الأحد، 31 ديسمبر 2017

قبل تبادل الأنخاب

منى عباس فضل 

يتناقص الزمن، تنمكش الأيام بانحدار لتبدأ نهاية عام وإشراقة آخر جديد، وكعادتنا نتمثّل مظاهر الحياة في الأفئدة ونتبادل الأنخاب والتمنيات مردّدين عبارات المحبة والأمل رغم تجّرع المنغّصات وثقل الغصّة الكئيبة في أعماقنا وهي تعود بنا القهقرى حتى القاع.

لم نعد نعرف حقيقة ذواتنا من فرط الألم، لم نعد ندرك من حولنا، الحزن يزحف بيننا وتلفّنا العتمة التي تزداد قتامة كلما حاصرتنا الحواجز والموانع وتكاثرت الكراهية وانتشر التعصّب كفطر مسموم يفتّت مجتمعاتنا ويمزقها باحترابات مفتعلة وحروب قبائل ومذاهب وطوائف. 

في يوم شتاء قارس من أيام مدينة ميونخ الجميلة، وأمام مقهى بدا أنه الوحيد الذي فتح أبوابه في ذاك الشارع المفعم بالنظارة والحياة حتى في يوم الإجازة الأسبوعية، حيث لجأ إليه العابرون للحصول على الدفء واحتساء كوب من القهوة أو ربما لقاء صديق أو حبيب.


أمامه تتربع جدارية ضخمة في واجهة الشارع علّقت عليها مئات من سترات بحرية بألوان مختلفة، في مشهد استفزازي مثير، وأنت تسير بفضول حول الجدارية باحثاً عن إجابة لسؤال يرتعش في جوفك مع ارتعاشة لفحات البرد التي تخترق العظم، لتدرك في نهاية الدوران أنك قبالة بقايا مقبرة غرق جماعية ينفطر لها القلب وينتابك شعور بالاختناق وبرغبة ملحة في البكاء على نفسك وعلى من كانوا في قوافل الهجرة وقوارب النزوح والترحال مع رفاق التشرد... شاهد من شواهد سترات الموت المجاني وعلامة فارقة لأفعال البشر السوداء وأحقادهم وعلى الخوف والهروب من حروب التدمير والعوز والفاقة والجوع شاهداً على كل الجراحات الدامية التي حطت بكرامة الإنسان إلى الحضيض.

دمع ونحيب صامت في جلالة المشهد المريع، يرتفع مع ارتفاع صخب صيحات المكدّسين في قوراب الموت وأنين الغارقين اللاهثين مشياً في رحلة الأمل والبؤس على أقدامهم عبر الحدود وبحراسة الدرك أو قابعين بين الأسلاك الشائكة حاملين أحزانهم في بواطن قلوبهم ووجوهم المالحة تسرد ملايين الحكايات الحزينة، حالمين بالدفء وفي مخيلتهم بقايا ذكريات من أفراح وأحزان عاشوها في قراهم ومدنهم أو ما سُمِّي بأوطانهم، وفي جيوب سترات الغربة المريعة احتفظوا بقصاصة صغيرة رسمت عليها خارطة لنهاية درب الآلام والتعب، وفيما هم يلفظون أنفاسهم الأخيرة تاركين وراءهم سترات الانقاذ الملتفة حول أجساد جامدة باردة طافية على المياه أو ملقاة على شواطئ الغربة تتقاذفها الأمواج، تركوا معهم قلب مدن البؤس والخطايا مفتوحة على مصراعيها في دوائر النار مشرّعة على أحداث ومآسى تدشّن لانفجارات قادمة يتلوها سقوط دول وعروش مع كل انتهاك لأرواح الأبرياء وهدر كرامة الإنسان.



****

 

قبل إطفاء الشموع وتبادل الأنخاب.. تقرع الأجراس لتعلن "بأننا نقاوم التطبيع، وأن القدس المحتلة منارتنا وستبقى أبد الآبدين عاصمة لفلسطين العربية رغم قرار ترامب وفعلته باعتبار القدس عاصمة إسرائيل"، ستبقى الشعوب العربية بكل أجناسها ومذاهبها وأعراقها هي من يكترث لأمرها ويضحّي ويصمد حين تموت ضمائر الحكام، وستبقى الشعوب العربية عصيّة على التطبيع مع كيان العدو الصهيوني، وسيبقى أهلها يصارعون لقضية فلسطين الحية.

تهويد القدس ليس أمراً عابراً... ومقاومة التهويد ليس أمراً جانبياً، هو ليس نزوة ولا نزهة ولارداءً وجلباب يستبدل في المناسبات، قضية فلسطين لا تعني التعصب الديني أو العرقي، فهي قضية بأبعاد ثلاثية مرتكزها الأخلاق والإنسانية والفكر والسياسة. القدس وبعيداً عن التسطيح والاستخفاف عروس عروبتنا ومهدٌ لثقافة التسامح والمحبة والتعايش والسلام، وهي عنوان كرامتنا ورمز التوّاقين للحرية والانعتاق من الاحتلال والظلم والاستبداد.

سجل كل عربي شهادته: "بأنه المواطن أو المواطنة فلسطيني الهوي عروبي الإنتماء، الرافض للتطبيع مع كيان العدو الصهيوني..ومن يزور القدس المحتلة ويمرّر تهويدها يخون الشعب العربي والفلسطيني، الشعب أعلن براءته من أفعال التطبيع الشائنة وممن يدعمها ويبررها، فلسطين المحتلة خط أحمر في عقول الشعوب العربية وضمائرها ومن يفرط بها ويطبع مع العدو لا يمثلهم... لا يستحق أن يمثلهم".

في القدس كتب محمود درويش قصيدته...
في القدس؛
أعني داخل السور القديم؛
أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى تصوبني ..
فإن الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدّس،
يصعدون إلى السماء ويرجعون أقل إحباطا وحزنا؛
فالمحبة والسلام مقدسان وقادمان إلى المدينة.
كنت أمشي فوق منحدر وأهجس:
كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟
أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟
أسير في نومي. أحملق في منامي.
لا أرى أحدا ورائي.
لا أرى أحدا أمامي ..
كل هذا الضوء لي ..
أمشي؛ أخف؛ أطير ثم أصير غيري في التجلي ..
تنبت الكلمات كالأعشاب من فم أشعيا النبويّ:
"
إن لم تؤمنوا لن تأمنوا".
أمشي كأني واحد غيري،
وجرحي وردة بيضاء إنجيلية،
ويداي مثل حمامتين على الصليب
تحلقان وتحملان الأرض ..
لا أمشي، أطير، أصير غيري في التجلي.
لا مكان ولا زمان.
 فمن أنا؟
أنا لا أنا في حضرة المعراج ..
لكنّي أفكر: وحده كان النبي محمد (ص) يتكلم العربية الفصحى ..
وماذا بعد؟.. ماذا بعد؟
صاحت فجأة جندية: هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟
قلت: قتلتني ... ونسيت، مثلك، أن أموت.
محمود درويش

وكتب سميح القاسم يستنهض سور القدس والأحجار
أنا هنا ... تنفس يا حجري المقدس
يا السور يا الأبراج ... لا بأس يا أسرارنا الحميمة
كم فاتحٍ حاول أن يزحزح الرتاج ... ليستبيح روحنا القديمة
فعاد بالهزيمة.

كل عام وأنتم بخير
منى عباس فضل
المنامة - 31 ديسمبر 2017

الجمعة، 10 نوفمبر 2017

كيف تُهزم الكراهية؟


منى عباس فضل

كيف تُهزم الكراهية؟ عبارة تذكرنا بقدرة الإنسان الهائلة على هزيمة وحش الكراهية القابع بدواخل النفس البشرية.

كثيرة هي القصص والحكايات التي هزمت هذا الشعور وشكلت منبع إلهام للكثيرين في الأوقات الحالكة واللحظات العصيبة والحزينة، كما عكس بعضها محطات مقاومة ناضلت فيها النفس ببسالة واقتدار لتحقيق انتصاراتها على الذات وضعف الإرادة، وأيضاً على كل أشكال الكراهية المرضية التي يتعرض إليها المرء، سواء أكان ذلك بالالتحام العاطفي والذهني مع نماذج سلوكيات الخير أم عبر تجسيد مشاعر السلام من خلال التفكير في الأشياء الحقيقية الجميلة ذات المعاني والقيمة النبيلة وتغذية العقل الباطني بها.

الغيرة والأنانية والكراهية تجاه الآخرين وحش قابع في نفوس البشر، وهي مشاعر قوية تُكتسب وتترسخ في أعماق الذات منذ الطفولة المبكرة حتى تبرز تأثيراتها السئية والمدمرة للمرء ولمن حوله عبر مسيرة الحياة الحاضرة.  

في كتابه "قوة عقلك الباطن" يحرك د. جوزيف ميرفي مفاتيح أسئلة عديدة ومتنوعة كي يقربنا من فكرة تحريك قوة العقل الباطن للحصول على أقصى ما نريد من خير وسلام ومحبة في حياتنا الحاضرة، يحثنا في هذا السياق على نبش الكنز الذي بدواخلنا كي يجعلنا نصنع المعجزات ونشفى من أمراض الأنانية والكراهية والتخلص من الخوف والقلق وتحقيق النجاح والتميز والسعادة لنفوسنا ولمن حولنا بالتآلف في العلاقات الإنسانية والصفح، وكلها أفكار يناقشها عبر مفاتيح أسئلة مفادها:

-        لماذا يوجد إنسان سعيد وآخر حزين؟ لماذا يحقق إنسان نجاحاً باهراً بينما يفشل آخر فشلاً ذريعاً؟ ولماذا يوجد إنسان مفوهّ يحظى بالشهرة بينما يوجد إنسان آخر مغمور يعيش حياة عادية؟ ولماذا يوجد إنسان عبقري في عمله أو مهنته بينما يوجد إنسان آخر يكدح طوال حياته دون أن يفعل أو يحقق شيئاً يساوى ما بذله من جهد ووقت؟ لماذا يتمتع أحدهما بقوة المغناطيس والثقة الكاملة بنفسه، ويحقق الفوز والنجاح، والآخر يفتقد لهذه القوة الجاذبة، ويملؤه الخوف والشكوك، والكراهية؟...الخ.
  
يجمع الكتاب في تحليلاته وأمثلته بين حكايات كونية بعضها مقتبس من كتب سماوية يرى بأنها ليست حكراً على أي معتقد أو ديانة بذاتها، وبين مبادئ شرحها بلغة بسيطة تفسر قوانين جوهرية وأساسية متداوله في الحياة اليومية الاعتيادية لا تقبل الشك.

يرى المؤلف بأن لكل إنسان حكمة وقوة مدهشة لا حدود لها تكمن في عقله الباطن "مخزن الذاكرة" الذي وصفه بالغرفة المظلمة؛ وبقدر ما يكون هذا العقل الباطن مسترخياً ويمد بالخيال الذي هو أقوى ملكات الإنسان وبالتفكير في الأشياء الحقيقية والأفكار المستنيرة والمشاعر الجميلة والنبيلة؛ بقدر ما يتحقق النجاح والتميز والتوازن والصحة للنفس والأفكار، وعلى النقيضِ بقدر ما يغذى العقل بالأفكار السلبية وبمشاعر الغيرة والخوف والقلق والتوتر، بالقدر ذاته الذي يدمر الصحة ويمزق الأعصاب والغدد ويؤدى إلى الإصابة بأمراض جسدية وعقلية وسلوكية من جميع الأنواع. والمؤلف هنا يفرق بين العقل الواعي والعقل الباطن الذي يوجهنا باستمرار إلى أهمية زراعة أفكار السلام والبهجة والسعادة والسلوك السليم والرضا والإزدهار في أرجاء غرفته المظلمة، لم لا وهذه الأفكار كما يعلمنا كالبذرة التي ستحصد محصولاً رائعاً طالما تم تخصيبه بالتوقع الإيجابي.

ثمة ثلاث خطوات لازمة ناقشها الكتاب لتحقيق النجاح والتميز؛ أولها إيجاد الشئ الذي نحب فعله ثم القيام به، إذ لا يمكن لأي منا أن يعتبر ناجحاً في عمله إذا كان لا يحبه وحتى إن كان كل من حوله يصفقون له على هذا النجاح، هذا الحب يستوجب أن يقرن بالرغبة والحماس والمثابرة والمتابعة، وأن يترسخ بالإيمان حد اليقين بما نحب أن نعمل فيه بثقة وقناعة.

أما الخطوة الثانية اللازمة لتحقيق النجاح، فتتمثل بالتخصص في مجال عمل بعينه والاجتهاد فيه برغبة ودافعية نحو تحقيق التفوق والنجاح، كما تتمثل الخطوة الثالثة وهي الأهم، بأن تكون الرغبة والدافعية بعيدة كل البعد عن الأنانية كي ترسم طريق الدائرة الكاملة، بمعنى أن تكون الرغبة مفيدة للبشرية وتتجه نحو خدمتها وإسعادها ما يجعل من قيمتها وفائدتها مضاعفة، أما إذا جاءت رغبة الفعل لمصالح شخصية وحققت نجاحاً ارتكز على سرقة جهود الآخرين وسلبها أو تسلق أكتافهم، فإن الرغبة لن تكمل دائرتها الأساسية وستجعل من صاحبها يعتقد بأنه ناجح، وقد يبدو كذلك بالفعل مظهراً، لكن حقيقة الجوهر تشئ إلى إن تلك الدائرة الناقصة التي تدور فيها حياة الأناني ستؤدى في النهاية إلى عجز أو مرض، ولهذا فإن قياس النجاح الحقيقي لا يكون بنسب ما ليس لنا أو من فعلنا، لأنه في واقع الأمر "إنك تسلب نفسك الكثير" كما يخلص جوزيف ميرفي.

ميرفي يوصي في سياق ما يناقشه من أفكار: "عندما تفكر في الخطوات الثلاث للنجاح، لا تنسى أبداً القوة الكامنة للقدرات الخلاقة في عقلك الباطن، فهي بمثابة الطاقة التي تحرك خطوات كل خطة للنجاح، ذلك لأن أفكارك خلاقة مع  الفكر المدعم بالإحساس يتحول في نهاية المطاف إلى إيمان ذاتي، لم لا وحياتنا تتشكل طبقاً لما نؤمن به.   

من أبرز ما توصل إليه في محطاته الإرشادية، بأن النجاح يعني حياة ناجحة ينعم فيها المرء بالسلام والسعادة والبهجة ويفعل ما يحب بعيداً عن الاستغراق في مشاعر الأنانية والغيرة والحسد والكراهية والغضب والفشل والقلق والخوف، ومن يسعى لأي نجاح عليه امتلاك الرغبة في حياة تخدم البشرية لا تدمرها وتقصيها، وهنا لا يوجد بالنسبة له نجاح حقيقي دون راحة بال معزز بتفهم نفسي وروحي، فمن ينشد النجاح عليه أن يفتح عينه كل صباح ويغمر نفسه بكلمات يرددها:
                                                                                                                                                                                                                                                                                                             
-        إنى أختار السعادة اليوم، وأختار الحب والنية الطيبة والسلام.

وكما السعادة لا تشترى بكل أموال العالم، هي أيضا لا تتحقق بمشاعر البغض والكراهية والأنانية والغيرة،  ذلك لأنها - أي السعادة- نتاج حصاد عمل حقيقي وعقل هادئ مغمور بأفكار المحبة والسلام والاتزان والأمان واحترام وجود الآخر، وهي تعبير مضمونه أن يقدم الإنسان أغلى وأفضل ما بداخله لإسعاد البشرية.

منى عباس فضل
المنامة - 10 سبتمبر 2017

السبت، 4 نوفمبر 2017

غرد مع هاشتاج (#Balfour100)

منى عباس فضل                                               
في تجليات الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش ومن ثقل وطأة معاناة التشرد والغربة وضياع الوطن، كتب:

"آه يا جرحي المكابر وطني ليس حقيبةً وأنا لست مسافرْ..إنني العاشق والأرض حبيبة..".

واستفاض وغرد "سجل..أنا عربي أنا إسم بلا لقب يعيش بفورة الغضب.. جذوري قبل ميلاد الزمان رست وقبل تفتح الحقب.. سجل أنا عربي.. أنا من هناك ولي ذكريات.. ولدت كما تولد الناس.. لي والدة وبيت كثير النوافذ.. لي إخوة.. أصدقاء.. وسجن بنافذة باردة.. ولي موجة خطفتها النوارس.. لي مشهدي الخاص.. لي عشبة زائدة.. ولي قمر في أقاصي الكلام، ورزق الطيور، وزيتونة خالدة.. مررت على الأرض قبل مرور السيوف على جسد حوّلوه إلى مائدة".

وهو ذاته الفلسطيني اليوم يغرد مع دوريش "أرضنا ليست بعاقر كل أرض، ولها ميلادها.. كل فجر وله موعد ثائر..".
 

وهو ذاته الفلسطيني الذي انطلق منذ أيام بحملته التويترية للعالم حاملاً جرحاً غائراً مستهدفاً حسابات مسؤولين بريطانيين على رأسهم رئيسة وزارء بريطانيا تيريزا ماي التي لم تخجل وهي تتجرد من إنسانيتها أمام العالم لاستكمال فصول التآمر وأول النكبات بجريمة الاحتيال وخيانة الأمانة التي بدأتها بريطانيا بمساعدة الدول الاستعمارية قبل مئة عام وتحديداً في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917 على يد وزير خارجيتهم آنذاك آرثر جيمس بلفور الذي كتب خطاباً إلى أحد زعماء اليهود رؤتشيلد يعلن فيه تأييد حكومته إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

بذلك وضع بلفور حجر الأساس للعصابات الصهيونية التي أعدت وجهزت وتسلحت واغتصبت فلسطين بمساعدة بريطانيا والدول الاستعمارية الأخرى وأوصلت فلسطين الأرض والشعب لما آل إليه الحال اليوم.

وعد بلفور كان اللبنة الأساسية في تكوين دولة إسرائيل على الأرض العربية الفلسطينية، وها هي اليوم في زمن الذل وخذلان الأنظمة العربية تأتي تيرزا ماي مجدداً لتستفز المشاعر العربية والفلسطينية حين تؤكد بأن بلادها ستحتفل "بافتخار" بمناسبة الوعد، أي وقاحة وأي جريمة عصرية تضاف إلى جرائمهم، وأي كارثة استراتيجية لحقت بهذه الشعوب.

تقول ماي بأنهم فخورون بالدور الذي لعبوه في إقامة دولة اسرائيل، يعني أنهم فخورون باغتصاب فلسطين وبتشريد ملايين الفلسطينيين في الشتات وقتلهم وتجويعهم وإيداعاهم في سجون دولة الاحتلال الإسرائيلية ومعتقلات كيان العدو العنصري الصهيوني.

هبت حملة الـ "هاشتاج (#Balfour100)"، بنشاط وهمّة لا تلين لتكسر طوق الخذلان الذي تفرضه الأنظمة العربية الاستبدادية المتهافتة على التطبيع مع كيان العدو الصهيوني لكي تفتح أبواب الأوطان له في تحد صارخ لشعوبها الرافضة لهذا التطبيع والإذلال.
                                                    
حملة الـ"هاشتاج (#Balfour100)" طالبت الحكومة البريطانية بالإعلان رسمياً عن عدم شرعية وعد بلفور، والاعتذار رسمياً للشعب العربي والفلسطيني على ما ألحقه وعدها المشؤوم بهم وما خلَّفه من نتائج ومعاناة وأضرار، لاسيما لدور الاستعمار البريطاني في تسليح وتدريب العصابات الصهيونية التي اغتصبت أرض فلسطين وشردت أهلها، طالبتهم بالاعتراف والإقرار بمسؤوليتهم التاريخية والأخلاقية والقانونية والإنسانية عن كافة الأضرار، والتأكيد على حق العودة والحرية، وسعت للتوعية بمعنى "تصريح بلفور" تاريخياً وسياسياً وقانونياً والكشف عن تفاصيله الخفية، وحتى مقارعة الاحتفالات الصهيونية بهذه المئوية، وتأكيد مسؤولية الاستعمار الغربي عامة والبريطاني خاصة عن وعد بلفور المشؤوم ونتائجه المدمرة.

نفضت الشعوب العربية الحية عن إرادتها غبار القمع وتكميم الأفواه في نضالها، ونفذت العديد من الفعاليات أمام السفارات البريطانية في عدة بلدان عربية وأجنبية، تصدرتها وقفات احتجاجية أمام السفارات البريطانية، رفعوا راية الأعلام الفلسطينية ملوّحين بالكوفية وشارات النصر، ومنهم من أكد في حملته رفضهم لوعد بلفور منددين بذلّ الحكومات التي أبرمت المعاهدات مع العدو وبمن يزحف تجاه أبواب التطبيع، وهي بذلك - أي الشعوب - تميز في لحظة تاريخية مواقفها عن موقف حكوماتها التي انغمس بعضها في طريق مصداقة إسرائيل والتحالف معها على حساب الشعوب العربية التي لاتزال متمسكة بتحرير فلسطين وبحق العودة لشعبها المشرد.  

 احتلال أرض فلسطين والتطبيع مع العدو المحتل وضعٌ لا تقبله الشعوب العربية ولا يليق بها في عصر تحررت فيه شعوب العالم من نير الاستعمار وتعاظمت فيه ثقافة حقوق الإنسان ودعوات السلام القائم على العدالة والحق والمساواة، ومع أرواح الشعب الفلسطيني تتغنى الشعوب العربية في نضالها اليوم بـ"نشيد الرجال" لمحمود درويش وهي تستلهم القوة والإيمان العميق بعدالة القضية الفلسطينة.

"لا قهر ولا إذلال ..، لأجمل ضفة أمشي، فإمّا يهترئ نعلي، أضع رمشي، نعم ..رمشي!، ولا أقفُ، ولا أهفو إلى نوم وأرتجف، لأن سرير من ناموا، بمنتصف الطريق...، كخشبة النعشِ!، تعالوا يا رفاق القيد والأحزان، كي نمشي، لأجمل ضفة نمشي، فلن نقهر ولن نخسر، سوى النعشِ!

 وتبقى تغريدة الـ "هاشتاج (#Balfour100)"، طاغية الحضور مهيبة في معانيها، عام يرحل وآخر يأتي وكل شيء فيك يزاداد سوءاً يا وطني... لكننا لا نتوب عن أحلامنا مهما تكرر انكسارها" لا نتوب عن حب أوطاننا والدفاع عنها مرددين مع الفلسطيني:

"يما .. مويل الهوى
" يمّا .. مويليّا...........

منى عباس فضل
المنامة- 4 نوفمبر 2017

الجمعة، 3 نوفمبر 2017

غسيل الملابس في واجهة التمدن


منى عباس فضل

ظاهرة انتشار نشر غسيل الملابس العشوائية على شرفات الشقق ونوافذ المباني السكنية المطلة على الشوارع الرئيسية في المدن والأحياء الشعبية الضيقة، ليست بظاهرة محلية جديدة، فهي لم تعد غريبة في مدينة تضج بانتشار العمالة الأجنبية بشكل عشوائي وغير منظم إثره تراجعت فيه نسبة المواطنين إلى حدود "45%" مقارنة بالوجود الأجنبي حسب أحدث إحصائية لهذا العام صادرة عن هيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية.

هذه الظاهرة تثير الحنق والاشمئزاز؛ لم لا والطرقات الرئيسية وشوارع الفرجان الضيقة تمتلئ بالقاذورات والأوساخ والأتربة والمخلفات لاسيما تلك التي لا تطالها قدم الرقيب ولا ضميره، ومظاهر الفقر الذي تعاني منه العمالة الأجنبية الآسيوية في بلدانها ينتقل معها في زوايا المساكن والغرف الضيقة التي تفتقد إلى أبسط ظروف الحياة الآدمية والإنسانية، كما تنقل معها  دون أدنى شك السلوكيات التي تحتاج إلى ضبط واتخاذ اجراءات ضرورية ولازمة.

الصورة التي التقطناها اليوم دليلها فاقع، حيث تحول مبنى صغير كان يوما ما مطعماً إلى سكن يكتظ بعدد غير معلوم من العمال الآسيويين ممن لا يجد فيه هؤلاء الفقراء البائسون مكاناً يلوذون به كي تصل فيه الشمس إلى غسيل ملابسهم غير واجهة هذا المبنى الذي يقيمون فيه، وهو يطل على شارع رئيسي وداخلي لمنطقة السهلة وسط العاصمة المنامة فضلاً عن نشر بعضها الآخر على ألواح معدنية في الناصية المقابلة للشارع والمغبرة بالتراب. يحدث ذلك دون أدنى اعتبار للمظهر الحضاري والجمالي الذي يكثرون الحديث عنه للإرتقاء بمستوى المدن والأحياء، منظر يفتقد للذوق العام ولا يليق بمدن نتغنى دوماً بعمرانها وتمدنها.  



 في بلدان تُحترم فيها القوانين التي تحرص على جمالية المدن كسنغافورة مثلاً يمنع نشر الغسيل في واجهة المباني والأماكن العامة ومن يخالف يغرم بمئات الدولارات، دول أخرى نالها قسط كبير من التحضر لجأت إلى سن تشريعات صارمة تحدد أماكن نشر الملابس على أسطح المنازل والشرفات وبما يضمن سلامة مظهر الطرقات والأحياء والشوراع العامة، بل يعتبر أن من يقوم به مرتكباً لمخالفة يعاقب عليها القانون، لم لا وظاهرة نشر الغسيل العشوائي ظاهرة غير حضارية وتؤثر سلباً على جمالية المدن وأحيائها.

بلدية نيقوسيا عاصمة قبرص فرضت غرامة مئة دولار على المخالفين الذين ينشرون غسيل ملابسهم الداخلية بشكل غير ملائم في الهواء الطلق وفي الشوارع العامة أو الضيقة للمدينة، أما في نيوزيلندا فالقانون صارم ويمنع سكان الشقق من تعليق غسيلهم في الشرفات المطلة على الشوارع وسط المدينة، وليس أقل من ذلك في أبوظبي حيث تصل المخالفة إلى 1000 درهم وقد تتضاعف في حال التكرار وإلى 250 درهماً في الشارقة، كما يفرض المغرب 100 درهم مغربي على صاحب كل منزل أو شقة لا يحترم معايير البيئة والنظافة، والأمثلة كثيرة.   

وإذا باشرت البحرين منذ فترة في تنفيذ العديد من الحملات لإزلة المنشآت المخالفة ككبائن الصيادين البحرينيين من بعض السواحل والمنافذ البحرية، كما تعين على بعضهم دون الآخر إزالة ما أطلق عليه بالتعديات والإنشاءات المخالفة المقامة على الطرق العامة ومظلات السيارات وسقائفها وكراجات الصفيح وسلاسل الحديد التي تحجز المواقف العامة بطريقة عشوائية وغير قانونية، فالأحرى والأجدى أيضاً بأن تستكمل الجهات المعنية معروفها للقيام بجولات تفقدية مستمرة وغير موسمية للوقوف على الظواهر السلبية المنتشرة كنشر غسيل الملابس كما في الصور المرفقة والتي تشوه المشهد العام، إلى جانب قيامها بحملات نظافة لا تقتصر على الاماكن التي تمثل واجهات سياحية فقط وإنما للساحات العامة والشوارع الداخلية وأرصفتها في الضواحي الضيقة والقرى المنتشرة في طول البلد وعرضها حيث يقيم المواطنون وحيث تشح في بعضها الرعاية المنتظمة.


الأهم استمرار الرقابة على سلوكيات العمالة الأجنبية المتدفقة بلا حساب ولا مسؤولية تجاه البيئة المحلية خصوصاً السائبة منها التي تنتشر في الأزقة وتقيم في الأحياء القديمة وباكتظاط شديد وخطير في تأثيراتها الاجتماعية والبيئية والتي تزيد بالطبع من ظاهرة انتشار نشر الغسيل العشوائي بصورة غير حضارية، فهذا الوجود في محصلته النهائية يشكل حزاماً من أحزمة الفقر الذي لا ينتج غير البؤس والعوز ويكون مصدراً للحرمان والأمراض ولكافة المظاهر الغريبة التي تخل بأوضاع مجتمعاتنا المحلية الصغيرة وتزيدها تعقيداً.

منى عباس فضل
المنامة- 3 نوفمبر 2017

الأحد، 29 أكتوبر 2017

بين نشوة الانجاز وسرقة الفرح

منى عباس فضل 

طريقه محفوف بالمحاذير والزمن يستعجله، لا وقت للمناوشات والتوترات، البناء مهمة صعبة والغد الأفضل يفرض عليه حضور مشع، هناك من لا يستسيغ حضوره، يسعى لإخفاءه بسواتر ربما إلى حذفه من معادلة النهوض والحضور بهذه الطريقة وتلك.

فهل يستجيب؟   

هناك من لا يزال يدور في دائرة صفر الإنتاج، تبعده عن الحضور والتموضع في المشهد مسافات وتحديات، الحضور في قلب الضرورات وخواتمها برغم العقبات الثقيلة يُعلم المرء أن الغاية المنشودة لا تزال بعيدة المدى، اللهث وراءها يتطلب المثابرة والإتقان وطاقة لا تعرف الاستحالة وجهود لا تتوقف.

تدور الأفكار في رأسه بدأب، تفرد الأوراق، تُرسم الخطوط والمربعات، عقله يعمل بجد، يحرك قطع الشطرنج على لوحة الوقت، قلبه ينبض بتسارع لا وقت لديه للسقوط في حفرة الاختبار، الطريق أمامه طويل أقوى منه ومنهم ومن ثرثرتهم، في الطريق عليه تحطيم الأصنام وتجاوز المعوقات، أي معوقات وبأي مبررات وبأي هراء.

خلف الأحلام مسارات ودهاليز، الانصراف إلى تحقيقها يحتاج إلى رسم الدرب بشكل مدروس، إلى استلهام تجارب النجاح وعدم النظر إلى الوراء، هناك من لا يزال يقرأ الزمن الماضي والحاضر بأمية، يجتر ذات الحكايات ونفس التبريرات، ويلهث لتثبيط عزيمته وكسر ظهره في وحدته وصراعه في معمة اللحظة، كان عليه الهروب من الشاكين الذين لا يتوقفون عن الشكوى والزن، إن لم يهرب منهم، لن يكون هناك إنجاز، لن يكون هناك غير ثرثرة وكلام غوغاء.

يردد في سره: علم نفسك مزيداً من قوة الصبر تدرب على زيادة جرعة التحمل، علم نفسك على المراجعة، لكن لا تنسى أداء فروضك اليومية، لا تجعل الخوف يخترقك أو يهزك أو يدخل قلبك، لا تمرر أصواتهم الباهتة أو شكواهم المملة إلى أعماقك حتى لا تتوقف أحلامك، لا تسمح لهم يسرقون الإنجاز ولا يشوهو الفرحة، لا تخلي مكانك في المعركة، حتى وإن طاردوك بالسهام أو بالحكايات الفقاعة ففي كل زاوية ستمر عليها هناك غواية على الرغم من امتلاء بعض النفوس بالأحقاد والتوافه عوضاً عن إمتلاءها برائحة الياسمين.

انت الذي علمت نفسك بنفسك حين تضيق الدائرة حولك، كيف تصف المكعبات بتأن على بعضها البعض كالصغار، وأن تقرأ الأفكار من كل اتجاهات الكتاب الذي تتنقل بين صفحاته وتنبش في أرجاءه ولاتزال، أدركت وتعلمت أن توهج الانجاز لا يستقيم إلا بالجهد المضني والصدق والحب وصفاء النية، تذكر؛ "صديقك من صدقك لا من صدّقك"، الإنجاز يحتاج إلى العمل بسلام ومحبة عوضاً عن ثرثرتهم وانتقادهم وهم يطاردونك كفريسة بالسهام تارة وبالسخرية اللاذعة والأوصاف الجارحة.

انت ممتلئ بثقافة العمل حتى الثمالة وهذا بحد ذاته رائع، ممتلئ بشغف الحراك والتغيير، السكون يقتل قلبك وأنت الذي تمتلك الكنوز، هم لا يجيدون غير حصارك بالقيود والسلاسل، بما يجب أن يكون ولا يكون وبما لا يليق بعصر التحضر المذهل...لا تترك الطريق فارغاً للفاشلين، امضي حاملاً رسالتك وعنفوانك...امضي.

منى عباس فضل
المنامة- 28 أكتوبر2017

السبت، 28 أكتوبر 2017

لمن يتحدثون عن خطايا المعارضة


منى عباس فضل 

بعد الاطلاع على عدة مقالات ومقابلات وتنظيرات في أزمنة متباعدة يجمعها في أحد عناصرها فكرة متقاربة رغم اختلاف المقاصد والنيات ومستويات التفكير وجدّية المقاربة، وجدنا أنها تتناول مسؤولية "مكونات العمل السياسي" ودورها في مخرجات الراهن من حالة سياسية، والتي نفهم مما تضمنته من آراء نكنّ لها كل الاحترام والتقدير دون تشكيك، فإنها تَشِي بمسؤولية طرف واحد معنيّ بالأزمة دون الآخر الذي هو "السلطة/الحكم".

أغلب الآراء السابقة تستطرد في حديثها، بلغة مباشرة أو مستترة، إلى "الجمعيات السياسية" والشخصيات النضالية الوطنية -أي المعارضة السياسية- بمكوناتها وشخصياتها، وذلك انطلاقاً من منهجها؛ كونها تعفي نفسها من مسؤولية ما آل إليه وضع البلاد والعباد وإلى ما أفرزه الواقع المتخثّر المثخن بالأوجاع والأسى والحسرة والمشكلات.

هذه الآراء تشير إلى "الخطيئة الكبرى" التي ارتكبتها المعارضة السياسية سواء بتجرئها وحراكها في الشارع، أو من خلال أنشطتها التي استندت إلى رؤية سياسية حالمة غير واقعية أو طائفية حسب اعتقادهم، "بالمناسبة البعض وبثقة متنامية في تنظيراته يخلص إلى أن الكيانات أو قوى المعارضة ليس لديها رؤية ولا برنامج ولم تحقق تقدماً ما ولم تعطِ حلولاً وووو.. كلام كثير وكبير وخطير..." تتحدث هذه الآراء وكأن التنظيمات/الكيانات في تشكلها الهيكلي وحالة الكساح التي تعاني منه بسبب القيود، تمثل وضعاً شبيهاً بوضع "دولة" قائمة لديها قدرات بشرية ومالية ضخمة وآلية هيكلية تمكّنها من تنفيذ رؤية استيراتيجية اقتصادية سياسية واجتماعية على غرار الدول التي تدّعى أنها دخلت عصر الحداثة والعصرنة بهكذا استيراتيجيات على الورق.

نقد قاس
وجهات النظر هذه تحاسب الكيانات وتكاتبها في كل صغيرة وكبيرة، شاردة وواردة وبعيون تضعها تحت المجهر وبنقد قاسٍ، بل وأحيانا تحت خط المزايدة عند بعضِ ممّن لم يمتلك يوما ما تجربة سياسية وخبرة ميدانية حقيقية، بل وربما يفتقد حتى إلى أبسط المعارف والمهارات والمبادئ التي تؤهله لقيادة حملة تحاملية نقدية لاذعة الخطاب بهذا الشكل وذاك، نعم تحت خط المزايدة عند بعضهم- حتى لا نقول عند كل تلك الآراء- فهناك بلاشك استثناءات، بيد إنها في نهاية المطاف تجمع على أن الخطايا ارتكبت من طرف واحد فقط، وهذا أمر عجيب بحق، فهو إما دلالة خوف ورجف في التعبير عن حقيقة الواقع بسبب القيود ونقصان أوكسجين الحرية، أو يحمل في طياته نفاقاً أو تجاوزاً لمعطيات الواقع الفعلية أو لأي أسباب أخرى ليس مجال الخوض فيها الآن.  

هنا يحق السؤال عن ماهية تلك الخطايا مقارنة بخطايا أخرى؟ فهل هي تعني المطالبة بالدولة المدنية وحقوق المواطنة الفعلية وممارسة الديمقراطية الحقيقية وليست "القشرية" من القشور والتسطيح؟ هل الخطايا في المطالبة بحرية التعبير عن الرأي وضمان قبول الاختلاف والرأي الآخر؟ هل خطايا الكيانات السياسية تكمن في مطالبتها بالشراكة العملية وليست الشكلانية "الكلامية" في اتخاذ القرار تبعاً للمتعارف عليه في المعاهدات الدولية؟ هل تكمن في كشف مكامن الفساد وهدر المال العام والخلل في إدارة الأزمة السياسية التي طال أمدها؟....إلخ.. الأسئلة التي تبدأ ولا تنتهي حين متابعة خطابات النقد المثيرة للجدل في توقيتها وغايتها.  

ما معيار الاعتدال؟
بعض مما قيل، يجب التفكير خارج "الصندوق"، يجب أيضاً تحمّل المسؤولية التاريخية، نعم اليجب هنا ملزمة ومسؤولية لا يتحمل وزرها طرف دون الآخر، الذي في حقيقة أمره قد تم تشميعه "بقفل مؤسساته السياسية، وتوقيف صحفه وملاحقته.. "، الآخر هنا لا يتحمل وحده مسؤولية إيجاد الحلول وهو المستحضر فقط في خطابات الجلد والنقد القاسي وأحياناً التخوين وشرشحته ووضعه كشماعة لمناقشة ما آلت إليه الأوضاع؟! بالطبع قيل ذلك استناداً إلى تنظيرات ميّزت نفسها بصفة "الاعتدال" في الممارسة السياسية التي تعني "شراكة". بالمناسبة مصطلح الاعتدال هنا يبدو حديثاً، وربما دخل لأول مرة في قاموس العمل السياسي المحلي، وهذا بحد ذاته إنجاز، هنا يفرض السؤال نفسه عن المقصود بمفهوم "الشراكة"؟ هل هي حسب المعايير المتعارف عليها دولياً؟ أم لها تخريجات محلية شكلا ومضموناً بما تعنيه العبارة من ارتهان للأمر الواقع واستزلام بالتخلي عن أبسط مبادئ حقوق الإنسان وتقييد حرية التعبير للرأي الآخر؟

عودة ثانية لفكرة ضرورة التفكير خارج "الصندوق" ومقترح "الكتلة الوطنية"، هل الفكرة موجهة ومقترحة على الأطراف المتّهمة أصلاً بارتكاب الخطيئة في حراكها النضالي والشعبي؟ المثير عند تدوير الفكرة، إن قيل أنها تعني "عدم تجريد الآخرين من وطنيتهم"، نعم هذا سليم، لكن ماذا عمّن جُرّدت عنهم هويتهم "جنسيتهم" لأسباب سياسية وربما في مضمونها أيضاً "طائفية"؟ ما الحكم في قضايا تقلق عشرات الأسر التى لا ترقى لثقافة حقوق الإنسان، فهل الحديث في هذه الأمور جزء من الأخطاء؟. يفترض أن تلتف هذه الآراء حول هذه القضايا في سياق نقدها للمعارضة أقلها لجهة إنسانية لا سياسية، وحتى لا ترتكب "خطيئة" القفز على الواقع المحزن المثير للضجر.

مخلفات الأزمة
باختصار مهما تفتّقت العقول عن مقترحات ومبادرات غاية بعضها شبه معروف للشارع "ربما لهدف  انتخابي" وهذا حق للجميع مهما أفرزت تلك الحوارات من نقد جارح "للحركة النضالية الشعبية الوطنية"، ومهما تجنّبت أو تغافلت بشكل فاقع مناقشة علاقة ومسؤولية من يمتلك الإرادة السياسية للخروج بالوطن من عنق الزجاجة، وطالما بقيت هذه المناقشات بعيدة عن عمق الأزمة وأبرز مظاهرها معاناة المتضررين إنسانياً، ستبقى من أسف مناقشات صوتية فاقدة للموضوعية والجدّية ولا تؤدي إلى حلول ذات معنى؛ ذلك لأن للأزمة السياسية مخلّفات تتعلّق بأُسَر فقدت أبناءها في القبور وفي ظروف قاسية لا إنسانية، أو قابعين وراء القضبان أو في المنافي أو ممّن فقدوا الهوية، مضاف إليهم مشكلات وضغوطات اقتصادية يتصدرها ملف التجنيس والعمالة الأجنبية التي التهمت فرص المواطن في العمل والتضخّم وغلاء المعيشة وفقر بنمط دولة الرفاه والرعية التي بدأت تحصد الضرائب من جيوب المواطن لتسديد العجوزات المالية، ناهيك عن تدهور مستوى المعيشة بسبب انخفاض أسعار النفط والفساد وعليهم تدهور مستوى التعليم والخدمات الصحية التي تتّجه إلى شبح الخصصة، وأمور لا تعد ولا تحصى.

 خلاصة القول، دروس التاريخ تشهد أن إرادة الشعوب لا تُلغى بجرّة قلم وكرامتهم محفوظة مهما بلغ حال الظلم وانتهاك الحقوق أو تجاهلها بالتهميش والتشريد، إصلاح الأحوال التعيسة لا يكون بالترقيع أو تجاوز الواقع المر بأميال، حقيقة المعاناة ضخمة بضخامة وجدّية نضالات شعوب العالم التي طالبت في ثوراتها بالتغيير لأجل غدٍ أفضل لأجيالها.

لذا تستوجب المسؤولية وبضمير مواجهة الواقع عبر النظر "للكأس المرّ المَليان" وليس لنصفه كما يقال، يجب وضع النقاط على الحروف بهدوء وموضوعية دون التخلي عن المبادئ والقيم الإنسانية والحقوقية التي أساسها حب الوطن وترابه، فضلاً عن دراسة الواقع السياسي بموضوعية استناداً إلى اختمارات البيئة المحلية وتفاعلها مع متغيرات الوضع السياسي الاقليمي والعالمي عند التنظير للمشهد السياسي، أظن إن نظرة كهذه تتطلّب علمية التشخصيص والتحليل بتكامل وتوازن عند بسط أدوات التفكيك والتحليل ووضع الحلول، وخلاف ذلك فإنها تُحكِّم الأمور بمزاجية وانتقائية في إطار الدوران حول حلقة مفرغة.


 منى عباس فضل
المنامة-14 سبتمبر 2017