منى عباس فضل
مع قرع طبول الحرب الحالية في المنطقة
بالتحشيد والتحريض ومع بدء حروب الولايات المتحدة التجارية الاستباقية، وبعد مضي
خمسة عشر عاماً على الكارثة التاريخية التي ارتكبتها باجتياح العراق وتدميره تدميراً
ممنهجاً لم تنتهِ تداعياته الأمنية والسياسية والاجتماعية حتى اللحظة، يعرض
بالتزامن على شاشات السينما فيلم "صدمة ورعب Shock and Awe" للمخرج "روب راينر"، فهل من مغزى
لذلك؟
بالطبع، فحكاية الفيلم في خطوطه الزمنية تستند إلى
أحداث ووقائع حقيقية تجعله أقرب للدراما الوثائقية، الفيلم يختصر رسالته من خلال
رفع الغطاء عن "أعظم خطأ استراتيجي في التاريخ الأمريكي، وأكثر الأحداث
المشينة في تاريخ الصحافة الأمريكية" تماما كما يصفها جنرال سابق. هي حقاً
أكبر كذبة عاشتها شعوب العالم عامة والشعب الأمريكي خاصة، نقصد كذبة "امتلاك
العراق لأسلحة الدمار الشامل" التي أطلقت المبرر الأمريكي لتدميره.
أحداث الفيلم استقرت بعناية على مرتكزين
رئيسيين لهما علاقة بالشعب الأمريكي؛ أولهما مستوى الكذب في قوته اللحظية التي
حفزت الشعور القومي ودفعت بشباب اليانكي للمشاركة في مستنقات القتل والاحتلال
والتدمير ليعاد بهم للوطن الأم، إمّا في نعوش ملفوفة بعلم أو على كراسٍ متحركة
وبأطراف مقطعة وعاهات مستديمة، وثانيهما عبر الـ"فلاش باك" بفضح الإعلام
المخادع ودوره المتواطئ مع المؤسسات التي تحكمه في ترويج الكذبة، إلى جانب أصابع
الدولة العميقة في السيطرة على الرأي العام لتبرير الحروب الهمجية المدمرة.
الكذبة الكارثة
يفتتح الفيلم بمشهد درامي في قاعة المحكمة
لجندي أسود يجلس على كرسي متحرك يدعى "لوقا تيني" حضر ليدلي بشهادته
أمام لجنة من الكونغرس حول كيف انقطع حبله الشوكي في انفجار بعد ساعات من هبوطه في
العراق وليقدم قائمة طويلة من عدد ضحايا الغزو، ويمرر اعتذار رئيس المحكمة الذي
طلب منه بصرامة الوقوف للأداء "بقسم الشهاده" لكنه يمكث في كرسيه للبدء
بقراءة ما كتبه من بيان ثم يتوقف فجأة ليواصل الحديث ارتجالياً؛ بعدها ينتقل بنا
المخرج إلى مشهد عن ضربات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وانهيار البرجين
التوأمين ومبنى البنتاغون وتصاعد الدخان والنار وردود أفعال المؤسسات الإخبارية ومحاولة
مراسليها تغطية الحدث وفهم الكارثة وانحياز الإعلام الأمريكي بوسائله من صحافة
وخلافه إلى موقف إدارة "جورج بوش"، إذ اعتبروا تشخيص الأخير واتهاماته
لمن ارتكب الجريمة أمراً مسلماً به وغير قابل للتشكيك والمساءلة، وأن هذا التسليم
مرّر الكذبة المصطنعة التي برّرت الانقضاض على افغانستان وغزوه انتقاماً، لتأتي
التقارير تباعاً بأن الجناة الفعليين "بن لادن وأتباعه" أحياء يختبئون في مكان ما بين أفغانستان وباكستان، ما يعني فشل محاولة القبض
عليهم.
في اللحظة ذاتها يكشف الفيلم عن أجندة خفيّة
لإدارة بوش وكيف أنه وعلى نحو متزايد يبدأ التخطيط لغزو العراق، يتبين ذلك من خلال
تحقيقات المراسلين التي أشارت إلى دخول
رجال أمن إسرائيليين إلى بنايات "وزارة الدفاع" ومقر "سي آي
آيه" دون تأشيرة رسمية -أي سرياً- لتنفيذ العملية ودور أحمد الجلبي، ولأن
الشعب الأمريكي كما يفيد المخرج في مقابلة له، مفجوع من أحداث سبتمبر فقد تحولت
مشاعره وعقله باتجاه حب الوطن وعدم مخالفة الحكومة، فلم يعد يكترث بالمساءلة كيف
ولماذا؟
إعلام متواطئ
أحداث الفيلم تتمحور حول أربعة صحافيين
يعملون في شبكة "نايت رايدرKnight
Ridder " المعروفين بتشكيكهم في رواية إدارة بوش للحرب، فهم لم
يصدقوا الادّعاء بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، فراحوا يحفرون وينقّبون لتجميع
الأدلة بشأن عملية الاحتيال لشن الحرب على العراق، تعرضوا لصعوبات، أخفقوا أحياناً
لكنهم في نهاية المطاف نجحوا بفضولهم المهني وبمقارنة الملاحظات مع بعضها البعض وبما
توصلوا إليه عبر شهادات موظفين من الـ"سي آي آيه، وزارة الدفاع" الذين
كانوا حذرين وتجنبوا ذكر أسمائهم، فكشفت شهاداتهم حقيقة الكذبة، في رحلة التقصّي
والإصرار كشفوا عن أن "دونالد رامسفيلد يكذب"؛ واجهوا الرفض
والعداء من الحكومة والوسط الإعلامي ومن العامة واتهموا بخيانة الوطن، نالوا
التوبيخ والتحقير ونصحهم البعض بمشاهدة ما تبثه وسائل الإعلام الأخرى كـ"سي
أن إن ونيويورك تايمز وواشنطن بوست" وغيرها ممن يؤكدون على رواية الحكومة
التي صنّفت العراق بدولة مارقة تهدّد السلم والأمن العالمي وتحذر من اعتداءات صدام
على الولايات المتحدة بسلاح الدمار الشامل.
في الأثناء يحاول المخرج
الذي يلعب دور رئيس تحرير "نايت رايدر" رسم خطِ فاصلِ بين نوعين من الإعلام،
ذاك الذي يلوي الحقائق ويتلاعب بها ويكذب ويشوه لأغراض ومصالح ما، وآخر يتعامل
بمهنية ونزاهة تحترم عقول الناس، يبرز ذلك في مشهد "راينر" وهو يذكر
موظفيه "بأن وظيفتهم ليست طباعة ما تقوله الحكومة كما تفعل وسائل الإعلام
الأخرى، بل إن وظيفتهم تكمن في السؤال: هل ما تقوله الحكومة صحيح؟ ذلك لأن قُرّاءهم
ليسوا أولئك اللذين يبعثون أبناء الناس للحرب، بل هم من الناس اللذين يُبعث بأبنائهم
للحرب".
إعلام فاشل
في مقابلة له مع الإعلامي
حسام عاصي يوضح "راينر": "أعتقد أن الغالبية العظمى من الإعلاميين
الأمريكيين نسوا مهمتهم، وهذا ما جعل الشعب لا يثق بإعلامه واندفع باتجاه المواقع
الإلكترونية الخارجية بحثاً عن الحقيقة التي لا تتحيز لجهة دون أخرى وتركّز على
تقديم الأخبار كما هي دون زخرفتها بطابع وطني أو فكرة مسبقة لا تستند إلى
الحقائق"، معترفاً بأن الإعلام الأمريكي فشل في كشف الحقيقة، فهو يضلل الشعب
فاقداً للمصداقية لكونه يروج لأجندات الشركات الضخمة التي تمتلكه وليس للمبادئ أو
الحقيقة، إنهم يلجئون إلى الكذب لتبرير خوض الحروب البشعة تماما كما فعلوا عند
تبرير حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي التي أسفرت عن قتل الآلاف من الشباب
وحطمت الاقتصاد الأميركي". ومع تنقل الكاميرا وبحركتها الدؤوبة استمرت وسائل
الإعلام في إصدار التقارير الملفقة عن أدلة أسلحة الدمار الشامل، وتجاهلت تقارير "نايت
رايدر" ورُفض نشرها لأنها كما قيل لا تتماشي وتقارير نيويورك تايمز وواشنطن
بوست اللتين جمعتا أكاذيب "جورج بوش وديك تشيني وكولين باول وكونداليزا رايس
ودونالد رامسفيلد" وأسست عليها قضية أسلحة الدمار الشامل لصدام فصرفت أنظار
السياسيين والمحللين عما وراء خطة الحرب بــ"الصدمة والرعب".
في المحصلة؛
الصدمة والرعب كان باستعراض القوة وبهما استخدمت ترسانة الآلة العسكرية والتكنولوجية
الذكية فائقة القدرة التدميرية، بالصدمة والرعب كان الحشد غير مسبوق، فالغاية كما
تشير النظرية هي إرباك العدو وتشتت قدراته وتحقيق نصراً نهائياً عليه باستخدام
القوة المفرطة والساحقة للسيطرة السريعة على ميدان المعركة وإيقاع أكبر عدد من
الضحايا المدنيين وتدمير البنى التحتية وتعطيل وسائل الاتصالات والمواصلات
والإمدادات الغذائية وإنتاج المياه وغيرها، السيطرة على العدو تعني شلّ رؤيته في
الميدان والقضاء على إرادته الإنسانية والقتالية وأن لا يجد من الخيارات أمامه سوى
التسليم بما يُملَى عليه. إلى هنا لا تعليق على ما حدث من جريمة، وما ننتظره من
جرائم في قادم الأيام، لاسيما و"43%" من الشعب الأميركي لا يزال على
يقين بأن غزو العراق كان قراراً صائباً.
المنامة – 12 أغسطس 2018
منى عباس فضل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق