منى عباس فضل
مررتُ
على المقبرة حيث يرقد أبي، وكل الشهداء المناضلين هناك. انقطع المطرُ، فوقفت أمام
المقبرة، رائحتهم لاتزال عالقة في الكون، وهيبةُ رحيلهم ما تزال في أوُجها، وللحظة
شعرتُ بأرواحهم ترفرف حولي كفراشات تتراقصُ. وقفت لحظة حداد أمام قبُورهم أنشد:
قِصَّة شعبِنا والثَّورةُ يَرْوِيها العراكُ الضَّارِي
قِصَّتُنا شعبُ تثيرُ كُلَّ شعبٍ فقيرٍ
وأصحابَ الضميرِ
إنها ثورة
ظفار؛ ليست حقبة تاريخية تشبعت بفكر وقيم ومبادئ ومضت بلا رجعة، بل ملهماً وأيقونة
لجيل من الشباب والشابات العمانيين والخليجيين، شعارات الثورة وزمنها وأغانيها
تتخلد في متون الحكايات والرؤي التي يبدع فيها هؤلاء الشباب، وها هي نور غفرم
الشحري تبدع في نقل لوحة إنسانية مؤثرة وعميقة في روايتها "قصة شعبنا
والثورة" وعن مآلاتها.
تنقل نور مشاهد الحياة الظفارية في ظل الثورة، هي لا تبالغ في نقل صور سمعتها من الكبار وقرأتها في صفحات ما وقع بين يديها من وثائق، سجلت أحداثها التي أذهلت العالم من فرط معاناة شعبها وما قاسوه وما قدموه من تضحيات.
تسرد نور التجربة النضالية من خلال مقاومة مصاعب الحياة التي عاشها الظفاريين وتضحياتهم وكفاحهم المرير من أجل تغيير واقع العبودية الذي كانوا يعيشونه، في متنها يتجول القارئ بين أحراش الجبال وفي هيبة الطبيعة وقسوتها وجمالها النابض بالحياة؛ بعبارات متوهجة تهدي الكاتبة روايتها إلى أبيها أحمد سعيد الشحري؛ فتكتب:
-
"إلى ذلك الرجل الشجاع، والبطل المغوار، والذي حمل بندقيته، وفي نبضه كل
معاني الكرامة والإباء، إلى الفارس الذي رحل عن الدنيا، وما تزال الرصاصة في
جيبه!! رحل وما يزال رمزاً للعطاء، وعنواناً للشرف، ومثالاً للأمانة والنضال. أبي
ليتك تقرأ هذه الرواية، والتي أخذت من ذكرياتك ويومياتك، والتي كنت تقصها علينا،
ليتك تقرأ ملامحك فيها، وبعض صفاتك الرائعة، والتي لا تتكرر.." أما إلى
والدتها فاطمة سهيل سعيد البرعمي فتقول:
- "أيتها الغالية الحنونة الباسلة، لقد كنت أنت بطلة روايتي؛ فالبطلة أخذت ملامحك، وذكرياتك، ومواقفك المشرفة، ومعاناتك، لطالما ألهمتني، ولطالما كنت فخورة بجمال روحك، وبمواقفك أيام الثورة. أنت الثائرة الصابرة، الوطنية الوفية الأبية الشجاعة. أنت القدوة والمثال، أنت أجمل النساء، وأكثرهن حكمة، ونبلاً وكرماً، يا ابنة الأكرمين". وإلى عمها محمد سعيد غفرم الشحري جاء إهداؤها كشهادة إليه ووسم:
-"إلى ذلك الرجل الذي عاش شهيداً طوال حياته!! رحلت، وما تزال بعض رصاصات الثورة مغروسة في جسدك!! وأظنها لا تريد انتزاعها منك؛ لأنها أصبحت جزءاً منك، ومن شخصيتك. إلى ذلك الباسل الذي عاش حياته، وهو يتكئ على عصاه بعد أن اخترق الرصاص جمجمته، ورجله، وكامل جسده!! هل تعلم أنك تختصر في تصرفاتك قصة الشعب والثورة بكل معانيها ومعاناتها، حقيقة أشعر بالغصة؛ لأنك رحلت قبل أن تقرأ روايتي، والتي أخذت مشاهدها من شجاعتك وقوتك، لتغشاك الرحمة يا أبي الثاني".
برصانة من يتحمل مسؤولية السرد التاريخي؛ قدمت نور روايتها قائلة؛ بأنها تتحدث عن فترة الثورة ومعاناتها الإنسانية، وإن الخيال تداخل فيها بالفكر والقيم التي استلهمتها من والداها وأقاربها، ومن مذكرات أبيها وأمها ومعارفها ورجال "طفار الأوفياء"، وأضافت بأنها تنظر إلى قصة "ظفار" الأبية بكل قبائلها وعشائرها بلا تفرقة ولا تصنيف، وإن بطلة روايتها عاشت فترة الثورة، ثم رحلت لليمن وعادت إلى الوطن ثانية وتغربت بعدها إلى لندن.
ثمة ما بقى في جوهر طفول "ظفار" على حاله وحافظ على إيقاعه حتى آخر سطر من الرواية؛ "فكلما كبرت "طفول" الظفارية، تتعلم، لتدخل غمار الحياة بنقاء، رغم كل التشوهات حولها، تحارب من أجل مبادئها، وقلبها، ونبضها". وهي تعترف بأن روايتها هي قلب الثورة، ومعاناة الإنسانية، ونبض الحرية، وقد حاولت عبر مسار أحداثها، التعبير عن ملامح سكان تلك الفترة ومشاعرهم ومعاناتهم وصراعاتهم ووديانهم وغاباتهم وسهولهم وصفاء سمائهم وخصوبة أرضهم ونقاء قلوبهم رغم الظلام والظلم والفقر والحرب والقنابل والرصاص، وهي هنا تؤكد بأن المواقف والمشاعر التي تنبض في روايتها واقعية.
بوعي التزمت المؤلفة بتسلسل زمنى وأمانة وطنية في مسار الأحداث وإن بحذر من المبالغة في تصوير الثورة بصورة حالمة وحالة استعراضية على مسرح تنقل عبره شهادات منتوفه وجامدة حباً في البروز أو في الالتصاق بزخم حالة الثورة وشعاراتها في زمن ما، نور على عكس ذلك تماماً؛ إذ إنها أمسكت بخيوط المعاناة والظلم وعبرت عن الفقر والجوع والحرب والحالة التي كان يعيشها الظفاريون مع الثورة والرصاص الذي كانوا يتعرضون له والقنابل التي تلقى عليهم وعلى مواشيهم وأكواخهم التي كانوا يعيشون فيها، عبرت عن مقاومتهم لكل ذلك، فحافظت على نهجها الوطني بأمانة واتزان دون إسفاف وهي التي تهدي روايتها: "لكل شهداء الثورات وأبطال الروايات وصناع المجد والانتصارات، كنتم الشعلة التي أضاءت لنا الطريق، تحية إكبار لأرواحكم الطاهرة، أرقدوا بسلام"، في الوقت الذي أثارت فيه التساؤلات التي تخلفت في نفوس الأطفال الأبرياء:
لم نكن نحن الصغار نعلم لم قامت تلك الحرب؟ ولم ذلك القتال والتنظيمات؟، ولماذا تحلق الطائرات، وتقذف النار والقنابل على الناس، والحيوانات والمراعي؟ لماذا يأسرون الآباء، ويتركون خلفهم أبناءهم ينتحبون؟ ولماذا يهدمون البيوت، ويتركون أصحابها يباتون في العراء كاللاجئين الذين لا وطن لهم؟!، ولماذا يحطمون الأحلام، ولا يتركون لنا حلماً واحداً نعيش عليه؟! لماذا يحولون الليل للنهار، بفعل أضواء اللهب وكشافات الطائرات التي تقذف الموت، وتوزعه على امتداد السهول والغابات؟!
في الرواية دلالات تعبر عن براعة لغوية لدى نور وهي تكشف عن فيض الحب والوفاء والتضحية والتحدي، ومعاناة الغربة؛ "كنا في بعض الليالي نستمع للمذياع الذي يبث لنا أخبار الوطن، ويردد أسماء الشهداء. كانت أمي ونساء الحي ينتحبن طويلاً، سيظل مجد الثورة بكل أبطاله أغنية لا تمل، ترددها قوافل "بلقيس" وتحملها مواني اللبان، ومواسم الخريف الماطرة، وتحكيها مساءات "الصرب" البهية، وليالي الشتاء الحالمة. إنها أنشودة الوطن، إنها قصة شعبنا والثورة.
لم تغفل عن ذكر من شاركوا في الثورة وحلمها من خارج ظفار؛ مثمنة أدوارهم وتضحياتهم كأحمد الربعي والمعلمة هدى سالم "ليلي فخرو" ويوسف طاهر "أحمد العبيدي"، وتمزج ذلك بشعور الغربة القاتلة؛ "فحين تنفيك الحرب، وتلفظك خارج ديارك، تشعر باليتم والانكسار والحنين، ومهما كنت مستقراً جسدياً، إلا إنك نفسياً لا تهدأ أو تستكين، حتى تعود وتقُبل ذلك التراب الذي إليه تنتمي".
في الحقيقة، نحن جيل عايشنا حلم الثورة الظفارية ومدرستها، ولا نزال نحلم بغد لا يرجف فيه الأمل، لا نمل ولن نمل عن قراءة كل يتعلق بأنفاس الثورات فهي صراخات الشعوب الغاضبة على الظلم والقهر والفساد والاستبداد والإفقار.
إن مخاض التغيير الاجتماعي والتاريخي طويل، وهذا ما خلص إليه فواز طرابلسي: "إنه لا يوجد ثورات فاشلة بالمطلق. فالثورات، ولأنها عوارض لأزمات خطيرة تخترم المجتمعات التي تحدث فيها، فلابد وأن تترك أثراً حاسماً على المسارات التي تليها، حتى لو أخفقت في تحقيق أهدافها المعلنة والنهائية في تسلّم الحكم وفي تنفيذ كامل برامجها والسياسات، الثورات هي إعلان عن فشل الإصلاح، وهي تفرض على الحكام تحقيق الإصلاحات تماما كما طالبت بذلك ثورة ظفار".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق