منى عباس فضل
شكلت أزمة الشهادات المزورة في الكويت والتي لاتزال تداعياتها تدور
تباعاً؛ موجة غضب عارمة وساخرة على منصات التواصل الاجتماعي كما تصدرت عناوين الصحافة
الورقية والإلكترونية وأثارت الاستياء في المجالس والدواوين، لم لا والمتورطون فيها
بالمئات من بينهم مسئولين ومشاهير وأسماء لامعة. في هذا الشأن يشير د.محمد الرميحي
إلى: أننا "دخلنا مرحلة ثقافية يمكن تشبيهها بأنها (زمن الشهادات) زمن المظاهر
التي حرفت الأهداف العظيمة للعلم من مقاصدها، هذا التكالب للحصول على الدكتوراه أو
الماجستير تستّر بها جهل فاضح للبعض ومختبئ خلف ادعاء المظاهر الكاذبة..".
تزوير الشهادات يشكل وجهاً من أوجه الفساد ليس في الكويت وحدها وإنما
في البلدان الخليجية والعربية، خصوصاً وقد كثر الحديث عن جامعات وهمية وعن حالة اختراق
للمؤسسات التعليمية بل وفي مؤسسات الدولة من مزوري الشهادات، كما تردد الكثير عن
وجود عصابات منظمة ومحترفة تقوم بمهمة التزوير تلبية لمتطلبات الوجاهة الاجتماعية
والمظهرية بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك عبر الدكاكين التي تعد رسائل الماجستير وأطروحات
الدكتوراه حسب موصفات الطلبية وتبيعها لمن يدفع للحصول على "الدال" التي
تسهّل لحاملها المزور الحصول على الترقي في المناصب الوظيفية والشهرة والوجاهة.
هذا والحال ليس بعيداً عن النبش والحفر الذي خاضه معول د.باقر النجار
حول أزمة التعليم الجامعي ومؤسساته التي تم إعاقة دورها وإشكالية علاقتها بالسلطة
السياسية والدينية وسلطة المتنفذين في المجتمع، كيف ولماذا؟ لنركز على خلاصة تحليل النجار في كتابه "الحداثة الممتنعة في الخليج العربي: تحوّلات المجتمع والدولة"،
وذلك عبر ثلاثة منافذ تكشف عن جذور أزمة التزوير وتشابك مكوناتها في بنية النظام التعليمي والاجتماعي والسياسي.
أولاً: مأزق الجامعات
يرى النجار بأن المؤسسة التعليمية تعاني من تدخل فاقع للسلطة السياسية العربية في كافة شؤونها، سواءٌ عبر مراقبة الأنشطة الطلابية وتحديدها أو تحديد إدارة الجامعات وهيئاتها التعليمية حتى يمتد التدخل لما يكتبه ويقوله أساتذتها والباحثون فيها، ولهذا برأيه فقد اختفت الجامعات العربية عن أفضل 500 جامعة في العالم، إلا القليل منها التي احتلت مركزاً عالمياً بفعل تحوّل حقيقي في برامجها الأكاديمية
وإستيراتيجيات التدريس فيها ومستوى أساتذتها المعرفي والعلمي وإنتاجهم البحثي، مع ملاحظة أن بعضها وصل بفعل "شطارة"
أكثر منه الاضطلاع بدور تعليمي ومعرفي رائد، كيف؟
يذكر أن تحقيق بعض الجامعات الخليجية مركزاً عالمياً لم يكن إلاّ نتيجة لتطور في بنيتها البحثية
وربط بعض مشاريعها البحثية بأسماء علمية بارزة عالمياً، بمعنى آخر، وصولها ليس بفضل إنتاجها المعرفي وإنما بفعل الأسماء
الجديدة التي أضيفت إليها؛ حيث يتم التعاقد مع أساتذة مشهورين برواتب
ضخمة دون حضورهم الفعلي للتدريس، ويكتفى فقط بأن يكتب الأستاذ المشهور اسم الجامعة في بحثه لكي تنسبه الجامعة لنفسها ضمن بحوثها؛ وماذا أيضاً؟
يضيف المؤلف، أن بعض الجامعات الخليجية تفتقر إلى بنية أساسية تدعم
دورها المعرفي والعلمي والتعليمي من ناحية، واستقلالية البحث العلمي من ناحية أخرى،
كما تعاني من ضعف الدعم المقدم للبحث العلمي، وبالتالي فهي مؤسسات للتدريس أكثر
منها لإنتاج المعرفة، وفي بعض حالاتها تتضخم فيها أعداد الطلبة وتضعف عند بعضها
أساليب التقييم للتحصيل العلمي؛ الأمر الذي يساعد على مخرجات ذات مستويات تحصيلية
هابطة. المأزق لا يقتصر على هذا الحال، إنما يكمن في مناقشة التفاصيل المتعلقة بإدارة
هذه الجامعات وبنية هيئتها التعليمية.
ثانياً: مأزق إدارة الجامعات
يعتقد النجار أن عملية التعيين في المناصب الجامعية منزوعة من
المعايير الموضوعية، ووصول بعضهم إلى دفّة القرار كان بفعل انحيازات وقوة
التضامنيات الإثنية أو القبلية، رغم قصور أدائهم الإداري وضعفهم المعرفي، وبمشرط
الجراح يقسم إدارة الجامعة في المحيط الإقليمي إلى مجموعتين؛ إحداها جاءت عبر
المؤسسة البيروقراطية الرسمية، والأخيرة تنقسم إلى قسمين؛ مجموعة جاءت عبر الجهاز
الإداري البيروقراطي للدولة التي وبرغم ثراء خبراتها البيروقراطية إلا إنها لا
تنتسب للعمل الأكاديمي بضوابطه وقيمه وأصوله، وبعضها حصل على درجته العلمية عبر
وسائط مختلفة، ومجموعة أخرى تدرجت في عملها الجامعي حتى وصلت إلى قيادة جامعاتها
الوطنية، وهذه ورغم كونها على قمة العمل الجامعي، إلا إنها تخشى الإطاحة بها مع أي
تغيير يتطلبه التجديد والتحديث.
ويضيف، بأن اعتبار المناصب العليا في الجامعات الخليجية مناصب سياسية قد
دفع إلى وصول عناصر إدارية وقيادية ذات خبرة محدودة في إدارة الجامعات، وهي تعاني
من غموض فهم لدور التعليم العالي في المجتمع، وفي هذا السياق صارت الجامعات مكاناً
خصباً للصراعات والمحسوبية مما أثر على مستوى أدائها الأكاديمي، وكذلك بسبب انشغال
بعض من هيئاتها التدريسية المحلية بالصراع الإداري أو القبلي والطائفي وهي أصلاً
ذات عطاء محدود، ولا يخلو عمل بعضها من تبنّ فاضح وغير موثق لأعمال الغير، أو أصبح
بعضها بحكم وضعه الوظيفي قادراً على دفع بعض عناصر الهيئة التدريسية الوافدة
للقيام بأعماله أو متطلباته البحثية، فبدأنا نسمع عن سرقات علمية و"قرصنة
أكاديمية" لأفكار أو أعمال الآخرين المكتوبة وغير المكتوبة والدخول في صراع
لاقتسام الريع البحثي، كما ساهم بعضهم في تحويل التعليم الجامعي إلى
"بقالات" لبيع المقررات المعلّبة، الأمر الذي جعل مؤسسات التعليم
الجامعي -برغم حداثتها- مستكينة، أحادية التطور مقادة أكثر منها قائدة، مجتمعية
سكونية أكثر منها فعالة ومتغيرة، وبالتالي فهي متّسقة أكثر مع أنساق المجتمع قوة،
وربما معضدة لها، كما إن بعض الدماء الجديدة التي وصلت لريادتها ورغم معرفتها
بمواطن العلل، تتغاضى عن ذلك لمصلحة ذاتية ورغبة في اعتلاء السلم الوظيفي؛ أو بسبب
خوفها من الدخول في متاهات الصراع الإداري.
ثالثاً: مأزق الهيئة الأكاديمية والطلبة
في سياق تفكيك واقع الهيئة الأكاديمية وجدها المؤلف تتكون من فئة محلية تتميز بخليط من الاتجاهات
والتوجهات والطموح حيث يطغي عند بعضها الطموح الإداري على الطموح العلمي
والأكاديمي، وفئة أخرى تمزج بين كثير من
هذا وقليل من ذاك والعكس، وفئة وافدة متنوعة
الجنسيات والثقافات والمستوى المعرفي والعطاء العلمي، وهذه وبحكم غربتها ومحدودية صلاحياتها، لا ترغب في خوض أي صراع يؤثر على
نفوذها، وعناصرها يخافون الإطاحة بهم فيخضعون لسطوة
وقوة الإدارة الأعلى بالجامعة وخارجها، وهي "طرف طيع"
يقبل بكل شيء حتى لو كان على حساب العملية
التعليمية ونزاهة العمل الأكاديمي.
كما إن بعضها دخل في صراع نفوذ مع الجماعات الوافدة
الأخرى، أو توارى خلف يافطات محلية أو عزز قوته بخلق بطانة محلية ووافدة تؤازره
وتدعمه، إذ تلجأ بعض الإدارات الوافدة إلى استغلال
وجودها في سدة الإدارات الجامعية بتطعيم إدارتها بأكاديميين من نفس جنستيها
وأصدقائها، وبعضهم يعزز ما هو قائم، فيما بات بعضهم يمثلون عيوناً تبحث في
أفكار زملائهم وكتاباتهم، ويحارب أحدهم من يخالفه بالاقتلاع أكثر منه بالفكرة
ويخيف الآخرين من زملائه بمصفوفة علاقاته وإرتباطاته ببعض مراكز القوة في الإدارة
الرسمية والخارج أكثر من المنافسة بمعارفه ومنتوجه العلمي، بل وقد يوظف بعضهم ذلك
للإضرار بمواقع زملائه الآخرين أو من يختلف معهم، خصوصاً وإن غياب المعايير
والضوابط المنظمة للعمل الأكاديمي أو ضعفها يجعل "الطموح الوظيفي" غير
منضبط وغير قائم على أسس موضوعية للترقي. والنتيجة أن هذا الصراع الوظيفي يقود إلى
تدنى الأداء العلمي والاجتماعي للجامعة.
ومع ذلك يسجل المؤلف بأنّ بعض الأكاديميين الوافدين ذوي مستوى علمي
وأداء وظيفي متقدم وصيت في الأوساط الأكاديمية وقد ساهموا في تأسيس وتطوير العملية
العلمية، لكن بعضهم وجد العمل وربما "الكتابة" سبيلاً لزيادة الدخل أو
إطالة مدد البقاء من خلال ارتباطهم بشبكة علاقات اجتماعية و"منافعية"
داخل الجامعة وخارجها، ويتبنى بعضهم في كتاباته منهج الدعائية والإعلامية والسطحية
ويكرس قيم المجتمع التقليدية، وبعضها الآخر قاد بطولات "السرقات
العلمية" إما بسرقة أبحاث طلبته أو أبحاث العاملين معه في الحقل نفسه، وقد
استخدمته بعض الفئات المحلية لكتابة أبحاثها العلمية التي حصلوا على الترقية بفضلها،
وأن الكثير من "أعمالهم العلمية" في العلوم الاجتماعية والإنسانية بهذه
الجامعات لا تقدم الجديد، بل هي اجترار سطحي لأفكار سابقة خصوصاً عند مناقشة بعض
المشكلات المجتمعية المحلية وتحليلها. لقد أصبحوا عبئاً على الجامعات أكثر من
كونهم إضافة معرفية أو علمية.
بسبب هذا الاختلال وتبعاً للمؤلف بأن أوصل بعضهم كليات الجامعات
الخليجية إلى حالة من الإنغلاق لـ"قطاعات مغلقة"، كأن يكون مصرياً أو
أردنياً أو عراقياً أو مغربياً، أو ينزع بعضهم نحو تغليب جماعة إثنية أو قبلية أو
مذهبية أو سياسية معينة "كجماعة الإخوان المسلمين" وتدخل في حالة صراع
بجانبها على المراكز والمنافع وهو صراع يدار وينسق من أطراف لها مصلحة في داخل
المجتمع المحلي أو الفئة الوافدة منها "الخبراء، الدبلوماسيون" وغيرهم.
وبهذا تحولت بعض الجامعات وكلياتها المغلقة على بعضها البعض إلى ساحات
صراع ذات بعد طائفي أو قبلي أو سياسي مما أبعد الجامعات عن وظيفتها الأساسية في
إكساب المعرفة وإكتسابها، وصارت منحازة وغير مستقلة في وظيفتها الاجتماعية، كما
غدت ذات إرتباط وانتماءات إسلاموية قادت إلى تبدل الطبيعية الليبرالية للنظام
التعليمي فيها وفرض نظام العزل التعليمي، "الملبس المحتشم" أو تضمين
مناهجها الدراسية مواضيع ومواد تعليمية تصب في عملية الأدلجة الإسلاموية، الأمر
الذي ساعد على انغلاقها أكثر، لم لا وركون المؤسسة الرسمية إلى رموز إسلاموية في
إصلاح التعليم الجامعي وما قبله أو القبول بشروطها قد ساهم في تعقيد إصلاح العملية
التربوية المحلية أو تطويرها.
ومنه يبقى الطلبة الطرف الأضعف والأخطر في هذا المأزق، فهم وحسب
د.باقر النجار ومع استثناءات غالباً ما يكونوا محدودي الاهتمام والطموح التعليمي،
وحيث يعتمد النظام التعليمي على الحفظ والطاعة إلى جانب افتقار هذا النمط من
الجامعات إلى أنماط تعليمية تحفيزية في أساليبها ومعارفها وبسبب نظام القبول، أنتج
قوى وجماعات من الطلبة عاجزة عن مواكبة العملية التعليمية في مستواها الجامعي
وتستخدم أسلوب تقديم الخدمات إلى بعض أعضاء الهيئة التعليمية، أو الأصول
الاجتماعية أو الغش، كعامل ضغط وترغيب، وبهذا تلعب دوراً ضاغطاً باتجاه تخفيض
متطلبات المقررات الدراسية وإضعاف محتواها.
ختاماً أن تزوير الشهادات ومعه مأزق التعليم الجامعي وما قبله، يمثل
ظواهر مرضية وفساداً يستدعي التعاطي الجاد بسبب تأثيراته الخطيرة على تنمية
مجتمعاتنا، إنها قضية مجتمعية سياسية أخلاقية بامتياز، لا يمكن السكوت عنها.
المنامة - 1 أغسطس 2018
منى عباس فضل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق