الثلاثاء، 27 سبتمبر 2022

قصة شعبنا والثورة


منى عباس فضل

مررتُ على المقبرة حيث يرقد أبي، وكل الشهداء المناضلين هناك. انقطع المطرُ، فوقفت أمام المقبرة، رائحتهم لاتزال عالقة في الكون، وهيبةُ رحيلهم ما تزال في أوُجها، وللحظة شعرتُ بأرواحهم ترفرف حولي كفراشات تتراقصُ. وقفت لحظة حداد أمام قبُورهم أنشد:

 

قِصَّة شعبِنا والثَّورةُ يَرْوِيها العراكُ الضَّارِي

قِصَّتُنا شعبُ تثيرُ كُلَّ شعبٍ فقيرٍ

وأصحابَ الضميرِ

 

إنها ثورة ظفار؛ ليست حقبة تاريخية تشبعت بفكر وقيم ومبادئ ومضت بلا رجعة، بل ملهماً وأيقونة لجيل من الشباب والشابات العمانيين والخليجيين، شعارات الثورة وزمنها وأغانيها تتخلد في متون الحكايات والرؤي التي يبدع فيها هؤلاء الشباب، وها هي نور غفرم الشحري تبدع في نقل لوحة إنسانية مؤثرة وعميقة في روايتها "قصة شعبنا والثورة" وعن مآلاتها.

تنقل نور مشاهد الحياة الظفارية في ظل الثورة، هي لا تبالغ في نقل صور سمعتها من الكبار وقرأتها في صفحات ما وقع بين يديها من وثائق، سجلت أحداثها التي أذهلت العالم من فرط معاناة شعبها وما قاسوه وما قدموه من تضحيات.

 تسرد نور التجربة النضالية من خلال مقاومة مصاعب الحياة التي عاشها الظفاريين وتضحياتهم وكفاحهم المرير من أجل تغيير واقع العبودية الذي كانوا يعيشونه، في متنها يتجول القارئ بين أحراش الجبال وفي هيبة الطبيعة وقسوتها وجمالها النابض بالحياة؛ بعبارات متوهجة تهدي الكاتبة روايتها إلى أبيها أحمد سعيد الشحري؛ فتكتب:

- "إلى ذلك الرجل الشجاع، والبطل المغوار، والذي حمل بندقيته، وفي نبضه كل معاني الكرامة والإباء، إلى الفارس الذي رحل عن الدنيا، وما تزال الرصاصة في جيبه!! رحل وما يزال رمزاً للعطاء، وعنواناً للشرف، ومثالاً للأمانة والنضال. أبي ليتك تقرأ هذه الرواية، والتي أخذت من ذكرياتك ويومياتك، والتي كنت تقصها علينا، ليتك تقرأ ملامحك فيها، وبعض صفاتك الرائعة، والتي لا تتكرر.." أما إلى والدتها فاطمة سهيل سعيد البرعمي فتقول:

 - "أيتها الغالية الحنونة الباسلة، لقد كنت أنت بطلة روايتي؛ فالبطلة أخذت ملامحك، وذكرياتك، ومواقفك المشرفة، ومعاناتك، لطالما ألهمتني، ولطالما كنت فخورة بجمال روحك، وبمواقفك أيام الثورة. أنت الثائرة الصابرة، الوطنية الوفية الأبية الشجاعة. أنت القدوة والمثال، أنت أجمل النساء، وأكثرهن حكمة، ونبلاً وكرماً، يا ابنة الأكرمين". وإلى عمها محمد سعيد غفرم الشحري جاء إهداؤها كشهادة إليه ووسم:

 -"إلى ذلك الرجل الذي عاش شهيداً طوال حياته!! رحلت، وما تزال بعض رصاصات الثورة مغروسة في جسدك!! وأظنها لا تريد انتزاعها منك؛ لأنها أصبحت جزءاً منك، ومن شخصيتك. إلى ذلك الباسل الذي عاش حياته، وهو يتكئ على عصاه بعد أن اخترق الرصاص جمجمته، ورجله، وكامل جسده!! هل تعلم أنك تختصر في تصرفاتك قصة الشعب والثورة بكل معانيها ومعاناتها، حقيقة أشعر بالغصة؛ لأنك رحلت قبل أن تقرأ روايتي، والتي أخذت مشاهدها من شجاعتك وقوتك، لتغشاك الرحمة يا أبي الثاني".

 برصانة من يتحمل مسؤولية السرد التاريخي؛ قدمت نور روايتها قائلة؛ بأنها تتحدث عن فترة الثورة ومعاناتها الإنسانية، وإن الخيال تداخل فيها بالفكر والقيم التي استلهمتها من والداها وأقاربها، ومن مذكرات أبيها وأمها ومعارفها ورجال "طفار الأوفياء"، وأضافت بأنها تنظر إلى قصة "ظفار" الأبية بكل قبائلها وعشائرها بلا تفرقة ولا تصنيف، وإن بطلة روايتها عاشت فترة الثورة، ثم رحلت لليمن وعادت إلى الوطن ثانية وتغربت بعدها إلى لندن.

 ثمة ما بقى في جوهر طفول "ظفار" على حاله وحافظ على إيقاعه حتى آخر سطر من الرواية؛ "فكلما كبرت "طفول" الظفارية، تتعلم، لتدخل غمار الحياة بنقاء، رغم كل التشوهات حولها، تحارب من أجل مبادئها، وقلبها، ونبضها". وهي تعترف بأن روايتها هي قلب الثورة، ومعاناة الإنسانية، ونبض الحرية، وقد حاولت عبر مسار أحداثها، التعبير عن ملامح سكان تلك الفترة ومشاعرهم ومعاناتهم وصراعاتهم ووديانهم وغاباتهم وسهولهم وصفاء سمائهم وخصوبة أرضهم ونقاء قلوبهم رغم الظلام والظلم والفقر والحرب والقنابل والرصاص، وهي هنا تؤكد بأن المواقف والمشاعر التي تنبض في روايتها واقعية.

 بوعي التزمت المؤلفة بتسلسل زمنى وأمانة وطنية في مسار الأحداث وإن بحذر من المبالغة في تصوير الثورة بصورة حالمة وحالة استعراضية على مسرح تنقل عبره شهادات منتوفه وجامدة حباً في البروز أو في الالتصاق بزخم حالة الثورة وشعاراتها في زمن ما، نور على عكس ذلك تماماً؛ إذ إنها أمسكت بخيوط المعاناة والظلم وعبرت عن الفقر والجوع والحرب والحالة التي كان يعيشها الظفاريون مع الثورة والرصاص الذي كانوا يتعرضون له والقنابل التي تلقى عليهم وعلى مواشيهم وأكواخهم التي كانوا يعيشون فيها، عبرت عن مقاومتهم لكل ذلك، فحافظت على نهجها الوطني بأمانة واتزان دون إسفاف وهي التي تهدي روايتها: "لكل شهداء الثورات وأبطال الروايات وصناع المجد والانتصارات، كنتم الشعلة التي أضاءت لنا الطريق، تحية إكبار لأرواحكم الطاهرة، أرقدوا بسلام"، في الوقت الذي أثارت فيه التساؤلات التي تخلفت في نفوس الأطفال الأبرياء:

 لم نكن نحن الصغار نعلم لم قامت تلك الحرب؟ ولم ذلك القتال والتنظيمات؟، ولماذا تحلق الطائرات، وتقذف النار والقنابل على الناس، والحيوانات والمراعي؟ لماذا يأسرون الآباء، ويتركون خلفهم أبناءهم ينتحبون؟ ولماذا يهدمون البيوت، ويتركون أصحابها يباتون في العراء كاللاجئين الذين لا وطن لهم؟!، ولماذا يحطمون الأحلام، ولا يتركون لنا حلماً واحداً نعيش عليه؟! لماذا يحولون الليل للنهار، بفعل أضواء اللهب وكشافات الطائرات التي تقذف الموت، وتوزعه على امتداد السهول والغابات؟!

 نعم كل هذه الأسئلة وتلك أثارتها نور في روايتها ولم تجد لها إجابات في وقتها، لكنها أيقنت ومما سمعته من الكبار أن النصر سيأتي، ولكن أيُ نصر هذا، ولمن سيكون؟! لم يكن هناك شيء واضح لها سوى تلك السماء التي تمطر الرصاص والقنابل بلا انقطاع!! إنها الحربُ. إنها قصة النضال والتضحية. إنها قصة شعبنا والثورة.

 في الرواية دلالات تعبر عن براعة لغوية لدى نور وهي تكشف عن فيض الحب والوفاء والتضحية والتحدي، ومعاناة الغربة؛ "كنا في بعض الليالي نستمع للمذياع الذي يبث لنا أخبار الوطن، ويردد أسماء الشهداء. كانت أمي ونساء الحي ينتحبن طويلاً، سيظل مجد الثورة بكل أبطاله أغنية لا تمل، ترددها قوافل "بلقيس" وتحملها مواني اللبان، ومواسم الخريف الماطرة، وتحكيها مساءات "الصرب" البهية، وليالي الشتاء الحالمة. إنها أنشودة الوطن، إنها قصة شعبنا والثورة.

 لم تغفل عن ذكر من شاركوا في الثورة وحلمها من خارج ظفار؛ مثمنة أدوارهم وتضحياتهم كأحمد الربعي والمعلمة هدى سالم "ليلي فخرو" ويوسف طاهر "أحمد العبيدي"، وتمزج ذلك بشعور الغربة القاتلة؛ "فحين تنفيك الحرب، وتلفظك خارج ديارك، تشعر باليتم والانكسار والحنين، ومهما كنت مستقراً جسدياً، إلا إنك نفسياً لا تهدأ أو تستكين، حتى تعود وتقُبل ذلك التراب الذي إليه تنتمي".

 في الحقيقة، نحن جيل عايشنا حلم الثورة الظفارية ومدرستها، ولا نزال نحلم بغد لا يرجف فيه الأمل، لا نمل ولن نمل عن قراءة كل يتعلق بأنفاس الثورات فهي صراخات الشعوب الغاضبة على الظلم والقهر والفساد والاستبداد والإفقار.

 إن مخاض التغيير الاجتماعي والتاريخي طويل، وهذا ما خلص إليه فواز طرابلسي: "إنه لا يوجد ثورات فاشلة بالمطلق. فالثورات، ولأنها عوارض لأزمات خطيرة تخترم المجتمعات التي تحدث فيها، فلابد وأن تترك أثراً حاسماً على المسارات التي تليها، حتى لو أخفقت في تحقيق أهدافها المعلنة والنهائية في تسلّم الحكم وفي تنفيذ كامل برامجها والسياسات، الثورات هي إعلان عن فشل الإصلاح، وهي تفرض على الحكام تحقيق الإصلاحات تماما كما طالبت بذلك ثورة ظفار".  

 المنامة – 27 سبتمبر 2022 

الاثنين، 19 سبتمبر 2022

مكية الأم والملاية

 


منى عباس فضل

 

تواصلت معي عبر الواتس آب قائلة: معك فاطمة، أبى أسلمش نسخة من كتاب "مكية بنت منصور"، اتفقنا على كيفية الاستلام، وظل بالي طيلة يومين من اتصالها حبيس صورة المرحوم زوجها ظافر الذي اختطفه الموت فجأة من أحضان أحبائه وخلف فقده جرحاً غائراً لا يلتئم، هكذا هي حيواتنا ونحن نودع أحبائنا تباعاً بحزن يمتد ويأكل فينا ولا ينتهي.

 

حين استلمت الكتاب، عرفت أنه سيرة والدتها المرحومة مكية. قرأته بتأن، ليس من عادتي كتابة أي تعليقات أو تحليل انطباعي لكتاب إلا حين تتلبسني مادته التي يعالجها؛ سوءاً تفاعلت مع مضمونها أو اختلفت. كلما توغلت في سيرة مكية التي حررها علي الديري الذي طالما تجادلت معه بشأن كتابة سير الأموات بتفاصيلها ودهاليزها، وبسؤالي دوماً؛ ما الجديد؟ ما القيمة التي ستضيفها هذه السير؟ تسألت مراراً وتكراراً عما يشغله بهذه السيرة ويدفعه للتوغل في التعبير عنها ووصفها وتفكيكها وتحليلها في بعدها الايديولوجي الديني المشبع حد النخاع ببعده الطائفي "بالمناسبة؛ لا أقصد هنا المذمة"؛ وإنما تحفيز سؤالا حساساً لا يحبذه البعض؛ وأجيب على سؤالي بسؤال: هل من إشكالية في التدثر بعباءة الطائفة؟ الغرق في هوياتها الفرعية؛ الإيغال بالتمسك بها وبمظاهرها؟ من الذي فتح عش الدبابير وأطلق ولع الناس ونهمهم لكتابة سير أهاليهم وتعليق صور موتاهم وأعلامهم في الطرقات والفرجان؟ من؟

 

هنا لا تحتمل مضامين المسألة وأبعادها المفاضلة بين موقف صواب وآخر خطأ بين أبيض وأسود، ولطالما تجادلت مع الديري حول إعلاء الهوية الفرعية الحاضنة حين تتنكر لك الهوية الوطنية، دارت بيننا مناقشات متقطعة منذ بدايات قرأتنا للهويات القاتلة لأمين معلوف وما تلاها من مؤلفات، وخطاب الهوية لعلي حرب وغيرهم الكثير، تغيرت الأحداث السياسية والحراك الذي مرت به مجتمعاتنا المحلية بمآسيها وموبقاتها وتفشي الظلم والتمييز؛ لم يغلق باب هذه الإشكالية؛ وليس في المنظور القريب أن يغلق.

 

صوتي الجواني يعلو؛ وأنا أتصفح سيرة مكية، يعلو بشحنات انفعالية تغالب عقلي أحاول الوقوف على مسافة قريبة منها وأتفهم، أتفهم لأنني في نهاية المطاف ابنة هذه البيئة التي تربيت فيها وترعرعت، قلت: لا لؤم على الناس حين تُؤقظ ذاكرتهم المتحررة من وطأة الماضي، حين يجدون أن الحاضر يطمس الوقائع؛ وإن تاريخهم يلفظ ويقضم ويحذف ويشوه ويهمل ويعدم وقل ما شئت، فالسعي لتشكيل حقيقة مزيفة حسب الأهواء تكاد تتغلغل وتطبق على أنفاس الناس.

 

تتقافز الأسئلة تباعاً: من يكتب تاريخ الناس؟ من يقرأه من يفسره وكيف؟ للحديث بموضوعية وبتجرد من التحيزات؛ ثمة عدّد نحتاجها وإن لم تروق إلينا الصور وتفاصيل الحكايات في بعدها الديني والطائفي المؤدلج، لسنا معنيين بأن نكون قضاة قساة على الناس وعلى ما يدور في عقولهم وأفئدتهم، ماذا لديهم كي يتحدثوا عنه ويسردوه غير عقيدتهم، غير الذي عاشوه وشكل هاجساً وقلقاً لهم، ففي تدوينهم لتفاصيل حياة آبائهم وأجدادهم يكمن تاريخ المجتمع ببعده الإنساني، وفي الحقيقة بكل التباينات التي رافقت أحداثه، وحين نتوغل في تفاصيل سيرة مكية، يأخذنا الديري إلى ساحل بحر الديه الذي سرق كما غيره من سواحل قرى البحرين حيث غابت السواحل وراء أسوار اسمنتية، معه نستحضر الغوص وشطف العيش وحياة البساطة للناس بين البساتين الخضراء والنخيل التي مثلت تراثاً متجذرا في الأصالة، وهذا يثير وجع الناس ممن عايش تلك الفترة، في استحضار نهب البساتين من أصحابها وتشكل علاقة "السخرة" بالاستغلال والظلم.

 

يطيل السرد عن المكان "المأتم"، وبما يشكله من موقع ومكانة في الذاكرة الجمعية هذا المكان الذي لا يرد ذكره في كتب المدرسة ومناهجها، يصفه وصفاً دقيقاً حتى وإن شاب السرد التكرار حتى في علاقات أصحاب المكان وطقوسه في كل شيء، فهو هنا يؤرخ بأمانة وصاحبة السيرة "ملاية" معروفة بين ناسها ووسط قريتها والقرى المجاورة، تعبير لا تجده هو الآخر في كتاب التاريخ المدرسي المحكوم ببعد ايديولوجي وطائفي تغيب عنه صورة المختلف المهمش وبتقصد، يدرك الديري أن هذه الذاكرة أداة قوية لقراءة حال الحاضر وعلاقاته والتنبؤ بالمستقبل، وهو يلامس موضوعاً سجالياً ويترافع فيه بتحد عبر إبراز المآسي العوز وقيود التكبيل كما يكشف عن التحولات التي حدثت في القرية في إطار التغيير الذي طرأ بتحولاته النوعية على المجتمع، هو يسرد، وعليك أن تكتشف وتربط الأحداث بوقع التراث الذي يوغل في تفكيكه من خلال سردية الملاية مكية التي  يضيع في متاهاتها من لا يدرك عمقها ولا يقر بحق الناس في كتابة تاريخهم وتاريخ ابائهم المغيب.

 

التقط الديري ما يغور في عقل ابنتها فريال، أخذ موقعه في الماضي القريب وهو يسرد، يرسم تفاصيل بيئة قرية الديه وأدار حواراً مقتطعاً مع شخصيات عاصرت الملاية مكية، وكشف بتأويلات عن بساطة معيشة الناس وأبوابهم المشرعة على مصراعيها، عن مرارة التجارب الحياتية وعلاقات الأهالي التراتبية الطبقية المتخفية والتي يمكنك استشفافها بين السطور، اهتم الديري بالتفاصيل وبالرموز ودلالتها، باللغة الدارجة في القرية، بالعادات التي تجسدت في مواقف وطقوس شكلت ولا تزال عموداً فقرياً في العقل الجمعي وحاضنته، إنها العقيدة المستوحاة من سيرة الإمام الحسين عليه السلام وثورته التي تناولها عبر القبب والمزارات والمكان "المأتم" وطقوس المجلس الحسيني ودور "الملاية" وخدمة الحسين التي يضفي عليها المهابة فهي بالنسبة له الأمانة والصدق والعطاء والتضحية.

 

أن تقرر أسرة العكري الإفصاح عن سيرة إحدى نسائها المعروفات بقرية الديه "الملاية مكية"، لهو بحد ذاته جرأة في القول ونقل الأحاجي والصور التي لا تنضب، فما غُرس في الرؤوس لا يزال يشع ولم يتوقف، لقد آمن الديري بأن حقيقة مكية وغيرها من الملايات ونساء القرى والمدن ليست ملكاً لهن أو لعائلتهن، هي ملك للناس فمن خلالها تُوقظ الذاكرة الجمعية.

 

يقول هنري بر، "أن التاريخ روح التعليم، هو معرفة الماضي الإنساني، بكل تعقيداته وغناه"، أما دور كايم فيذكر: "اعتقد انه بدراستنا الماضي باعتناء فقط، يمكننا أن نستبق المستقبل ونفهم الحاضر، وبالتالي يكون تاريخ التعليم أفضل مدرسة تربوية"، أما اللبناني عصام خليفة فيذكر "قراءة التاريخ تلقّن الناس دروس في الحكمة".

 

ختاماً لا أعلم عن الأسباب الحقيقية التي حملت ابنتها فريال؛ الإصرار على كتابة سيرة والدتها، لكن المهم إن السيرة تشكل إضافة لتدوين تاريخ الناس المغيب في مناهج المدرسة وفي سرديات الإعلام الرسمي، وربما هي تجيب على أسئلة نخله وهبة في كتابه أحفاد بلا جدود حين قال:

 

-       كيف أجد أجدادي في كتب التاريخ إذا لم أجد تاريخ منطقتي، كي أقول تاريخ قريتي؟ كيف أشعر أنني حفيد الأرض التي احتضنت رفات جدتي وجدي ووالدتي إذا لم يمر التاريخ ولو مرة عابرة على ما شهدته تلك الأرض بصفتها مسرحاً لحدث أو أكثر من الأحداث المهمة التي تستحق أن ينتبه التاريخ إليها؛ أو بصفتها معبراً أو ملجأ، كيف التقى ذاتي في بقعة ليس من يحافظ على قدسية ما في باطنها ولا على قيمة ما على جلدتها ولا على ما يحيا ويتحرك ويتفاعل في فضائها.

 

المنامة – 19 سبتمبر 2022


السبت، 10 سبتمبر 2022

حلم الأبّة السماوية


 منى عباس فضل

 إنه ذكرى الطفولة وبراءتها هو الزمن الجميل بتلقائيته وسعادته التي لا توصف، المريول كما درج على تسميته، وهو الزي المدرسي للبنات. له هيبته وطقوسه التي كنا نفرح بها كما نفرح وننتعش بفساتين الأعياد والمناسبات.

 

هو عنوان لافتتاح موسم دراسي جديد في كل شيء، من المريول إلى الحذاء إلى شرائط الشعر ومشابكه والملابس الداخلية والجواريب والمناديل حيث لم يعتد الناس بعد على استخدام المناديل الورقية، هو السعادة بيوم شراء القرطاسية والشنطة بما تحتويه من أقلام رصاص وملونة وخلافه وبتجليد الكتب والدفاتر طقوس تتكرر علينا وعلى أبنائنا كل عام دراسي واليوم على أحفادنا بصورة مختلفة ومغايرة تعبر عن تطور المجتمع وتغير نمط سلوكيات أفراده.

 

هي ذكرى معاودة اللقاء مع الصديقات وزميلات المدرسة بعد انقطاع في الإجازة الصيفة، هو الموعد اليومي لمغادرة محيط المكان المحدود إلى الشارع العام سيراً على الأقدام إلى المدرسة وجدرانها حيث تتفتح عقولنا الطرية الصغيرة لتصغي فيه إلى أصوات تنقلنا إلى عوالم شاسعة ينطلق معها الخيال بالأحلام بالتمني.

 

شهد المريول أبو أبّة بلونه الترابي تغيراً عبر عقود من الزمن، حيث كان يحاك من قماش "الترقال أو البوبلين"، أكمامه طويلة، مع ياقة بألوان مختلفة بحسب أسماء مدارس البحرين الابتدائية؛ تغيرت ألوان الأبّة "الياقة" ثم توحدت إلى اللون الأخضر لجميع مدارس المرحلة الابتدائية وتغير بعدها الزي المدرسي بكامله في منتصف التسعينات إلى قطعتين تتكون من قميص أبيض ومريول محفور الذراعين من قماش ذو خطوط يتمازج فيها اللون الأبيض بالأحمر بالأسود والأخضر، واللون الأحمر هو الأبرز فيها.

 

ارتبطت صورة المريول الترابي بالأبّة "الياقة" وشريطة الشعر بطفولتي وأحلامي الصغيرة المدفونة في مراحل تعليمي الابتدائي والتي لا يعرف عنها أحد، إذ لا أحد لديه وقت ليسألك أو يستمع إليك ربما إلا حين تصرخ من وجع وألم.

 

أخذوني من ساحة اللعب فجأة إلى الصف الأول ابتدائي بمدرسة العجاجي بفريق الفاضل وهي بعيدة قياساً في المسافة في ذاك الزمن عن منزلنا الكائن في فريق الحمام، لم أكن أحب مدرستي لأنها حرمتني من اللعب؛ تعهد والدي رحمه الله بتوصلي كل صباح وقبل ذهابه للعمل على سيكله إلى المدرسة، كما تعهدت معلمة رباب الشريفة كما كنت أعرفها وهي صديقة لعمتي آنذاك وتدرس في نفس المدرسة باصطحابي معها للعودة إلى منزلنا ولأننا جيران.

 

كان لون أبّة مريولي الترابي في مدرسة العجاجي نيلي وهي درجة من درجات اللون الأزرق المشع الجميل، كنت أحب لونها لأنني بالأصل أعشق اللون الأزرق بدرجاته المختلفة، لكنني لم أحب المدرسة لأن تقيدني عن اللعب، وبها تلميذات يكبرونني في العمر كثيراً بسبب دخولهن للتعليم متأخراً كما كان سائداً في ذاك الوقت، ستجد في الصف الأول الابتدائي بين التلميذات بعمر الست سنوات، تلميذات أخريات بعمر 15 سنة؛ ولك أن تتخيل ماذا يحدث من مناوشات ومشاغبات يفترض فيها أن تكون محصناً بالقوة والحيلة لمواجهة أي موقف.

 

بعد شهرين تقريباً، وفجأة ودون معرفتي؛ تم نقلي إلى المدرسة الوسطى في فريق الحطب فتقربت المسافة من بيتنا نوعاً ما لكنها لا تزال بعيدة عنه، المدرسة عبارة عن منزل مستأجر من الحاج أحمد بن خلف؛ وهي ملاصقة بجدار منزل ابنه المرحوم عبد الرسول خلف، جاء نقلي لأن معلمة رباب تم نقلها للتدريس بهذه المدرسة التي مديرتها السيدة موزة القحطاني. لم يكن بالمدرسة غير ثلاث مراحل دراسية فقط الأول والثاني والثالث الابتدائي. كان لابد من تغيير أبّة المريول الترابي إلى اللون البني الذي لا أميل إليه ولا يشدني، حيث حلمي كان يهفو إلى الأبّة باللون الأزرق البحري السماوي الذي ترتديه تلميذات مدرسة فاطمة الزهراء القريبة جداً من منزلنا.

 

كنت أخاف الحي الذي به المدرسة الوسطي؛ كونه وسط منازل وعمارات تسكنها الجالية الهندية ممن يعمل أغلبهم في سوق الصاغة وتؤدي طرقه إلى سوقهم ومعبدهم في سوق المنامة، كما إن روائح المكان تزعجني وتثير اشمئزازي، حتى وهي تختلط بالروائح المشهية المنبعثة من مخبز مرزوق، رائحة الكب الكيك الذي أعشقه والبخصم والكماج وبسكويت الشكلمه.

 

لبست مريلتي بالأبّة البنية لثلاث سنوات، بعدها كنت قريبة من تحقيق حلمي لأن أنقل أوتوماتيكيا كما تراءى لي إلى مدرسة فاطمة الزهراء وأرتدي المريول الترابي بالأبّة السماوية، كنت كعادتي ألح وأطحن وأزن على عمتي لنقلي لهذه المدرسة؛ حاولت، وكل محاولاتها بات بالفشل. كانت صدمتي كبيرة ومخيبة للآمال، لم يكن هناك شاغراً وشعرت أن العالم يتآمر علي، حزنت كثيراً، تم التفاكر لنقلي مع أختي وعماتي إلى مدرستهن الغربية قرب القلعة ومريولهم بأبه بنفسجي، كنت أحب اللون البنفسجي، ولأن المدرسة قريبة من محل أحب أكل كبابه وسمبوسته، لكني لم أحلم بالبنفسجي كما حلمت باللون الأزرق السماوي.

 

تم نقلي إلى مدرسة زينب الابتدائية بمريول ترابي وأبه وشريطة شعر حمراء، انتقلت إليها وهي أقرب نسبياً إلى منزلنا، كانت معلمتي الملهمة جليلة الزيرة التي بدأت مع تعليمها وتربيتها مرحلة الانطلاق والسعادة والشطارة بعد الكسل والاهمال والدوائر الحمراء في الشهادات السابقة. بالطبع ضاع حلمي للأبد بأن أكون أحد تلميذات مدرسة فاطمة الزهراء التي كلما مررت عليها في دربي وأنا متجهة لمدرستي زينب، شعرت بالحسرة والغيرة ألا أحصل على هذه الفرصة.

 

في مدرسة زينب كنت قريبة من مخبز حسن محمود أيضاً وروائح المخبز الزكية تثيرني لكنها لا تختلط بالروائح المزعجة، تأخذني أكثر فأكثر إلى عالم الأحلام الجميلة خصوصاً حين أشتري منه الكعكة الصغيرة مستطيلة الشكل والمغطاة بكريمة الزبدة. ارتبطت هذه الكعكة بمناسبة حفل عيد الميلاد الذي كنت أحلم بالاحتفال به وانا أشاهد يومياً برنامج بابا حطاب في محطة أرامكو التلفزيونية أو برنامج ماما أنيسه في تلفزيون الكويت.

 

عموما أربع سنوات قضيتها مع مريولي الترابي بالأبّة وشريطة الشعر الحمراء، وضاع حلم الأبّة والشريطة الزرقاء بلونها البحري السماوي المريح، نتف صغيرة وأشياء عالقة لا يعلم بها أهلنا، لكنها عميقة محفورة لا تنسى، وتضفي سعادة طفولية على حواسنا كلما أمعنا النظر في الصور كلما استرسلنا في استرجاع محطات الذكريات وتبادل الأحاديث. ها نحن اليوم نعايش افتتاح مدارس أحفادنا وهم يمضون كل صباح في مشوارهم المدرسي عبر الحافلات أو السيارات، يرتدون زيهم المدرسي، يحتجون ويفرحون، ونتساءل كيف ستتشكل ذاكرة هذه الأيام والمرحلة في مخيلتهم يا ترى؟

 

المنامة -10 سبتمبر 2022