظاهرة عالمية مقبولة وفق مستويات محددة بل ويمثل مصدر من مصادر الإيرادات العامة لتمويل نفقات الدولة، إلا إن استمرار صعوده يعكس هشاشة النظام المالي وضعفه وقد يؤثر سلباً على سيادة بعض البلدان بسبب ضغوطات الهئيات الدولية المانحة وشروطها كصندوق النقد الدولي وغيره، وسواء اقتنع البعض أم لم يقتنع فالبحرين دخلت مرحلة الخطر مع نسبة الـ(60%) للدين العام مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، بل وتجاوزت عتباتها مع استمرار صعوده لـ(88%)، ولا يبدو الأخذ الجاد بالتحذيرات من مغبة تداعيات هذا الوضع، فلا تنويع حقيقي لمصادر الدخل أو تنفيذ مبادرات لتنمية الإيرادات غير النفطية رغم الجعجعة هنا وهناك، ولا تطوير لأنظمة تحصيل الإيرادات المستحقة على الوزارات والجهات الحكومية والشركات ومؤسسات القطاع الخاص والأفراد والعقارات.

أما بالنسبة للدعوات التي ارتفعت ولاتزال لتطبيق منهج الضرائب و"الرسوم" ومراجعة بعض الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين واسترداد قيمتها أو إعادة دراسة تقييم الدعم المقدم إليهم فيسودها الارتباك والمزاجية في كيفية توزيع الاستفادة من دعم السلع والخدمات الأساسية كما إن مردودها ضئيل مقارنة بحجم الدين العام ولا يزال الأجنبي يتمتع بخيرات الدعم، ولا تزال عملية ترشيد الإنفاق الحكومي تتخبط بين الأولويات وغير الضروريات، ويرى خبراء اقتصاديين بأن زيادة الموارد من 50-100 مليون د.ب في السنة أو حتى القيمة المضافة لن تغير الكثير، ذلك لأن الدين العام بالمليارات وليس بالملايين.
   
خلاصة الأمر، هذا النفق المظلم يقود إلى طرح السؤال المعضلة عن كيفية تسديد الدين العام، كما يفرض على الجميع عدم التلكؤ في مواجهته كتحدّ كبير لا يمكن التعامل معه إلا من موقع المسؤولية التاريخية والتفاعل معه بقدر ضئيل من التوترات والاضطرابات ومن موقع الاستجابة للحلول العملية التي تتشارك فيها كافة الأطراف المعنية لوضع خطة وطنية استراتيجية ببعد زمني يعالج جذور الأزمة ويدفع باتجاه التكيف الذي يفرض على الدولة ومؤسساتها ومواطنيها التعامل مع الدين العام برؤى مختلفة وبآليات تدير الأزمة بضمير وواقعية كي يتجاوز الوطن محنة الدين العام وإخفاقاتها.


المنامة - 7 أغسطس 2018 
منى عباس فضل 


الأربعاء، 1 أغسطس 2018

تزوير الشهادات ومأزق الجامعات

 منى عباس فضل

شكلت أزمة الشهادات المزورة في الكويت والتي لاتزال تداعياتها تدور تباعاً؛ موجة غضب عارمة وساخرة على منصات التواصل الاجتماعي كما تصدرت عناوين الصحافة الورقية والإلكترونية وأثارت الاستياء في المجالس والدواوين، لم لا والمتورطون فيها بالمئات من بينهم مسئولين ومشاهير وأسماء لامعة. في هذا الشأن يشير د.محمد الرميحي إلى: أننا "دخلنا مرحلة ثقافية يمكن تشبيهها بأنها (زمن الشهادات) زمن المظاهر التي حرفت الأهداف العظيمة للعلم من مقاصدها، هذا التكالب للحصول على الدكتوراه أو الماجستير تستّر بها جهل فاضح للبعض ومختبئ خلف ادعاء المظاهر الكاذبة..".

تزوير الشهادات يشكل وجهاً من أوجه الفساد ليس في الكويت وحدها وإنما في البلدان الخليجية والعربية، خصوصاً وقد كثر الحديث عن جامعات وهمية وعن حالة اختراق للمؤسسات التعليمية بل وفي مؤسسات الدولة من مزوري الشهادات، كما تردد الكثير عن وجود عصابات منظمة ومحترفة تقوم بمهمة التزوير تلبية لمتطلبات الوجاهة الاجتماعية والمظهرية بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك عبر الدكاكين التي تعد رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه حسب موصفات الطلبية وتبيعها لمن يدفع للحصول على "الدال" التي تسهّل لحاملها المزور الحصول على الترقي في المناصب الوظيفية والشهرة والوجاهة.

هذا والحال ليس بعيداً عن النبش والحفر الذي خاضه معول د.باقر النجار حول أزمة التعليم الجامعي ومؤسساته التي تم إعاقة دورها وإشكالية علاقتها بالسلطة السياسية والدينية وسلطة المتنفذين في المجتمع، كيف ولماذا؟ لنركز على خلاصة تحليل النجار في كتابه "الحداثة الممتنعة في الخليج العربي: تحوّلات المجتمع والدولة"، وذلك عبر ثلاثة منافذ تكشف عن جذور أزمة التزوير وتشابك مكوناتها في بنية النظام  التعليمي والاجتماعي والسياسي.

أولاً: مأزق الجامعات  
يرى النجار بأن المؤسسة التعليمية تعاني من تدخل فاقع للسلطة السياسية العربية في كافة شؤونها، سواءٌ عبر مراقبة الأنشطة الطلابية وتحديدها أو تحديد إدارة الجامعات وهيئاتها التعليمية حتى يمتد التدخل لما يكتبه ويقوله أساتذتها والباحثون فيها، ولهذا برأيه فقد اختفت الجامعات العربية عن أفضل 500 جامعة في العالم، إلا القليل منها التي احتلت مركزاً عالمياً بفعل تحوّل حقيقي في برامجها الأكاديمية وإستيراتيجيات التدريس فيها ومستوى أساتذتها المعرفي والعلمي وإنتاجهم البحثي، مع ملاحظة أن بعضها وصل بفعل "شطارة" أكثر منه الاضطلاع بدور تعليمي ومعرفي رائد، كيف؟

يذكر أن تحقيق بعض الجامعات الخليجية مركزاً عالمياً لم يكن إلاّ نتيجة لتطور في بنيتها البحثية وربط بعض مشاريعها البحثية بأسماء علمية بارزة عالمياً، بمعنى آخر، وصولها ليس بفضل إنتاجها المعرفي وإنما بفعل الأسماء الجديدة التي أضيفت إليها؛ حيث يتم التعاقد مع أساتذة مشهورين برواتب ضخمة دون حضورهم الفعلي للتدريس، ويكتفى فقط بأن يكتب الأستاذ المشهور اسم الجامعة في بحثه لكي تنسبه الجامعة لنفسها ضمن بحوثها؛ وماذا أيضاً؟

يضيف المؤلف، أن بعض الجامعات الخليجية تفتقر إلى بنية أساسية تدعم دورها المعرفي والعلمي والتعليمي من ناحية، واستقلالية البحث العلمي من ناحية أخرى، كما تعاني من ضعف الدعم المقدم للبحث العلمي، وبالتالي فهي مؤسسات للتدريس أكثر منها لإنتاج المعرفة، وفي بعض حالاتها تتضخم فيها أعداد الطلبة وتضعف عند بعضها أساليب التقييم للتحصيل العلمي؛ الأمر الذي يساعد على مخرجات ذات مستويات تحصيلية هابطة. المأزق لا يقتصر على هذا الحال، إنما يكمن في مناقشة التفاصيل المتعلقة بإدارة هذه الجامعات وبنية هيئتها التعليمية.

ثانياً: مأزق إدارة الجامعات  
يعتقد النجار أن عملية التعيين في المناصب الجامعية منزوعة من المعايير الموضوعية، ووصول بعضهم إلى دفّة القرار كان بفعل انحيازات وقوة التضامنيات الإثنية أو القبلية، رغم قصور أدائهم الإداري وضعفهم المعرفي، وبمشرط الجراح يقسم إدارة الجامعة في المحيط الإقليمي إلى مجموعتين؛ إحداها جاءت عبر المؤسسة البيروقراطية الرسمية، والأخيرة تنقسم إلى قسمين؛ مجموعة جاءت عبر الجهاز الإداري البيروقراطي للدولة التي وبرغم ثراء خبراتها البيروقراطية إلا إنها لا تنتسب للعمل الأكاديمي بضوابطه وقيمه وأصوله، وبعضها حصل على درجته العلمية عبر وسائط مختلفة، ومجموعة أخرى تدرجت في عملها الجامعي حتى وصلت إلى قيادة جامعاتها الوطنية، وهذه ورغم كونها على قمة العمل الجامعي، إلا إنها تخشى الإطاحة بها مع أي تغيير يتطلبه التجديد والتحديث.

ويضيف، بأن اعتبار المناصب العليا في الجامعات الخليجية مناصب سياسية قد دفع إلى وصول عناصر إدارية وقيادية ذات خبرة محدودة في إدارة الجامعات، وهي تعاني من غموض فهم لدور التعليم العالي في المجتمع، وفي هذا السياق صارت الجامعات مكاناً خصباً للصراعات والمحسوبية مما أثر على مستوى أدائها الأكاديمي، وكذلك بسبب انشغال بعض من هيئاتها التدريسية المحلية بالصراع الإداري أو القبلي والطائفي وهي أصلاً ذات عطاء محدود، ولا يخلو عمل بعضها من تبنّ فاضح وغير موثق لأعمال الغير، أو أصبح بعضها بحكم وضعه الوظيفي قادراً على دفع بعض عناصر الهيئة التدريسية الوافدة للقيام بأعماله أو متطلباته البحثية، فبدأنا نسمع عن سرقات علمية و"قرصنة أكاديمية" لأفكار أو أعمال الآخرين المكتوبة وغير المكتوبة والدخول في صراع لاقتسام الريع البحثي، كما ساهم بعضهم في تحويل التعليم الجامعي إلى "بقالات" لبيع المقررات المعلّبة، الأمر الذي جعل مؤسسات التعليم الجامعي -برغم حداثتها- مستكينة، أحادية التطور مقادة أكثر منها قائدة، مجتمعية سكونية أكثر منها فعالة ومتغيرة، وبالتالي فهي متّسقة أكثر مع أنساق المجتمع قوة، وربما معضدة لها، كما إن بعض الدماء الجديدة التي وصلت لريادتها ورغم معرفتها بمواطن العلل، تتغاضى عن ذلك لمصلحة ذاتية ورغبة في اعتلاء السلم الوظيفي؛ أو بسبب خوفها من الدخول في متاهات الصراع الإداري.

ثالثاً: مأزق الهيئة الأكاديمية والطلبة
في سياق تفكيك واقع الهيئة الأكاديمية وجدها المؤلف تتكون من فئة محلية تتميز بخليط من الاتجاهات والتوجهات والطموح حيث يطغي عند بعضها الطموح الإداري على الطموح العلمي والأكاديمي، وفئة أخرى تمزج بين كثير من هذا وقليل من ذاك والعكس، وفئة وافدة متنوعة الجنسيات والثقافات والمستوى المعرفي والعطاء العلمي، وهذه وبحكم غربتها ومحدودية صلاحياتها، لا ترغب في خوض أي صراع يؤثر على نفوذها، وعناصرها يخافون الإطاحة بهم فيخضعون لسطوة وقوة الإدارة الأعلى بالجامعة وخارجها، وهي "طرف طيع" يقبل بكل شيء حتى لو كان على حساب العملية التعليمية ونزاهة العمل الأكاديمي.

كما إن بعضها دخل في صراع نفوذ مع الجماعات الوافدة الأخرى، أو توارى خلف يافطات محلية أو عزز قوته بخلق بطانة محلية ووافدة تؤازره وتدعمه، إذ تلجأ بعض الإدارات الوافدة إلى استغلال وجودها في سدة الإدارات الجامعية بتطعيم إدارتها بأكاديميين من نفس جنستيها وأصدقائها، وبعضهم يعزز ما هو قائم، فيما بات بعضهم يمثلون عيوناً تبحث في أفكار زملائهم وكتاباتهم، ويحارب أحدهم من يخالفه بالاقتلاع أكثر منه بالفكرة ويخيف الآخرين من زملائه بمصفوفة علاقاته وإرتباطاته ببعض مراكز القوة في الإدارة الرسمية والخارج أكثر من المنافسة بمعارفه ومنتوجه العلمي، بل وقد يوظف بعضهم ذلك للإضرار بمواقع زملائه الآخرين أو من يختلف معهم، خصوصاً وإن غياب المعايير والضوابط المنظمة للعمل الأكاديمي أو ضعفها يجعل "الطموح الوظيفي" غير منضبط وغير قائم على أسس موضوعية للترقي. والنتيجة أن هذا الصراع الوظيفي يقود إلى تدنى الأداء العلمي والاجتماعي للجامعة. 

ومع ذلك يسجل المؤلف بأنّ بعض الأكاديميين الوافدين ذوي مستوى علمي وأداء وظيفي متقدم وصيت في الأوساط الأكاديمية وقد ساهموا في تأسيس وتطوير العملية العلمية، لكن بعضهم وجد العمل وربما "الكتابة" سبيلاً لزيادة الدخل أو إطالة مدد البقاء من خلال ارتباطهم بشبكة علاقات اجتماعية و"منافعية" داخل الجامعة وخارجها، ويتبنى بعضهم في كتاباته منهج الدعائية والإعلامية والسطحية ويكرس قيم المجتمع التقليدية، وبعضها الآخر قاد بطولات "السرقات العلمية" إما بسرقة أبحاث طلبته أو أبحاث العاملين معه في الحقل نفسه، وقد استخدمته بعض الفئات المحلية لكتابة أبحاثها العلمية التي حصلوا على الترقية بفضلها، وأن الكثير من "أعمالهم العلمية" في العلوم الاجتماعية والإنسانية بهذه الجامعات لا تقدم الجديد، بل هي اجترار سطحي لأفكار سابقة خصوصاً عند مناقشة بعض المشكلات المجتمعية المحلية وتحليلها. لقد أصبحوا عبئاً على الجامعات أكثر من كونهم إضافة معرفية أو علمية.

بسبب هذا الاختلال وتبعاً للمؤلف بأن أوصل بعضهم كليات الجامعات الخليجية إلى حالة من الإنغلاق لـ"قطاعات مغلقة"، كأن يكون مصرياً أو أردنياً أو عراقياً أو مغربياً، أو ينزع بعضهم نحو تغليب جماعة إثنية أو قبلية أو مذهبية أو سياسية معينة "كجماعة الإخوان المسلمين" وتدخل في حالة صراع بجانبها على المراكز والمنافع وهو صراع يدار وينسق من أطراف لها مصلحة في داخل المجتمع المحلي أو الفئة الوافدة منها "الخبراء، الدبلوماسيون" وغيرهم.

وبهذا تحولت بعض الجامعات وكلياتها المغلقة على بعضها البعض إلى ساحات صراع ذات بعد طائفي أو قبلي أو سياسي مما أبعد الجامعات عن وظيفتها الأساسية في إكساب المعرفة وإكتسابها، وصارت منحازة وغير مستقلة في وظيفتها الاجتماعية، كما غدت ذات إرتباط وانتماءات إسلاموية قادت إلى تبدل الطبيعية الليبرالية للنظام التعليمي فيها وفرض نظام العزل التعليمي، "الملبس المحتشم" أو تضمين مناهجها الدراسية مواضيع ومواد تعليمية تصب في عملية الأدلجة الإسلاموية، الأمر الذي ساعد على انغلاقها أكثر، لم لا وركون المؤسسة الرسمية إلى رموز إسلاموية في إصلاح التعليم الجامعي وما قبله أو القبول بشروطها قد ساهم في تعقيد إصلاح العملية التربوية المحلية أو تطويرها.

ومنه يبقى الطلبة الطرف الأضعف والأخطر في هذا المأزق، فهم وحسب د.باقر النجار ومع استثناءات غالباً ما يكونوا محدودي الاهتمام والطموح التعليمي، وحيث يعتمد النظام التعليمي على الحفظ والطاعة إلى جانب افتقار هذا النمط من الجامعات إلى أنماط تعليمية تحفيزية في أساليبها ومعارفها وبسبب نظام القبول، أنتج قوى وجماعات من الطلبة عاجزة عن مواكبة العملية التعليمية في مستواها الجامعي وتستخدم أسلوب تقديم الخدمات إلى بعض أعضاء الهيئة التعليمية، أو الأصول الاجتماعية أو الغش، كعامل ضغط وترغيب، وبهذا تلعب دوراً ضاغطاً باتجاه تخفيض متطلبات المقررات الدراسية وإضعاف محتواها.

ختاماً أن تزوير الشهادات ومعه مأزق التعليم الجامعي وما قبله، يمثل ظواهر مرضية وفساداً يستدعي التعاطي الجاد بسبب تأثيراته الخطيرة على تنمية مجتمعاتنا، إنها قضية مجتمعية سياسية أخلاقية بامتياز، لا يمكن السكوت عنها. 

المنامة - 1 أغسطس 2018
منى عباس فضل