السبت، 7 يناير 2023

نقدة أوال وبريق الأنامل

 

منى عباس فضل 
 



 أغنية يا ثوب يا ذا الثوب من عمل 
الفنان البحريني خالد الرويعي 


بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي لجمعية أوال النسائية الرائدة قبل شهور؛ تشرفت باستلام إهداء عزيز على قلبي لأحدث إصدارات الجمعية التي تشكل بحق قيمة مضافة للمكتبة البحرينية وهو كتاب "النقدة..بريق الأنامل".


 الإصدار جاء تتويجاً لمشروع الجمعية الذي دشن منذ سنوات، وهو يتضمن سيرة فن الحياكة عند المرأة البحرينية. في كلمة الإهداء كتب؛ (إلى التي أناملها صاغت البهجة، وصنعت من النجوم ثوب المستقبل، تعففت عن الغيم لتطال السماء، إلى التي إذا غنت.. استفاق الصباح؛ إلى المرأة البحرينية صديقة المجد). ما أجمل العبارات التي تنبض بروح الحميمية والتقدير لمهنة النقدة وصاحباتها ممن حفرن في الصخر كي يمضين بمركب الحياة وسط أمواج عاتية من تقلبات الزمن والحاجة وثقل المسؤوليات على كواهلهن.

 في مقدمة الكتاب؛ تُقاس أصالة البلاد وتطورها بمحافظتها على تراثها، والاعتداد بماضيها دون الوقوف عنده والثبات عليه، حيث يمثل قاعدة قوية يستند عليها المجتمع وينطلق من خلالها، والجمعية في هذا المقام تؤمن بأن مجتمعنا الفتى يمتلك ثروة تراثية هائلة تختزل ثقافته وفكره وتوجهاته وإن من واجبها المحافظة عليه للأجيال القادمة كي يحمله معه بفخر واعتزاز.


الاحتضان

لهذا أخذت على عاتقها العمل الدؤوب خدمة للمجتمع ومن خلال إثبات وجود المرأة وفاعليتها وقدرتها على الخلق والتغيير وإبراز دورها، فقد تبنت مشروع (النقدة) منذ عام 1996 حين دعتهم وزارة التنمية والصناعة آنذاك لتبني مشروع حرفي يمكن من خلاله توظيف عدد من الفتيات ممن يقطن مدينة المحرق، ويمتلكن حرفة بحاجة إلى احتضان ورعاية توفر لهن دخلاً مادياً ثابتاً من جهة، ومن جهة أخرى يرفعن قيمة العمل الحرفي اليدوي، ومنه انطلقت فكرة مشروع تطوير حرفة النقدة الذي اضطلعت به الجمعية للحفاظ على الحرفة وتطويرها؛ وهو يعد من أهم مشاريعها، حيث خصصت له موقعاً في مركز تنمية الصناعات الحرفية بالمنامة، واستقطبت من خلاله النساء العاملات في مجالات الخياطة والتطريز من ذوات الخبرة وتوظيف مهارتهن في إنتاج الأزياء الشعبية المتميزة بنقوش النقدة، كما شكلت "لجنة مشروع تطوير حرفة النقدة" لمتابعة المشروع وتطويره. وعليه فالكتاب الذي بين أيدينا يعد حصيلة جهود استمرت سنوات لتوثيق تطوير النقدة بكل جزئياته وحيثياته، فضلاً عن الحفاظ على الحرفة من الاندثار والضياع والنسيان.

عند تصفح الكتاب؛ تجد إنه يقودك بسلاسة إلى عالم مختلف، متمرس في الجمال، يتنقل برشاقة بين التفاصيل ويلاحقها بعدسة الحرف، ويرصد مواطن الإبداع والفن والجمال، فيرسم للناظر صوراً متعددة الزوايا تجتمع في عين (النقدة)، تشعر بأنك في رحلة تراثية يمكنك الانغماس في تفاصيلها عبر ملامح الجدات وعنائهن، وتجاعيد أيديهن وهن يجتهدن في هندسة أدق تفاصيل النقوش التي لا يظهر رونقها إلا بلمعان (النقدة) على قطع القماش. إنها أفكار وثقافة مختزلة في وخزات خيوط معدنية تهب للقطعة القماشية ملامح تاريخاً غضَّا تعبق به تفاصيل تلك القطع، فهذا الكتاب ليس أي كتاب، وإنما هو مرجعٌ تراثيٌ وحبل وصلٍ بين ماضٍ عريق يُعتز به، وحاضر ٍمتمكًنٍ في رقيه يسعى إليه ويفخر به؛ هكذا قدمت الجمعية كتابها بروح من يستشعر ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه المجتمع عامة والمرأة البحرينية خاصة.


النقدة بين العراقة والإصالة

تضمن الكتاب فصولاً متعددة بعناوين محددة تصدرتها صوراً للملابس التراثية التي زخرفت بنقوش النقدة والتي التقطتها كاميرة مصور محترف، فأظهرت جمال ورونق هذه الملابس، ففي الفصل الأول منه بعنوان؛ رحلة النقدة في كتاب؛ يُذكر بإن الأزياء الشعبية وسيلة للاستدلال على تركيبة المجتمع الثقافية وهي ترتبط بالعادات والتقاليد والموروثات الشعبية والحرف التقليدية السائدة. وإن كل شعب متميز بأزيائه المتعددة بحسب المناسبات، كما إن التأثيرات المناخية تلعب دوراً به، فالبحرين والخليج يتميزان بطقس حار صيفاً وشتاء دافي، تحتم على مواطنيها ارتداء الأزياء الشعبية الفضفاضة الخفيفة بألوان فاتحة أبدعته يد الصُّناع البحرينيين نساءً ورجالاً في الخياطة والتطريز بنقوش ورموز مستوحاة من البيئة والواقع المعاش.

أما في الفصل الثاني، العراقة والإصالة؛ ثمة ما يشير إلى إن لحرفة النقدة خاصيتّان هما؛ العراقة والأصالة، وفي السياق يتم تناول مصطلح النقدة بالشرح؛ حيث توصل فريق العمل الميداني للكتاب الذي التقى مع نسوة عاملات بالحرفة، أن هناك اختلافاً شاسعاً في سبب تسمية الحرفة، فالبعض منهن يعتقد بأن أصل الكلمة يعود إلى الكلمة العامية (النكَدة) أي نكَدة الدجاجة، حيث تتحرك إبرة النقدة منغرسة بالقماش كما الحركة الخفيفة لمنقار الدجاجة وهي تلتقط الحبوب، وهناك من اختلف مع هذا الرأي، ورأى أنه مشتق من كلمة النقود، فلمعان الخوص المستخدم في هذه الحياكة يشبه لمعان النقود المعدنية، وبأن الزي المطرز (بالنقدة) يباع قديمًا حسب كمية مقياس التولة المستخدمة في تطريزه، كما إن أصلها يعود للكلمة العامية (النغزة) المشتقة من (نغزة أي غرزة الأبرة)، وكلمة النقدة لغويَّا في المعاجم تعني: (نَقَدَ) الشيء – نقداً: نقره ليختبره، أو ليميزه جيده من رديئه، ويقال نقد الطائر الفخ، ونقدت رأسه بأصبعي، و(النّقُد) صغر الغنم، أو جنس منها صغير، واحدتها نقدة وجمعها نقاد)، وهي العملة من الذهب والفضة مما يتعامل به، وهي أيضاً ضرب من الشجر له نور أصفر ينبت في القيعان.  



جغرافيا الذهب والنقوش

 في الفصل الثالث "جغرافيا الذهب"، يشار إلى مصدرين أساسيين لدخول حرفة النقدة في البحرين وهما الهند وسواحل فارس، خصوصاً وإن البحرين تشكل ميناءً تجارياً ومعبراً للسفن، وبالتالي فالحرفة هنا تعد حرفة مهاجرة استوطنت البحرين مع الأقوام التي استقرت على أرضها واكتسبت طابعها المحلي من الاستمرارية وأصبحت حرفة بحرينية أصيلة ومتوارثة، يدخل في تكوينها خامات تتمثل في (الأبرة، والخوص "خيوط النقدة المطلي بمادة الذهب"، والأقمشة).

 


ويستعرض في الرابع منه "فن المعاني"؛ أنواع نقوش وغرز النقدة وصورها التي عرضت بشكل جميل وشروح مبسطة أهمها؛ (تسع الخوات "الأخوات التسع"، سبع الخوات، خمس الخوات، أم أربع، أم ثلاث، بوفول، رش المطر "حبات المطر"، اللوزيّة، الفرخ، الكازوه "الكاجو"، السعفة، درب الحية، النخيه، الهلال، المرتهش، المرتعشة، النجمة، الفراشة، رأس القند "السكر"، فشقة اليوزه "نصف الجوز"، حصاة المدرسة، الوردة الكبيرة، الدبلة، علامة هتلر، وهنا يلاحظ تمازج وتداخل هذه الكلمات بتعبيرات من البيئة البحرينية وتراثها في دلالة حية على عراقة وأصالة حرفة النقدة، إلى جانب ذلك يشار إلى مصادر الوحدات الزخرفية الطبيعية، والهندسية، ويضع الكتاب خارطة للمناطق التي انتشرت فيها حرفة النقدة في مدن وقرى البحرين ومنها المحرق والمنامة والرفاع والزلاق والبديع وعالي والنويدرات وبنى جمرة وسترة، في سياق شروح عن خياطة ثوب النقدة والملابس النسائية القديمة بمسمياتها وصورها الزاهية كـ"ثوب النقدة، الثوب المفحح، ثوب المفرخ، ثوب الكورار، ثوب الويل، ثوب التور، الدرّاعة، الملفع، البخنق، السِرّوال، المشِمّر، الغِشَّوة".

متعة السرد

ووفاءً لكل من مارس حرفة "النقدة"، ولمزيد من متعة السرد في الكتاب، يُفرد فصلاً خامساً يتضمن شهادات حية بعنوان "سيرة الاسم والأنامل لفاطمة عبدالله النقدة، وسيرة الثوب برواية محمد الزري، وحكاية الحياكة لزكية، كما يركز على أهداف المشروع والمنعطفات التاريخية التي مر بها والشركاء الذين ساهموا في دعم المشروع محلياً وخارجياً والتمييز الذي حصده في عدة مناسبات ومعارض.



في خلاصة الكتاب، أوال والطريق إلى التراث؛ تنوه الجمعية إلى إننا أمام مشروع تنموي، يرتبط بالتراث والتاريخ والتقاليد المحليّة، لم لا والنقدة ترتبط بالمناسبات السعيدة وحالات الفرح كالأعياد والزواج وغيرها، وإنها وبرغم شهرتها، فقد بدأت تتراجع لانحسار عدد العاملات فيها منذ سبعينيات القرن الماضي، ومع ذلك فالمشروع لا يزال مستمراً يواجه التحديات ويقدم منتجاته المتنوعة، ومازالت أوال تعزف به على أوتار التراث ألحاناً أكثر جمالاً وأشد قرباً من الروح الأصيلة وأكثر رسوخاً في النفس جيلاً بعد جيل. كتاب يستحق الاطلاع من خلاله على تجربة رائدة في مهنة النقدة الحرفية وأن يتصدر مكتباتنا المنزلية وكل مكتبات المؤسسات التعليمية والمعرفية.

المنامة - 7 يناير 2023







الخميس، 5 يناير 2023

هل حقاً ليس هناك أزمة حريات؟

 

منى عباس فضل

·      تعليق على تقرير صحفي نشر في صحيفة أخبار الخليج في 4 يناير 2023 بعنوان "الصحافة البحرينية تمر بأزمة فكر وثقافة وليس أزمة حريات"

 

 كما يقول المثل: وشهد شاهد من أهلها؛ وأي شهادة وأي تنظير، تشير مضامين التقرير الصحفي وعباراته إلى أن هناك (موضوع للحريات المقموعة) وتفترض بأن الحرية تتطلب فكراً ونقاشاً.

 

انتهينا اليوم إلى أن يعلموننا، ألف باء معنى الحرية ومفهومها، الحرية المغمّسة بالقمع والتهميش وبتر الحقوق في بيئة ينخر فيها الفساد؛ يعلموننا إياها من منظورهم، عبر صحافة تمثل الرأي والرأي الواحد الذي ينتظر وصول المقالات والتقارير الصحفية بعد أن ينالها التشذيب والتنقيح والتزويق، كي تمتلئ بها صفحاتها التي بشهادة التقرير لم تعد مقروءة ولا تهم القارئ لا من قريب أو بعيد، لم لا وهي ليست لسان حاله ولا معاناته ولا نبضه. التقرير يلقى اللائمة على المجتمع، يعني الناس التي لا حول لها ولا قوة، يعلمها كما جاء في تفسيرهم للمفسر، من منطلق "مفاهيم الحرية المسؤولية والالتزام بها وتعاطي المجتمع وتقبّله للحريات"، وهنا يطرق السؤال الباب عن أي حرية يتم الحديث؟ ما نوعها، ما حدودها؟ ما مجالاتها؟

هل هي الحرية التي يُمسك فيها بتلابيب الصحافة والإعلام لتشكيل الرأي العام كما يرغب إليه ويخطط، كما يراد؟ منذ متى صارت هذه الصحافة بيئة صحية لممارسة حرية الرأي وقد امتلأت بالسموم وبث الشتائم والتخوين عبر أعمدة امتهنت كتابة لا تشبه إلا الذوات المريضة، مليئة بكل الموبقات التي يخجل المرء عن ذكر تفاصيلها خصوصاً بعد أن وطّنت نفسها للترحيب بنهج التطبيع مع العدو الصهيوني، هي تاريخ أسود لا يزال ينهش في خاصرة الوطن وناسه.

 

في التقرير، يشار إلى إن الحرية تتطلب فكراً ونقاشاً؛ وماذا أيضا؟

ما الفكر وما النقاش المقبول الذي سيفرش على أرضية الصحافة الحرة والإعلام الحر؛ ما حدوده ما عناصره؟ قيل أن هناك لغطاً كبيراً في المجتمع حول حرية الصحافة؛ نعم هناك لغط كبير، بل قل هناك آهة وشكوى واحتجاج على تحجيم حرية التعبير والكتابة وإبداء الرأي بحسب المفهوم المتعارف عليه في منظومة الحقوق الدولية، وهذا لا يبتسر ويحدد فقط كما يشير التقرير إلى (عدم المعرفة) وكأن هناك في هذا المجتمع من يعرف ومن لا يعرف؟ فمن يمتلك زمام المعرفة والتنظير يحق له ممارسة حرية الكتابة والتعبير ومن لا يملك المعرفة بمقاسات ومعايير التنظير في إطار التقرير، لا يحق له مساحة من هذه الحرية.

 

هناك نسيان وتناسي لمسألة السيطرة على الإعلام ووسائله ومنافذه بالقوانين المقيدة، واحتكار ظهور المسموح لهم على الفضائيات المحلية والخارجية، حيث يحدد فيها من يدلي بدلوه في الأحداث وما يعصف بالمجتمع من منظور الرواية المراد إيصالها لا بما يعبر عنه الواقع. منعت الصحف والأقلام من الكتابة عنوة، وأغلقت منافذ التعبير عن الرأي المغاير المخالف الذي له روايته وتفسيره لما يمر به المجتمع من تفاعل وأحداث، والآن، وبعد أن بلغ السيل الزبى لما وصلت إليه الصحافة من فقر وتسطيح يذكر التقرير "بأنه وللأسف الشديد الصحافة البحرينية والإعلام بشكل عام يمران بأزمة فكر وثقافة، وليس أزمة حريات، لأن هناك أزمة في الفكر والثقافة على جميع المستويات"! ويضيف التقرير أن هذه الأزمة (الحمد الله تم الإقرار بالأزمة)، لا تناقش على أي محفل سواء صحفي أو إعلامي، حتى إننا نطالع الصحف لا نجد فيها ما يقرأ أو يضيف شيئاً جديداً.. فهي -أي الصحافة- من وجهة نظر التقرير تعاني وهي مريضة، بل ويجب أن نبحر بالسفينة بكل هدوء.. وبكل خوف، (حقاً كلام إنشائي).

لا نعلم عن ماهية الهدوء المعني هنا؟ ربما الهدوء الذي لا يوجع الرأس، لا ينغص الحالة المريحة التي وصل إليها حال الصحافة القائمة "التي تعاني ومريضة.." المتربعة على العرش باحتكار النشر والتعبير عن الرأي الأوحد، بعد أن ساهمت بإسقاط كل من كان يخالفها الرأي ودفعت باتجاه إقفال الصحف المخالفة التي لا يحق لها الوجود أصلاً بحجج كونها طائفية أو غير موالية ولا تتمتع بحس المسؤولية.. إلخ المعزوفة، لكن الغريب في الأمر أن يتم الإبحار برأيهم بخوف.

من يخوض غمار الإبحار في الأمواج، يستوجب عليه أن يكون جسوراً منصفاً عادلاً صادقاً في التعبير عن نبض الشارع وناسه، ليس مهتزاً ولا خائفاً متوجساً ولا ولا، أن يسمى الأشياء بأسمائها ولا يلقى اللوم لما وصل إليه الحال على الناس البسطاء من المواطنين الذين يعانون الأمرّين من ضغوط الحياة اليومية وما يفرض عليهم من ضرائب وما يقضم من حقوقهم ومداخيلهم وما يتعرضون إليه من بطالة فاقعة متوحشة تفترس مستقبل الشباب والشابات في كل المجالات والميادين في ظل تدفق ووجود أجنبي في البلاد ينذر بمخاطر استراتيجية، لا يبدو أن هناك من يستشعرها كما يفعل المواطن المسكين كونه يتعثّر بها في كل شاردة وواردة، وما زاد الطين بللًا أن يجد الصهاينة في وسط مناطقهم وعاصمتهم مساحة يردحون فيها ويحتفلون في صورة من صور التحدي الذي يشهده التاريخ في مجتمعنا لمشاعر المواطنين وكرامتهم.

إن الصحافة المنتهية صلاحيتها لا تجرؤ على مناقشة هكذا مشكلات ومعضلات بحرية وتوصف الحال بما يستوجبه الضمير الحي، فالحرية لديها أن تناقش المواطن فقط بتغيير نمط استهلاكه والاستفسار عن الاقتصاد المنزلي؟

 

ما أجهلكم بحال الناس وما أبعدكم عن نبض الشارع، من الأبراج العلوية يتم التنظير لهم بالقول إن (القوة الإدراكية عند شعبنا حتى الآن مازالت في مرحلة النمو ولم تصل إلى النضج بعد)، كم معيب النظر إلى شعب البحرين بأنه غير ناضج وغير مكتمل النمو، إنه الجهل؛ واللامسؤولية التي تقف عند حدود مساحة حرية إعلام وصحافة نطاقها أنا وما بعدي الطوفان.

فلو كنتم فعلاً تنشدون حرية صحافة وإعلام حقيقي، لفتحتم أبواب هذا النقاش الفكري كما يطلق عليه لمن يخالفكم الرأي وأفردتم مساحة له ليعبر إليكم عن رأيه بشكل حضاري دون اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي بسبب احتكار الصحافة ووسائل الإعلام التي فقدت مقوّماتها المهنية والتزامها في التعبير عن مختلف الآراء ووجهات النظر في المجتمع حتى تستحق أن يطلق عليها السلطة الرابعة، فهي هنا لا سلطة رابعة ولا أخيرة ولا يحزنون، هي شيء رخو ممل وعفا عليه الزمن ومضى. 

 

المنامة – 5 يناير 2023


الثلاثاء، 3 يناير 2023

في رحيل عمتي زهرة بنت منصور فضل

 كتبت: فضاء عباس فضل

 عمو زهرة التي غادرتنا قبل يوم من العام الجديد، اختارت مساء الجمعة 30 ديسمبر 2022 ومع زخات المطر لتغادر بسلام كما عاشت بسلام، ظناً منها بأن نسمات الهواء الباردة وقطرات المطر قادرة على تخفيف ألم ذكراها.

 

عمتي التي افتقدت التعليم النظامي بقت تتفاخر بحفظها هي وأخواتها للقرآن في سن مبكر وفي مدة قياسية عند معلمتها فضيضة التي كانت تقول لهن "صوتكم قوي مثل أبوكم حجي منصور حين يقرأ القرآن وقلبكم هدي لم تتعبوني".

 

في الثمانينات خطر في بالها الانتظام في مدارس محو الأمية فجاءت لأبي حجي عباس تستشيره خشيت أن يسبب ذهابها المدرسة خللا أو قصورا في عطائها لأعمال البيت بكل تفاصيله. بعدها انتظمت بصفوف الأمية بمدرسة عائشة أم المؤمنين في فريق الفاضل. جاءت تتفاخر بأن امتحاناً قدم لها لمعرفة مستواها وعندما علموا بأنني خاتمة للقرآن وأجيد القراءة تم ترفيعي إلى الصف الرابع.

 

صفوف محو الأمية لا يتجاوز الست الطالبات إلى سبع في أول العام الدراسي وسريعاً ما تتغير الوجوه ولا تلتزم الأمهات بالحضور لصعوبة الدراسة من جهة والالتزامات العائلية من جهة أخرى إلا من طالبتين هما عمتي زهرة وصفية أم الفنان خالد الشيخ التي صارت صديقتها طوال فترة الدراسة بمحو الأمية. الاثنتان كان يحركهما حب العلم ويحثهما على الاستمرار حتى تخرجتا من المرحلة الاعدادية. صرنا نسمع قصص أم خالد على لسان عمتي وبالطبع كانت تسرد عمتي قصصنا لها فهكذا تبدو الصداقات حين يفضي كل طرف ما يجول بخاطره للآخر. نهاية كل عام دراسي كنا نمازح عمتي حين تحضر فرحة بإنجازها حاملة شهادتها وقبل أن تعرضها علينا نقول لها من الأولى هالسنه أنتِ أو أم خالد؟ ونقول لها المعلمات يرضونكم سنة أنت الأولى وسنة هي.

 

بعد حصة العلوم تأتي منتشيه بالمعرفة مكررة علينا تعجبها مما تعلمت بالصف وتضيف إعجابها بقولها "سبحان الله شوف اشلون الله سو جدي، فهي لا تتلقى العلم مجرداً عن يقينياتها التي تعلمتها من أمها فاطمة بنت زبر، وبعدها من أخيها الحاج عباس فضل الذي يبادلها كل يوم ما سمعه في مجالس الحسين وماذا قال الشيخ؟ وماذا ذكر؟

 

بعد انتهاء مرحلتها الابتدائية في عائشة لزم حضورها مرحلة الإعدادي في مدرسة السلمانية، فأصابها بعد المسافة بشيء من الغم والضيق. بعد الغذاء ومع شرب الشاي راحت تبث ضيقها أمام أبي، ليس لتطلب منه شيء لكن لتفضفض ما بخاطرها وتناقلت الألسن الكثيرة في البيت تلك الفضفضة، فقررت أختي فتحية أن تتكفل بتوصليها للمدرسة بعد عودتها من العمل، فكانت تتجهز مبكراً قبل الثالثة ويضيق صدرها لو تأخرت قليلا عن الدرس.

 

مأخوذة عمتي بحب المعرفة، فحين تشاهد التلفاز تجدها تستمع إلى محاضرات برنامج الدكتور مصطفى محمود (العلم والإيمان) وتُبدي إعجابها بمخلوقات الله وكيف تحول الدكتور من الإلحاد الى الهداية، أما في شهر رمضان فنبدأ بالعراك معها، فهي الوحيدة المحبة لمشاهدة المسلسلات التاريخية حتى إن عمي عيسى كان يقول بصوت جهور حين تبدأ بمشاهدتهم "جوه أمهات الخلاقين ربع عمتكم"، لكنها لا تلتفت إلى تعليقاتنا.

 

في كل عام من ليلة النصف، تعد الهريس وبعض الأحيان (الباجة) ولم يمل لسانها من سرد قصتي (المقززة) معها حول الباجه عندما كنت صغيرة جئت لها وهي (تنجب/تغرف) وقلت لها "ابغى فار" ويومها لم تأكل عمتي مما طبخت وانتظرت الجميع يستمتع بما أعدته وينتهي الاحتفال، بعدها بدأت تسرد خيالي الواسع وإنها بسببه لم تطق تناولها. طالما مازحتها وقلت لها ستذهبين النار حتماً لظلمك لنا! كنتُ اتهمها دائماً بأنها تنحاز إلى بعضنا فتمنح من تحبهم المزيد من اللحم وتخصهم بالجزء الألذ من الجحة (البطيخ) بينما نحرم نحن منها، فترد على بطريقتها المعتادة وتظل كما هي ونظل نحبها أكثر وأكثر.

 

ما يزعجك في عمتي إصرارها على التعفف في طلب أي شيء، حتى إنني في أواخر الزيارات وصلت لها الساعة السابعة فقلت لها عمو سامحيني الشارع كان زحمة فقالت "ليش متعبة روحش" فقلت لها ويش هالكلام هذا واجب، وقبل أن تطلب، تبدأ بالاعتذارات خشية أن تثقل كاهلنا، ولم تكن لتقول لنا قدمت لكم، وفعلت لكم بل إنها تشعرك بأنك غير مسؤول عن أي تقصير. اعتدت ممازحتها حتى آخر لحظاتها قلت لها غربلتيني في رباتش "تربيتك" عنود، كنت أحاول إجبارها على الأكل.

 

أما قصتها مع الحسين فتلك قصة أخرى، تلاحق خطابات الوائلي، وكانت تحضر محاضرات المهاجري في مأتم زبر وبين ذلك وذلك، تبذل من أجل الخدمة بروح متناهية دون حدود. لم تكن تحضر المجالس لتغط في نوم عميق كما تفعل الكثيرات أو لتكتفي بالدمع، بل كانت تنتشي بروايات أهل البيت وتعيش تضحياتهم وتعكسها على شخصها ومن حولها، فهي تعيد ما سمعته مرات ومرات دون قصد لأنها أعجبت به وتريد أن تتمثله، وهي بهذا التكرار تثبّته في سلوكها وتوصله لنا دون علمها. وتكتمل الصورة مع عودة أبي من المأتم فيبدأ بسرد ما سمع، لم تكن لتسمع فتسكت، بل كانت تسمعه لتناقش وتضيف وهي بذلك تحفزه للسرد.

 

بعد ذلك تبدأ ترفع تقريرها لوالدي: فلانة ما صلت، فلانة رفعت صوتها اليوم على مرت خالها، فلانة ما غسلت. نغضب على عمتي حينها ونتذمر، لكنها لا تتوقف، فهدفها كان أن نصل لصورتهم المثالية الموروثة من أمهم فاطمة بنت زبر. وما أن يهل هلال شهر محرم حتى تجنّد روحها مع بقية نساء البيت والجيران لخدمة مآتم الحسين، وتظل تفتخر بنسبها من جهة أمها لبيت زبر، ومأتمهم صاحب قصة (الراية) التي تسمى (الوهابية) يقال قبل 120عاماً وصل إلى شواطئ البحرين وبالتحديد فرضة البحرين (مرفأ البحرين حالياً) قدر وهو القدر الكبير المستخدم للطباخ، مغطى ومغلق، فاجتمع الناس ليفتحوه فلم يستطيعوا، واستطاع مؤسس مأتم زبر الحاج أحمد بن ناصر أن يفتحه فوجد به راية وطولها متران ونصف ومصنوعة من لصفر "معدن أصفر" وهي عمودية وسمكها تقريباً 30سم ونهايتها تشبه راحة اليد فأصبحت له، فجلبها للمأتم واستخدم القدر للطباخ والراية للتبرك ولا يعرف سبب تسميتها بالوهابية، وربما كونها هبة حصل المأتم عليها وصار الناس يقدمون لها النذور وتقسم نذورها بين مأتم زبر ومأتم مديفع لأن المؤسس للمأتمين هو نفسه.

 

كانت عمتي تقص علينا قدسية تلك الراية وكيف تغطى بالدفة (عباية) ولأهميتها صار يقدم من نذورها عشاء من الهريس والمرق والرز وما لذ وطاب طوال عشرة محرم في مأتم مديفع.  العيش البحاري الأصفر المميز لهذا العشاء تطبخه جدتي فاطمة زبر، وبعدها اختصت به ابنتها عمتي زهرة مع خالتي خاتون مديفع دون بقية النساء.

 في زاوية من ساحة الطباخ الكبيرة التي نسميها (الطيارة) في بيت مديفع تبدأ الصديقتان خالتي خاتون وعمتي زهرة في تجهيز الحطب وكل مستلزمات ذلك  

اكتشفنا إن للبطاطا حين نضعها تحت رماد ذلك القدر، طعم لذيذ، صار كل واحد منا دون استئذان يأخذ له واحدة من أكياس البطاطا الخاصة بمأتم حجي عباس، ونعطيها عمتي وإذا رفضت سلمناها خالتي، وننتظر لحظة نضجها وحينها تبدأ المشاجرة، فهذا يقول هذه لي، وتلك تقول هذه لي، حتى ترفع عمتي الملاس مهددة بضربنا، لكنه يرجع ساكناً دون النيل منا وهذا ما يجعلنا نحلق باليوم الثاني حول تلك الزاوية ونكرر الفعل وتتكرر ردة الفعل.

 

قبل شهرين قالت لي سمعت عنك، إنك مريضة بالأنفلونزا فبكيت كثيرا لأجلك، فقلت لها يا عمه إلا صخونة لماذا كل هذا البكاء!

 في آخر أسبوع كنت معها وحدي، ولم أجد فتح الكلام معها حيث بدأ عليها ضيق من الألم والمرض، فسألتها هل أقرأ لك سورة يس، فهزت رأسها بابتسامة، وقالت نعم وعندما بدأ البكاء والعويل حول سرير جارتها بالمستشفى في آخر يوم، شعرت بأنها سترحل قبل جارتها، ولكن لم أيأس، وفكرت ما هو الشيء الذي أحب أن أسمعه لو كنت مكانها؟ لا شك أنها تحب أن تودعنا بمجالس من أحبتهم، فرحت أبحث في اليوتيوب عن مجلس حسيني، فكان الشيخ عبد الحي ينعى أم البنين وكان يطلب منها أن تحضر له عند موته.

لعمتي كلمات اعتادت تكرارها حتى صرنا نقولها بدلاً عنها فعندما نطول جلوسنا الأسبوعي حتى وقت متأخر من الليل ومع الفوضى العارمة، تبدأ هي بصوت جهور بقول "رحم الله من زار وخفف" فيتضاحك الجميع، ونبدأ بلملمة حاجاتنا والكل يقول "رحم الله من زار وخفف".

 كم نحن أكثر حاجة من الأمس لتلك الزيارة، ولتلك العبارة، لك الجنة يا عمة، ولنا ألم الذكرى، ليت من يرحل يأخذ ذاكرتنا معه.

 

المنامة – 2 يناير 2023