السبت، 7 يناير 2023

نقدة أوال وبريق الأنامل

 

منى عباس فضل 
 



 أغنية يا ثوب يا ذا الثوب من عمل 
الفنان البحريني خالد الرويعي 


بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي لجمعية أوال النسائية الرائدة قبل شهور؛ تشرفت باستلام إهداء عزيز على قلبي لأحدث إصدارات الجمعية التي تشكل بحق قيمة مضافة للمكتبة البحرينية وهو كتاب "النقدة..بريق الأنامل".


 الإصدار جاء تتويجاً لمشروع الجمعية الذي دشن منذ سنوات، وهو يتضمن سيرة فن الحياكة عند المرأة البحرينية. في كلمة الإهداء كتب؛ (إلى التي أناملها صاغت البهجة، وصنعت من النجوم ثوب المستقبل، تعففت عن الغيم لتطال السماء، إلى التي إذا غنت.. استفاق الصباح؛ إلى المرأة البحرينية صديقة المجد). ما أجمل العبارات التي تنبض بروح الحميمية والتقدير لمهنة النقدة وصاحباتها ممن حفرن في الصخر كي يمضين بمركب الحياة وسط أمواج عاتية من تقلبات الزمن والحاجة وثقل المسؤوليات على كواهلهن.

 في مقدمة الكتاب؛ تُقاس أصالة البلاد وتطورها بمحافظتها على تراثها، والاعتداد بماضيها دون الوقوف عنده والثبات عليه، حيث يمثل قاعدة قوية يستند عليها المجتمع وينطلق من خلالها، والجمعية في هذا المقام تؤمن بأن مجتمعنا الفتى يمتلك ثروة تراثية هائلة تختزل ثقافته وفكره وتوجهاته وإن من واجبها المحافظة عليه للأجيال القادمة كي يحمله معه بفخر واعتزاز.


الاحتضان

لهذا أخذت على عاتقها العمل الدؤوب خدمة للمجتمع ومن خلال إثبات وجود المرأة وفاعليتها وقدرتها على الخلق والتغيير وإبراز دورها، فقد تبنت مشروع (النقدة) منذ عام 1996 حين دعتهم وزارة التنمية والصناعة آنذاك لتبني مشروع حرفي يمكن من خلاله توظيف عدد من الفتيات ممن يقطن مدينة المحرق، ويمتلكن حرفة بحاجة إلى احتضان ورعاية توفر لهن دخلاً مادياً ثابتاً من جهة، ومن جهة أخرى يرفعن قيمة العمل الحرفي اليدوي، ومنه انطلقت فكرة مشروع تطوير حرفة النقدة الذي اضطلعت به الجمعية للحفاظ على الحرفة وتطويرها؛ وهو يعد من أهم مشاريعها، حيث خصصت له موقعاً في مركز تنمية الصناعات الحرفية بالمنامة، واستقطبت من خلاله النساء العاملات في مجالات الخياطة والتطريز من ذوات الخبرة وتوظيف مهارتهن في إنتاج الأزياء الشعبية المتميزة بنقوش النقدة، كما شكلت "لجنة مشروع تطوير حرفة النقدة" لمتابعة المشروع وتطويره. وعليه فالكتاب الذي بين أيدينا يعد حصيلة جهود استمرت سنوات لتوثيق تطوير النقدة بكل جزئياته وحيثياته، فضلاً عن الحفاظ على الحرفة من الاندثار والضياع والنسيان.

عند تصفح الكتاب؛ تجد إنه يقودك بسلاسة إلى عالم مختلف، متمرس في الجمال، يتنقل برشاقة بين التفاصيل ويلاحقها بعدسة الحرف، ويرصد مواطن الإبداع والفن والجمال، فيرسم للناظر صوراً متعددة الزوايا تجتمع في عين (النقدة)، تشعر بأنك في رحلة تراثية يمكنك الانغماس في تفاصيلها عبر ملامح الجدات وعنائهن، وتجاعيد أيديهن وهن يجتهدن في هندسة أدق تفاصيل النقوش التي لا يظهر رونقها إلا بلمعان (النقدة) على قطع القماش. إنها أفكار وثقافة مختزلة في وخزات خيوط معدنية تهب للقطعة القماشية ملامح تاريخاً غضَّا تعبق به تفاصيل تلك القطع، فهذا الكتاب ليس أي كتاب، وإنما هو مرجعٌ تراثيٌ وحبل وصلٍ بين ماضٍ عريق يُعتز به، وحاضر ٍمتمكًنٍ في رقيه يسعى إليه ويفخر به؛ هكذا قدمت الجمعية كتابها بروح من يستشعر ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه المجتمع عامة والمرأة البحرينية خاصة.


النقدة بين العراقة والإصالة

تضمن الكتاب فصولاً متعددة بعناوين محددة تصدرتها صوراً للملابس التراثية التي زخرفت بنقوش النقدة والتي التقطتها كاميرة مصور محترف، فأظهرت جمال ورونق هذه الملابس، ففي الفصل الأول منه بعنوان؛ رحلة النقدة في كتاب؛ يُذكر بإن الأزياء الشعبية وسيلة للاستدلال على تركيبة المجتمع الثقافية وهي ترتبط بالعادات والتقاليد والموروثات الشعبية والحرف التقليدية السائدة. وإن كل شعب متميز بأزيائه المتعددة بحسب المناسبات، كما إن التأثيرات المناخية تلعب دوراً به، فالبحرين والخليج يتميزان بطقس حار صيفاً وشتاء دافي، تحتم على مواطنيها ارتداء الأزياء الشعبية الفضفاضة الخفيفة بألوان فاتحة أبدعته يد الصُّناع البحرينيين نساءً ورجالاً في الخياطة والتطريز بنقوش ورموز مستوحاة من البيئة والواقع المعاش.

أما في الفصل الثاني، العراقة والإصالة؛ ثمة ما يشير إلى إن لحرفة النقدة خاصيتّان هما؛ العراقة والأصالة، وفي السياق يتم تناول مصطلح النقدة بالشرح؛ حيث توصل فريق العمل الميداني للكتاب الذي التقى مع نسوة عاملات بالحرفة، أن هناك اختلافاً شاسعاً في سبب تسمية الحرفة، فالبعض منهن يعتقد بأن أصل الكلمة يعود إلى الكلمة العامية (النكَدة) أي نكَدة الدجاجة، حيث تتحرك إبرة النقدة منغرسة بالقماش كما الحركة الخفيفة لمنقار الدجاجة وهي تلتقط الحبوب، وهناك من اختلف مع هذا الرأي، ورأى أنه مشتق من كلمة النقود، فلمعان الخوص المستخدم في هذه الحياكة يشبه لمعان النقود المعدنية، وبأن الزي المطرز (بالنقدة) يباع قديمًا حسب كمية مقياس التولة المستخدمة في تطريزه، كما إن أصلها يعود للكلمة العامية (النغزة) المشتقة من (نغزة أي غرزة الأبرة)، وكلمة النقدة لغويَّا في المعاجم تعني: (نَقَدَ) الشيء – نقداً: نقره ليختبره، أو ليميزه جيده من رديئه، ويقال نقد الطائر الفخ، ونقدت رأسه بأصبعي، و(النّقُد) صغر الغنم، أو جنس منها صغير، واحدتها نقدة وجمعها نقاد)، وهي العملة من الذهب والفضة مما يتعامل به، وهي أيضاً ضرب من الشجر له نور أصفر ينبت في القيعان.  



جغرافيا الذهب والنقوش

 في الفصل الثالث "جغرافيا الذهب"، يشار إلى مصدرين أساسيين لدخول حرفة النقدة في البحرين وهما الهند وسواحل فارس، خصوصاً وإن البحرين تشكل ميناءً تجارياً ومعبراً للسفن، وبالتالي فالحرفة هنا تعد حرفة مهاجرة استوطنت البحرين مع الأقوام التي استقرت على أرضها واكتسبت طابعها المحلي من الاستمرارية وأصبحت حرفة بحرينية أصيلة ومتوارثة، يدخل في تكوينها خامات تتمثل في (الأبرة، والخوص "خيوط النقدة المطلي بمادة الذهب"، والأقمشة).

 


ويستعرض في الرابع منه "فن المعاني"؛ أنواع نقوش وغرز النقدة وصورها التي عرضت بشكل جميل وشروح مبسطة أهمها؛ (تسع الخوات "الأخوات التسع"، سبع الخوات، خمس الخوات، أم أربع، أم ثلاث، بوفول، رش المطر "حبات المطر"، اللوزيّة، الفرخ، الكازوه "الكاجو"، السعفة، درب الحية، النخيه، الهلال، المرتهش، المرتعشة، النجمة، الفراشة، رأس القند "السكر"، فشقة اليوزه "نصف الجوز"، حصاة المدرسة، الوردة الكبيرة، الدبلة، علامة هتلر، وهنا يلاحظ تمازج وتداخل هذه الكلمات بتعبيرات من البيئة البحرينية وتراثها في دلالة حية على عراقة وأصالة حرفة النقدة، إلى جانب ذلك يشار إلى مصادر الوحدات الزخرفية الطبيعية، والهندسية، ويضع الكتاب خارطة للمناطق التي انتشرت فيها حرفة النقدة في مدن وقرى البحرين ومنها المحرق والمنامة والرفاع والزلاق والبديع وعالي والنويدرات وبنى جمرة وسترة، في سياق شروح عن خياطة ثوب النقدة والملابس النسائية القديمة بمسمياتها وصورها الزاهية كـ"ثوب النقدة، الثوب المفحح، ثوب المفرخ، ثوب الكورار، ثوب الويل، ثوب التور، الدرّاعة، الملفع، البخنق، السِرّوال، المشِمّر، الغِشَّوة".

متعة السرد

ووفاءً لكل من مارس حرفة "النقدة"، ولمزيد من متعة السرد في الكتاب، يُفرد فصلاً خامساً يتضمن شهادات حية بعنوان "سيرة الاسم والأنامل لفاطمة عبدالله النقدة، وسيرة الثوب برواية محمد الزري، وحكاية الحياكة لزكية، كما يركز على أهداف المشروع والمنعطفات التاريخية التي مر بها والشركاء الذين ساهموا في دعم المشروع محلياً وخارجياً والتمييز الذي حصده في عدة مناسبات ومعارض.



في خلاصة الكتاب، أوال والطريق إلى التراث؛ تنوه الجمعية إلى إننا أمام مشروع تنموي، يرتبط بالتراث والتاريخ والتقاليد المحليّة، لم لا والنقدة ترتبط بالمناسبات السعيدة وحالات الفرح كالأعياد والزواج وغيرها، وإنها وبرغم شهرتها، فقد بدأت تتراجع لانحسار عدد العاملات فيها منذ سبعينيات القرن الماضي، ومع ذلك فالمشروع لا يزال مستمراً يواجه التحديات ويقدم منتجاته المتنوعة، ومازالت أوال تعزف به على أوتار التراث ألحاناً أكثر جمالاً وأشد قرباً من الروح الأصيلة وأكثر رسوخاً في النفس جيلاً بعد جيل. كتاب يستحق الاطلاع من خلاله على تجربة رائدة في مهنة النقدة الحرفية وأن يتصدر مكتباتنا المنزلية وكل مكتبات المؤسسات التعليمية والمعرفية.

المنامة - 7 يناير 2023







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق