السبت، 22 ديسمبر 2018

المدخنة


منى عباس فضل
يمر الوقت ثقيلاً وشديد الوطأة على الأرواح المكسورة بذاكرتها المثقوبة، يتفكك من بين الأيادي متبعثراً لاعباً بهم كما قطع النرد، وأثقال الماضي ترزح على كواهلهم وحاضرهم يشاغب نفوسهم المشلولة والمعطلة، ليس ثمة منفذ من حالتهم المنكوبة بوجهها الأكثر بشاعة وبؤساً وفوضوية سوى التمسك بعناد ويقين وحتى آخر رمق بقشة الأمل.

هنا برد قارس، بيوت قرمدية متراصة في ليل موحش، تنبعث من خلف ستائر نوافدها الدانتيلية أضواء خافتة تتلألاء، ومن خلفها تتناسل حكاياتهم مع الغربة والتهجير القسري وسفر الزمن.

من مدخنة عالية منتصبة في أعلى ارتفاع لها وبإطلالة مختالة على البيوت تنفث دخانها الذي يتصاعد في الأفق آخذاً مسار الرياح والغيوم والمجهول الذي يذكر بقصص عاملات المصانع وبالتوحش وبالعداء للطبيعة.

شجرة من دون أقرانها وقفت صامدة شامخة متحدية بعناد صقيع البرد، احتفظت بأوراقها الخريفية الصفراء لكنها لن تسلم في الاحتفاظ بها خلال أيام البرد القادمة التي تنذر برياح شديدة وتساقط الثلوج، إن موسم الاخضرار رحل مودعاً الأرصفة والحدائق والناس ماضون مسرعي الخطى وكأن آلات تحركهم إلى أعمالهم وشؤونهم وهمومهم، وبعضهم يمضي بهدوء وسكون في رحاب الضوء، الحزن يمضي والفرح يمضي الزمن يمضي، لاشيء ثابت في قانون الطبيعة وكل الأشياء في حال عبور وجودي بين الحياة والموت ويبقى الخلاص حلماً وشغفاً للمنكوبين من بشاعة واقعهم أقوى من الجحيم.

من دون أسماء أصبحوا منبوذين بلا هوية غدوا وحيدين على الشواطئ، صاروا أجناساً وتواريخ وألقاباً وعبارات تلمع معها عيونهم كلما تجلى الوطن في أوجاعهم وتيقظ كجمرة في أحشائهم مسكونين بلؤلؤ البحار فيما غيرهم سقطوا بضمائرهم في الفخ والتصقوا بالقاع حتى تغيرت ملامحهم وأصبحت وجوههم قوالب جامدة ورائحتم أكثر عفونة.

برلين – 15 ديسمبر  2018
منى عباس فضل

الأحد، 7 أكتوبر 2018

المرأة والحداثة الممتنعة في الخليج

المحرق – 7 أكتوبر 2018·

منى عباس فضل 
في كتابه "الحداثة الممتنعة في الخليج العربي، تحوّلات المجتمع والدولة" يسجل د.باقر سلمان النجار حضوره كباحث ومحلل سوسيولوجي لمرحلة التحولات المفصلية التي تمر بها مجتمعاتنا الخليجية بامتياز، وقد اعتمد في تحليله على أدوات منهجية وصفية لتفكيك الواقع وتشخيصه وإعادة تركيبه حتى وصل بنا لخلاصات عن المرأة والمجتمع من بينها:

§   أن المجتمع الخليجي أصابه تحوّل كبير ويعيش مرحلة انتقالية يخضع فيها أفراده للكثير من الصراع؛ ما بين الانجداب للماضي ومكوناته وهياكله، والحاضر وعناصره وآلياته، وإن عمليات التغيير قد تبدو للبعض غير قادرة على اختراق الذات الداخلية للإنسان المحلي مثلما هي قادرة على اختراق أطرها الخارجية، لكن عملية التغيير هذه حتمية، تتسلل إلى ذواتنا وإن لم نع أو نقر أو نعترف بذلك، وإن التغيير لا يحدث وقعه وتأثيره بالقدر نفسه وبالدرجة ذاتها، لكنه يُخضع الجميع لتأثيراته المختلفة.

§   إنه من القصور المنهجي البحث في قضايا المرأة ككيان منفصل عن الفضاء الاجتماعي والثقافي وربما السياسي والاقتصادي التي هي جزء منه، بل ومن الصعوبة البحث في قضاياها بعيداً عن مركب القوة القائم في المجتمع لاسيما وإن مركب القوة هذا تشكله هياكلنا الاقتصادية وفق سياقاتنا الثقافية والدينية.
عند تناوله باب "المرأة والمجتمع" بل وفي كافة الأبواب التي مررنا عليها قراءة وتمحيصاً، يتلمس القارئ جرأة احترافية هادئة متأنية في مقاربة مكونات الواقع وتفاعل عناصره في البلدان الخليجية وبما تتقارب فيه مجتمعاتها وتتباين، وهذا ليس بغريب عليه كباحث متبحر في طبيعة مجتمعاتنا المحلية كما يعبر عن طبيعة شخصيته وتحليلاته العلمية المسؤولة في كافة بحوثه الأكاديمية ونتائجها.

وليس من المبالغة القول أن ما توصل إليه من نتائج هي ليست جريئة فحسب في مواجهة حقيقة تأثير سلطات القوة الاجتماعية والسياسية والدينية والأثنية القائمة وتضاريس الممنوعات والحساسيات في تمنع مجتمعاتنا عن الحداثة، إنما هي من العمق والنضج والمسؤولية في ملامستها وكشفها عن تفاعلات الواقع بأدوات التحليل الحداثية النقدية، فضلاً عن كونها مغايرة للنهج التقليدي الذي اتسم به الخطاب الليبرالي واليساري الطفولي عند تشخصيه ونقده لواقع المرأة ولجهة تأثير عامل الدين والطائفة والقبيلة الفعال في أوساطها ودرجة احتكامها في سلوكها العام والخاص للمرجعية الدينية والتي غالبا ما يُستخدم فيها تعبيرات حادة وغير مقبولة مجتمعياً كـ"التخلف والظلامية والتبعية وماشابه"، أو لجهة دور العامل الاقتصادي، فهو على النقيض أنزل قضايا المرأة الخليجية بخصوصيتها على الأرض ولم يقتصر تفاعلها مع عوامل العولمة والتعليم وتحررها الاقتصادي فقط، إنما انطلق عبر تأثير كل هذه العناصر وغيرها في شبكة تفاعلها مع الدين ومنظومة الأعرف بهذا القدر أو ذاك في إطار الحراك المجتمعي وما يمر به من متغيرات مفصلية مؤكداً "بأن واقع المرأة الخليجية ما هو إلا انعكاس لماهية الممانعة والمقاومة التي تمر بها مجتمعاتنا تجاه الدخول في عالم الحداثة الحتمي".

كما يمكن القول أن كتابه تضمن رؤية مغايرة نسبياً مقارنة بتحليل بعض الدراسات الخليجية والعربية لقضايا "حجاب المرأة، والمول كظاهرة اقتصادية-اجتماعية أحدثتها العولمة والثورة الاتصالاتية والتقانية وثقافة الاستهلاك وعناصرها وما إلى ذلك مما سنتناوله في السياق.

المرأة وتحوّلات أول القرن
في مقدمة باب "المرأة والمجتمع" الذي يحتوى على ثلاثة فصول يعتقد النجار بأن النقاشات والجدال حول حقوق المرأة الخليجية السياسية في القرن العشرين، قد دشن الدخول للألفية الثالثة بإيقاع سريع رغم إننا لا نعى جدية التحولات ومفصليتها في مسارنا المستقبلي، مؤكداً أن نساء الخليج اليوم أمام مفترق طرق. لماذا؟  

لأمرين مهمين أولهما؛ لأن المسار الذي قادته الرائدات المناضلات لأجل دور ومكانة أفضل لبنات جيلهن متأثرات بقيم الحداثة والأيديولوجيا يتباين ومسار الجيل الجديد الذي بدا وبفعل الصخب والضبابية في فضائه الاجتماعي رافضاً لقيم الحداثة ومعيداً إنتاج قيم المرحلة التقليدية في حالة اجتماعية هي غير حالتها سماها حالات "الما بعد" أي ما بعد التقليدية أو ما بعد البدونة أو صورة من التقليدية في صور جديدة، وهي حالة غير مكتملة في أطرها السياسية والاجتماعية يبرز فيها بدونة المدينة أو تزييفها.  

الأمر الثاني؛ لأن هذه المرحلة تتميز بحالات من الصراع المستتر أحيانا ًوالمعلن أحياناً أخرى أو التعايش بين منتمين للأطر التقليدية القديمة وما بعد البدونة أو بعض مظاهر الحداثة الخليجية الخاصة، ومثالها حالة الصراع المستتر بين جماعة "ثقافة داخل السور" ويمثلها العائلات التجارية التقليدية التي قادت عملية التحديث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ولأسباب موضوعية هي خارج قيادة المؤسسات الحكومية والأهلية الكويتية، وقد تداخلت في أوساطها الحركات السياسية والفكرية والحزبية القومية والأخوان المسلمين واليسار لكنها لاتزال منتظمة في أطر عائلية أو مذهبية، وبين جماعة "ثقافة خارج السور" المنتمين للجماعات البدوية الكويتية أو ممن جئ ببعضهم لإحداث توازن اجتماعي وسياسي داخلي في العملية الانتخابية. هذا الوضع خلق لاتوازن واضطراب في الأطر التقليدية لشبكة العلاقات القرابية والسياسية، فدخلوا في حالة صراع انعكس في عنف هذه الجماعات (القبلية) تجاه الثقافة والجماعات المدينية "حادثة الاعتداء على طالبة كويتية عام 2000".

تأسيساً على السابق يشير النجار إلى الإلتقاء الذي حدث بين قيم البداوة المحافظة مع اتجاهات التطرف الديني ليس في الكويت فحسب إنما في المجتمعات العربية والخليجية، وهذا كشف سلوك هذه الفئة داخل مجلس الأمة في محاولة الاستئثار المطلق بمنافع التوظيف والمنافع الاقتصادية والسياسية، والأمر ذاته حدث في قطر مع "أهل الديرة".

المرأة الخليجية الجديدة
بدء الجيل المعاصر من نسوة "الثمانينيات والتسعينيات" أكثر قرباً للتقليدية والبدونة في ممارساته منه إلى الحداثة، في اللباس كالبرقع رمز المرأة البدوية، وينوه إلى أن بعض الباحثين والباحثات الخليجيين اعتقدوا بتراجع دور المرأة الخليجية وحضورها في الحياة العامة مقارنة بعقدي الستينات والسبعينيات، مشيراً لرأي باحثة خليجية ذكرت: "إن المرأة تعيش صراعاً بين رغبة تحقيق أدوار الرعاية وبين معوقات ثقافية واجتماعية تحول دون تحقيق أدوارها وتأكيد ذاتها مما يؤثر في مكتسابتها ومكانتها الاجتماعية"، إلا إنه يجادلها وغيرها في مقاربة جيلين من النساء قائلا: "بأن المقارنة بين المرحلتين تتناسي حقيقة اختلاف الفضاءين الاجتماعيين لبروز هذان الجيلان، فأمرأة الخمسينيات والسبعينيات كانت جزءاً من المد الحداثي الاجتماعي السياسي العام وإن تنافرت أطروحاته السياسية، في حين ان ما ساد بعدها اتسم بالمحافظة وسيادة الأطروحات الإسلاموية التي عطلت أدوار المرأة وحاصرت الثقافة رغم محاولات الحكومات الإفلات منها، ورغم ذلك فقد حقق جيل النساء المعاصر الكثير في اختراق سوق العمل وقدراً من الحرية الاجتماعية، ولكن نتيجة للرفاه الاقتصادي وجني ثمار نضال الجيل النسوي السابق في مجال التعليم والعمل، فإن الجيل الحالي لا يبدو إنه منشغلاً بالموضوع العام ولا فعالاً في منظمات المجتمع المدني، والدلالة أن المنظمات الأهلية النسوية الحالية حبيسة فلول الجيل السابق، والذي تأثر بعضها بالاتجاه الإسلاموي".

يرصد النجار الخطاب النسوي الاجتماعي لبعض عناصر الجيل المعاصر ويجد إنه لا يبدو مغايراً في بعض أطرحاوته  عن أصحاب الخطاب الليبرالي النسوي "الإسلاموي" من حيث قبول حق المرأة في التعليم والعمل، بيد إنه لايبدى اهتماماً كبيراً بإعطائها الحق السياسي ويضع شروط لمشاركتها السياسية كوضع الحجاب وما شابه. في هذا الشأن يمييز وضع البحرين نسبياً بسبب الظروف الاقتصادية وتأكيد المرأة لذاتها من خلال العمل أو للضرورة الاجتماعية، وبالنسبة للشأن السياسي فالموقف يحتل درجات أقل في سلم أولويات الجيل النسوي الجديد بدلالة نتائج دراسة محلية تؤشر بأن (83%) من المستجوبات الجامعيات لم يسمعن عن دعوة الانتخابات البلدية، ويستنتج بأن الجيل الجديد لا يبدو متعجلاً في المطالبة بحق المرأة السياسي ولا يراها مؤهلة لخوض التجربة السياسية وهذا يعود لطبيعة الخطاب الثقافي والسياسي الإسلاموي السائد في أوساطهن.

المرأة والسياسة واختراقات الحصن المنيع
ويلحظ إن التحوّلات التي خضعت لها المنطقة جاءت بتغيرات بنيوية مهمة انعكست ايجابياً على وضع المرأة الخليجية، فإرتفعت مشاركتها في سوق العمل من 5% في السبعينيات إلى 20% في التسعينيات إلى 27% في 2015، ويعزو هذا ارتفاع لانخراطها في التعليم، أما خروجها للعمل والحياة العامة فالقبول به كان متفاوتاً في المنطقة بين قبول اجتماعي وحساسية قبلية ودينية أقل، وقد وتميزت المرأة البحرينية باختراقها سوق العمل في قطاعات مختلفة وحتى بمستويات دنيا خصوصاً وإن قانون العيب الاجتماعي لم يلعب دوراً معطلاً، إضافة لما فرضته حتمية الضرورة والعوز الاقتصادي، أما في بقية أقطار الخليج فقد لعبت الموروثات الاجتماعية والاعتبارات القبلية والدينية بدفع المرأة نحو قطاعات محددة كالتعليم والصحة، وبالتأطير والانغلاق النسوي في سوق العمل الأمر الذي دفع لبروز ظاهرة فريدة اتسمت بثنائية وإزدواجية سوق العمل قادت نحو تضخم قطاعات التوظيف الرسمية بإقامة إدارة للنساء فقط: "..خلقت إمبراطورية نسوية مقابلة ومنافسة للإمبراطورية الرجالية خاضعة لتوجيه وإشراف الرجل كرمز للسلطة الاجتماعية، وقد ساعدت الموارد المالية بتشييد هذين العالمين المنفضلين".  

ويعرج إلى مرحلة الثمانينيات فيذكر بأننا شهدنا تراجعاً كبيراً في مشاركة المرأة في الحياة العامة والسياسية برغم النصوص الدستورية التي أعطت المرأة حقها السياسي، وإن اختراق النساء للمجالس المنتخبة لم يكن ممكناً دون قدر من الترتيب الرسمي والتهيؤ الثقافي، ومع ذلك فالتجربة لم تتسع في عموم المجتمعات والموقف ليس مع المرأة عامة، لم لا وطبيعة التركيبة الاجتماعية كما في الحالة الكويتية كانت عاملاً معطلاً لحق المرأة السياسي، وأن التجربة الانتخابية أثبتت في أقطار المنطقة أن إشراك المرأة في الانتخابات لم يضف وجهاً نسائياً على مجالسها ولم يعزز من مواقع القوى والجماعات غير المحافظة بقدر ما عزز الوجود المحافظ داخلها.


وبهذا انتهى في الفصل الأول إلى أن التحوّلات التي جاءت على المنطقة كالثورات العربية والحروب الأهلية ذات الأبعاد الطائفية والقبيلة، خلقت قدراً من الوعي أحياناً وتشويشاً في الوعي أحياناً أخرى عند قطاعات من المرأة في المنطقة، كما دفعتها نحو الانخراط في بعض هذه الحركات أو الوقوف ضدها، وهي كلها تمثلات لحالات من الوعي أو الوعي المضاد للحالة السياسية التي نحن فيها.

المرأة والسياسة: الممتنع والمحظور
يستهل الفصل الثاني بمناقشة ثلاثة تحديات تواجه النساء الخليجيات لجهة حقوقهن السياسية والاجتماعية؛ أولها تحدى المجتمع، الذي تمثله قوى اجتماعية وسياسية تختلف مواقفها بين القبول والرفض ولأسباب اجتماعية وسياسية، لكن الحاجة السياسية قد تدفعهم أحياناً إلى تقنين الرفض لمواجهة القوى الحداثية أو الدولة، كما إن رفض القوى "القبلية أو الريفية" ينطلق من منطلقات اجتماعية أو اجتماعية-دينية تلعب فيها منظومة القيم الاجتماعية وبعضها الآخر أقرب بأن تكون جزءاً طارئاً من الثقافة الدينية أكثر مما هو تعاليم دينية، وثمة ملاحظة له هنا بإن هذا الموقف خضع لتغيرات مهمة خلال العقود الأربعة؛ من رفض تعليم المرأة إلى القبول بإضفاء حالة من المحافظة عليه، كفصل الجنسين في مراحل التعليم أو بعضه، ومع الوقت وبفعل الحاجة تشكلت مرونة بقبول عمل المرأة في المطاعم والمحلات التجارية كما في البحرين والكويت وعمان.

وينتقل لمقاربة موقف القوى الاجتماعية الريفية في البحرين عنه في بلدان الخليج فيجد أنه ورغم اتسامها بالمحافظة ورغم غلبة المضامين الدينية على خطابها الاجتماعي، إلا إنها أحدثت نقلة نوعية مهمة في قبولها مشاركة المرأة السياسية، وهذا مغاير عن موقف القوى القبلية والدينية الكويتية والسعودية، التي أصدرت الكثير من القوانين المحدة للحريات الاجتماعية والسياسية في الكويت بفعل التحالف بين التضامنيات الاجتماعية والدينية، وإن الحالة البحرينية رغم تشابه القوى والتجمعات السياسية فيها مع الحالة الكويتية والحالات الخليجية الأخرى، فإنها وباختلاف مدارسها الدينية والفقهية كما طوائفها ومذاهبها، قد وقفت مع مبدأ إعطاء المرأة حقها السياسي من دون شروط فقهية، على نقيض طرح بعض رموز التيار الديني الكويتي في التعذر بأسباب اجتماعية كما طرح "الإخوان المسلمين".

ويضيف قائلا: "إن موقف القوى السياسية والدينية البحرينية المؤيدة إعطاء المرأة حقها السياسي لا يمثل رغبة رسمية في إعطاء المرأة حقها السياسي فحسب، بل يعبر عن حالة اجتماعية اتسمت على الدوام بمرونتها من مسألة الشراكة النسوية، فالدور والتضحيات التي قدمتها المرأة خلال تاريخها الحديث والمعاصر، بالإضافة لدورها المجتمعي العام لا يمكن تجاوزها بفتاوى، بيد إن القوى السياسية والإسلامية لم تستطع إيصال امرأة للمجالس المنتخبة منذ عام 2002، وهي بذلك تتساوى والمجتمعات الخليجية الأخرى في علو الصوت الذكوري وهيمنته على المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كما أن المجتمع النسوي المرتبط بقوى الإسلام السياسي الشيعي الذي أطاح بقانون الأحوال الشخصية في شقه الجعفري وذلك لشروط متشددة طرحتها بعض المرجعيات الشيعية، كذلك لم تتجاسر التيارات وقوى الإسلام السياسي السني كما الشيعي من دعم دخول أي من عضواتها قبة البرلمان، وأبقت على الرجال فقط ممثلين عنها دون النساء كواجهات سياسية مؤثرة. لهذا لا يمكن من وجهة نظرنا القول بقناعتهم بهذا الحق بقدر ما كان موقفهم محكوماً باتفاق مع الجانب الرسمي أو للاستفادة منها كصوت انتخابي خصوصاً وهي تمثل نصف عدد السكان تقريباً.

ومنه يصل إلى إن دخول المرأة عالم السياسة والعمل يمثلان "اختراقاً"، وعند البعض "انتهاكاً" لعالم الرجال، وحتى يقبل بهذا الاختراق هناك حاجة إلى تبرير ومخارج شرعية ليس بالنسبة للنساء أنفسهن بل للرجال، وهذا ما دفع عضو بمجلس الأمة لطرح شرط التحجب لقبول مشاركة المرأة السياسية، ما يعني جعل القبول يتم في إطار من الهيمنة، واستمرار الثقافة الذكورية للمجتمع وهيمنتها، وإخضاع مبدأ وحق المشاركة لاجتهادات وفتاوى يقبل في إطارها بعض النساء ويرفض البعض الآخر.

التحدى الثاني يتمثل في الدولة، إذ وبرغم السمة الليبرالية للنظام السياسي الخليجي العربي، فإن بعض رموزه في أو وزرائه، غير حداثي التوجه والرؤية، وبعضهم يمثلون قوى الإسلام السياسي أو التضامنيات القبلية التي ترى في إعطاء المرأة حقوقاً سياسية خروجاً عن العرف والتقليد ويعتبرونه نقضاً لتوجهات القوى والتضامنيات التي يمثلونها، كما إن بعضهم حداثي اللسان تقليديوا العقل والممارسة، ولهذا تردد النظام السعودي في منح المرأة حق قياد السيارة رغم قبول جل أعضاءه فالرفض كان انعكاساً لقوة المؤسسة الدينية، ويشير في السياق إلى خطوات البحرين المتسارعة منذ عام 2000 بمنح حقوق للمرأة؛ لكن هذه الخطوات المتقدمة برائنا مرهونة في جانب منها باعتبارات سياسية مع الخارج وولاءات وعلاقات قرآبية وتضامنيات حتى مع توفر عنصر الكفاء والإقتدار.

عند مناقشة التحدى الثالث يضع المرأة أمام نفسها وهي التي تطالب بالحقوق السيايسة؛ ويرى إنها ذاتها التي تتبنى الفكر المناقض لدعوات إنصاف حقوقها، وهذا لاعلاقة له بانخفاض التعليم خصوصاً وإن معظم الداعيات لهذا الفكر هن من النساء المتعلمات تعليماً متقدماً، بل يعود ذلك إلى تغييب وعي المرأة أو تزييفه ورضوخها لاستلاب عقائدي منبعه رؤى اجتماعية وثقافية وما وصفه "بالنزعات الاجتهادية الداعشية" التي تأخذ من الموروثات موقفاً رجعياً من حقوق المرأة؛ فجيل المعاصرات وبفعل سيادة الأفكار الماضوية في أوساطهن، لسن متعجلات في المطالبة بحق المرأة السياسي ولا يرون إنها مؤهلة لخوص التجربة السياسية، ومقولة الاكتفاء الاقتصادي قد تغني عند بعضهن عن المطالبة بالحق السياسي، كما إن البحبوبة الاقتصادية واختفاء أو ضعف التيارات النسوية ومنظماتها إضافة "للفتاوى الطالبانية" شكلت عوامل مؤثرة في هذا الموقف، ورغم ذلك فقد كسبت بعض النسوة جزءاً من الحرية الاجتماعية وإن بسقوف محددة بسياقات المجتمع والجماعة التضامنية، وهذا يعد نمط من أنماط جديدة لصراع النفوذ والهيمنة تتداخل فيها العوامل الجندرية والعناصر الثقافية والدينية الضاربة بجدورها في بنية المجتمع.

المرأة والاستهلاك
في الإطار التحليلي لثقافة الاستهلاك أو الاستهلاك كثقافة عمد المؤلف إلى بيان إنه لا يمكن النظر إليها خارج إطار السياقات التي تتشكل في إطار الثقافة أو مكوناتها العامة، وبرغم التصاقها بالاقتصاديات الرأسمالية الحديثة فإن وتيرة تصاعدها مرتبطة بصورة غير عادية بالتحوّلات الضخمة للنظام الاقتصادي العالمي، ورغم كونها أحد مؤشرات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي إلا إنها باتت تخترق المجتمعات المكتملة وغير المكتملة، ولا يمكن عزوها لأسس النوع الاجتماعي أو الإثني للسكان، بل إنها تصيب بنية المجتمع وأفراده وجماعاته وطبقاته كلاً بقدره، وإن تمثلها في هذه الفئات أو الجماعات إنما هو تمثل ظرفي وليس بنائي بمعنى إن اتجاهات المرأة والرجل وقييمها وممارساتهما هي نتاج الفضاء الثقافي والبناء الاقتصادي الذي هما جزء منه.

هناك من يقسم ثقافة الاستهلاك على أساس جنساني بين نوع اجتماعي يمثل القيادة الإنتاجية المتمثلة في الرجل المنتج لهذه الثقافة والمستهلك لها، وبين نوع اجتماعي متمثل في المرأة التي تمثل الخضوع والتبعية والاستهلاك لهذه الثقافة، وهذا تقسيم يتعارض والفهم الجديد في العلوم الاجتماعية الذي يرى في الاستهلاك عملية ذات فضاء اجتماعي واسع يشمل كل من المرأة والرجل بل وكل المجتمعات البشرية باختلافاتها الطبقية والإثنية. 

وفي دحض مقاربة بعض الدراسات الانطباعية التي تعتبر أن المرأة عنصراً استهلاكياً أكثر منها عنصراً إنتاجياً، يرى بإنها تتناسى حقيقة أن الاستهلاك سياق عام يؤثر في سلوك الأفراد وقيمهم وتوجهاتهم كل وفق موقعه الطبقي ومكانته الثقافية وحالته المدنية وربما النفسية، ما يعنى أن الثقافة الاستهلاكية ذات أبعاد طبقية ومعرفية ومدنية ولربما جنسانية، وربما بسبب حالة الوفرة وتنوع السوق الذي تعيشه النساء الخليجيات مقارنة بالعربيات جعل من دالة اقتناء السلعة لديهن ولدى الرجل مؤشراً عن حالة اجتماعية أكثر منها طبقية أو ثقافية وربما بسبب عدم تحمل المرأة في بعض الحالات قسطاً من الإنفاق الأسري، وبالتالي فإقتناء السلعة في مجتمعات الخليج ليس مؤشراً عن حالة طبقية معينة، فأصحاب الدخول المحدودة أو المنتمون للطبقة الوسطى قد يتجهون نحو الاقتراض للسفر والتشبه في مشترياتهم بالطبقات الأعلى، مضيفاً بأن الاستهلاك كنزعة وممارسة سلوكية يمثل جزء من سياق بات يشكل كياننا وممارساتنا، وثقافة الاستهلاك تمثل جزءاً من سلوك المجتمع، عند المرأة والرجل الفرد او الجماعة، الفقراء والأغنياء، كل بقدرته الاقتصادية وهو على ارتباط علائقي بمركب القوة. 

العباءة الخليجية رمزية "الأنثنة"
ويستحضر العباءة الخليجية والترويج لها كسلعة محلية تخضع لنفس الوسائط التي يروج بها المنتوج الغربي عبر قيم الثقافة الاستهلاكية والتي من خلالها يعاد إنتاج قيم المحافظة عبر الآليات والوسائط والتعبيرات والرموز اللفظية التي توظف في بيع العباءات والملابس النسائية الخليجية، فهي لا تختلف ضمنياً عن وسائط ترويج السلع الغربية، بل إن الرمزية الدينية توظف لتعطي بعداً جديداً وقوياً في الترويج يرفع معدلات الاستهلاك،  وهي لا تختلف عن محلات بيع الثوب والغترة العربية غير أن العباءات توظف لمفهموم الستر والعفة في حين يوظف مفهوم الرجولة للشموخ والأصالة في الثوب. وفي الوقت الذي يشتد فيه النقد على توظيف جسد المرأة في الدعاية الغربية، فإن محلات بيع العباءات ليست بريئة في إعلاناتها التجارية وتوظيف النساء في منتوجاتها "حياكة التصاميم ومواقع طبع الرسومات اللافتة في جسد المرأة واللاقطة لعين الرجل في العباءات وبشكل مثير مثل "ظاهرة العباءات البدي، البراقع" كانت رمزاً للمحافظة والعزل، باتت توظيف تجارياً ودعائياً في صورة العين المكحلة ولتكون أكثر جذباً لعيون الرجال من عيون الوجه المكشوف.

إذن لم تعد هذه الملابس تعبيراً عن الماضي أو حالة "التخلف" أو حتى مضامينها، إنما باتت بفعل آليات السوق تزيد المرأة حسناً وإثارة. وتوظف الرمزيات التقليدية والماديات المابعد حداثية في إعطائها بعداً جمالياً مثيراً، لا يختلف في وظيفته الأساسية عما يسميه البعض "الألبسة الفاضحة" القادمة إلينا من الغرب. بمعنى أن العباءة لم تعد وظيفتها الأساسية للستر والعزل، إنما أصبحت بفعل هذه القوى والآليات تعبيراً عن الذات والمكانة الاجتماعية والتمايز الثقافي من ناحية، بالإضافة إلى كونها رمزية مهمة في رسم التمايز الطبقي بين الفئات والجماعات المختلفة. وبالتالي فالثقافة الاستهلاكية ليس من مصلحتها انهيار الضوابط إنما تميل نحو التعامل المرن الذي يتسع للضوابط وكسرها في آن معاً.  

المول وكسر العزلة
يرصد أسواق المول المعاصرة ويقارنها بأسواق الخليج السابقة التي كانت تقوم على التشابه "سوق الحريم، سوق الأقمشة، الخياطة..إلخ"، فالمول يجمع كل شئ ويمثل حالة من التنوع المجتمعي ومفارقات الحياة المعاصرة، وهو يمثل شئياً أكبر من أهميته المالية (أو التجارية)، المول فضاء يختلط فيه التبضع مع متعة المشاهدة والترفيه، وهو لجميع فئات المجتمع حيث سقط فيه الحرج الاجتماعي المحد لتواصل الجنسين، يتحول مجالاً للفرجة الاجتماعية وتُكسر فيه قيم العزل الاجتماعي والستر التي بنى عليها نسق العزل الاجتماعي بين الجنسين. ولأنه فضاء عاماً، فالنساء تتبطع فيه من كل الطبقات الاجتماعية أو "التسلوية" دون "حظر" اجتماعي أو مرافق من الذكور، أو ملاحقة من العيون، ولهذا فالمولات شكلت نقلة مهمة في حياتهن، كونها تعني الانتقال من الخاص (البيت) إلى العام (المول)، فإذا ما كان البيت يعني ضبطاً للسلوك فإن "المول" يعني كسراً لهذه الضوابط، يعني التمكين والحرية، وتنقسم هذه المجمعات إلى مراتب.

فضاء الرياضة الذكوري المخترق
يستعرض المؤلف كيف نزعت الذكورية عن فضاء الرياضة وكيف تم إنزال الرياضة من طبيعتها الإرستقراطية النخبوية، إلى نشاط تشارك في ممارسته العامة و"تتكالب" على استهلاكه، وكيف تداخلت فيه الأنشطة الاستثمارية الأخرى كصناعة السفر والسياحة والإعلان والتلفزة وغيرها، كما باتت تؤدي وظائف سياسية مهمة على صعيد الدول، خصوصا وقد دفعت ظروف التحوّل الاقتصادي عالمياً نحو بناء مؤسسات أو نسق أو نظام قائم بذاته خاص بها حتى باتت أسهمها تتداول في البورصات العالمية وزاد اهتمام نساء الخليج بممارسة الرياضة وارتداء آخر مبتكرات الملابس الرياضية وارتياد أندية التريض، الأمر الذي أدى لإرتفاع الطلب الاجتماعي عليها فتحولت ممارسة الرياضة لنمط استهلاكي مجتمعي لكل الفئات والمراتب، وحالة الولع بالرياضة تضخم استهلاك منتجاتها فلم تعد نشاطاً مقتصراً على الرجال فحسب، بل شملت النساء، وأن معطيات الحياة الجديدة وتعقدها خلقت طلباً اجتماعياً جديداً ومتصاعداً على الرياضة، وكسرت من نواح أخرى "تابوهاتها" عن الطبقات الشعبية الأخرى والنساء.

رمضان وحشر مع الناس عيد
اعتبر المؤلف أن حمى الشراء في رمضان تنتاب كل فئات وطبقات وجماعات المجتمع ويتساوى فيها النساء مع الرجال، وهي حالة تغذي نهم الشراء والصرف عند الغالبية، فالحديث اليومي بين النساء والرجال عن الاستعداد لهذه المناسبة تُشرك بصورة لا إرادية أو لاشعورية من يرغب أو لا يرغب في فعل الشراء، إنها كحمى الإنفلونزا، وجزء من الحمى الاستهلاكية التي يتجسد فيها نشاط المرأة الشرائي فتستعد للمناسبة بقوائم مشتريات كبيرة، وهذا سلوك لا يخص الشاري وحده -أي المرأة- إنما يخص الإطار الأسري المباشر، بمعنى آخر: تمثل المرأة في بعض المناسبات الدينية ومواسم الأعياد العنصر الرئيسي في قرار الشراء، بل إنها المحدد الأول فيما يُشترى، لربما انطلاقاً من حقيقة أن البيت يمثل "مملكة المرأة" أو أن المطبخ بما فيه يمثل مملكتها! لكن المناسبة ومتطلبات مواجهتها تضخم حاجات ومتطلبات الأفراد التي في بعضها واقعية وبعضها الآخر وهمية، وتواجه الفئات الأقل دخلاً سيل من القروض المؤقتة أو السلفيات للاستعداد لها.

ختاماً، يبقى الكتاب بمجمله مرجعاً مهماً جدير بالقراءة والإطلاع النقدي ومقاربة ما جاء به من أفكار وتحليلات بتجارب ونضالات الحركات النسائية الخليجية في مسار تطورها وفي قوتها وضعفها الذي يمثل أحد أوجه التحولات التي تمر بها المجتمعات الخليجية.   









في الأصل قراءة نقدية قدمت بمقر جمعية أوال النسائية وبدعوة من اللجنة الثقافية التابعة لها وذلك في يوم الأحد الموافق 7 أكتوبر 2018.  ·

السبت، 15 سبتمبر 2018

هل ابتلعك الغول؟


منى عباس فضل

قبل أن تخلد للنوم، تريث وتنفس بعمق، تأمل واغرق في أعماق ذاتك، استحضر ما تشاء من صندوق الذكريات، حرك عقلك يميناً وشمالاً، وأسال نفسك؛ هل ابتلعني الغول؟

لو كنت حائرا في الإجابة، كرر على نفسك السؤال مرات ومرات، فإن غمز لك قلبك وأومأ إليك عقلك "بلا"؛ فاعلم أنك في سلام واطمئنان، ونم قرير العين واستعد لمقاومة حيل الغول في اليوم التالي.

الغول لا يتوقف عن محاولات الابتلاع، لن يهدأ له بال إلا بابتلاعك مع نسمة هوائك وموسيقاك وكلمتك وتعبيرك، قلمك ودفترك، عقلك وإيمانك ونظرتك للحياة، مبادؤك ونومك وصحوك وكل ما يخطر لك على بال هو في مرمى أهداف الغول، فكل الأشياء عنده معروضة للشراء، من ذممكم وتاريخكم وأصواتكم وأحلامكم وأقدامكم.

كثيرون من اهتزت أسوارهم وابتلع الغول أحلامهم فطوتهم صفحات النسيان، بعضهم هاجروا من طغيان البشاعة واللعنات فرحلوا إلى أعماقهم وانزووا في أركانها واستكانوا مع سكون الموت محمَّلين بأثقال اليأس والقهر والاحباط.

كثيرون تأهوا بين دروب النفاق والاستزلام فطوتهم الدهاليز المظلمة وتشكلوا مع العطايا والغنائم حتى انتفخت كروشهم وتوسعت أركانهم فلم تعد تتبين وجوهم من قاع أقدامهم.

في الأساطير قيل أن الغول يصنع الخوف يهيؤك للموت البطئ قبل أن يغرزك في الرمال وانت تشق الطريق.

قيل؛ للغول حكاياته التي يجبرك على تصديقها، فهو يعشعش في الدواخل ويستقوي بالضعف مصطنعاً المخاطر يجبر الجميع على الرضا بما هم عليه وأن يتبعوه في كل شاردة وواردة، أن يتمسكوا بثوبه كطفل تائه لا حول له ولا قوة، إذ لا خيار أمامهم غيره هو، وحده هو الذي تغلغل في الجزئيات والأنفاس بالتخويف والتخوين والتهديد والوعيد والتشتيت، اسال نفسك؛ وكرر السؤال قبل أن تخلد إلى النوم كل مساء:

-         هل ابتلعني الغول؟


المنامة – 15 سبتمبر 2018



السبت، 25 أغسطس 2018

مزوري الشهادات سرقونا مثل المجرمين

منى عباس فضل
 قبل ثلاثة أعوام وفي إطار حملته الأوسع لمكافحة الفساد أمر رئيس تنزانيا بفصل أكثر من (9900) موظف مدني بعد اكتشاف وجود آلاف منهم بشهادات مزورة، لم يكتف بذلك بل أقال مسؤولين بارزين من مناصبهم، وفي السياق تبين وجود أكثر من (19,700) موظف وهميين يتقاضون رواتب من القطاع العام وقال: "في حين نعمل بدأب لخلق فرص عمل جديدة، هناك من يعملون في الحكومة بدرجات علمية مزورة، الحكومة بهذا تخسر ما قيمته "107 ملايين دولار" سنوياً في دفع رواتب لموظفين وهميين أقيلوا الآن من القطاع العام، وأمر المسؤولين بإعلان أسمائهم وفضحهم لأنهم تقدموا بأوراق مزورة..؛ مضيفاً:  

-   هؤلاء الناس شغلوا مواقع حكومية دون مؤهلات كافية... لقد سرقونا مثل المجرمين.

في 2011 قدم وزير الدفاع الألماني "كارل تيودور تسو جوتنبرغ" استقالته من منصبه وهو الأكثر شهرة حيث كان مرشحاً محتملاً لمنصب المستشار الألماني، لماذا؟ بسبب "فضيحة" أكاديمية كشفها أكثر من 200 أستاذ جامعي طالبوا الوزير بالاستقالة منتقدين دعم ميركل له، أما جامعة بايروث التي منحته الدكتوراة أقرت بأنه "انتهك المتطلبات العلمية إلى درجة كبيرة". هل من حكمة في سرد الحكايات أعلاه؟

-   نعم وخصوصاً للجادين في مكافحة التزوير وبناء منظومة إجراءات رادعة لهذه الجريمة.




مافيا التزوير
في مصر تشير صحافتهم إلى أن جامعاتهم منكبّة في مواجهة الشهادات العلمية المزورة، ويقول عميد كلية الحقوق بجامعة القاهرة، إن الأمر تم رصده بكثافة فيما يشبه المافيا، وطبقا للقانون تعتبر هذه الشهادات تزويراً فى محررات رسمية، وعقوبتها قد تصل للأشغال الشاقة المؤقتة، مضيفاً؛ إن الجامعة اتخذت إجراءاتها الاحترازية، واتفقت مع إحدى الجهات السيادية "القوات المسلحة" على استصدار شهادات التخرج مع بداية العام الدراسى، أما جامعة عين شمس فاستعانت بخبرات أجنبية لمحاربة التزوير ومنعه من خلال استيراد أوراق "نماذج الشهادات" من اليابان تتميز بعدم قابليتها للطى والتلف، وهي خطوة تبعاً لهم جيدة وناجحة لمحاربة مافيا التزوير، فيما تكشف تقارير أخرى شن وزارة الداخلية حملات أمنية على مراكز علمية وهمية، تقوم بإصدار شهادات مزورة وتم تشميعها وتحرير محاضر ضد أصحابها بتهمة النصب والاحتيال، وألقي القبض على عاملين بالجهاز الإدارى للدولة بتهمة التزوير لاسيما أحدهم الذي اشتهر بتزوير"11" شهادة دكتوراه. هل هذا يكفي لمكافحة مافيا التزوير؟

غش وتدليس
كتب مواطن سوداني مقالة له بحرقة قلب كاشفاً من خلالها عن عقود أبرمت لعراقيين يحملون تخصصات يحملها عشرات السودانيين العاطلين عن العمل، وأن فضائح التزوير في الألقاب العلمية مرتبطة بوزارة التعليم العالي وكليات التعليم التقني والبحث العلمي وإنه وحسب المستندات التي فحصها وتأكد منها؛ هذه الهيئة تغوص في بركة من الفساد وتساءل عمّن يراجع الأوراق ويحقق في العقود والألقاب التي توزع على كل من هب ودب علينا من أية دولة عربية شقيقة أو أخرى؟ وساق مثالاً عن تعيين دكتور عراقي بقرار وزاري عميداً لكلية الجريف شرق التقنية وهو المتخصص في الاحصاء -أي في مجال يحمله عدد كبير من المواطنين- ورغم ذلك تم التعاقد معه بعقد دولاري كبير دون تمرير العقد للمستشار القانوني لوزارة التعليم العالي إنما عبر وزارة الزراعة، الغريب أن الرجل لا يحمل إلا درجة الماجستير وقت توقيع العقد معه على إنه "دكتور" وتبين أن شهاداته غير موثقة من الخارجية العراقية مما يعد مخالفة للائحة الخدمة المدنية، وتتابع فصول الفضيحة حسب وصفه باختيار هذا العميد نائباً له من نفس جنسيته بزعم أنه دكتور ورئيس لقسم علمي ويوقع معه عقداً بنفس الطريقة عام 2007 فيما حصل على الدكتوارة في 2010 من جامعة النيلين، وفي هذا تلاعب فاضح. وأضاف: "تحدث تلك التزويرات الخطيرة والألقاب الوهمية في مؤسسات تعليم عال يرسل أهلنا المواطنون أبناءهم فيها ليتعلموا وينالوا الدرجات العلمية، فهل ينجح صاحب الدرجات الوهمية في تخريج طلاب يحملون درجات علمية حقيقية؟ وأي فساد هذا الذي يحدث في مؤسسات التعليم وأي استهتار؟ وكيف ستكون المعالجة؟    

ويختتم: "سادتي ولاة الأمر في بلادنا هل تقرون بتوزيع الألقاب على الناس مثل توزيع مطبقات الاعلانات في شارات المرور، ولو كانت الدرجة العلمية تؤخذ هكذا مثلما يأخذ أحدهم احتياجاته من أرفف السوبر ماركت؟ وأين وزراة العدل وديوان شئون الخدمة ووزارة العمل"؟!! أنتم أخوة أشقاء نعم؛ ولكن بلادنا ليست سايبة؛ بلادنا مليئة بالعلماء الحقيقيين وحملة أرفع وأكبر الدرجات العلمية ياهؤلاء، أما تهاون وزارة التعليم العالي وما يسمى بهيئة التعليم التقني فإن إقالة هؤلاء بالجملة لن تكفي لإصلاح هذا الكسر العميق في ساق الأمانة العلمية". 


التزوير جناية
في دولة الإمارات تشهد المحاكم قضايا كثيرة سنوياً حول تزوير الشهادات، وهي تعتبر قضايا "جناية" يحاكم فيها المتهم ويعاقب فيها المزورون بالسجن مدة لا تزيد عن عشر سنوات، كما يعاقب بالسجن كل من زور صورة محرر رسمي وتم استعمال تلك الصورة مدة لا تزيد على خمس سنوات، وفي أبوظبي وحدها كشفت النيابة العامة عن إحالة "100" قضية بتهمة تزوير محررات رسمية خلال 2014 تمثلت فيها الشهادات الدراسية المزورة نسبة "40%"، أما وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فكشفت عن ضبط "33" شهادة مزورة خلال الأعوام من 2011-2013.

في الكويت التي اهتزت مؤخراً بفضيحة بيع "200" شهادة جامعية مصرية مزورة مقابل 4 آلاف دينار عن كل شهادة. انكشفت خيوط الجريمة باعتراف حامل شهادة مزورة في الحقوق بحصوله عليها دون دراسة وبالتعاون مع وافد مصري يعمل في وزارة "التعليم العالي". إثرها تصاعدت دعوات نواب بمجلس الأمة تطالب بسرعة محاسبة المسؤولين والمتورطين، واقترحوا سن قانون للحبس والغرامة والعزل للمتورطين، وطالبوا الحكومة بفضح المتنفذين الواقفين بوجه تحركات وزير التربية والتعليم المنطلقة من مسؤوليته الدستورية والقانونية للقيام بواجب إحالة المتورطين للنيابة، خصوصاً وقد تبين أن بعض من رفض اعتماد شهادات إحدى الجامعات غير المعترف فيها، قد تعرضوا للضغط والتهديد وتم دفعهم للتخلي عن مناصبهم، وأضاف أحد النواب: "عندما تكون الحكومة ضعيفة ولا يتم محاسبة الفاسد، طبيعي سينتشر الفساد وكذلك التزوير سواء في الشهادات أو المعاملات (من أمرك.. قال من نهاني)، متسائلا هل سيتم ملاحقة ومحاسبة أصحاب الشهادات المزورة" أم فقط الوافد؟! "ورونا مراجلكم يا حكومة".

رسمياً الحكومة الكويتية لم تدفن رأسها كالنعامة، لم تلوذ بالصمت وتجاهل الأصوات المحتجة، بل صرحت على لسان أحد مسؤوليها، إن جهود كافة الجهات في مكافحة الشهادات المزورة، تحظى بدعم كامل من رئاسة الوزراء وبأن إحالة الملف إلى النيابة العامة هو استكمال للإحالات السابقة، واستكمال للخطوات التي اتخذتها الأجهزة الحكومية في مواجهة التزوير ومكافحة الفساد، لم لا وقد بينت التحقيقات أن هناك ما لا يقل عن (100) مواطن حصلوا على شهادات مزورة في "الحقوق" من ضمنهم من يتقلد مناصب قيادية ومحامون، والأنباء تتوارد عن استدعاء المباحث لهؤلاء للتحقيق معهم وتم إحالة 20 ملفًا للنيابة بانتظار إحالة 30 ملفًا آخرين.


                      
أما هنا وإذ تتشابه حكايات تزوير الشهادات والجامعات الوهمية بما سبقها؛ وهي آخذة بالتفاقم والتداعي مع غياب الشفافية والتحقيق والمحاسبة واستمرار إنشغال الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي بمن تورط فيها من مواطنين أو أجانب ممن يشغل بعضهم وظائف قيادية، يبدو أن القضية الكارثة دخلت كغيرها دائرة التمييع، ويبدو أن الجهات المعنية بها والتي تستجلب الوافدين والأجانب لمهنة التعليم ومنهم من زور مؤهلاته وشهاداته؛ وكأن البلد خلت من الآف المعلمين المواطنين المؤهلين العاطلين، يبدو إنها في سبات عميق وكأن الأمر لا يعنيها، الأسوأ منه تحوير دفة معالجة تزوير الشهادات والجامعات الوهمية والفساد في التعينات الوظيفية المستندة على التزوير باتهامات الخيانة والعمالة؛ صحيح هذه الظاهرة لا وطن لها، لكن الصحيح أيضا إنها قابعة كالفيل في ركن الغرفة، يعني "تطز العين".

المنامة – 25 أغسطس 2018
منى عباس فضل


الأحد، 12 أغسطس 2018

صدمة ورعب أم تضليل وجريمة؟

منى عباس فضل
مع قرع طبول الحرب الحالية في المنطقة بالتحشيد والتحريض ومع بدء حروب الولايات المتحدة التجارية الاستباقية، وبعد مضي خمسة عشر عاماً على الكارثة التاريخية التي ارتكبتها باجتياح العراق وتدميره تدميراً ممنهجاً لم تنتهِ تداعياته الأمنية والسياسية والاجتماعية حتى اللحظة، يعرض بالتزامن على شاشات السينما فيلم "صدمة ورعب Shock and Awe" للمخرج "روب راينر"، فهل من مغزى لذلك؟  

بالطبع، فحكاية الفيلم في خطوطه الزمنية تستند إلى أحداث ووقائع حقيقية تجعله أقرب للدراما الوثائقية، الفيلم يختصر رسالته من خلال رفع الغطاء عن "أعظم خطأ استراتيجي في التاريخ الأمريكي، وأكثر الأحداث المشينة في تاريخ الصحافة الأمريكية" تماما كما يصفها جنرال سابق. هي حقاً أكبر كذبة عاشتها شعوب العالم عامة والشعب الأمريكي خاصة، نقصد كذبة "امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل" التي أطلقت المبرر الأمريكي لتدميره. 

أحداث الفيلم استقرت بعناية على مرتكزين رئيسيين لهما علاقة بالشعب الأمريكي؛ أولهما مستوى الكذب في قوته اللحظية التي حفزت الشعور القومي ودفعت بشباب اليانكي للمشاركة في مستنقات القتل والاحتلال والتدمير ليعاد بهم للوطن الأم، إمّا في نعوش ملفوفة بعلم أو على كراسٍ متحركة وبأطراف مقطعة وعاهات مستديمة، وثانيهما عبر الـ"فلاش باك" بفضح الإعلام المخادع ودوره المتواطئ مع المؤسسات التي تحكمه في ترويج الكذبة، إلى جانب أصابع الدولة العميقة في السيطرة على الرأي العام لتبرير الحروب الهمجية المدمرة.


 اللافت أن الفيلم لا يعالج تداعيات ما حدث في الضفة المقابلة؛ نقصد بها كارثة الحرب التي جلبت الخراب والدمار الشامل للعراق بتدمير دولته وبناها التحتيه وانهيار الجيش وتفتيت المجتمع إلى هويات طائفية وإثنية وإذكاء صراعاتها العبثية، الحرب الذي راح ضحيتها نحو نصف مليون عراقي وملايين المشردين، وتفشّى بسببها الفساد وسرقة النفط والآثار وانهيار الاقتصاد وتدمير قدرة العراق التنموية وصناعاته الثقيلة والتحويلية والعودة به لعصور التخلف وإدخاله في حالة فوضى لانهاية لها، الغزو لم يجلب الديمقراطية على دباباته وطائراته إنما فكّك الدولة ومؤسساتها واستبدلها بدولة غير منتجة وفاسدة، ومع ذلك فما يعالجه الفيلم يشكل جانباً لفضيحة من الوزن الثقيل إذا ما أمعنّا النظر لما يجري حولنا من تحريض وتحشيد لاستئناف الحروب الجديدة التي ستأكل الأخضر واليابس.   


الكذبة الكارثة
يفتتح الفيلم بمشهد درامي في قاعة المحكمة لجندي أسود يجلس على كرسي متحرك يدعى "لوقا تيني" حضر ليدلي بشهادته أمام لجنة من الكونغرس حول كيف انقطع حبله الشوكي في انفجار بعد ساعات من هبوطه في العراق وليقدم قائمة طويلة من عدد ضحايا الغزو، ويمرر اعتذار رئيس المحكمة الذي طلب منه بصرامة الوقوف للأداء "بقسم الشهاده" لكنه يمكث في كرسيه للبدء بقراءة ما كتبه من بيان ثم يتوقف فجأة ليواصل الحديث ارتجالياً؛ بعدها ينتقل بنا المخرج إلى مشهد عن ضربات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وانهيار البرجين التوأمين ومبنى البنتاغون وتصاعد الدخان والنار وردود أفعال المؤسسات الإخبارية ومحاولة مراسليها تغطية الحدث وفهم الكارثة وانحياز الإعلام الأمريكي بوسائله من صحافة وخلافه إلى موقف إدارة "جورج بوش"، إذ اعتبروا تشخيص الأخير واتهاماته لمن ارتكب الجريمة أمراً مسلماً به وغير قابل للتشكيك والمساءلة، وأن هذا التسليم مرّر الكذبة المصطنعة التي برّرت الانقضاض على افغانستان وغزوه انتقاماً، لتأتي التقارير تباعاً بأن الجناة الفعليين "بن لادن وأتباعه" أحياء يختبئون في مكان ما بين أفغانستان وباكستان، ما يعني فشل محاولة القبض عليهم.

في اللحظة ذاتها يكشف الفيلم عن أجندة خفيّة لإدارة بوش وكيف أنه وعلى نحو متزايد يبدأ التخطيط لغزو العراق، يتبين ذلك من خلال تحقيقات المراسلين التي أشارت إلى دخول رجال أمن إسرائيليين إلى بنايات "وزارة الدفاع" ومقر "سي آي آيه" دون تأشيرة رسمية -أي سرياً- لتنفيذ العملية ودور أحمد الجلبي، ولأن الشعب الأمريكي كما يفيد المخرج في مقابلة له، مفجوع من أحداث سبتمبر فقد تحولت مشاعره وعقله باتجاه حب الوطن وعدم مخالفة الحكومة، فلم يعد يكترث بالمساءلة كيف ولماذا؟  

إعلام متواطئ  
أحداث الفيلم تتمحور حول أربعة صحافيين يعملون في شبكة "نايت رايدرKnight Ridder " المعروفين بتشكيكهم في رواية إدارة بوش للحرب، فهم لم يصدقوا الادّعاء بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، فراحوا يحفرون وينقّبون لتجميع الأدلة بشأن عملية الاحتيال لشن الحرب على العراق، تعرضوا لصعوبات، أخفقوا أحياناً لكنهم في نهاية المطاف نجحوا بفضولهم المهني وبمقارنة الملاحظات مع بعضها البعض وبما توصلوا إليه عبر شهادات موظفين من الـ"سي آي آيه، وزارة الدفاع" الذين كانوا حذرين وتجنبوا ذكر أسمائهم، فكشفت شهاداتهم حقيقة الكذبة، في رحلة التقصّي والإصرار كشفوا عن أن "دونالد رامسفيلد يكذب"؛ واجهوا الرفض والعداء من الحكومة والوسط الإعلامي ومن العامة واتهموا بخيانة الوطن، نالوا التوبيخ والتحقير ونصحهم البعض بمشاهدة ما تبثه وسائل الإعلام الأخرى كـ"سي أن إن ونيويورك تايمز وواشنطن بوست" وغيرها ممن يؤكدون على رواية الحكومة التي صنّفت العراق بدولة مارقة تهدّد السلم والأمن العالمي وتحذر من اعتداءات صدام على الولايات المتحدة بسلاح الدمار الشامل.

في الأثناء يحاول المخرج الذي يلعب دور رئيس تحرير "نايت رايدر" رسم خطِ فاصلِ بين نوعين من الإعلام، ذاك الذي يلوي الحقائق ويتلاعب بها ويكذب ويشوه لأغراض ومصالح ما، وآخر يتعامل بمهنية ونزاهة تحترم عقول الناس، يبرز ذلك في مشهد "راينر" وهو يذكر موظفيه "بأن وظيفتهم ليست طباعة ما تقوله الحكومة كما تفعل وسائل الإعلام الأخرى، بل إن وظيفتهم تكمن في السؤال: هل ما تقوله الحكومة صحيح؟ ذلك لأن قُرّاءهم ليسوا أولئك اللذين يبعثون أبناء الناس للحرب، بل هم من الناس اللذين يُبعث بأبنائهم للحرب".


إعلام فاشل
في مقابلة له مع الإعلامي حسام عاصي يوضح "راينر": "أعتقد أن الغالبية العظمى من الإعلاميين الأمريكيين نسوا مهمتهم، وهذا ما جعل الشعب لا يثق بإعلامه واندفع باتجاه المواقع الإلكترونية الخارجية بحثاً عن الحقيقة التي لا تتحيز لجهة دون أخرى وتركّز على تقديم الأخبار كما هي دون زخرفتها بطابع وطني أو فكرة مسبقة لا تستند إلى الحقائق"، معترفاً بأن الإعلام الأمريكي فشل في كشف الحقيقة، فهو يضلل الشعب فاقداً للمصداقية لكونه يروج لأجندات الشركات الضخمة التي تمتلكه وليس للمبادئ أو الحقيقة، إنهم يلجئون إلى الكذب لتبرير خوض الحروب البشعة تماما كما فعلوا عند تبرير حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي التي أسفرت عن قتل الآلاف من الشباب وحطمت الاقتصاد الأميركي". ومع تنقل الكاميرا وبحركتها الدؤوبة استمرت وسائل الإعلام في إصدار التقارير الملفقة عن أدلة أسلحة الدمار الشامل، وتجاهلت تقارير "نايت رايدر" ورُفض نشرها لأنها كما قيل لا تتماشي وتقارير نيويورك تايمز وواشنطن بوست اللتين جمعتا أكاذيب "جورج بوش وديك تشيني وكولين باول وكونداليزا رايس ودونالد رامسفيلد" وأسست عليها قضية أسلحة الدمار الشامل لصدام فصرفت أنظار السياسيين والمحللين عما وراء خطة الحرب بــ"الصدمة والرعب". 


في المحصلة؛ الصدمة والرعب كان باستعراض القوة وبهما استخدمت ترسانة الآلة العسكرية والتكنولوجية الذكية فائقة القدرة التدميرية، بالصدمة والرعب كان الحشد غير مسبوق، فالغاية كما تشير النظرية هي إرباك العدو وتشتت قدراته وتحقيق نصراً نهائياً عليه باستخدام القوة المفرطة والساحقة للسيطرة السريعة على ميدان المعركة وإيقاع أكبر عدد من الضحايا المدنيين وتدمير البنى التحتية وتعطيل وسائل الاتصالات والمواصلات والإمدادات الغذائية وإنتاج المياه وغيرها، السيطرة على العدو تعني شلّ رؤيته في الميدان والقضاء على إرادته الإنسانية والقتالية وأن لا يجد من الخيارات أمامه سوى التسليم بما يُملَى عليه. إلى هنا لا تعليق على ما حدث من جريمة، وما ننتظره من جرائم في قادم الأيام، لاسيما و"43%" من الشعب الأميركي لا يزال على يقين بأن غزو العراق كان قراراً صائباً.

المنامة – 12 أغسطس 2018
منى عباس فضل