الخميس، 23 يناير 2020

إضاءة على كتاب "ظفار ثورة الرياح الموسمية"

منى عباس فضل
في مطلع تقديمه لكتاب "ظفار ثورة الرياح الموسمية"؛ يستشهد المترجم بعبارتين "لمايا أنجلو" تذكر فيهما": "ليس بمقدورنا أن نشطب التاريخ، رغم ما يضيفه من أحزان، غير أننا إذا ما واجهناه بشجاعة، فلن نُضطر إلى تكراره، مضيفة؛ وكلما عرفت أكثر عن تاريخك، ازددت تحرراً". المترجم هنا يدرك تمام الإدراك مغازي ذلك فيوضح "بأن تقديم رواية تاريخية أخرى لا يعني ولا ينبغي أن يعني بالضرورة فرضها كحقيقة مُطلقة أو تبنّى كل ما فيها، غير أنًه لا سبيل إلى الاقتراب من الحقيقة إلا بتدبر الروايات المختلفة لذلك التاريخ. كما أنه لا سبيل منهجياً إلى تأييد رواية أو تقويضها إلا عندما تُطرح كاملة، وشفافة للنقاش".

وهذا الذي فعله مؤلف الكتاب عبدالرزاق التكريتي، حين فتح آفاقاً واسعة لمقاربات بحثية "لثورة ظفار" التي أهملها المؤرخون والباحثون الأكاديميون العرب بل ولتاريخ عُمان الحديث، وربما من سوء طالعها -أي ثورة ظفار- أن وقعت حالياً في إشارة للتكريتي في أسر أجندات عديدة؛ فالمثقفون العرب المخذولون يرونها تذكيراً قديماً بشباب ضاع هدراً، وهنا برأينا تكمن الخطورة، كما هناك الموالون للسلطة ممن يعرضونها كمؤامرة شيوعية دولية تم القضاء عليها، والإصلاحيون يرونها فرصة ضيعتها النزعة اليسارية المتشددة، كما فعل برأينا "فواز طرابلسي" حينما ربط الثورة بالفكر القومي الانعزالي حسب تعبيره "أنظر كتابه: ظفار شهادة من زمن الثورة"، أما بعض الانفصاليين في الوقت الحاضر فيجدون فيها رمزاً لتطلعاتهم المكبوتة، ومنه يخلص إلى أن جميع هذه المقاربات تبين حجم التحديات الماثلة أمام من يقدم سردية مغايرة ومعارضة للسائد.

الكتاب في الأصل  أطروحة دكتواره أنجزها التكريتي في رحلة علمية مضنية بكلية سنت إدمند بجامعة أكسفورد في المملكة المتحدة ولمدة سبع سنوات، رحلة غاص عبرها في حقيقة "ثورة ظفار" وجوهرها متسلحاً بمناهج البحث العلمي وصفات الباحث الملتزم فاتحاً صندوقها من ثلاثة أبعاد رئيسية في إطار علاقات متشابكة ومتفاعلة، متقاربة ومتنافرة؛ تمثلت في بعد الثورة وتنظيماتها وعلاقاتها، وبعدي الاستعمار والحكم المطلق.


"ثورة ظفار" ثورة تغيير
استند التكريتي على كم هائل من المراجع غير التقليدية التي لم تقتصر على مصادر الثورة وشهادات من مروا بتجربتها فقط، إنما انكب بجهد جاد على أرشيف غني من المصادر الأجنبية بما تحتويه من وثائق وسجلات من التاريخ الشفوي إنكليزية-سلطانية ولمذكرات شخصية لجنود بريطانيين شاركوا في سحق الثورة، وآخرين ممن كانوا يشغلون معظم المناصب الكبرى في حكومة السلطنة ومخابراتها وجيشها في الفترة التي تناولها؛ ذلك برغم تعامله الحذر معها حيث كان يقاربها ويوازنها باستمرار مع روايات الثورة ومصادرها المحلية والمترجمة أيضاً، إضافة إلى دراسات ومنشورات ودوريات وصحف ومذكرات وشهادات. الأهم من هذا وذاك، الأطاريح والرسائل ذات العلاقة بموضوع البحث، الأمر الذي جعل دراسته متميزة بالرصانة والموضوعية العلمية، على خلاف ما أشارت إليه باحثة تدعى ماثيو ماكلين بشأن كتاب "الثورة العربية بدون سلاطين" لفريد هاليداي وهو المعروف بتعاطفه مع الثورة قائلة: "برغم غنى كتابه بالمعلومات إلا إنه يفتقر للبعد العلمي الذي يتكون -عادة- مع مرور الزمن، وتباعد الفترة الزمنية بين وقوع الأحداث والكتابة عنها، فهو يفتقر لفهم الثورة من الداخل، أو من حيث موقعها في الكتلة الأكبر للحركات القومية واليسارية العربية في عالم ما بعد الاستعمار".

وفي مجال إرساء مسار بحثي لدور الشعوب في عملية التغيير لمجتمعاتها، اشتغل المؤلف بمهارة فائقة في تسليط الضوء على "الثورة الظفارية" وخصومها "نظام الحكم المطلق"، وعلى الكفاح المسلح ساعياً كما أشار إلى تحقيق ثلاثة أهداف أساسية؛ أولها الاسترجاع التاريخي، ووضع الأحداث التاريخية المطمورة والمغيبة عن الأرشيف الرسمي في سياقها، لقد ساهم في إعادة تأريخ الثورة وتحريرها من قيد الروايات الاستعمارية والرسمية كما أعطى أبعاداً تفسيرية وتاريخية حول علاقتها بالإمامة وبالتدخل البريطاني ودوره في قمع الثورة وسحقها من أجل مصالحه وتمشياً مع ترتيبات إنسحابه من المنطقة، في هذا الصدد يعلق "جون تشالكرافت" حول الكتاب "أنظر Arab Studies Journal, 2015"، قائلاً: "لقد حرر التكريتي الذاكراة حول سردية الصراع المسلح في ظفار من السردية الرسمية-الكولونيالية، وكشف الدور البريطاني في تحويل نظام الحكم إلى "ملكية مطلقة" تحت ظروف ضغط الثورة وضرورات مواجهتها وسحقها، لقد قطع الطريق أمام وجهة النظر الكسولة المتأثرة بالمركزية الأوروبية القائلة بأن نظام الحكم الملكي المطلق في عُمان شيء موروث من الماضي، وإنه سوف يتقوض ببطء في ظل ظروف الحداثة الرأسمالية".


الاستعمار يزور التاريخ
أما الهدف الثاني؛ فجاء من خلال قراءته للتاريخ العُماني قراءة مغايرة في ضوء "ثورة ظفار"، حيث تطغي شخصية السلطان التي تشغل حيزاً مركزياً بسبب الهيمنة المطلقة؛ تماماً كما تحيكها الروايات الرسمية والاستعمارية منذ القرون الوسطى وحتى عصر النهضة، لهذا فالكتاب هنا يسائل هذه السردية بقوة وجرأة، وينقل التركيز في صناعة التاريخ من الحاكم إلى الشعب، كما يرصد الماضي الاستعماري في تشكيل الأنظمة الأوتوقراطية المعاصرة واقفاً على تفاصيل تناقض السرديات البريطانية المزورة التي تظهر الاستعمار بصفته عامل تطوير لنظام الحكم وتنمية للمجتمع وهو الذي دبر وخطط لانقلاب 1970 حين استشعر خطر مواجهة التحدي الثوري، فسعى إلى التخلص من النظام القديم واستكمال تدشين النظام السلطاني المطلق ليفسح لنفسه المزيد من فرض الهيمنة السياسية الفاضحة والنهب والفساد.

ومن جهة الهدف الثالث، وضع "ثورة ظفار" في سياق شبكة علاقاتها بالثورات العابرة للحدود وفي إطار ارتباطها بالحركات الثورية الإقليمية التي رفعت شعار الكفاح ضد "الصهيونية، والإمبريالية، والرجعية العربية"، فهي كما يراها جزءاً من كتلة ثورية عالمية تفاخر بممارساتها وأدبياتها وأدوات تعبيرها وأيديولوجياتها وعلاماتها كما في كوبا وفيتنام والصين، الأهم ربطها كحركة ثورية نشطة في مواجهة النظام "الكولونيالي" خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لم لا وهي التي تنتمي برأيه إلى روح المؤتمر الأفرو-أسيوي الذي عقد في "بانونغ" في إندونيسيا عام 1955.

مفهوم الثورة والحكم المطلق
ولكي يبلور صياغة مفاهيمية "للثورة الظفارية" و"الحكم المطلق"، اعتنى التكريتي بمفهومين جوهريين هما مفهوم الثورة، ومفهوم الحكم المطلق، فالنسبة لمفهوم الثورة، يشير إلى النظرة الثابتة التي تصف لحظة تاريخية معينة يطاح فيها بنظام حكم ما بالثورة، وبالتالي بداية تقود إلى نهاية، الأمر الذي أدى إلى التركيز على معيار النجاح، حيث العملية التي تقود إلى الإطاحة بالنظام تسمى ثورة، أما التي تفشل فتمنح تسميات أقل شأناً، "كالتمرد أو العصيان المسلح أو الانتفاضة أو الهبة الشعبية" ويصل هنا إلى إن هذه النظرة تخلق مشكلات تاريخية لجهة تركيزها على الأداء الذي يختزل العملية الثورية في نتيجتها النهائية ما يعني إهمال عناصر جوهرية أخرى، بيد إنه في هذا السجال يعتمد تعريف "تشارلز تلي" الذي يرى أن الثورة تجمع بين "حالة ثورية" و"نتيجة ثورية"، ووفقاً لذلك فإن لظفار حالة ثورية، صحيح لم تصل إلى نتيجة ثورية، لكنه وعند تحويل التركيز من النتيجة النهائية إلى العملية الفعلية ستظهر صورة مغايرة تماماً؛ كيف؟

يقول: "عاشت نسبة كبيرة من الشعب في ظفار مستقلة عن السلطات الإنجليزية-السلطانية إحدى عشرة سنة، فسيطروا على مساحة كبيرة من الأرض، وأنشؤوا مؤسساتهم، وأقامو إصلاحات إجتماعية، وأحدثوا تغيراً جدرياً، وهكذا فالجيل الذي عاش آنذاك، شهد الأحداث بوصفها ثورة فعلية، لامست حياته المدنية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ولا يكتفى بوصف هذه التحولات مجرد "حالة ثورية"، فقد أنشئ فضاء مدني جديد تحت سلطة ثورية موحدة، ألغت الرق، واستحدثت هُويات  جديدة تعلو على القبيلة وقضت على سلطة الشيوخ، وصعد أفراد إلى مناصب قيادية من خلفيات قبلية واجتماعية متدنية "كالعبيد مثلاً"، كما دخلت القراءة والكتابة "مدارس الثورة" والطب الحديث، وفتحت ثغرات في قوانين الأحوال الشخصية ومشاركة المرأة في العمل وحمل السلاح والحد من تعدد الزيجات وختان الإناث..إلخ، واستحداث محاصيل زراعية جديدة، وانتشرت الأيديولوجيات الحديثة، وتعريب وتعمين الهوية الظفارية ولغتها وثقافتها بمبادرة تبدأ من القاعدة الاجتماعية وليس من قمة السلطة؛ ووقع كفاح مسلح على مدى زمني طويل"، وبرغم عدم تمكن الثوار من إسقاط النظام القديم في السلطنة، إلا أنهم نجحوا في تحقيق انتقال مؤقت للسلطة في قطاعات كبيرة من جبال ظفار، وهي الأراضي التي أطلقوا عليها اسم "المناطق المحررة"، وهذا يقود إلى قدرة الثورة على إجبار الدولة على نقل السلطة، وبذلك اعتبر الثورة محركاً تاريخياً للتغيير في عُمان بسبب الضغوط التي مارستها على الحكم المطلق.


الخلاصة، إننا بصدد مادة علمية ذات قيمة فريدة متعلقة بالنضال القومي العربي الثوري المسلح، دراسة رصدت "ظفار" بصفتها مسرحاً من بين مسارح عديدة شهدت صراعاً إقليمياً على السيادة الوطنية، وتعمقت في تفكيك دلالات التحولات التي جرت على علاقة نظام الإمامة والسلطنة والقبيلة، فضلاً عن التحولات الإيديولوجية والسياسية التي جرت في حركة القوميين العرب وتأثيرها على الديناميكيات السياسية في منطقة الخليج في فترة الستينيات والسبعينات وخصوصاً تأثيرها على "ثورة ظفار" التي تحولت في مرحلة من مراحلها نحو الصين الاشتراكية وحالها في مرحلة تراجع المد الثوري، كما لم تغفل عن تأثير عامل الحغرافيا والمناخ على أداء الثورة ومحاولة النظام السيطرة عليه، الكتاب متشعب وغني لايمكن لمقال قصير أن يغطي جوانبه، ومحاولتنا هنا جاءت للتركيز على أهمية الإطلاع عليه وإعادة قراءة "الثورة" بمنهجية هذه الدراسة ومنطلقاتها التي استندت على مناهج علم الإجتماع والسياسة في معالجة "الثورة الظفارية".

منى عباس فضل
المنامة -23 يناير 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق