السبت، 2 أكتوبر 2021

إخوتنا الغرباء وهاجس الفناء

 

منى عباس فضل

 كعادته أمين معلوف، في أحدث رواياته "إخوتنا الغرباء" يحفّز مَلَكَة التفكير في عقولنا على مقاربة حال العالم الذي اختل توازنه وبما ينذر بنهايته جراء الاختلالات والصراعات والكوارث الطبيعية التي ساهمنا بها.

 ومع إن معلوف عبّر عن مخاوفه من مخاطر معاصرة تتهددنا في زمن الكورونا، إلا إنه يؤكد على كتابة روايته قبل اندلاع "الجائحة" التي حفّزته في الإسراع على نشرها، وهي تتناسق مع ظروف الوباء الذي تنبأ به قائلاً:

 

-       تخيلوا أن ينتشر فيروس قاتل بسرعة فائقة ولا يدل عليه أي عارض قبل انقضاء عدة أسابيع، في اليوم الذي يكتشف وجوده، سيكون قد فات الأوان، ولن يستطيع أحد أن يوقف انتشاره.."صفحة 255".

 

كما تزامنت كتابة الرواية مع أحداث الانتخابات الأميركية الأخيرة وانتشار النزعات القومية والشعبوية وحاجة البشرية لمن ينقذها من الموت الحتمي والكوارث النووية الناتجة عن اختلال التوازن والصراعات بين الأمم.  

 

رؤية استشرافية

الرواية في مضمونها تكشف عن رؤية مستقبلية استشرافية تمثل مزيجاً من الواقعية الوجودية ببعدها الفلسفي السياسي والأخلاقي الحالم حد "اليوتوبيا"، إضافة إلى كونها من جنس الخيال العلمي والفنتازي بما عكسته من تفاعل عناصر الوقت وموازين القوى، بيد إن بعض النقاد خلصوا إلى أنها تتناول فكرة مجردة، لا أساس عملي لها في كيفية تخلص البشرية من آفاتها، إضافة إلى أنها لم تقدم معرفة تاريخية كما اعتادوا عليها من معلوف لاسيما في رواياته "سمرقند، ليون الأفريقي، صخرة طانيوس"، ولا حتى تحليلاً فكرياً اجتماعياً سياسياً إلى واقع منطقتنا والعالم كما فعل في كتاباته "غرق العالم واختلال الحضارات" ولا حتى بحثاً انثروبولوجياً لا يزال يقرأ ويبحث في تفاصيله كما في "الهويات القاتلة والبدايات" ولهذا يجدون أنها لم تضف متعة معرفية متوقعة من معلوف.

 

 في السياق ثمة أمر لا يمكن إغفاله وهو إن موضوع صراع الحضارات وانتهاءها شكّل على الدوام هاجساً عند معلوف، ولهذا جاءت الرواية لتعكس أفكاره الإنسانية ورؤيته التي دأب على تداولها في مؤلفاته حول الاحترابات والكوارث النووية والصحية، وكل الاحوال التي أثارها في أبعادها المتخيلة بفكر هيغلي استحضره من خلال شخصيات المثيولوجيا الأغريقية وما يتصل بحضارة الإغريق الإثنية التي قدمت للعالم فلسفة وثقافة وفكراً تنويرياً في العلوم والطب والمسرح والفنون والديمقراطية وبما تضمنته كتباً وملاحم بقيت خالدة كالإلياذة والأدويسة، كما أنجبت أحفاداً من سلالة الفترة التاريخية المجيدة لتلك الحضارة بقيمها في زمن التوهج التي عرفت فيه العلوم وتطورت المعارف وتحققت فيه الإنجازات التي سرعان من أخذت دربها في الإنحدار.


 

أحفاد النور

تجسدت شخصيات الرواية "المخلوقات الغامضة" في الأحفاد الذين يقومون بدور مراقب للمخاطر التي تسود عالمنا، فهم منقذون للبشرية بقدراتهم العلمية الخارقة التي ستردع الجنون وتنزع الأسلحة النووية والصواريخ المدمرة وتعيد البشرية إلى جادة الصواب، لم لا وقد واجهوا الجميع بعجزهم، وهم المسالمون الذين لا يملكون شيئاً في جعبتهم سوى "مضمون نفوسهم" لا طموح لديهم للسيطرة والهيمنة أو فرض التبعية على حضارتنا المأزومة العاجزة، إنهم أولاد من حمل النور في داخلهم واختبأوا في الظلمة والظل يسكنهم والآن يعودون.  

 استحضرهم معلوف إلى عالم الحاضر عبر أغاميمنون "ملك من أبطال حرب طروادة في إلياذة هوميروس"، وبوزانياس "أحد رموز انتصار الإغريق ضد الغزو الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد" وديموستين "السياسي الأثنيني والخطيب المفوّه في القرن الرابع قبل الميلاد"، وأمبيدوكل "الفيلسوف الإغريقي الشهير" فضلاً عن الملكة إلكترا "ابنة الملك أغاميمنون" وغيرهم، إنهم فرقة من الحكماء:؛ "أقل وحشية منا، وأكثر موثوقية، وأكثر احتراماً لمصير الضعفاء، لكنهم أقوياء إلى درجة مثيرة للخوف".

 تجدر الإشارة إلى أن هذا النمط من هذه الكتابة لم يعد مقتصراً على علماء الأنثربولوجيا والتاريخ والسياسة والاقتصاد، إنما غدا مادة أدبية للروائيين ممن يجترحون فيه مخيلاتهم ويقدمون سيناريوهات وتنبؤات ستؤدي إلى انتهاء الحياة على كوكب الأرض؛ ذلك برغم التطور العلمي والتكنولوجي.

 كتب أمين معلوف روايته على شكل يوميات في فترة زمنية قصيرة وعلى مدى شهر واحد يعتمد فيها على "الإنترنت"؛ يرسم أحداثاً يرصدها ويتخيلها، يقترب فيها من التعبير عن الكراهية للبشرية بسبب ما يحدث على الكوكب من خلال شخصية إيف، أو ينحو للتأمل ومحاولة فهم العالم وتقبله بشكل أفضل، إلا إن تفاصيل الرواية شهدت انقلاباً جذرياً شكّل عنصراً أساسياً في حبكة القصة عبّر عنه على لسان محاوريه؛ لاسيما بشأن حتمية الموت في حضارتنا فيما تمكن "الإخوة الغرباء" أو "غير المتوقعين" من تطوير الطب وأصبح الموت لديهم أمراً يمكن تجاوزه وتفاديه، كما يمكنهم معالجة أمراض الشيخوخة، وكأنه هنا يناقش فكرة الخلود والأبدية من منظور وجودي لاديني.

 يروي المؤلف حبكته بشكل تصاعدي مع حكايات فرعية عبرت عنها رموز وشخصيات حاضرة في الواقع، اختار أحدها في هيئة الرئيس الأمريكي كونه يمثل أقوى بلد في العالم ورمزاً للحضارة المهيمنة التي تصطدم في صراعاتها النووية والكارثية مع الأمم، في ظل انتشار الأمراض والحروب لكنها تبقى عاجزة عن إدارة السلام والتسامح مع الحضارات الأخرى المختلفة عن جنسها، كما يحذرنا من مغبة المتغيرات الكونية التي تتخفى وراء مباهجها جحيم، رمز إليه بسقوط رمز النظام العالمي واستسلامه إلى من تفوق عليه في الطب والحكمة.

 

اسقاطات ورموز

أما أهم الرسائل التي يبثها معلوف في الرواية، فهي مليئة بالاسقاطات والرمزية التي تدلل عن مأساة البشرية المعاصرة؛ يقدمها في شكل حوارات على لسان "إخوتنا الغرباء غير المتوقعين" الذين يسبقوننا في كل شيء وينطلقون من مهد المعجزة الإثينية، فيستنطق فيهم الطبيب بوزانياس: "حين يتبع بعض البشر طريقهم الخاص، من دون أن يكون ذهنهم مقيداً بالمحرمات والأحكام المسبقة، ومن دون أن يكون لديهم شاغل آخر غير دحر الجهل، ستتمكنون من المضي قدماً بشكل أسرع من الآخرين، ويجدون أنفسهم بعيداً جداً إلى الأمام"، وفي أخرى؛ "بأن العالم أصبح مجرد ساحة معارك للجشع والكراهية، التي صار كل شيء فيه مغشوشاً من فن وفكر وكتابة ومستقبل، الأمر الذي جعل الكوكب بحاجة إلى أن يبدأ من الصفر خصوصاً وهو يعيش مرحلة الانحلال النهائي لحضارتنا"، وعليه فهو من خلال محاولاته على ذات الوتيرة يحثنا على تقييم ما نحن عليه ومعرفة مالذي وضعنا على طريق الخطأ والكوارث والصراعات وكيف يمكننا إعادة توجيه مسيرنا قبل أن تفوت اللحظة.  

 خلاصة الأمر، صدق الكاتب أرنست خوري في تعبيره؛ "لطالما قيل إن أسوأ ما يمكن أن يحدث مع الموسيقى هو الكتابة عنها بدل الاستماع إليها، وربما يكون ألطف ما في "اشقائنا غير المتوقعين" هو قراءتها بدل الكتابة عنها".

 ومع ذلك نجد أنها رواية مثيرة تتوافر فيها عنصر التشويق وبذات المهارة التي تعودنا عليها في كتابات معلوف وإن بشكل مختلف، مليئة بالتأملات التي استحضرمادتها من بطون التاريخ والفلسفة، على الرغم من الرؤية الضبابية المزدوجة للنظر إلى المستقبل، وكونه تركنا أمام أسئلة جوهرية لا إجابات شافيه لها فيما يتعلق بمكان المخلوقات الغامضة "الأخوة غير المتوقعين، الغرباء" عن عالمنا منذ آلاف السنين، وكيف نجحوا في التخفي؟ وما يبرر له ذلك هو باب الأمل الذي يفتحه عند الإشارة إلى أن انفلات التطور التكنولوجي المعقد ليس خارج السيطرة ويمكن ضبطه وتعطيل انحرافه إذا ما وجدت جماعة تؤمن بإشاعة السلام في عالمنا، إنها دعوة إصلاحية لنبذ الصراعات والكراهية وتوظيف منجزات العلم لصالح البشرية ومحاربة عدوها الأساسي الموت، بيد إن البعض وجد أن سياقات الرواية تحولت إلى مواعظة؛ انتهت بدرس أخلاقي على لسان "إلكترا" مندوبة الأخوة الغرباء:

 إن المسألة محسومة بالنسبة إلينا، نحن أصدقاء إمبدوقليس. وماذا عنكم، أيها الإخوة الذين لقيناكم؟ هل أنتم على استعداد لاعتبار الموت عدوّكم الوحيد؟ أجل، الموت، الموت وحده. لا القوى العظمى الغريمة، لا الشعوب الأخرى، لا الأعراق الأخرى، لا نحن. الموت فحسب. إنه العدو الوحيد الذي يستحق أن يُقاتل ويدُحر ويُهزم. هل أنتم على استعداد لإعادة النظر في أولوياتكم، وفتح صفحة جديدة معنا، وفيما بينكم؟" وهنا تتساءل صديقة ألكس عما يجب على البشر فعله بناء على طلب إلكترا، فتجيبها إيف:

 -         أن نصبح راشدين وأخيراً...ذلك هو شرطهم للعودة ص 321".

 المنامة – 2 أكتوبر 2021

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق