الجمعة، 22 نوفمبر 2019

بالبرتقالي لا للمادة "353"


منى عباس فضل
برغم فداحة القضية، إلا إن صور النساء المشاركات في الحملات البرتقالية التي تتوجه في دعواتها وتحديداً في 25 تشرين الثاني/نوفمبر للقضاء على العنف ضد المرأة، تشيء عن مظاهر إصرار على العمل وكثير من التحفز والابتسامات. هذه الابتسامات في حقيقتها تعبير صارخ عن الرفض والاحتجاج المعلن تجاه انتهاكات العنف التي ترتكب بحق الضحايا والأبرياء كما هي إعلان عن التضامن معهم والموازرة، منطلقين من أحلامهن بمستقبل خال من القهر والعنف، لم لا والقضية البرتقالية التي جاءت هذا العام بشعار "جيل المساواة يقف ضد الاغتصاب"، قد باتت قضية إنسانية بامتياز.


أرقام العنف عالمياً
في المعلوم حزمة التقارير الدولية ورغم شحة البيانات الإحصائية المتعلقة بظاهرة العنف ضد النساء ودقتها، إلا إن ما يرشح من خلالها يشير إلى دلالات ومعطيات مهمة وخطيرة عالمياً، إقليمياً، محلياً، يأتي على قمتها وليس آخرها تلك التي كشفت عن وجود واحدة من أصل ثلاث نساء وفتيات في العالم يتعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي خلال حياتهن. المثير للحفيظة إن أغلب ذلك العنف يرتكب من طرف الشريك "الزوج". الأكثر منه استفزازاً بإن واحدة من كل اثنتين من النساء قد قُتلن في جميع أنحاء العالم على أيدي أزواجهن أو أسرهن في عام 2017 فيما يعرف "بجرائم الشرف"، الأسوا أن (71%) من جميع ضحايا الاتجار بالبشر في العالم هن من النساء والفتيات وهناك (3 من أصل 4) من هؤلاء النساء والفتيات يتعرضن للاستغلال الجنسي. وماذا أيضا؟

أيضا والحديث لايزال حول المؤشرات العالمية، هناك أرقام صادمة تتعلق بحوادث الاغتصاب والاعتداءات وهي في ارتفاع ملحوظ لاسيما في الدول المتقدمة، حيث يوضح أحد التقارير بأن حوالي (35%) من النساء عالمياً تعرضن لعنف جسدي أو جنسي، ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية وصلت النسبة إلى (83%) من فتيات تتراوح أعمارهن بين (12-16عاما) شهدن نوعاً من التحرش الجنسي في المدارس العامة، في حين تعاني واحدة من كل خمس نساء تراوحت أعمارهن (بين 16 و59 عاماً) من بعض أشكال العنف الجنسي في انكلترا، أما تقرير للاتحاد الأوربي فيفيد بأن أكثر من (55%) من النساء الأوروبيات تعرضن إلى شكل من أشكال التحرش الجنسي فيما تعرضت واحدة من كل (20) امرأة للاغتصاب.


استناداً إلى احصاءات مراكز ومنظمات بحثية، نشر موقع "trendr" قائمة لأعلى (11 دولة) في معدل جرائم الاغتصاب لعام 2018، منوهاً إلى أن الاغتصاب يحدث لكل (100 ألف) شخص من السكان، وتبعاً للموقع يأتي على قمة هذه الدول جنوب افريقيا التي تصدرت المركز الأول عالمياً حيث سجلت (65) ألف حالة اغتصاب واعتداءات جنسية، فيما تأتي السويد برغم تقدمها في المرتبة الرابعة عالمياً والأولى أوروبياً بواقع (64) اعتداء جنسي لكل (100 ألف شخص)، وتتعرض كل واحدة من بين (3) سويديات إلى الاعتداء الجنسي بعد مرحلة المراهقة، يليها نيكاراغوا في المرتبة الخامسة وغرينادا في المرتبة السادسة حيث سجلت (30.6) حالة لكل (100ألف) نسمة من السكان، ويٌعد الرقم كبيراً جداً، مقارنة بالعقوبة المقرة بحق مرتكبي جريمة الاغتصاب عندهم والتي تصل إلى السجن لمدة 15 سنة.

أما أستراليا وبنما وبلجيكا فالحوادث فيها آخذة بالتصاعد، وهناك (30) حالة لكل (100 ألف) نسمة في الولايات المتحدة وهذا الرقم وضعها في المرتبة الحادية عشر، كما توصلت دراسة أجراها مكتب الولايات المتحدة لإحصاءات وزارة العدل بأن (91%) من ضحايا الاغتصاب المسجلين هم من الإناث و(9%) من الذكور فيما أرقام حالات الاغتصاب آخذة في التصاعد في بلجيكا، إذ وصلت إلى (27.91) حالة لكل (100 ألف) من السكان، وفي الهند وإثر حادثة اغتصاب جماعية لطالبة في إحدى حافلات العاصمة نيودلهي عام 2012 تم تسليط الضوء عليها وأظهر بحث لمؤسسة  "ActionAid" عام 2016 بأن نسبة (44%) من نساء الهند قد تعرضن إلى اللمس بشكل جنسي من قبل شخص في مكان عام، وغيرها الكثير الكثير.


التشريع العربي يتساهل مع المغتصبين
عربياً تبدو المعضلة مستفحلة ومتضخمة بل ومخيفة لجهة أمرين؛ أولهما يتعلق ببروز ممارسات لم تكن معهودة نقصد بها قضية التحرش والاغتصاب الجماعي واغتصاب القاصرات. ففي مصر حيث أجرت هيئة الأمم المتحدة للمرأة تقريراً عام 2013 خلصت فيه إلى إن (99%) من النساء اللواتي تمت مقابلتهن في سبع مناطق مختلفة من البلاد قد تعرضن لأحد أنواع التحرش الجنسي، كما تشير الوقائع في عام 2018 إلى حادثة اغتصاب جماعي لفتاة مصرية من قبل سيدة و4 رجال، فيما شهدت لبنان عام 2016 حادثة اغتصاب هزت الرأي العام حيث تناوب 3 شبان على اغتصاب فتاة، وعلى نفس المنوال شهدت الجزائر عام 2017 واقعة اختطاف واغتصاب ثم قتل لطفلة لم يتجاوز عمرها 8 سنوات، وهذا غيض من فيض والمخفي غير المبلغ عنه من تلك الحوادث والانتهاكات يثير التساؤلات.   

المعضلة الثانية تتعلق بتساهل التشريع العربي في التعامل مع المتحرشين والمغتصبين ممن حصلوا على البراءة بزواجهم من ضحاياهم، إذ لا تزال قوانين ثمانية دول عربية إن لم يكن معظمها لا يجرم المغتصب بمجرد زواجه من ضحيته، كما إن إجراءات التقاضي في بعضها صعبة ومعقدة، بينما يفتقر "49" بلداً إلى قوانين تحمي المرأة من العنف المنزلي، وإن وجد فهو يعاني من النواقص في أهم بنوده المتعلقة بالعقاب تجاه الجناة وتوفير الحماية للضحايا كما في واقعنا المحلي. وفي المغرب على سبيل المثال تسببت واقعة انتحار ضحية اغتصاب أجبرت على الزواج من مفتصبها في عام 2014 إلى إلغاء المغرب للمادة (475) من قانون العقوبات التي تسمح للمغتصبين بتجنب الملاحقة القضائية إذا تزوجوا من ضحاياهم، كما أصبحت قضية خديجة المغربية (17) عاماً هي الأشهر في عالمنا العربي بعدما تناوب على اغتصابها وتشويه جسدها (13) شخصاً، وعليه فإن الحكومات الرسمية تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، هي بحاجة لمراصد ترصد ما يحدث وإلى آلية علمية لتسجيل البيانات وإلى تحفيز الضحايا للكشف عن مشكلاتهم في ممارسة العنف والتبليغ عنها. الأهم رصد الموازنات والضغط باتجاه تعديل التشريعات بما يتناسب وجسامة المشكلة وإشراك مؤسسات المجتمع المدني في وضع الخطط والبرامج وتنفيذها للقضاء على العنف الأسري والمجتمعي.


الاتحاد وإلغاء 353
من المنطلق السابق بادر الاتحاد النسائي البحريني مؤخراً في إطار "حملة مناهضة العنف ضد المرأة"، وتمشيا مع شعار هذا العام حول الاغتصاب، للمشاركة بحملة تستهدف إسقاط المادة (353) من قانون العقوبات البحريني لعام 1976 وهي التي تنص على: " لا يحكم بعقوبة ما على من ارتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المواد السابقة إذا عقد زواج صحيح بينه وبين المجني عليها، فإذا كان قد صدر عليه حكم نهائي قبل عقد الزواج يوقف تنفيذه وتنتهي آثاره الجنائية".

تستند الحملة في سعيها إلى إلغاء المادة (353) ورفضها مكافأة الجاني لجريمة الأغتصاب وعدم إفلاته من العقاب، وأن لا يصبح الإفلات ذريعة تحفز على المزيد من الاعتداء على الفتيات ويكون زواجهن من المعتدي نهاية لجريمة الاغتصاب. يرى الاتحاد إن في هذا الإفلات إهانة بحق المرأة ومكافأة للجاني على جريمته وهو ما يتعارض والحق العام في إنزال العقاب بمن يعبث بأمن المجتمع واستقراره بإرتكاب جريمة الاغتصاب، إن الحق العام لا يسقط بمجرد زواج ضحية "الاغتصاب" من الجاني وإن تنازلت عن حقها شخصياً.

الجدير بالذكر أن هذه الحملة لم تكن الوحيدة للجنة تعديل القوانين بالاتحاد، فقد نفذت إحدى حملاتها لاسقاط  أو تعديل المادة (353) منذ سنوات مضت، والمادة وفق آراء قانونيين ومدافعي عن حقوق المرأة تشوبها عيوب دستورية وأسس التشريع في المجتمع ذلك لأن الاغتصاب من أشد جرائم الاعتداء جسامة، ولا يمكن للتشريع أن يمنح حصانة قانونية لمجرم مغتصب في حال زواجه من الضحية ويسقط العقوبة، بل يجب كما يرون أن تتناسب العقوبة وجسامة فعل الاغتصاب، دون القفز عليها أو التخفيف عنها في أي ظرف كان، والبديل يتوجب على المشرع موائمة القوانين والتشريعات بالتطورات التشريعية والمفاهيمية والالتزامات الدولية، وبما يضمن حقوق المرأة ويحفظ كرامتها.

في السياق سلطت الحملة على إشكالية يستوجب الوقوف عندها بجدية، تتعلق بتحديد المستفيد من الاعفاء في حال تعدد الجناة في حادثة "الاغتصاب الجماعي"، وطرح السؤال عند تدشين الحملة عمن هو المجرم الذي سيتم اعفاؤه كي يتزوج من الضحية؟ وماذا سيحدث عند استمرارأ تطبيق العقوبة على الشركاء في ارتكاب جريمة الاغتصاب. كما نوهت الحملة إلى ان المادة (353) تخل بأسس الزواج الصحيح الهادف الى تأسيس أسرة باختيار حر ورضى تام، فالمغتصب ليس زوجا، والاغتصاب يتم بغير رضا المجني عليها فكيف يتم الزواج برضاها، وهذا يعد تناقضاً النص القانوني، ولان الاغتصاب من أفظع الجرائم وأكثرها ألما للمرأة، ويستحيل إقامة علاقة زوجية أسرية سليمة بين جان مرتكب لجريمة ومجني عليها و ضحية، بالإضافة الى إمكانية اصابتها بأمراض تناسلية نتيجة ارتكاب الجريمة أو حدوث حمل قسري.

اللافت في الأمر إشارة "الاتحاد النسائي البحريني" في المؤتمر الصفحي لتدشين الحملة، بأن هناك تبايناُ في مواقف الهيئات الرسمية بشأن إلغاء المادة (353) أو الإبقاء عليها كما هي أو مع التعديل، مضيفين بأن هذا يعبر عن تباين في تقديراتها –أي الهيئات- لتأثيرات هذه المادة على المرأة، وبعضها يتفق ومرئيات الاتحاد حول الإلغاء كوزارة العمل والمجلس الاعلى للمراة والمجلس الاعلى للشؤون الاسلامية وهذا امر إيجابي يمكن التأسيس عليه في حال وجود شراكة حقيقية في العمل، بيد إن وزارة الداخلية تتحفظ وكذلك هيئة الإفتاء والتشريع والمؤسسة الوطنية لحقوق الانسان وأمر الأخيرة غريب وعجيب.

خلاصة الأمر، يمثل إلغاء المادة "353" من قانون العقوبات البحريني ضرورة حمايئة لإنصاف النساء، ويستوجب أن يكون التشريع فيها قاطعاً ومحدداً غير قابل للتأويل والالتفاف عليه في أن ينال من ارتكب الجُرم عقابه وإن عرض الزواج من الضحية، وهذا يعني إن بقاء المادة يعني ما يعنيه من غياب العدالة لضحية الجريمة الجنسية وانتهاكاً لحقوقها وتمييزاً واضراراً نفسياً إليها، وينطبق هذ على كافة البلدان العربية وغيرها في إلغاء هكذا مواد من تشريعاتها، فمشكلة الاغتصاب تعد اليوم واحدة من أكثر المشكلات المجتمعية حساسية وتدميراً لما يحيطها من تكتم الضحايا خوفاً من "العار الاجتماعي". 

منى عباس فضل


الدار البيضاء–23 نوفمبر 2019



الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

شيدوا قصورهم وأطلقوا كلابهم


منى عباس فضل
 ومع ذلك تعود الشعوب القهقري لتتقدم مجدداً نحو ميادينها، الزمن أنهكها، أرواحها مثقوبة، حرياتها مسلوبة، مكبلة بالقضبان، يستدرجها بؤس الحال رويداً رويداً، تستنطقها دندنة العود على وقع كلمات متطايرة "حرية، كرامة، ديمقراطية، دولة مؤسسات ودولة قانون، عدالة ومساواة، فساد وسرقة المال العام، قصور واستغلال نفوذ، شحنات ثورية"، ولا شئٍ يحجب رؤية الفعل الثوري.


صوت هنا، وهناك أنين مخنوق وصرخة مكتومة وأخرى مدوية. من الصندوق تتقافز الأغاني تفيض بما يجثم على الصدور، بما يغسل الهموم.


بقوانين منعوا الاعتصامات والتجمعات. قالوا: لا يهم. حرموا مظاهرات الحشود المتدفقة وراء الحشود بشعاراتها وهتافاتها البيضاء "يسقط وإرحل وكفاية والشعب يريد..". حزنوا لكنهم رددوا: لا يهم. أقفلوا أبواب الزنازين وأطلقوا الأحكام، أقفلوا مقرات أحزاب وجمعيات سياسية بالشمع الأحمر وبكتم الأنفاس، بالقيود والسلاسل. قلقوا، ومع ذلك قالوا: لا يهم. في سرهم يرددون: لا يهم لا يهم..لا يهم لأن صوت هنا وآخر هناك وبعضه ينهض من تحت الرماد كطائر الفيينق، ينهض من ثنايا كلماتك الشعرية يا نجم وأغنياتك ودندنة أوتارعودك يا شيخ المشايخ إمام، إنها خطوات ومسيرات، إنجازات وأشعار وموسيقى خالدة مخلدة في الوجدان، كما أحلام الشعوب بالانعتاق من الظلم والعبودية.  


شيد قصورك ع المزارع

شيد قصورك ع المزارع...من كدنا وعمل إيدينا
والخمارات جنب المصانع...والسجن مطرح الجنينة
وأفلت كلابك في الشوارع...واقفل زنازينك علينا
ويقلّ نومنا في المضاجع...أدي احنا نمنا ما اشتهينا
واتقل علينا بالمواجع...احنا انوجعنا واكتفينا
وعرفنا مين سبب جراحنا...وعرفنا روحنا والتقينا
عمال وفلاحين وطلبة...دقت ساعتنا وابتدينا
نسلك طريق ما لوهش راجع...والنصر قرّب من عنينا
النصر أقرب من إدينا!

 
- كل ما تهِل البشاير، من يناير كُل عام، يدخل النور الزنازِن، يطرُد الخوف والظلام»، أحمد فؤاد نِجم في 18 يناير1977، فيما عرف يومها حسب النظام بـ«انتفاضة الحرامية» وحسب الشعب «انتفاضة الخُبز».

- "لا توجد قوة على الأرض يمكنها أن تهزم الشعب المطري...أحمد فؤاد نجم"!

منى عباس فضل

المنامة –24 سبتمبر 2019



الخميس، 29 أغسطس 2019

من خلف القضبان؛ رحلة مع الخط العربي


منى عباس فضل
قيل إن الوجود في جوهره حرية وإن الحرية شمس تشرق في كل نفس وحيث حريتي ثمة وطني، لم لا وهي أغلى ما يملك الإنسان، أما زنازين القمع والاستبداد الباردة الكئيبة الفتاكة بكل أهوالها ومآسيها وضراوتها من الانتهاكات فهي حالة مأساوية تشهد عليها جدران الأقبية وحكايات المعتقلين في عزلتهم ومعاناتهم وما يذوقونه خلف القضبان، حكايات تبقى شاهدة على عظمة الإنسان وقوة صبره وإرادته، وهي حتما لن تشفع لكل من تورط في ظلمه وهدر كرامته.

من إطلالة هذه النافذة قرأت بنفس واحد متواصل كتاب "رحلة مع الخط العربي، روافد وذكريات" للصديق الكاتب والصحفي قاسم حسين في طبعته الأولى الصادرة من بيروت 2019 عن مركز أوال للدراسات والتوثيق؛ حيث يدون فيه جانباً من تجربته مع الخط العربي أثناء الاعتقال في ثمانينيات القرن الماضي وكيف تمددت هذه التجربة وأينعت شغفاً وثماراً انعكس على نتاجات ممتعة وغنية.


غالباً ما تميز أدب السّجون في أجواء القمع والقهر بالكتابات الإبداعية التي أنتجت نثراً وشعراً وروايات، إلا إننا مع قاسم نقف أمام نصٍ إبداعيٍ بلغة قوية متقنة يثير الدهشة ويشد القارئ منذ عتباته الأولى، كما يشكل إضافة نوعية لأدب السجون المحلي، فقد تميز النص بكتابة بحثية رصينة أبحرت في تاريخ الخط العربي وأصوله، وفي زاوية منه عكس صورة حية وواقعية في مقاومة العزل والمعاناة يذكر في تقديمه: "كان هذا الكتاب حلماً يراودني لسنوات، لأنه يروي حكاية عشق للحرف العربي وشغفي بهذا الجمال الباهر الساحر الذي أبدعته حضاراتنا الإسلامية في عصور الصعود والازدهار..في كتابي عرض لتجربة ذاتية استثنائية، تمثل حكاية تستحق أن تُروى لما فيها من صعوبات وتحديات؛ ودرساً في الحياة بأننا "نعم..نستطيع"، التعلَم حتى في أقسى الظروف وأصعب الحالات.

يتكون الكتاب من أربعة فصول أولها بعنوان "جزء من الذكريات" التي يشير فيها إلى بذور موهبته الأولى مع الخط العربي وعن تشجيع أستاذه في مدرسة الخميس الابتدائية واستعانة معلمة القرآن في قريته "بنت الملا" له في نسخ كتب الرثاء الحسينية، وكيف انتقلت تلك الهواية الممتعة معه إلى مدرسة النعيم الثانوية وكلية الخليج الصناعية من خلال المجلات الحائطية. ومع تصاعد الأحداث بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1978، وغلبة اهتمامه بالنشاط السياسي وتعرضه كحال العشرات إلى الاعتقال، واجه تجربة جديدة عبر العيش في ظروف عزلة تامة عن العالم ولسنوات طويلة راجع من خلالها الذات واستحضر اهتماماته كما فعل زملاؤه في المعتقل، وبدأ طريق صقل موهبة الخط عنده عبر التعلم وكانت أولى الخطوات في الكتابة على باب الزنزانة الأسود الذي مثل سبورته الجديدة لتعلّم أصول الخط العربي على يد أصدقاء السجن.

باب الزنزانة ومكعبات السكر
عبر تجربته آنذاك يتحدث عن حرمان السجناء من الأقلام والأوراق، واضطراره للكتابة بقطعة من النعال المطاطي التي تقطع على هيئة رأس قلم عريض، تغمس بالماء في علبة بلاستيكية صغيرة، ثم يمرّرها على الباب الحديدي الأسود لتظهر الحروف للحظات بفعل انعكاس الضوء، وسرعان ما يجفّ الماء، ويمكن وقتها كتابة حروفٍ وكلمات أخرى، في هذا الصدد يقول: "لم نكن بحاجة إلى ممحاة، فالهواء الحار أغلب فصول السنة، في ذلك السجن الصحراوي البعيد جنوب البلاد، كفيلٌ بمحوها سريعاً لتكتب من جديد"، بيد إن هذه التجربة القاسية لا يمكن محوها ببساطة من ذكرى أيَّ إنسان عانى وقاسى من ظروف الاعتقال.


 وفي زوايا أخرى حيث الأقلام وأدوات الكتابة ممنوعة في السجن كما الكتب والمجلات التي يجري التحكم في دخولها بالتقطير، يسرد حكاية القطعة الورقية من الورق المشمّع المستخدم في تغليف الصابون التي وجدها مخبّأة وراء أنبوب المجاري بالحمام الداخلي بالزنزانة، وكيف كان عثوره عليها وعلى بقايا قطع صغيرة من مادة قلم الرصاص شكَّل كنزاً ثميناً له تم مصادرته في إحدى جولات تفتيش العنبر، كما يسترسل في سرده عن ورق مكعبات السكر الصغيرة الأنيقة التي كان يحضرها الأهل له ويحرص على تجميعها والاحتفاظ بها، فقد أنجز منها لوحات قرآنية وأحاديث وأشعار وكتابات تم إخراجها بالتهريب بسبب انعدام القوانين المتسامحة مع النزلاء، كانت هذه الأوراق الصفراء الباهتة التي احتفظت بها أسرته لسنوات من أثمن ما يملك على الإطلاق، فهي ثروته وعصارة سنوات من العمل الدؤوب الذي يعكس إصراره على التحدّي والتعلم الذاتي والبحث عن مشارب لصقل المواهب الفنية، في ظروف تئد الإنسان وتسعى إلى تحطيمه وخنق روحه ليخرج إنساناً معاقاً روحياً وجسدياً، وفي التدريب الدائم من أجل إجادة الخط، إلى جانب تدريب الآخرين.  

صناعة قلم الخطاط
في بيئة الاعتقال الضاغطة على النفس تعلم كيف يصنع قلماً، وكيف يتم استغلال أوقات الفراغ الطويل جداً حيت جرى تنظيم دروس لتنشيط الذاكرة، والاستفادة من خبرات الكوادر المتعددة الاختصاصات والاهتمامات من النزلاء، فحرص على الإبقاء على ما لديه من كلمات إنجليزية وهي نتاج ثلاث سنوات من دراسته الهندسة في كلية الخليج الصناعية قبل الاعتقال، فمن خلال كتابتها وحفظها باستمرار، والقيام بترجمة أي موضوع صغير كان يخطر بباله، لكن الأهم كان من خلال القلم الثالث، المجوّف ذي الرأسين والذي نفّذ به الكثير من اللوحات الفنية التي أشرنا إليها.


 في سرديته المكثفة ثمة مدرسة تشكلت للخط العربي أثناء الاعتقال قوامها مجموعات متعددة من الأشخاص كان يمارس فيها دروساً يومية تتخللها أمسيات جميلة في واقع راكد كئيب تماما كما يصفها الكاتب، وكان التدريب الدائم من أجل إجادة الخط إلى جانب تدريب الآخرين ومحاولاته تعزيز المعرفة والثقافة بهذا المجال، وحيث أخذته ورفاقه الحماسة والنشوة إلى تنظيم معرض فني للخط العربي بعيداً عن أعين الرقيب، بقى المعرض حدثاً استثنائياً غير مسبوق بكل المقاييس ويستحق أن تُروى تفاصيله، يذكر: "حين أنظر للوراء، أرى مقدار الجرأة في تنظيم المعرض، في داخل سجن يتعرّض يومياً للتفتيش وللاجراءات الأمنية المشدّدة وعمليات المداهمات، فالعثور على أي لوحات فنية حتى لو كانت على قطع الكارتون تشكل سبباً للاستنفار كما تقود إلى حساب عسير..في اليوم الموعود، اختير وقت الافتتاح عصراً، حيث نادراً ما يدخل الحرّاس العنبر، وتم عرض اللوحات المنفذة على قطع الكارتون، وعلقت على حبالٍ ممدودٍ في الممر المؤدي إلى الحمّامات. لم يكن المعرض بحاجة لأكثر من ساعة أو ساعتين حتى يطلّع عليه الجمهور الذي لا يزيد عن ثلاثين نزيلاً..".

آفاق المحبة والتهديد
ويستطرد في زاوية أخرى قائلا: "في سنة متأخرة شرعت في تحويل ورقة الرسالة إلى "مجلة" شهرية، بطيّها نصفين لتتحوّل إلى أربع صفحات، أخطّطها بطريقة الإخراج الصحافي، واخترت لها عنواناً عاطفياً، "آفاق المحبة"، وعلى جانبيه أختار بعض الكلمات أو العبارات محل الإعلانات المعتادة في الصحف. وأكتب افتتاحية وأختار موضوعاً رئيساً مع المانشيت، وبعض الفقرات المتنوعة. كنت أستغلها لكتابة ملخص للكتب التي أقرأها خلال الشهر، أو كتابة ما يعنّ لي من خواطر أو أشعار، وكنت أكتب النصوص بخط النسخ، بينما العناوين بالخط الفارسي أو الديواني، أيّهما أنسب للمقام. بعد ثلاثة شهور تم استدعائي إلى ضابط السجن، الذي أخبرني باستياء إدارة السجون مما أكتب، وقال: لن يتم إرسالها، وسأعطيك ورقة أخرى لكتابة رسالة إلى أهلك. وختمها بتهديد:
-"هذه آخر مرة...فهمت؟"


بيد إنها مع الخط العربي والتحرير لن تكون آخر مرة في حياة الكاتب، إذ مع انطلاقه إلى فضاء الحرية عام 1996  -أي بعد خمسة عشر عاماً-  كان يعيشها مع زملائه خارج الزمن، وبرغم الظروف الصعبة التي قضاها كان لابد من الخروج من الكهف حيث يتناول في الفصول المتبقية وبشكل مشوق كما في الفصل الثاني بحثه وتعمقه معرفة  "بمسيرة الخط العربي" كونه الأصل ومحور الفنون وفترات صعوده ومميزاته، فيما يتطرق الفصل الثالث إلى روافد الخط العربي ورأي بيكاسو وباولو كويلو فيه، وفي السياق يأخذ القارئ في رحلة جميلة حول تقنيات الخط العربي من حيث التشكيل والتنقيط وخارطة انتشاره وتجربة أبرز الخطاطين، ويعرج في الفصل الرابع على "مسيرة الخط العربي في البحرين" من حيث قدمه وعراقته ومدرسة الخطوط وعلاقة ذلك بالعمل الاجتماعي متناولاً تجارب أشهر الخطاطين البحرينيين.

ختاماً، يستحق النص القراءة والتأمل باعتباره تجربة إنسانية عميقة وقاسية، كما يبرز جانباً نجهلة في حياة المؤلف ومما قد يساهم في التعمق بعدالة قضايا الإنسان ونضاله، فقد تحدث الكثيرون في أدب السجون عن مقاومة ظروف الاعتقال التي تجرد الإنسان من إنسانيته ومدى حاجته للتسلح بعدد المناعة كي تبقى المعنويات مرتفعة وبرمجة العقل تأقلماً مع بيئة السجن الكئيبة، والكتاب وثيقة غنية حول الخط العربي ومهنة الخطاطين التي أحبها وعشقها استاذ حسين. 

منى عباس فضل

المنامة –29 أغسطس 2019


الثلاثاء، 23 يوليو 2019

عندما يروننا..When They See Us



منى عباس فضل
مؤخراً شاهدت فيلم "When They See Us" على شاسة "نيتفليكس Netflix" حيث لم يتبادر لذهني حينها تقييمه تقنياً موسيقاً، تمثيلاً، إنما كان جل تفكيري قد انحصر على سردية الحكاية ومعاناة الأطفال وأهاليهم وصلة الحكاية الوثيقة بتاريخ الولايات المتحدة المتأسس على خطايا تتمثل في استعباد السود والإبادة الجماعية للأمريكيين الأصليين فضلاً عن خطابات الكراهية المضمرة والمكشوفة في المجتمع؛ لم لا والرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" ما فتىء يدعو في نهج عنصري وخطاب بلطجي إلى تقليص الحقوق المدنية والإنسانية للملونين والمهاجرين اللاتينيين والمسلمين والجماعات المهمشة من أعراق مختلفة، كان آخرها دعوته لأربع نساء ملونات عضوات في الكونغرس "بالعودة إلى وطنهن الأصلي".

هذه النبرة ليست خافية على أحد، وهي تعبير فاقع عن المواقف العنصرية البشعة التي رصدتها وحللتها دراسات عديدة خلصت في نتائجها إلى إنه ومنذ بدء الحملات الانتخابية لترامب ارتفعت معدلات جرائم الكراهية بنسبة "226%" حيث أطلق خطابه العنان للكراهية والعنف السياسي القاتل.  

أحداث فيلم "عندما يروننا" تتسم بحالة صعبة وخطيرة مكثفة من الحزن والكآبة القابضة للنفوس المثيرة لمشاعر الغضب والاستفزاز والإحباط وخيبات الأمل تجاه الظلم والتهميش والقمع الذي يمارس بكافة صوره وأشكاله. الفيلم لم يُخفِ نواقص المجتمع الأمريكي وأظهرعيوب نظامه القضائي في فترة زمنية امتدت لـ"25 سنة"، كما تناول نماذج إعلامية وسياسية لم يتورع عن كشف حقيقة وجهها القبيح والتقليب في ماضيها "كاستحضار ترامب" رجل الأعمال عام 1989 في أحد المشاهد وقد نشر إعلاناً في إحدى الصحف كلفته "8000 آلاف دولار" يطالب بإعادة تطبيق عقوبة الإعدام مجدداً وبأخذ الحق من هؤلاء المجرمين، برر ذلك بإنه لإخافة المجرمين من كل الأعمار، كما ظهر في مقابلة مع الإعلامي "لاري كينغ"من سي إن إن قال فيها "إن المشكلة في مجتمعنا هي أنّ الضحية ليس لديه أية حقوق والمجرم لديه حقوق لا تصدق". إن هذا المشهد وتلك التصريحات أضفت المزيد من المصداقية لأبعاد وخطورة ما يحدث في الحاضر ليس في المجتمع الأمريكي وإنما في مجتمعاتنا المحلية التي تتسم بانشطاراتها الطائفية والمذهبية التي تتغذى على دعم ومباركة من الاستبداد، وعليه فالفيلم يعد بحق عملاً جريئاً وفاضحاً للمستور والنفاق والكذب.   


حكاية الفيلم من القوة التي تستحضر الألم والإستياء، وهي مأخوذة عن قصة حقيقية حدثت في ثمانينات القرن الماضي وبما عرف بـ"قضية عدّاءة سنترال بارك في نيويورك"، لكنها -أي القضية- لا تزال موضع سجال ساخن في المجتمع الأمريكي حالياً. تدور الأحداث في وقت كان فيه المجتمع يموج بحالة من الرفض والنبذ غير المباشر لذوي البشرة السمراء، ذلك على الرغم من الاعتراف بحقوقهم المدنية والقضائية والسياسية.



أطفال في غرف الاستجواب
في ليلة التاسع عشر من شهر أبريل عام 1989، تعرضت شابة مصرفية تدعى تيشا ميلي“Trisha Meili” ؛ للاعتداء والاغتصاب في الحديقة المركزية بمدينة منهاتن في نيويرك حيث تركت تنزف في حالة مأساوية. في ليلة الهجوم قبضت الشرطة على كل من وقعت يدها عليه من المراهقين الذين أحدثوا صخباً بالحديقة؛ ومنهم خمسة أحداث "أنترون كراي، يوسف سلام، كوري وايز، وريمون سانتانا، وكيفن ريتشاردسون" أعمارهم تحت السن القانوني ما عدا واحد منهم -أي تتراوح بين "14-16" سنة- أي أطفال-، أربعة منهم أمريكيون من أصل أفريقي وواحد من أصل إسباني، وفي الواقع جميعهم لم يرتكبوا أي جرم على الإطلاق.

   


أخذوا الأطفال الخمسة للاستجواب لتواجدهم في نفس الوقت بالحديقة، وتحت وطأة الاستجواب القاسي يتسمر المشاهد أمام الشاشة في حال حيرة وتوجس إزاء ما يتعرضون إليه من رهبة وخوف وبكاء بحُرقة جراء التهديد والوعيد والضرب والتجويع والمخالفات التي ارتكبت بحقهم وحق أهاليهم خلال عدة أيام، وهذا رد فعل طبيعي ومنطقي لجسامة الفعل الذي ظهرت فيه نزعة الكراهية والنبذ كونهم ملونين وأصولهم من أعراق مختلفة حيث حكمت الأهواء الشخصية سير التحقيق وتلفيق التهم في ظل غياب الأدلة وتزييفها وفشل البوليس في الوصول إلى القاتل الحقيقي.



فساد الشرطة والقضاء
وضع الأطفال في غرف الاستجواب مع المحققين وبعضهم دون وجود ذويهم، فاستفردوا بهم وأجبروهم على الاعتراف والتوقيع على إذنات بأنهم إرتكبوا الجريمة"، ذكر فيما بعد الشاب "يوسف سلام" أحد المتهمين الخمسة بأنه اعترف بارتكابه للجريمة كذباً بالإكراه، وذلك بعد تعرضه لسوء المعاملة من قبل الشرطة أثناء فترة احتجازه. في أثناء المحاكمة، تجاهل الادعاء العام الأدلة التي تشير إلى وجود مرتكب واحد فقط للجريمة بدلالة حمضه النووي كما أثبت التحليل أنه لم يكن يطابق أيّاً من حمض الأطفال المشتبه بهم. عوضاً عن ذلك تم إدانتهم في عام 1990 بقانون تعسفي من قبل هيئة محلفين في محاكمتين منفصلتين استناداً كما أشرنا إلى اعترافات قسرية ومخالفة للحقيقة، كان عقابهم كابوس سنوات سجن تراوحت بين "5-15 سنة" وسلبهم حريتهم وكرامتهم، وقد تناولت وسائل الإعلام والصحافة الحدث على نطاق واسع.




ظهر الحق واستمر الباطل
مع أحداث 11سبتمبر وتحديداً في عام  2002 التي برزت في أحد المشاهد اعترف المجرم الحقيقي المسجون على ذمة جرائم اغتصاب عديدة وسابقة عن مسؤوليته بجريمة "عدّاءة سنترال بارك" وهذا أكّدته ثبوت فحوصات الـ"الحمض النووي DNA" سابقاً، إثرها تم تبرئة الأطفال الذي أصبحوا رجال بعد 13 عاما أدينوا خطأ ونالوا فيها العذاب والاغتصاب والفساد داخل السجن السيء الصيت، كما برعت مخرجة الفيلم في إبراز حقيقة وضع السجون التي تمتلئ بالمجرمين وبفساد رجال الشرطة والمسؤولين، سارع الأطفال-الرجال-الأبرياء إلى رفع دعاوى قضائيّة ضد ولاية "نيويورك" في عام 2003، بدعوى محاكمتهم محاكمة كيدية اتسمت بالتمييز العنصري ضدهم وسببت لهم أزمات نفسية وندوب لا تشفى.


أغلقت القضية في 2014 مقابل غرامة مالية قدرها "41 مليون دولار، بيد إن ترامب وفي نفس العام وصف التسوية "بالفضيحة" قائلاً: "إنه لازال من المحتمل أن تكون مجموعة الخمسة هي الفاعلة..وإن التسوية لا تعني البراءة..فهؤلاء الشباب لا يملكون ماضي يشبه تماما ماضي الملائكة"، كما أطلق في 2016 أثناء حملته الرئاسية حسب التقارير خطاباً ذكر فيه بأنّ الرجال الخمسة ممن اتهموا في قضية "عدّاءة الحديقة المركزية" كانوا مذنبين، وأنه ما كان ينبغي إخلاء سبيلهم أبداً، الأمر الذي دفعهم مع غيرهم من المدافعين عنهم إلى انتقاده بشدة، كذلك يشار وقتها إلى تراجع السناتور الجمهوري "جون مكين" عن تأييده مشيراً إلى "تصريحاته الفاحشة  حول الرجال الأبرياء قي قضية عدّاءة الحديقة المركزية". ترامب لم يتوانى عن الذكر في خطاباته بأن المهاجرين المكسيكيين ممن لا يحملون أوراقاً ثبوتية هم مجرمون أو مغتصبون أو أشخاص يجلبون المخدرات، وانتقد قاضٍ مكسيكي أميركيّ بأنه متحيز في قراراته بسبب تراثه المكسيكي كما نشر إحصائيات مزيفة على التويتر تدّعي بأن الأمريكيين السّود من أصل أفريقي وإسباني مسؤولون عن غالبية عمليّات قتل البيض والجرائم العنيفة. 

ختاماً مخرجة الفيلم "Ava DuVernay إيفا دوفيرناي" تشير إلى أن أكثر من "23 مليون" حساب في نتفليكس Netflix في جميع أنحاء العالم قد شاهدوا الفيلم منذ عرضه لأول مرة في 31 مايو الماضي. الفيلم رسالة ذات مغزى سياسي واضح للزمن الحاضر برغم إن أحداثه تعود إلى 1989، والمخرجة دون شك نجحت في ملامسة عنصرية المجتمع الأمريكي على حقيقتها عبر إطلاق العنان للمشاعر الفردية المكبوتة ولخطابات السلطة التي تشجع على الكراهية والعنف وتمجده، فهي لم تكتفى بأداء استاتيكي إنما جاءت الأحداث والمشاهد فاضحة وكاشفة لأشكال العنف الفتاكة المنتشرة بسبب خطابات الكراهية والقمع والفقر والتمييز وفساد مؤسسات السجون وأجهزة الشرطة والقضاء وكل ما يضمر في النفوس من أحقاد، كانت بارعة في التعبير عن سوء استخدام القسوة والقوة لتعويض مشاعر العجز الدفينة التي يعاني منها العنصريون والنظام العام.    

منى عباس فضل
المنامة –23 يوليو 2019

الأربعاء، 3 يوليو 2019

كذب وتضليل صهيوني في المنامة

منى عباس فضل

البلد الصغير الذي طالما كان هادئاً ومسالماً تعرض مؤخراً ولا يزال إلى هزة عنيفة وعميقة مست مشاعره وانفعالاته عبر الضرب على جسده وعقله من تحت الحزام وفوقه وبتلقِى صفعات كان تأثيرها عليه أشبه بسياط أسياخ الجمر.

تماماً وكما كانت الدعاية النازية "بإيديولوجيتها الدينية والسياسية" أقوى الأسلحة التي اعتمدها الحكم النازي في منتصف القرن الماضي لغزو العالم واحتلاله وبسط هيمنته، يأتي فعل كيان العدو الصهيوني على ذات النسق والمنهج المتعمد في "ورشة صفقة العار" التي عقدت بالمنامة. ترى ما الذي اعتمدته آلة الدعاية الصهيونية لتسويغ مشروع تصفية القضية الفلسطينية؟

تشير أغلب مؤلفات علم النفس الاجتماعي والسياسي التي اهتمت بتحليل الدعاية العنصرية النازية بأنها "لاعقلانية" وتعتمد في بث رسائلها على استفزاز المشاعر وإثارة العواطف بكل الوسائل النظيفة والقذرة، الصادقة والكاذبة وعبر الصور ومن خلال المقابلات التلفزيونية والصحافية التي يتصدرها شخصيات رسمية بارزة أو مجتمعية مرموقة أو من عامة الشعب أو المثقفين والفنانين أو رجال الدين أو نشطاء المجتمع في كافة المجالات.

تطبيع بالقوة الناعمة والقسرية
على مستوى الواقع المحلي، هذا ما حدث عندما استخدمت آلة الدعاية الصهيونية طرقاً ترويضية لتقبل "مبدأ التطبيع" وأساليب اتسمت بالتضليل وليّ الحقائق وتشويهها إلى جانب بث الأكاذيب والشائعات باستخدام لغة الشعارات الإنسانية والتنموية في غير مواضعها في محاولة لفرض وجودها ومشروعها فرضاً بقوة الأمر الواقع دون مناقشة خصوصاً في ظل تكثيف جرعات القمع والمنع لأنشطة المجتمع المدني المناهض لعملية "التطبيع مع العدو الصهيوني" وفي ذات الوقت تلميع صورته بلغة إنسانية لا صلة لها بما يمارسه الصهاينة من حصار وتجويع وقتل وتدمير وتشريد بحق الشعب الفلسطيني، بل وتسهيل التعاطي معه تحت عنوان ورشة "السلام من أجل الإزدهار" للفلسطينين.

محلياً اعتمدت "الدعاية الإعلامية الصهيونية" على مدى أيام أسلوب "الصدمة" حيث لم يتوقع المواطن يوما ما بأن بلده ستكون بوابة "لتصفية القضية الفلسطينية" ولم يخطر له على بال أن ينطلق منها علناً "التطبيع الخليجي مع كيان العدو الصهيوني". الرسالة الإعلامية الصهيونية الخبيثة كانت فاقعة بصورها الموحية والمجازية التي شهدناها في صورة الصهيوني الذي رفع جواز سفره الإسرائيلي بتحدٍ أمام مدخل "الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع مع العدو"، وشهدناه في التحقيق الصحفي الذي يبرز مشهد التساهل والبهجة بالمنتظر والقادم بوقاحته وشراسته، كان الحرص شديداً على أن  تبث هذه الرسائل بانتظام ورتم سريع وعلى كافة وسائل التواصل الاجتماعي وعبر رسائل اعلامية مارست التضليل وحرف الحقائق بلا هوادة وبلا توقف خلال أيام انعقاد "ورشة المنامة".


لن تتحقق أحلامكم بالتمدد
أبطال هذه الآلة كانوا من الصحفيين والإعلاميين الصهاينة الذين تم اختيارهم بدقة متناهية لأداء دور محدد، وهم من النساء والرجال بأسماء مشهورة تسبقهم ابتساماتهم وتاريخهم السئ الصيت وغبطتهم بوطء أرض البحرين والخليج لأول مرة وهم يتجولون بكل حرية وأريحية مع حراسة أمنية مشددة في شوارع سوق العاصمة المنامة وأزقتها وميادينها الرمزية التي دُنِّست بوجودهم. إن رسائلهم تبعث على الاستفزاز والإثارة، ردّدوا بشماتة طيلة الوقت:

-  "إنه حلم وتحقق".! نعم إنه حلم من أحلام التمدد الاحتلالي والاستيطاني الإسرائيلي من فلسطين إلى الخليج.

يفيد تقرير صحفي للعدو؛ "بأن ورشة المنامة الاقتصادية حدث عالمي لكنها لا تشغل بال المواطن البحريني البسيط، وفعلياً معظمهم –أي المواطنين- لم يسمعوا بها...". بالتأكيد تكشف هذه الرسالة عن كذب وتضليل، لماذا؟ لأن الشعب بكل فئاته ومؤسساته عارض عقدها ورفض "التطبيع"، وقد ضجت وسائل التواصل الاجتماعي في إيصال رسائلهم وتغريداتهم التي لا لبس فيها بوسم "بحرينيون ضد التطبيع" و"فلسطين عربية من البحر إلى النهر"، "القدس عاصمة فلسطين الأبدية" و"البحرين ضد التطبيع" و"تسقط صفقة العار"..إلخ، كما رفرف العلم الفلسطيني جنب العلم البحريني على سطوح المنازل في كل مناطق البحرين وأزقتها ولم يتوانى المواطنون عن كنس وتنظيف العتبات التي دنسها الصهيوني أمام مقر جمعيتهم المقاومة للتطبيع، في حركة رمزية مثلت رداً قوياً صاعقاً على الاستفزاز الإسرائيلي.


 في تقريرهم أيضاً التقوا بأحدهم وادّعوا بأنه تاجر بحريني وحين عرفوا بأنفسهم وهويتهم؛ رد عليهم:
- بأن "الناس هنا لا يحبون إسرائيل".
سألوه: (لماذا)؟
رد التاجر المزعوم: لأن الناس هنا مسلمون ولا يوجد في اسرائيل مسلمون ولأنهم استولوا على فلسطين. واعتذر لهم عن صراحته.سأله الصهيوني:
-هل علينا ألا نشعر بالأمان هنا، أو إنه ليس مرغوب بنا هنا؟ جاء رد التاجر:
- كل من يأتي إلى هنا فهو آمن، لا مشكلة في ذلك؟

حقاً هذا نموذج فاقع من السم المدسوس بين ثنايا تقرير آلة العدو الإعلامية، هنا تكمن خطورة الرد بما يوحي به من مضامين ودلالات رمزية أصر الإعلام الصهيوني على تثبيتها وبثها في ذهن المتلقي، وهي إنه لا مانع لدى المواطن البحريني من التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وفي هذا كذب وتزوير لحقيقة موقف المواطنين إزاء الهرج الذي ساد على مسرح الحدث. 


في سياق "تقريرهم" يعلق الصحفي الإسرائيلي: "..بأن البحرينين لم يرغبوا بمجئ الكثير من الصحفيين سواء من العالم وبالأخص من إسرائيل، ويبدو إن البحرينين لم يلتقوا من قبل بالاسرائيليين.. لكنك أيضا تسمع هنا آراء أخرى أكثر انفتاحاً واعتدالاً "لاحظوا هنا أن الاعتدال بالنسبة إليهم يعني القبول بالتطبيع"...ثم التقطوا أحدهم من الشارع وسألوه:

-  هل على الحكومة الإسرائيلية والفلسطينية الجلوس سوياً وتسوية جميع الخلافات؟ رد صاحبنا الذي يبدو ملقناً بعبارة جاهزة ذات دلالات تطبيعية:
-   لا أريد أن أقاتلك أو أقاتل جاري، الجميع يعيش على أرض واحدة؟!.

لكن يا هذا من قال بأن المواطن في كل الأرض العربية عاجز عن ممارسة النضال والمقاومة في سبيل تحرير فلسطين المحتلة؟ ومن قال بأنه يقبل العيش ذليلاً دون مقاومة العدو في ظل سلام الجبناء الذين يبعون فلسطين بـ "50 مليار دولار" ويحرمون شعبها العيش بسلام في دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية؟

الإسلام المتصهين
ليس غريباً والحالة هذه أن يلعب الإعلام الصهيوني لعبة خطيرة للغاية بتحفيز قوته الباطنية التدميرية لزعزعة ثوابت القضية الفلسطينة في وجدان الشعب البحريني، ليس اعتباطاً أن يُستهدف مجتمعنا المحلي من بين مجتمعات دول الخليج، هذا المجتمع الذي طالما عُرف بالتسامح والسلام وأيضاً بالشجاعة والنضال وبعمق حبه لفلسطين وشعبها وبأن شعب البحرين لعب دوراً كبيراً في حركة تاريخ الوطن والعروبة وفي مناصرة القضية الفلسطينية منذ نكبة 1948 وحتى اللحظة، لاشك ان هناك دوافع سيكولوجية تم العمل عليها في اعتماد القصف الإعلامي الخطير الذي تعرضنا له جميعاً عبر المقابلات التي تم إجراؤها مع أناس يبدو من مظهرهم أنهم عاديون في المجتمع لكنهم لُقِّنوا بما بجب أن يقولوه، وربما لأول مرة نستمع لأصوات غريبة علينا تتحدث بالعبري، مقابلات تسمم النفوس وتتلاعب بالعقول وتُستخدم لترسيخ فكرة "التطبيع" وجعلها ظاهرة ممكنة في كافة أرجاء الوطن العربي والقبول باستيطيان العدو الصهيوني وتأبيد احتلاله لفلسطين خصوصاً في هذا الظرف الزمني المحدد الذي يسود فيه الاستبداد والخواء والاحتراب الطائفي والإثني بفعل الاستعمار الجديد.

ثمة مشهد شاذ وبائس لا علاقة له بالواقع المحلي حين توجِّه الصحفية الصهيونية لمواطن خليجي سؤالا:
-         كيف لنا أن نكون في البحرين ونتحدث بالعبرية؟ رد عليها بإعجاب وزهو مفتعل:
-         "لا أصدق.. مرحباً بكم في البحرين"؛، غريب أمره لماذا لا يرحب بها في بلده الأم؟!

صاحبنا المتصهين، وكما عرف نفسه صاحب مؤسسة تعليمية لتعليم اللغات ومنها العبرية طبعا ذكر بأنه يعشقها ويتحدث بها، لماذا؟ لأن حبه لها والقول له؛ بسبب الأنبياء..كالملك داود، وشيعياهو، يومياهو، دانييال وإنه يؤمن كمسلم باستمرارية أنبياء "إسرائيل". هنا نلاحظ استحضار الإيديولوجي الديني والسياسي لهز قناعات المتلقي، وذكر بأنه نشط في مواقع التواصل الاجتماعي ولا يتردد في نسج علاقات مع صحفيين إسرائيليين. حقاً صفاقة لا حدود لها؟! تسأله الصحفية الصهيونية:
-         أتؤمن أنه سيحل السلام هنا في الشرق الأوسط؟ يرد بكل ثقة في رسالة خبيثة للمس بالوعي العربي:
-         إنشالله بإذن الله يحل السلام علينا في العام القادم وعلى القدس، أحبك يا قدس عاصمة الملك داود.!

نعم لقد سمعنا وقرأنا عن الإسلام المتصهين، واليوم نشاهده حياً في هذا المشهد القبيح والغريب عن ثقافة مجتمعنا المحلي والعربي، كما يجدر التنويه إلى أن آلتهم الإعلامية الهجومية لم يغب عن بالها زيارة الكنيس اليهودي في قلب المنامة والتذكير بعدد أفراد الجالية اليهودية هنا وإنه -أي الكنيس- أقيم قبل نحو مئة عام وتم ترميمه قبل نحو 20 عاما..إلخ رسالة التقرير التي اختتمت قولها بأن الحدث ربما لم يحقق اختراقاً سياسياً لكنه حتماً حقق فرصة لتواصل الإسرائيليين بالمواطنين، وفي هذا تزييف وتحريف لما يحدث تجاه "التطبيع وصفقة القرن" من المواطنين الرافضين لهما.

المدفعية السيكولوجية
لقد كان التركيز واضحاً على استيراتيجية واحدة وبواسطة فرض "قوة الأمر الواقع" وهي أن "التطبيع ممكن" في هذا البلد وإن الناس في حالة استسلام وقبول عقلاني، بل وإن ما يحدث هو المنطقي، ولهذا وضع الإعلاميون المتصهيون والمتلهفون على "التطبيع" ومروجو "صفة القرن" قناعاً على وجوهم كانوا يدغدغون به عواطف العامة والأسواً أنهم يستحضرون فيه ذكر الشعب الفلسطيني زوراً والقول بأنهم يعملون لصالحه ولصالح تمكين المرأة الفلسطينية التي تم تجريدها من أرضها وهويتها وحقها في العودة بمشروع كوشنر... إلخ".


 وكما كان الإعلام النازي يعمل في نشر رسالته التي أطلق عليها "المدفعية السيكولوجية" بنجاح من خلال الموسيقى والفنون والمسرح والأفلام والكتب والإذاعة والمواد التعليمية والصحافية، عمل الإعلام المتصهين والمتهافت على التطبيع في خلال أيام عدة على تحفيز الرأي العام واستثارته بتجميل "التطبيع" وإنكار الحقيقة الكامنة وراء عقد "ورشة المنامة" من كونها منطلقاً لصفقة العار المشبوهة "صفة القرن" ولتصفية القضية الفلسطينية وبيعها من جيب الشعب العربي، إلى القول بأن الورشة هدفها "السلام والإزدهار للشعب الفلسطيني".

خلاصة الأمر أن آلة الإعلام المتصهينة والمتهافتة على التطبيع مستمرة في بث رسالتها التخريبية للتأثير في الرأي العام؛ برسالة مفادها: "بأن الحال" صار بالنسبة إليكم لا حول له ولا قوة في مواجهة السلام القادم ..."بصفقة القرن" و"بالتطبيع". من هنا فإن العدو يعمل بشكل دؤوب على إفقادكم القدرة على الإرادة بل ومحوها، ومن أجل انتزاع الولاء السياسي للتطبيع، بيد إن حقيقة ما يحدث هو تضليل للوعي الجمعي المتيقن بعدالة القضية الفلسطينية وبحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه وبالعودة إليها.

إن ما تقوم به آلة الدعاية الصهيونية له آثار مرئية كما له متغيرات غير مرئية تصيب عمق عواطفنا ومشاعرنا كأفراد وكمجتمع، لا شك إن مجتمعنا المحلي المحصَّن ضد التطبيع قد تم اختراقه من الصهاينة، هذا يظهر جلياً على السطح من استحضار مخزونه التدميري الذي يعمل على تفكيك العقائد الاجتماعية والسياسية والقيمية والأخلاقية تجاه القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، إنه يعمل على خلق شروط جديدة وظروف تهيء القبول الصاغر بوجوده بيننا وفي بلداننا، إنه العدو الصهيوني ولا غير، فاحذروا، ثم احذروا.! 

منى عباس فضل
المنامة –3 يوليو 2019