الاثنين، 21 يناير 2019

بنجلّون وزواج المتعة

منى عباس فضل 
من كنز الحكايات الساحرة والنائمة التي لا حدود لدوائرها في المغرب؛ وتحديداً في مدينة فاس مسقط رأس الكاتب المغربي الطاهر بنجلون حيث يقول: "في هذه المدينة التي لا أفق لها، حيث المنازل تتداخل في ما بينها والزنقات تنسج متاهة ضيقة، تبدو الحياة مكتوبة سلفاً، ويُجبر كل شخص على البقاء في مكانه، فبينما على المرأة عدم تجاوز الحدود التي خطتها القرون لها، على الرجل الفقير الاكتفاء بظروفه البائسة، وعلى الثري متابعة طريقه نحو ثراء أكبر دون الالتفاف إلى الخلف أو الشعور بالظلم." 

من خلال العابرين والقابعين في أماكنهم نستعيد مع بنجلون وعلى لسان حكواتي حكيم تفاصيل روايته "زواج المتعة" التي يثير فيها قضية العنصرية في بلاده، وعلى طريقة الراوي العربي وبتقنيات سردية يقول الحكواتي: "هذا المساء سأقص عليكم حكاية حب، حب جارف ومستحيل عاشته شخصياته حتى آخر رمق. لكن كما سترون، خلف حكاية الحب الأعجوبة تلك، يوجد الكثير من الكراهية والاحتقار، الكثير من الشرّ والقسوة. شئ عادي، هكذا الإنسان. أردت أن تكونوا على علم بذلك حتى لا تصيبكم الدهشة".


مع تصاعد الخط السردي يناقش بنجلون محاور درامية متشابكة ومتقاطعة بين الديني والاجتماعي والإنساني عبر شخصيات الرواية، كما يتسلل من ثقوب الجدران بطرح أسئلة ونقاشاً حول إشكاليات لا تزال عالقة بشأن قضايا دينية اجتماعية كقضية "زواج المتعة" ونظرة المجتمع إليه من خلال النصوص التي تناولته، ذلك على الرغم من أن قضية هذا الزواج لم تكن المحور الرئيسي للرواية وبرغم محاولته تجنب الانحياز أو إطلاق الأحكام القاطعة بشأنه بقدر ما حاول أن يعكس كيفية تطويع المجتمع لما ورد في النصوص، بيد إن ثمة من يرى "بأنه ناقش موضوعاً مركزياً وحساساً من خلاله، وهو موضوع تعدد الزوجات الذي يكشف لامبالاة الرجل الشريك لمشاعر الزوجة الإنسانية وللوضع المحرج الذي يضعها فيه والجرح العميق الذي يسببه لها عند اقترانه بامرأة أخرى، هذا الجرح الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى صراع صامت أو علني بين الزوجتين يدفع بأولادهما لأن يدفعوا ثمنه".

بنجلون يضع قارئ النص في محور بأبعاد زمنية وجغرافية وتاريخية أثناء مساره السردي من خلال حكاية أمير الفاسي الميسور الحال الذي يسافر سنوياً إلى السنغال لشراء ما تحتاجه تجارته من بضائع، ومثله مثل الكثيرين من أهل بلده الذين يجبرهم عملهم على الاستقرار فترات طويلة في إحدى الدول الأفريقية وحسب العرف الإسلامي كان يتزوج زواجاً مؤقتاً يتكرر في داكار، لكنه هذه المرة يقرر وهو المتزوج من اللالا فاطمة ولديه ثلاثة أولاد وبنت من عقد قرانه في زواج دائم على شابه سينغالية جميلة تدعى "نابو" حتى لا يسقط حسب اعتقاده في علاقة غير شرعية. نابو كانت مرتبطة بأرضها السنغال وتخاف الموت ولا تدين بأي ديانة هكذا يسرد الحكواتي؛ لكنها تقبل الدخول في الإسلام كي تصبح زوجة للتاجر الفاسي. في السياق يشكل ابن أمير الأصغر كريم الرابط المفصلي بينه وبين العائلة فهو مصاب بمتلازمة داون "المنغولية" ومع ذلك فكان منطلقاً نحو الحياة ومتميزاً في الحساب والموسيقى ومحباً وحنوناً وغالباً ما كان يصطحبه أبوه في زياراته التجارية إلى السنغال، فكان مرافقاً لموكب العروسين "أمير ونابو" من داكار إلى فاس. 


في الأصل كانت الزوجات البيض يعرفن أن أزواجهن يعقدون زيجات متعة مدة إقامتهم بأفريقيا، وزوجة أمير الفاسية تغض الطرف عنه حالها حال النساء الأخريات ولا تطرح الأسئلة، إعتقاداً منها أنه أفضل من أن يعاشر زوجها بنات الهوى، لكن لهذا التسامح حدود وحدث ما لم يكن في الحسبان بأن تجاوز أميرها ذلك النظام وحدود التسامح ووقع في حبّ "نابو" التي عرض عليها الزواج كزوجة ثانية تعيش معه في فاس، فوافقت وذهبت معه إلى فاس، وبرغم كل الصعوبات المتوقعة من هذا الزواج الذي اصطدم بعوائق اجتماعية ومشاكل لا حدود لها فقد اشتغلت غيرة الزوجة الأولى الللا فاطمة وتفاقم الصراع بينها وبين زوجها فيهجرها الفاسي كما تزوجت ابنتها وسافر إبناها الآخران إلى القاهرة للتعليم فشعرت بالوحدة حتى توفيت. انتقلت الأسرة بعدها إلى طنجة ليستقر الفاسي في تجارته هناك حتى فارق الحياة هو الآخر، فيما استمر كريم في العيش مع والديه وشقيقيه الجديدين التوأمين اللذين أنجبتهما "نابو" وكان أحدهما وهو حسين أبيض البشرة استطاع التأقلم والإندماج في المجتمع والنجاح في حياته العاطفية والمهنية فيما فشل الآخر حسن أسود البشرة في العثور على الأمان والسعادة لاختباره شعور العنصرية على حقيقته تماما كما أمه.

من خلال أحداث الرواية وما سيتعرض له الإبن الأسود البشرة وأمه السينغالية من نظرة دونية سيكتشف القارئ كمّ العنصرية الهائل الذي يتعرض له سود البشرة في المجتمع المغربي ومن خلال ثلاثة أجيال أخترقها الطاهر بنجلون لعائلة أمير متنقلاً بين شرائحها وكاشفاً الغطاء عن مفارقات المجتمع وتناقضاته ومواقفه التي يتداخل فيها الصراع والعنصرية الضاربة للقاع في عمق المجتمع المغربي بسبب لون البشرة الذي لا ينجو منه حسن ولا ابنه سليم.

يجسد بنجلون مشاهد هذا الصراع والعنصرية من خلال ترحيل الحفيد سليم ابن حسن بالخطأ من طنجة إلى دكار ذلك لأن الشرطة اعتقلته ولم تصدق بأنه مغربي بسبب لون بشرته السوداء التي شكلت هويته الوحيدة حين لم يكن يحمل أوراق هوية فاعتبروه مهاجراً غير شرعي، كما تصاعد الموقف حين مرافقة سليم لمجموعة شبان سنغاليين أثناء سفرهم من وطنهم إلى المغرب سيراً على الأقدام، هنا يكشف بنجلون مصاعب رحلة المغامرة الخطيرة ومعاناة الأفارقة الذين يتحولون بعد فشلهم في العبور لأوروبا بطريقة غير شرعية إلى شحاذين في الشوارع وإلى مضايقات رجال الشرطة. عندها تختلط المشاعر في مخيلة سليم الذاتية والصور الذهنية العربية والأفريقية التي تتحول إلى مأساة تتكأثر حتى تنتهي حياته عند السياج الحديدي في منطقة التهريب نحو سبتة الواقعة تحت الاحتلال الأسباني حيث ترديه رصاصات حراس الحدود قتيلاً ويتحول إلى جثة هامدة في رمزية حزينة لمأساة ضحايا الهجرة غير الشرعية ولزواج المتعة الذي لم يعترف به، وينتهي المشهد المأساوي بسؤال أطلقه الحكواتي:

-         "كم يلزم الإنسانية المصابة بداء العنصرية من الوقت كي تسأل ذاتها لماذا يحدد لون البشرة مصير البشر؟ هذه البشرة التي ترتقى بالبعض وتنزل بالبعض الآخر إلى الجحيم؟  

على هامش حفل لتقديم روايته يقول بنجلون: "في هذا الكتاب ثمة كثير من الحنين إلى القارة السوداء التي لا نعرفها جيداً، بمن في ذلك نحن المغاربة..ويستطرد ..المغاربة في الماضي كانوا يعبّرون عن مواقف عنصرية إزاء السود حتى من أبناء جلدتهم، مشيراً إلى أن عائلته كانت تضم أشخاصاً من السود وكانوا يعاملون معاملة مختلفة عن الطريقة التي يعامل بها البيض، إذ لم يكونوا يجلسون معنا على طاولة طعام واحدة، بل يأكلون في المطبخ، لقد انتبهت إلى هذا التمييز وأنا طفل صغير".

وأردف بأن كتابة "زواج المتعة" كانت نتيجة هذه الذكريات التي اختزنت في ذاكراته، وكذلك مشاهد عدد كبير من المهاجرين الأفارقة القادمين من بلدان جنوب الصحراء في بداية تسعينيات القرن الماضي أملاً في العبور إلى الضفة الأخرى للمتوسط عبر ميناء طنجة والذين انتهى بهم المطاف مشردين في شوارع مدينة البوغاز..". كما أوضح بأن تطرقه للعنصرية في الرواية جاء لتوضيح عنصرية العرب والمغاربة تجاه "سود البشرة" مثلها مثل عنصرية بعض الدول الغربية تجاههم، إن البعض يطلق ألقاباً ونعوتاً قدحية جارحة على سود البشرة دون الاهتمام بأثرها المهين والقاسي على نفسيتهم".

أما بشأن شخصية الابن المنغولي كريم في الرواية فيضيف "بنجلون" عن تأثير تجربته مع ابنه "من ذوي الاحتياجات الخاصة" على أسلوب ومحتوى كتابته للرواية، مشيراً إلى أن أحد شخوصها يقدم مقاربة لشخصية ابنه وما عاشه رفقته من مواقف إنسانية، قائلاً إن ابنه غمرته سعادة كبيرة حينما أخبره أنه أحد شخوص الرواية.

"زواج المتعة" رواية فلسفية تفيض بمشاعر إنسانية جميلة، تتناول العنصرية والتطرف والكراهية والانكسارات والحب بشفافية عالية. 

منى عباس فضل
المنامة – 21 يناير 2019 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق