السبت، 10 أكتوبر 2020

العقاب

 

منى عباس فضل

 "العقاب" رواية من روايات أدب السجون الزاخر بتجارب إنسانية مليئة بالعبر وبما تتقاطع به وتتشارك من معاناة وظلم وانتهاك للحقوق والكرامة حتى وإن اختلفت تفاصيلها في الزمان والمكان أو من مجتمع إلى آخر. أدب السجون يعرّى الوجه القبيح للأنظمة القمعية ووحشيتها، كما يساعد على ترميم النفس البشرية، لم لا والسرد فيه يعد فناً من فنون البوح والكشف والفضح وتعرية الواقع والمسكوت عنه. 

 

"العقاب" رواية للكاتب المغربي "الطاهر بنجلون" الذي يسرد فيها حكاية أربعة وتسعين طالباً كان هو من بينهم، سجنوا مدة تسعة عشر شهراً، أبان حكم الملك الحسن الثاني، عقاباً لهم على تنظيم مظاهرات سلمية في شوارع الدار البيضاء في مارس عام 1965، وذلك احتجاجاً على أوضاع التعليم في المغرب.

 

يقول بنجلون: "بعد التظاهرة تعرضت إلى عنف دموي، واعتقالي إلى جانب مجموعة من الطلبة، بحكم انتمائنا إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وقد جرى الاعتقال بدعوى إنني العقل المدبر لتلك المظاهرات السلمية".

 

التجربة القاسية التي مر بها بنجلون والطلبة ارتبطت بظرف تاريخي، رافقها التعذيب والإذلال والمعاناة؛ فقد وجد الطلبة أنفسهم مسجونين في ثكنات عسكرية بحجة تأدية الخدمة العسكرية، ومما زاد من مأساتهم أنهم كانوا تحت إمرة ضباط تابعين "للجنرال محمد أوفقير" الذي كان وقتها اليد اليمنى للملك في قمع أي حراك معارض فقد كان نموذجاً للتفنن في القمع والتعذيب وبث الرعب، وهو مع الضباط أنفسهم الذين قاموا بالمحاولة الانقلابية الفاشلة على النظام المغربي المعروفة "بانقلاب الصخيرات العسكري" وتصفية الملك.

 

الاعتقال التأديبي

في الاعتقال التأديبي، قيل لهم بأنهم -أي الضباط- مكلَّفين بـ"إعادة تربيتهم" وذلك بإخضاعهم للخدمة العسكرية الإلزامية عمداً. والتأديب بهذا المنطق الغرائبي له دلالة معنوية يتسع مداها ومفعولها لتأديب الشعوب، فهو يعني فرض العقاب وروح الانضباط وقتل الجرأة والأفكار الثورية والتحررية.

 

في حقيقة الأمر كان اعتقالا سياسياً بغطاء الخدمة العسكرية، إنه نوع من أنواع التفنن في ابتكار وسائل القمع وانتهاك حقوق الإنسان. لقد اتبعت السلطة أسلوباً متعمداً يخلق حالة من الالتباس بشأن "احتجاز/اعتقال" الشباب المتظاهرين. ففي "ثكنة الحاجب" كانوا يسومونهم مختلف أشكال التعذيب والإهانة والمس بالكرامة وسوء المعاملة، بدءاً من شفرة حلاقة الرأس المثلومة التي تسيل دم كل رأس تطاله، إلى عبث أحد قادة المعسكر الذي طلب منهم ذات مرة بناء جدار ثم هدمه، إلى دفعهم لقيادة مناورات بالرصاص الحي الذي تسقط فيه ضحايا ويخلف جرحى، الأمر الذي شكل خطراً على حياتهم، ومع تلك الممارسات كانوا على عتبات الموت، كل ذلك حدث بذرائع عبثية، كان يمكن أن يتم تصفيتهم في أي حرب مع "الجزائر" أو زجهم من حيث لا يعلمون في المحاولة الإنقلابية الفاشلة التي تمت.

 لم تنتهي عذاباتهم إلا مع بداية التحضير لانقلاب الصخيرات حيث أُطلق سراحهم بإجبارهم على التوقيع على وثيقة يقرون فيها تلقى خدمة حسنة ويشكرون فيها القوات المسلحة. وبالطبع وكما تمارس الأنظمة القمعية، أطلق سراحهم من دون تقديم أيّ تفسير لما حدث. يذكر بنجلون في مقابلة له، كل ذلك حدث:

 -  "فقط لأننا كنا طلبة نطالب بتعميم التعليم على المغاربة، وننادي بالعيش الكريم. تصوروا معي لو نجح الانقلاب وحكم هؤلاء المغرب، يقينا كانوا سيقضون على البلاد بشكل نهائي، لأنهم كانوا عسكريين فاشستيين ومرتزقة".

  

البوح بعد 50 سنة

احتفظ الطاهر بنجلون بآلام تجربة الاعتقال وتفاصيلها ولم يفتح صندوقها للبوح والتدوين إلا بعد مرور نصف قرن، نفث من خلال السرد حزنه وألمه النفسي على الرغم من كتابته السابقة لرواية "تلك العتمة الباهرة" عن سجن تازمامارت والتي تتكامل مع "العقاب" وتعد هي الأخرى رائعة من روائع أدب السجون.

 

في رواية "العقاب" يروي الكاتب تفاصيل الاحتجاز عندما كان فى عمر العشرين، مما لاشك فيه أن هذه التجربة أغنت حالة الوعي عنده مع اختمار مواهبه وصقل قدراته حتى شكلت منه كاتباً مبدعاً. جاء السرد فيها بصيغة الحاضر وبأسلوب واقعي يجسد تفاصيل الأشياء والمواقف التي حدثت في وقتها، حين سئل ذات مرة عن سبب التأخير في كتابة هذه التجربة رد قائلا:

 -    "لم تكن هنالك خطة لكي أحكي هذه الفترة العصية والتجربة الحدية من حياتي؛ مرحلة تعرضت فيها لعنف وتعسف وتعذيب، لأن الدولة كانت خائفة يومها من كل المطالب وكل الحركات الاحتجاجية. نتحدث هنا  "يقول" عما يعرف بسنوات الرصاص في المغرب".

 

من هنا ثمة ما يحيلنا إلى طرح أسئلة متعددة تدور في مخيلتنا حول ما يستوجب أن يسرده المناضلون من تجاربهم أثناء الاعتقال، وكيف يسرد، هل هناك منهجية معيارية محددة يفترض اتباعها؟ هل هناك ضرورة للتركيز على البعد السياسي منها أم السياسي والإنساني معاً؟ لحظات القوة والصمود، الضعف والانهيار، الصور المتعددة للانتهاكات والألم، هل نكتب واقع التجربة كما حدثت تماما؟..إلخ.

 

واقع وذاكرة وخيال

في هذا الصدد نستحضر قول الشاعر والروائي الفرنسي جان جينيه "وراء كل كتابة جيدة ثمة مأساة كبرى"، فالمعاناة كما يرى بنجلون ضرورية ليكون ثمة شاعر أو كاتب مبدع ومهم؛ مضيفاً: "إن أي كاتب يحتاج إلى واقع وذاكرة وخيال، وإذا نحن حكينا الواقع من دون خيال فسيبدو كلاما بسيطاً ومباشراً، وعبارة عن تقرير بوليسي ليس إلا. لكن، عندما تأخذ واقعاً يومياً وتدمجه في لعبة الخيال يمكن أن تمس القارئ مباشرة وأن تثيره أكثر مما يثيره الواقع". إن عملية السرد من وجهة نظره: "لها قدرة على معرفة روح الشعوب، وإذا أنت أردت أن تتعرف إلى روح المجتمع المصري ما عليك إلا أن تقرأ نجيب محفوظ، وإن أردت أن تقوم بزيارة إلى كولومبيا، أمكن لك أن تجعل من روايات غابرييل غارسيا ماركيز أفضل دليل سياحي. صحيح أن الكاتب شاهد على الواقع، غير أن خياله هو الذي يمنح هذه الشهادة صدقها الإنساني وعمقها الفني. إن حياتنا محكومة بالنقص دائماً، والخيال هو من يملأ تلك الفراغات".

 

كما لم يفت بنجلون التأكيد على أن "ذاكرتنا لا تسعفنا في استعادة كل شيء، فلا بد من خيال لاسترجاع ما يضيع وينفلت منا بفعل الزمن. إن للخيال قدرة على تجاوز هذا الواقع الناقص، لنصير أحيانا أمام عالم فوق واقعي، أو سوريالي، وعليه؛ لا بد من خيال لاسترجاع ما يضيع وينفلت منا بفعل الزمن. إن للخيال قدرة على تجاوز هذا الواقع الناقص، لنصير أحياناً أمام عالم فوق واقعي"، ويوضح "إننا نحن المغاربة، مثلا، لنا خيال ثري ونمتلك قدرة خارقة وفائقة على تأويل الأشياء. فإذا ما وقع حدث معين تجد كل واحد منا يقدم روايته الخاصة، ويضفي عليها مسحة من الغرائبية، ويضيف إلى الحدث تفاصيل كثيرة لا منتهى لها".  

 

الخلاصة، تبقى تجارب الاعتقال بغيضة لأنها تجسد ذكرى المظالم والكراهية والقمع الفاحش، هي شاهد على انتهاك حقوق الإنسان وكرامته. ورواية "العقاب" التي لا تشعر معها بأي مبالغة في سرديات تفاصيلها، تمثل مادة توثيقية تضاف إلى وثائق تضمنت تجارب الاعتقال اللإنساني العبثي الذي تقوم به كل الأنظمة السلطوية والدكتاتورية، كما إنها تدين جميع الممارسات القمعية التي تقوم بها المؤسسات الأمنية ورموزها التابعة لهذه الأنظمة.  

منى عباس فضل

المنامة - 10 أغسطس 2020



الخميس، 8 أكتوبر 2020

بَجعات بريّة في زمن الكورونا

 

منى عباس فضل

 منحتني جائحة الكورونا فرصة ثمينة شجعتني لإلتقاط رواية من رف مكتبتي سبق واشتريتها قبل أعوام وركنتها جانباً بسبب ضخامتها التي تمتد إلى ستمئة صفحة، فضلاً عن مشاغلي الدراسية والمهنية آنذاك.

 

اكتشفت من خلال الرواية التي تعتقت واختمرت في مكتبتي كم إني ضعيفة معرفياً بتاريخ الصين العظيم وبالثورة الصينية التي طالما قرأنا عن حزبها الشيوعي وفلسفة تربيته الحزبية، ومع التأمل جعلتني أعيد لملمة ذكريات مبعثرة وحكايات صغيرة حُفرت في أعماق الذات تتعلق بتجربة العمل السياسي والنقابي ومقاربتها بما تضمنته الرواية من أحداث؛ ليس لأمر سوى إن بدايات التجربة التي مررت بها وغيري قد تأثرت في جوانب منها بسرديات مثالية حالمة حول الثورة الصينية وقائدها "ماو تسي تونغ" ومن كون فلسفته وأفكاره وسلوكياته تمثل نموذجاً للتربية الحزبية، كانت الأمثلة والدلالات تصدح بين أرجاءنا وبشئ من الشغف والدهشة والإثارة لاكتشاف مكامن الذات في تحمل تبعات العمل النضالي والخضوع إلى أساليب التربية القائمة على التضحية والتفاني ونكران الذات لأجل القضية والجماعة بل وإعادة تربية النفس وصقلها في إطار ممارسة "النقد والنقد الذاتي" كأداة و"نفذ ثم ناقش" وغيرها من قيم ومفاهم لطالما فتحت جروحاً غائرة في النفوس حد الألم على الرغم من نقاء الفكر النضالي ومثاليته.

الصين القديم والمعاصر

على أي حال، الرواية التي نتحدث عنها هي "بجَعات برّيّة" لمؤلفتها الصينية "يونغ تشانغ". الرواية من عنوانها تؤثق منعطفات دقيقة من تاريخ الصين القديم والمعاصر وذلك في سياق من المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما تبحث في تشكل الظواهر الاجتماعية وتطور قوانين المجتمع التي تُحكى في اسقاطات فنية وعبر أزمنة مختلفة من حياة ثلاثة أجيال من نساء الصين "1909-1978"، ومن خلال السيرة الذاتية للمؤلفة وعائلتها يتم تسجيل واقع المرأة الصينية وما جرى عليها من محن في إطار الانتماء للعلاقات الأبوية والاستلاب والقهر والاستغلال والتراتيبية الاجتماعية والمكانة المتداخلة مع الأعراف والتقاليد التي تمجد السلالة في ظل سيادة نظام الجواري وسيطرة أسياد الحرب قبل اندلاع الثورة، وهي فترة تعج بالصراعات والمحسوبيات والولاءات والزعامات في ظل غياب الدولة المركزية أبان مرحلة انهيار النظام القديم بمؤسساته وتقاليده، فضلاً عن مرحلة ما بعد الثورة.

 

تميز سرد "يونغ تشانغ" لمراحل ما بعد الثورة بالتعبير عن واقع كل حقبة سياسية في شكلها التراتيبي الاجتماعي والسياسي وكيف تغيرت العادات والتقاليد وعلاقات الناس في المجتمع؛ فيما بقيت ترسبات منظومة القيم بتأثيراتها حتى في المجتمع الشيوعي -أي بعد قيام الجمهورية- التي تخلخلت فيها البنى الاجتماعية التقليدية، بيد إن نظام الاستبداد الشمولي أعاد انتاج نفسه بالتسيد على الرغم مما حصلت عليه المرأة من تحرر من القيود القديمة وما منحت به من امتيازات لم تتجاوز تلك العلاقات الأبوية البطريركية، بل إن النظام كما تتضمن تفاصيل الرواية فرض أبوية الدولة والمجتمع بشكل لامنطقي وجنوني على بنية الأسرة وأفرادها وتفريغها من مضامينها كحضن جامع ونواة للمجتمع، وعليه فالرواية تثري القارئ معرفياً وتضعه في مواجهة أسئلة إشكالية لا حصر لها وبل وأمام معضلة مشاعر متناقضة.

 


التعاليم الماوية

تنتمي المؤلفة "يونغ تشانغ" إلى أبوين من قادة الحزب الشيوعي في أقليم سيشوان ممن نذرا حياتهما للحزب، فقد ترعرعت في كنفهما وتفتح عقلها على تعاليم الحزب وأفكاره منذ بدايات شبابها لاسيما حين انضمت إلى "الحرس الأحمر" من الشباب الذين تشير أحداث الراوية إلى إنهم كانوا يجوبون الشوارع والمدارس والجامعات لتطبيق تعاليم "ماو" في التصدى إلى الأعداء من الطبقة البرجوازية، فكانوا يعاقبون بعض المعلمين بالضرب والتعذيب كما تسرد، وقد حرقوا كتب الأدب الكلاسيكي الصيني وحرموا الدراما والمسرح وفتح المقاهي، وفي مفارقة تشير إلى مشاركتها في هذه المواقف التي تصطدم مع طبيعتها المسالمة فتكتب: "فيما كان الطلبة يشعرون بالإثارة لأنهم يستعرضون سلطتهم على الكبار، وقفت في المقهى فوق رأس جل عجوز اعتبرناه عدواً طبقياً وبرجوازياً لأنه يجلس في مقهى والجلوس في المقهى يعد نمطاً من الحياة البرجوزاية السابقة التي يجب أن تمحى وكل ما سبق "ماو" يجب أن يزال، تمالكت شجاعتي وقلت له: قم غادر من هنا. سألني: إلى أين؟ قلت أذهب لبيتك. فقال: أي بيت؟..انني أشترك مع حفيدي في غرفة صغيرة، لدى زاوية محاطة بستارة من الخيزران للسرير فقط وعندما يكون الأولاد في البيت آتي هنا لبعض الوقت للراحة والهدوء لماذا تحرمينني من هذا. "كان هذا الرجل في نظر الطلبة برجوازياً عدواً للطبقة". 


 من  مظاهر الإذلال  

في السياق تحكي عن عملها في فلاحة الأرض وكطبيبة مشاة حافية القدمين وعاملة في مصنع للفولاذ والصلب حتى انتظمت كطالبة لغة انجليزية فمساعدة أستاذ في جامعة سيشوان، ثم أكملت تعليمها العالي في جامعة "يورك" بالمملكة المتحدة وحصلت منها على درجة الدكتوراه في اللسانيات، ومع ذلك نتعرف إلى إن حياتها لم تكن يسيرة على الرغم إنها قضت طفولتها في كنف أصحاب الامتيازات والسلطة، فقد عانت وأسرتها من ظلم النظام ووحشيته التي دفعتها للتساؤل والشك خصوصاً حين تعرض والديها للقهر والنفي إلى معسكرات العمل البعيدة التي تسببت في جنون والدها ومرضه حتى مات، وتم نفي أمها إلى معسكر آخر وهي التي انضمت إلى المقاومة السرية وغامرت بحياتها لتهريب الأسرار إلى الشيوعيين عندما اندلعت الحرب الأهلية بينهم وبين الكومنتانغ، فيما نفيت هي -أي المؤلفة- إلى أطراف جبال الهملايا وتشتت بقية أفراد أسرتها بين المنافي وتعرضوا للضغوط.

 

تأليه الزعيم

ثمة أحداث صادمة تتناولها الرواية في مراحل من حياة الصين سواء على صعيد الواقع العام أم على صعيد الوضع الاجتماعي وحال النساء فيه والأطفال، ومن خلال رصد الأحداث وتتبعها التاريخي نكتشف سوداوية الواقع وحالة التفسخ والخراب والفوضى في ظل اضطراب سياسي وغياب للأمن والأمان بسبب تسلط الفساد واقترانه بالدكتاتورية وترسيخ عبادة الفرد القائد وتأليه "ماو" والتقديس لكل أوامره وتطبيقها في مجتمع مخابراتي عسكري يسوده التخبط والجهل وسوء الإدارة بل وتطبيق العدالة بشكل اعتباطي انتقامي قاس، هكذا تسرد لنا "يونغ تشانغ"، وهي تصف بالتفصيل آمال الشعب الصيني وأحلامه وإحباطاته من خلال ترويج الوهم والخوف بتنميط اتجاهات السلوك الاجتماعي حسب المعايير الثورية المزعومة، وما رافق ذلك من كوارث المجاعة والأسوأ روايتها لأحداث "الثورة الثقافية" التي دعا إليها "ماو تسى يونع" عام 1966 والتي استمرت عشر سنوات نفذ خلالها برنامج للتخلص من عناصر الثورة المضادة والقضاء على الإرث الثقافي القديم وبأيدي الشباب المتحمس "الحرس الأحمر" والتي جاءت على مراحل؛ منها مرحلة "المتمردين" كما في فترة صراع "الأجنحة" بينهم وتحت قيادة ما أطلق عليهم "العصابة الأربعة" التي تضم زوجة ماو وحاشيتها.

 

من مظاهر الاذلال لمن اعتبروهم من الملاك

من مظاهر الاذلال أثناء الثورة الثقافية

الثورة الثقافية

الثقافة هنا لا تشبه الثقافة التي نعرفها، فقد تميزت فترة "الثورة الثقافية" بصراع عنيف ودمار في المجتمع تعرض فيه الملايين إلى الاضطهاد والوفاة بما فيهم قيادين من الحزب، الأمر الذي يحيلنا إلى التساؤل حول ماهية هذه الثورة الثقافية التي تفتقد للحريات وتصادر حق الإنسان في التعبير عن رأيه وخياراته في الحياة، حقاً نحن أمام حالة من التشوهات المثيرة للجدل والتي لم نكن نعاينها ونحن نقرأ بشغف وعن بعد في ذاك الزمن عن "الثورة الصينية الحمراء" وننهل من أدبياتها كونها نموذجاً ثورياً يحتدى بتقاليده في التربية والانضباط، لم يكن المولعين بها كتجربة نضالية في وارد رصد هذه المشاهد والتقاطها والنقاش بشأنها.     

 

محاكمة عصابة الأربعة بعد وفاة ماو

إلى هنا تعد رواية "بجعات برية" نقداً فاقعاً للحقبة الماوية وللممارسات المتطرفة التي ساد فيها الطغيان والتعتيم الإعلامي لإرساء النظام بأيديولوجته الستالينية وشعاراته الاشتراكية الرنانة التي شكلت مأزقاً حقيقياً لاسيما لجهة تكريس عبادة الحاكم القائد التي تجلت أبرز صورها في الحج الجماعي إلى بكين لرؤية الزعيم والمعلقة صوره في كل مكان، صحيح إن مؤيدو "ماو" ينسبون إليه الفضل في بناء الأمة الصينية التي أصبحت اليوم قوة عالمية عظمى بتطورها التكنولوجي وتفردها الصناعي، كما تعززت في نظامه مكانة المرأة وتطوير التعليم والرعاية الصحية، وهو الذي لعب دوراً مهماً في إنقاذ الاقتصاد الصيني وتحويله من الزراعة إلى الصناعة ووضع أول دستور للبلاد وقام باطلاق مشروع القنبلة النووية وغزو الفضاء؛ إلا إن منتقديه ومنهم بالطبع مؤلفة الرواية، يرون بأن سطوته التي تعززت من خلال الحملات ضد ملاك الأراضي وقمع معارضي الثورة وحملات مكافحة الفساد التي اضطهد فيها الآلاف من المثقفين المعارضين، قد تسبب بالكوارث والكراهية والتمييز كما كارثة المجاعة التي أودت بحياة الملايين من الصينين بين الأعوام 1958-1962، إذن هو بالنسبة لمعارضيه قائد لنظام شمولي استبدادي ساد فيه القمع الجماعي وتدمير الآثار والمواقع الدينية والثقافية.


ولعل هذه القراءة النقدية قد جاءت متأخرة للرواية، بيد إنها تثبت ومما لا يراوده الشك، أهمية عدم تفريط الشعوب بحريتها لأي كائن يكون، فالحرية أثمن قيمة تحافظ على كرامة الإنسان وآدميته، ولا عجب إن كتب عنها الفلاسفة والحكماء وتغنى بها الشعراء وضحت من أجلها الشعوب بالأرواح والدماء.

  

منى عباس فضل

المنامة - 8 أكتوبر 2020