الثلاثاء، 3 يناير 2023

في رحيل عمتي زهرة بنت منصور فضل

 كتبت: فضاء عباس فضل

 عمو زهرة التي غادرتنا قبل يوم من العام الجديد، اختارت مساء الجمعة 30 ديسمبر 2022 ومع زخات المطر لتغادر بسلام كما عاشت بسلام، ظناً منها بأن نسمات الهواء الباردة وقطرات المطر قادرة على تخفيف ألم ذكراها.

 

عمتي التي افتقدت التعليم النظامي بقت تتفاخر بحفظها هي وأخواتها للقرآن في سن مبكر وفي مدة قياسية عند معلمتها فضيضة التي كانت تقول لهن "صوتكم قوي مثل أبوكم حجي منصور حين يقرأ القرآن وقلبكم هدي لم تتعبوني".

 

في الثمانينات خطر في بالها الانتظام في مدارس محو الأمية فجاءت لأبي حجي عباس تستشيره خشيت أن يسبب ذهابها المدرسة خللا أو قصورا في عطائها لأعمال البيت بكل تفاصيله. بعدها انتظمت بصفوف الأمية بمدرسة عائشة أم المؤمنين في فريق الفاضل. جاءت تتفاخر بأن امتحاناً قدم لها لمعرفة مستواها وعندما علموا بأنني خاتمة للقرآن وأجيد القراءة تم ترفيعي إلى الصف الرابع.

 

صفوف محو الأمية لا يتجاوز الست الطالبات إلى سبع في أول العام الدراسي وسريعاً ما تتغير الوجوه ولا تلتزم الأمهات بالحضور لصعوبة الدراسة من جهة والالتزامات العائلية من جهة أخرى إلا من طالبتين هما عمتي زهرة وصفية أم الفنان خالد الشيخ التي صارت صديقتها طوال فترة الدراسة بمحو الأمية. الاثنتان كان يحركهما حب العلم ويحثهما على الاستمرار حتى تخرجتا من المرحلة الاعدادية. صرنا نسمع قصص أم خالد على لسان عمتي وبالطبع كانت تسرد عمتي قصصنا لها فهكذا تبدو الصداقات حين يفضي كل طرف ما يجول بخاطره للآخر. نهاية كل عام دراسي كنا نمازح عمتي حين تحضر فرحة بإنجازها حاملة شهادتها وقبل أن تعرضها علينا نقول لها من الأولى هالسنه أنتِ أو أم خالد؟ ونقول لها المعلمات يرضونكم سنة أنت الأولى وسنة هي.

 

بعد حصة العلوم تأتي منتشيه بالمعرفة مكررة علينا تعجبها مما تعلمت بالصف وتضيف إعجابها بقولها "سبحان الله شوف اشلون الله سو جدي، فهي لا تتلقى العلم مجرداً عن يقينياتها التي تعلمتها من أمها فاطمة بنت زبر، وبعدها من أخيها الحاج عباس فضل الذي يبادلها كل يوم ما سمعه في مجالس الحسين وماذا قال الشيخ؟ وماذا ذكر؟

 

بعد انتهاء مرحلتها الابتدائية في عائشة لزم حضورها مرحلة الإعدادي في مدرسة السلمانية، فأصابها بعد المسافة بشيء من الغم والضيق. بعد الغذاء ومع شرب الشاي راحت تبث ضيقها أمام أبي، ليس لتطلب منه شيء لكن لتفضفض ما بخاطرها وتناقلت الألسن الكثيرة في البيت تلك الفضفضة، فقررت أختي فتحية أن تتكفل بتوصليها للمدرسة بعد عودتها من العمل، فكانت تتجهز مبكراً قبل الثالثة ويضيق صدرها لو تأخرت قليلا عن الدرس.

 

مأخوذة عمتي بحب المعرفة، فحين تشاهد التلفاز تجدها تستمع إلى محاضرات برنامج الدكتور مصطفى محمود (العلم والإيمان) وتُبدي إعجابها بمخلوقات الله وكيف تحول الدكتور من الإلحاد الى الهداية، أما في شهر رمضان فنبدأ بالعراك معها، فهي الوحيدة المحبة لمشاهدة المسلسلات التاريخية حتى إن عمي عيسى كان يقول بصوت جهور حين تبدأ بمشاهدتهم "جوه أمهات الخلاقين ربع عمتكم"، لكنها لا تلتفت إلى تعليقاتنا.

 

في كل عام من ليلة النصف، تعد الهريس وبعض الأحيان (الباجة) ولم يمل لسانها من سرد قصتي (المقززة) معها حول الباجه عندما كنت صغيرة جئت لها وهي (تنجب/تغرف) وقلت لها "ابغى فار" ويومها لم تأكل عمتي مما طبخت وانتظرت الجميع يستمتع بما أعدته وينتهي الاحتفال، بعدها بدأت تسرد خيالي الواسع وإنها بسببه لم تطق تناولها. طالما مازحتها وقلت لها ستذهبين النار حتماً لظلمك لنا! كنتُ اتهمها دائماً بأنها تنحاز إلى بعضنا فتمنح من تحبهم المزيد من اللحم وتخصهم بالجزء الألذ من الجحة (البطيخ) بينما نحرم نحن منها، فترد على بطريقتها المعتادة وتظل كما هي ونظل نحبها أكثر وأكثر.

 

ما يزعجك في عمتي إصرارها على التعفف في طلب أي شيء، حتى إنني في أواخر الزيارات وصلت لها الساعة السابعة فقلت لها عمو سامحيني الشارع كان زحمة فقالت "ليش متعبة روحش" فقلت لها ويش هالكلام هذا واجب، وقبل أن تطلب، تبدأ بالاعتذارات خشية أن تثقل كاهلنا، ولم تكن لتقول لنا قدمت لكم، وفعلت لكم بل إنها تشعرك بأنك غير مسؤول عن أي تقصير. اعتدت ممازحتها حتى آخر لحظاتها قلت لها غربلتيني في رباتش "تربيتك" عنود، كنت أحاول إجبارها على الأكل.

 

أما قصتها مع الحسين فتلك قصة أخرى، تلاحق خطابات الوائلي، وكانت تحضر محاضرات المهاجري في مأتم زبر وبين ذلك وذلك، تبذل من أجل الخدمة بروح متناهية دون حدود. لم تكن تحضر المجالس لتغط في نوم عميق كما تفعل الكثيرات أو لتكتفي بالدمع، بل كانت تنتشي بروايات أهل البيت وتعيش تضحياتهم وتعكسها على شخصها ومن حولها، فهي تعيد ما سمعته مرات ومرات دون قصد لأنها أعجبت به وتريد أن تتمثله، وهي بهذا التكرار تثبّته في سلوكها وتوصله لنا دون علمها. وتكتمل الصورة مع عودة أبي من المأتم فيبدأ بسرد ما سمع، لم تكن لتسمع فتسكت، بل كانت تسمعه لتناقش وتضيف وهي بذلك تحفزه للسرد.

 

بعد ذلك تبدأ ترفع تقريرها لوالدي: فلانة ما صلت، فلانة رفعت صوتها اليوم على مرت خالها، فلانة ما غسلت. نغضب على عمتي حينها ونتذمر، لكنها لا تتوقف، فهدفها كان أن نصل لصورتهم المثالية الموروثة من أمهم فاطمة بنت زبر. وما أن يهل هلال شهر محرم حتى تجنّد روحها مع بقية نساء البيت والجيران لخدمة مآتم الحسين، وتظل تفتخر بنسبها من جهة أمها لبيت زبر، ومأتمهم صاحب قصة (الراية) التي تسمى (الوهابية) يقال قبل 120عاماً وصل إلى شواطئ البحرين وبالتحديد فرضة البحرين (مرفأ البحرين حالياً) قدر وهو القدر الكبير المستخدم للطباخ، مغطى ومغلق، فاجتمع الناس ليفتحوه فلم يستطيعوا، واستطاع مؤسس مأتم زبر الحاج أحمد بن ناصر أن يفتحه فوجد به راية وطولها متران ونصف ومصنوعة من لصفر "معدن أصفر" وهي عمودية وسمكها تقريباً 30سم ونهايتها تشبه راحة اليد فأصبحت له، فجلبها للمأتم واستخدم القدر للطباخ والراية للتبرك ولا يعرف سبب تسميتها بالوهابية، وربما كونها هبة حصل المأتم عليها وصار الناس يقدمون لها النذور وتقسم نذورها بين مأتم زبر ومأتم مديفع لأن المؤسس للمأتمين هو نفسه.

 

كانت عمتي تقص علينا قدسية تلك الراية وكيف تغطى بالدفة (عباية) ولأهميتها صار يقدم من نذورها عشاء من الهريس والمرق والرز وما لذ وطاب طوال عشرة محرم في مأتم مديفع.  العيش البحاري الأصفر المميز لهذا العشاء تطبخه جدتي فاطمة زبر، وبعدها اختصت به ابنتها عمتي زهرة مع خالتي خاتون مديفع دون بقية النساء.

 في زاوية من ساحة الطباخ الكبيرة التي نسميها (الطيارة) في بيت مديفع تبدأ الصديقتان خالتي خاتون وعمتي زهرة في تجهيز الحطب وكل مستلزمات ذلك  

اكتشفنا إن للبطاطا حين نضعها تحت رماد ذلك القدر، طعم لذيذ، صار كل واحد منا دون استئذان يأخذ له واحدة من أكياس البطاطا الخاصة بمأتم حجي عباس، ونعطيها عمتي وإذا رفضت سلمناها خالتي، وننتظر لحظة نضجها وحينها تبدأ المشاجرة، فهذا يقول هذه لي، وتلك تقول هذه لي، حتى ترفع عمتي الملاس مهددة بضربنا، لكنه يرجع ساكناً دون النيل منا وهذا ما يجعلنا نحلق باليوم الثاني حول تلك الزاوية ونكرر الفعل وتتكرر ردة الفعل.

 

قبل شهرين قالت لي سمعت عنك، إنك مريضة بالأنفلونزا فبكيت كثيرا لأجلك، فقلت لها يا عمه إلا صخونة لماذا كل هذا البكاء!

 في آخر أسبوع كنت معها وحدي، ولم أجد فتح الكلام معها حيث بدأ عليها ضيق من الألم والمرض، فسألتها هل أقرأ لك سورة يس، فهزت رأسها بابتسامة، وقالت نعم وعندما بدأ البكاء والعويل حول سرير جارتها بالمستشفى في آخر يوم، شعرت بأنها سترحل قبل جارتها، ولكن لم أيأس، وفكرت ما هو الشيء الذي أحب أن أسمعه لو كنت مكانها؟ لا شك أنها تحب أن تودعنا بمجالس من أحبتهم، فرحت أبحث في اليوتيوب عن مجلس حسيني، فكان الشيخ عبد الحي ينعى أم البنين وكان يطلب منها أن تحضر له عند موته.

لعمتي كلمات اعتادت تكرارها حتى صرنا نقولها بدلاً عنها فعندما نطول جلوسنا الأسبوعي حتى وقت متأخر من الليل ومع الفوضى العارمة، تبدأ هي بصوت جهور بقول "رحم الله من زار وخفف" فيتضاحك الجميع، ونبدأ بلملمة حاجاتنا والكل يقول "رحم الله من زار وخفف".

 كم نحن أكثر حاجة من الأمس لتلك الزيارة، ولتلك العبارة، لك الجنة يا عمة، ولنا ألم الذكرى، ليت من يرحل يأخذ ذاكرتنا معه.

 

المنامة – 2 يناير 2023


هناك تعليقان (2):

  1. شكراً لقلمك السهل الممتنع أختي أم باسل، ولدقة ووضوح السرد بالكلمات الناطقة بنوع أدبي رفيع المستوى.تحياتي

    ردحذف
  2. من محمد السلمان

    ردحذف