منى عباس فضل
في رواية للكاتبة الفرنسية والمدربة في مجالي
الإبداع والتنمية الذاتية "رافاييل جيوردانو" عنوانها "حياتك
الثانية تبدأ حين تُدرك أن لديك حياة واحدة"، كم كثيف من رسائل عميقة محملة
بتقنيات لمن يقاوم التغيير ويتشبث بطريقته في الحياة، لمن لا يترك مكان للهدوء
وإلى العودة للنفس، والأهم لمن يريد استعادة زمام حياته بيده وينشط جسده وذهنه
لتوليد طاقة بل طاقات متجددة تمنحه القوة والثبات.
الرسائل تتضمن تمارين ذهنية وتقنيات تساندنا
على مغادرة الحصون المنيعة التي نقيمها حول ذواتنا عبر تدريب الذات على الاستسلام
إلى الهدوء والصمت وتعلم النظر لما يحدث فيها، وهي في المحصلة النهائية طريق للتغيير وتحسين الحياة التي تسعفنا في
العثور على الرضى والسعادة.
الرواية تدور حول حياة "كاميل"
التي تتعرض أثناء مشوار عملها لحادث تتعطل فيه سيارتها وهاتفها وسط غابة حرجية،
فتلجأ لأحد المنازل وتطرق الباب مستنجدة بساكينه؛ كانت في حال يرثى لها، ترتجف من
بلل المطر وتتأسف لهم على الإزعاج، تجري اتصالا هاتفياً من بيتهم بزوجها الذي يرد
على السماعة بعد ثماني رنّات طويلة، وهي تخمن لحظتها بأنه جاثماً أمام التلفزيون: "رغم
كلّ ما جرى، لم يُبد زوجي دهشة ولا قلقاً وهو يسمع صوتي..شرحتُ له النكسات التي
تعرّضت لها، قاطع جُملي بأصوات مزعجة..لم يكن بوسعه أن يبدي شيئاً من المودة
والعاطفة ولو لمرة واحدة! أغلقت السماعة غاضبة بعد أن أخبرته بأنني سأتدبر أموري
وأن ينام دون أن ينتظرني. كانت يداي ترتعشان رغماً عني وأحسستُ بأنّ عينيّ تتغشيان"،
بعد تبادل الحديث بينها وبين صاحب المنزل الذي يصبح مدربها الروحي "الروتينولوجي"
فيما بعد، تبدأ معه رحلة استعاد نفسها واكتشاف مكامن السعادة والقوة في حياتها.
داء الروتينولوجيا
تصف "كاميل" التي تفتقد الهناء
الداخلي حالتها: "تسمرت عيناي في عينة ..كانت براغيّ الصغيرة الداخلية تتراخى
واحداً تلو الآخر، بحتُ له بالخطوط العريضة لكآبتي وشرحتُ له كيف أنّ انكسارات
صغيرة ومتراكمة انتهت إلى أن تنهش بهجتي في الحياة في حين كان لديّ كل شيء لكي
أكون مبتهجة...ها أنّك ترى، لستُ تعيسة تماماً ولكنّني لستُ سعيدة أيضاً..وهذا الشعور
بأنّ السعادة تنسلّ من بين أصابعي فظيع! ومع ذلك ليس لديّ أيّ رغبة في مراجعة
طبيب؛ ..أشعر وكأن قلبي لم يعد موجوداً، لا أدري إن كان لكلّ هذه الحالة من معنى!
أجابها: "على الأرجح إنك تعانين من داء الروتين
الحادّ "الروتينولوجيا" وهذا أحد أمراض الروح الذي بات يتفشى بشكل
متزايد بين الناس في العالم، ومن أعراضه انخفاض درجة الحافز، ونوبات دورية من
الكآبة، فقدان المعالم والحواس وإيجاد صعوبة في الشعور بالسعادة حيث تختفي
الابتسامة على الرغم من وفرة الخبرات المادّية، وخيبات أمل وشعور بالإرهاق والتعب"،
و"الروتينولوجي" ليس عالم نفس ولا مدرب إبداع، إنما هو خبير دعم ورعاية
فن العثور على السعادة المفقودة.
لكي تنطلق "كاميل" في عملية التغيير، تستطرد في توصيف
حالتها وعلاقتها مع زوجها وابنها الوحيد الذي تأثرت في تربيتها له بأمها وبما كانت
تردده على مسامعها "الضبط، الضبط، الضبط!"، "الضبط: إذاً هذا هو ما
حاولتُ إقامته لكي أوقف انحرافنا التسامحي، إنتقلت من تطرّف في التسامح إلى تطرّف
في القسوة كنت أتوتر وأغضب لأدنى سبب، وكنت بحاجة للهدوء والسلام والتحرر من الضغط
النفسي ولو لدقائق ..حيث خرجتُ من الحمّام، جعلتني صورتي في المرآة أعبس، كانت
التجاعيد تظهر بوضوح في جبيني، دبّ فيّ الحنين للزمن الذي كنتُ فيه رشيقة
كغزالة...كانت صورة جميلة تجمعني وزوجي في الزمن الذي كنّا لا نزال نُجيد فيه
مناجاة القمر والضحك مع النجوم ليلا ً..أين ذهب ذاك الرجل الجميل ذو النظرة
المشعّة الذي كان يَعرف كيف يقبلني ببراعة وهو ينثر الكلمات العذبة على عنقي؟، لقد
وصلت لهذه الحالة في أفكاري، حينما ألقيتُ نظرة على زوجي، وهو مستلق على أريكة،
يشاهد التلفاز بعين ويلعب بهاتفه الذكي بالأخرى، غير مبال بحضوري ومن دون أن يشعر بما
يعتمل في داخلي من انفعال وتوتّر. حينها قررت أن أمتلك الجرأة على زعزعة ما هو
راسخ ومتوقع ومتفق عليه! وأن أقايض ما هو باعث على الطمأنينة بما هو باعث على
الحماسة! أن اضغط على زر "إعادة تشغيل" وأن أنطلق على أسس جديدة أن لا
أبقى سلبية وفي حالة انتظار أبداً".
نظرية الخطوات الصغيرة
بدأت مسيرة التغيير "لكاميل" من
خلال خطة منهجية ومقاربة تجريبية وضعها مدربها الروتينولوجي "كلود"، وهي
تنطلق من مبدأ أنّ الشخص الذي يرغب في التغيير لن يعثر على حقيقته ولن يدرك أي
معنى يمنح لحياته بين الجدران الأربعة لعيادة طبية، إنما سيجدها في الممارسة، في
الملموس، في التجربة، وهذا المنهج يستقى مصادره من تعاليم مختلف تيارات الأفكار
الفلسفية والروحية والعلمية ويستلهم ويستوحي التقنيات الأكثر تجربة للتنمية
البشرية وتطوير الذات عبر العالم، إنه "يعطي معنى لحياته"، ويطبق المنهج
على مراحل وخطوات تبدأ بتطبيق نظرية "الخطوات الصغيرة"، ذلك لأن تغيرات
الحياة الحاسمة تبدأ بتحوّلات صغيرة غير ضارة ظاهرياً، وإن سر النجاح يكمن في التوصل
إلى فعل ذلك كل يوم كما اعتقد أرسطو "نحن ما نكرر فعله دون توقف"، إن
تحول المرء إلى شخص أفضل وأكثر سعادة ومتوازنٍ؛ يتطلب عملاً وجهوداً منتظمة. ومن
المهم أن لا نسأل أنفسنا إن كنا قادرين على ذلك، إنما إن كنا نرغب في ذلك التغيير؟
وهل لدينا الرغبة فيه؟ "فالتغيير بابٌ لا يفُتَح إلاّ من الداخل" ويكون فيه
المرء على استعداد كامل للعبة. أي لعبة؟ لعبة التغيير طبعاً.
مهمة البياض
العظيم
تتلخص أبرز تقنيات لعبة التغيير التي يتبعها
"كلود" مع "كاميل" في
"مهمة البياض العظيم" التي اعتبرها المهمة الأولى المباشرة لعملية إعاد الترتيب
الداخلية والخارجية الكاملة. "...داخلية بتشخيص المحيط وكل ما يبدو سامَا
وضاراً ومسبباً للتصلب في علاقاتك وتنظيم حياتك، وبالتوازي القيام بعملية ترتيب
خارجية في المنزل، برمي كل الأشياء المكدسة وغير المفيدة"..."تعلمين يا "كاميل"
أنّ الحياة أشبه بمنطاد، ولكي نرتقي فيه إلى أعلى ما يكون، يجب أن نجيد التخلّص من
الحمولة الزائدة وأن نرمي من على متنه كلّ ما يعيق ارتفاعنا وارتقائنا" إنه
مبدأ "الإرساء الإيجابي" من خلال تجديد نشاط المشاعر والأحاسيس نفسها
التي عشتوها في لحظة سعيدة.
في السياق طلب منها الكتابة في صفحة عن أي عنصر
في حياتها لم تعد ترغب فيه فكتبت: "لم أعد أريد أن أكون لطيفة جداً، لم أعد
أريد أن أسائر الآخرين كثيراً لكي أسعدهم، لم أعد أريد أن أنتظر بسلبية إلى أن
تحدث لي الأشياء، لم أعد أريد أن نتشاجر "أدريان" وأنا طيلة الوقت، لم
أعد أريد أن يزيد وزني لأربعة كيلوغرامات إضافية، لم أعد أريد أن أدع حياتي تسير
مع التيار، لم أعد أريد أن أصاب بالأحباط بسبب عملي، لم أعد أريد أن أترك أحلامي
على الرف....إلخ"، إن تمرين ممارسة رمي الأحمال وإن بحركة رمزية، مهمة لتعزيز
ثقتك بنفسك، هو أن تتعلمي أن تكوني أوفى صديقة لنفسك! يجب أن تقدري نفسك وتكوني
رحيمة ومتسامحة مع ذاتك، وأن تمنحيها علامات العرفان.
من أي حلقة أنتي؟
في خطوة تالية شرح إليها من خلال مخطط وضعه
على الورق عن "الحلقة المفرغة والحلقة الفاضلة" وذكر: بأن "الحلقة المفرغة":
هي تفكير سلبي، هيئة جسدية خاملة الظهر مقوس والعضلات مرتخية، نقص الطاقة، حزن،
تثبيط عزيمة، مخاوف، تسيب، عدم القدرة على الاعتناء بالنفس، سوء تقدير للذات:
"أنا لاشيء، سوف لن أنجح"، انطواء على الذات، قلة انفتاح على الآخرين،
عدم وضوح في الرؤية، الفشل وعدم بلوغ الأهداف، أما "الحلقة الفاضلة" فهي
التفكير الإيجابي، والتصرف كما لو أن الهيئة الجسدية حيوية (الظهر مستقيم، الذقن
مرفوع والابتسامة على الشفاه)، روح الحيوية والحماسة بادية، قدرة على الاعتناء
بالنفس (طعام جيد، وممارسة للتمارين الرياضية، والاستمتاع بالحياة)، حسن تقدير
للذات: "لدي قيمة، أستحق أن أكون سعيدة"، انفتاح على الآخرين، إمكانات
لانطلاقة جديدة، إبتكار، نظرة بناءة حول الأوضاع والحلول، نجاح في الوصول إلى
الأهداف المحددة". ومنها عليها معرفة من أين حلقة هي، وأن تحدد الطريق التي ستقطعها
للتغيير، والبدء بكتابة قائمة أخرى عن تجارب إيجابية ومزايا شخصية، وممارسة "لعبة
آلة التصوير الخيالية" التي هي تمرين على تغيير نظرتي لواقعي من خلال تغيير
مصفاتي للإدارك الحسّي؛ "حينما تخرجين، عوض أن تركزي على الأمور المزعجة أو
الأشياء القبيحة أو المتناقضة، ركزي انتباهك على الأشياء الجميلة والممتعة، التقطي
صوراً متخيلة ممتعة في الشارع وفي وسائل النقل والمواصلات في كل مكان تتجولين فيه،
المتسولين والمارة الغاضبين والأطفال الباكين ولون السماء والعصفور المنهمك في
بناء عشه وزوجين عاشقين يتعانقان وأماً تحتضن بحنان إبنها وأصغي لصوت حفيف أوراق
الأشجار العذب.
فن النمذجة
والابتسامة
واقترح في خطوة أخرى من منهجة تقنية "فن
النمذجة" بإيجاد نماذج حقيقة أو خيالية لأشخاص ومحاكاة التصرفات والسمات التي
يعجب المرء بها؛ "..ابحثي لنفسك عن مرشدين..أي الأشخاص الذين يثيرون إعجابك
أكثر من سواهم؟ ما هي مزاياهم؟ ما هو نموذج نجاحهم؟ أدرسي حياتهم، أقرئي سيرهم
الذاتية...وأعدّي كشكولاً جميلاً من كلّ صورهم، محذراً إياها من الوحوش الداخلية
الصغيرة التي تترصدها مثل الكسل والاحباط "..كان عليّ أن أتشبث، حتى وإن بدا
لي إيقاع التغيير كثيفاً ولم أشعر بأنني مرتاحة جداً في ثياب شخصيتي الجديدة".
ذكرها بأهمية الابتسامة التي لا تكلّف أي
شيْ، ولها تأثير في محيط الإنسان ومعنوياته وحالته النفسية. الابتسام الطبيعي أو
غير الطبيعي يخفف من آثار الإجهاد على أعضاء الجسم، قال لها: "الابتسامة لا
تجعلك محبوبة أكثر من الناس وسعيدة أكثر فحسب، بل وتجعلك تعيشين لعمر أطول وفي صحة
أفضل، وتبرزك أكثر جمالاً وأكثر إشراقاً وشباباً". أما المرحلة الثانية فهو أن
تتعلّمي كيف تحيين ابتسامتك الداخلية، تلك التي تعكس الذات وتسبب السلام الداخلي،
إنها سعي إلى السعادة، الابتسام مع الذات هو كمن يغوص في بحر من الحب، هي تمنح
طاقة مريحة لها القدرة على الشفاء لا يمكن إهمالها. وهي تحتاج إلى تمرين لبضع
دقائق كل يوم. الابتسامة الداخلية أشبه بالعثور على فسحتك من السماء الزرقاء وهذا
يحدث عندما ترغبين في ذلك، حتى حينما تكون السماء محملة بالغيوم، تبقى جميلة،
وكذلك عندما يكون مزاجك نكداً، تبقى هذه السماء الزرقاء الرائعة في داخلك وتنتظرك
على الدوام. عليك أن تتعلمي كيف تستعيدين الاتصال بها.
أما الخطوة المهمة فكانت في عملية التنفس
العميق، كان هدفه أن أعي أهمية تنفّسي لكي أرشد انفعالاتي وأبقى مسيطرة على ذاتي
في كلّ الظروف. عرفت بالتجربة بأن التنفس هو سيد اللعبة،..حينما تكونين في لحظة من
الضغط والتوتر العصبي، ركّزي على تنفسك، وتذكري لحظة الهدوء، السكينة، التحكم
بالتنفس، السيطرة على الذات..احتفظي في ذهنك بأنّ التنفّس الجيد لا يأتي فقط من
الشهيق، وإنّما بالقدر نفسه من نوعية الزفير أيضاً. وإذا ما زفرت جيداً من
الأعماق، فإنك تمنحين فرصة وإمكانية لرئتيك لكي يمتلأ فيما بعد بهواء جديد،
وبالتالي أكثر فائدة لأعضاء جسمك.
هناك تقنيات عديدة زخرت بها الرواية،
لكيفية تغيير الحوار الداخلي وقطع ربائط (الماضي) والابتكار الغرامي والتعاطف
الرطب والتعاطف الجاف، التصرف "كما لو أنّ"، ولحظات الامتنان وأغاني
الطاقة والحصالة وأجملها "تقليد القطّ".
نعم "تقليد القطّ" من خلال منح
أنفسكم وقتاً قصيراً يكون لوحدكم. وقت هادئ ووديع، تخلدون فيه إلى اللحظة الراهنة،
حيث يمكنكم أن تتمطّوا وتتثاءبوا وتتركوا أفكاركم تطفو وتموج مثل تأمّلٍ خفيف. إن "تقليد
القطّ" هو بكلّ بساطة يعني الاكتفاء بـ"الوجود" من دون الخضوع لضغط
"الفعل"..نعم "قلدوا القط" من اليوم وطالع!
منى عباس فضل
المنامة – 26 مارس 2019
مقال جميل.. مليان نور وأمل ومحبة..
ردحذفحلو 🌷