الجمعة، 26 أغسطس 2022

أفرام البعلبكي يترجل من الحياة

منى عباس فضل

 

"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".

 آخر عبارة استلمتها منه قبل سنوات قريبة بالواتس أب، كانت تعليقاً على بوست عبرتُ فيه عن حزن أسود يتحوطني.

 

التقيته لأول مرة بقاعة دراسية في حرم العلوم الإنسانية بجامعة القديس يوسف ببيروت. غصًت القاعة بدفعة دراسية قوامها يربو على المئة وستة عشر من طلاب وطالبات تنوعت بلدانهم ومشاربهم، جاءوا بحماس للتحضير للدراسات العليا عن بعد، وارتضوا أن يعاد إنتاجهم وصقلهم بتنشئة جامعية جديدة في رحاب هذا المحراب.

 بدأ المحاضرة بتقديم استهل فيه حديثه عما تعنيه الدراسة في هذه الجامعة؟ ما الخيارات التي أمامنا؟ صدمتي كانت كبيرة من شدة صراحته، وللتحدي الذي واجهنا به، قال:

 -  أراهن ألا يبقى منكم عشرة أنفار في نهاية مشوار الماجستير والدكتوراه، فتخيروا من الآن دربكم، ولينسحب من ينسحب، فمن سيبقى هم قلائل جداً، إن تحصيل المعارف والمؤهلات عندنا مهم، الأهم منه أخلاقيات العلم، والتحلي بالمثابرة والشك والموضوعية والمنهج الحسي النقدي بحثاً عن الحقيقة.

ترجل منذ أيام مضت، وغادر الحياة؛ أستاذنا الجامعي الدكتور أفرام البعلبكي؛ الذي أشرف بسعة ثقافته وعلمه على رسائل الطلبة وأطاريحهم، وهو من علمهم منهجه في النقد محفزاً أدمغتهم محاصرهم وهم منهمكون دفاعاً عما احتوته أطروحاتهم ومراجعهم وعن المعارف التي نهلوا منها، عن سهر الليالي والخوف والقلق.

 إنه المربي معلم الفلسفة والأدب العربي وعلم الاجتماع والفلسفة التربوية بقضاياها من الإشراف إلى التقويم وبكل ما له صلة بالمجتمع. درسني التقويم التربوي ومنهجية الاختصاص عند تحضيري لرسالتي الماجستير في العلوم الإنسانية والتربوية التي أشرف عليها وكان أحد أعضاء لجنة مناقشتها، كما كان القارئ الثالث لأطروحتي في الدكتوراه ورئيس لجنة مناقشتها، كان محاوراً متقد الذهن في معالجاته العميقة يُقوم ذهنك ولغتك العربية بتحد لا مثيل له،  عقلاني ملهم بمنهجيته الخطابية الارتجالية الناقدة والدقيقة.


تسنى لي خلال مراحل الدراسة التي أمضيتها بشغف في الجامعة؛ التعرف عن كثب على أفكاره وفلسفته وكتاباته؛ فهو شديداً للغاية ولا يتهاون، علمي التفكير والمنهج، تعلمنا منه طرح الأسئلة المتشعبة وتنمية روح التحليل والنقد وتوخي الموضوعية، تعلمنا معه الصبر الشديد والانضباط ونحن نخوض في متاهات دربنا الأكاديمي، كان يؤمن بالاختلاف ويرى أنه قوة لوجود الذات، ولطالما ردد على مسامعنا بما معناه أن "الفلسفة عنده منهج عقلاني علمي في البحث عن الحقيقة"، وهو الذي يشدد في مفهومه للتربية بأنها فعل مكتسب وتنمية وتراكم معرفي واطلاع، أوصلني كما أوصل غيري في نهاية المطاف إلى محطة الأمان، وأنا محملة بعدة بحثية وعقل ناقد لا يقبل المهادنة بحثاً عن الحقيقة ولا يقبل بالتفاهات.

 إنه القدر، إنها النهاية التي تهاجمنا بين دورة الحياة والموت، وداعاً لمعلمي الفاضل الذي حمل راية العلم واعتلى منصة الشك وترك لنا وللأجيال إنجازات فكرية ومعرفية.

 أرقد بسلام، الرحمة والمغفرة على روحك التي ستبقى مضيئة في رحاب العلم والمعرفة.  

 المنامة – 25 أغسطس 2022 






السبت، 6 أغسطس 2022

الضعيف يفكك الذكورة وانحدارها

 


منى عباس فضل

يستعرض الأديب اللبناني رشيد الضعيف في نصه "خطأ غير مقصود"؛ المستور من العيوب والبوح بما في عمق الأعماق وما لا يجرؤ الشرقي في أيامنا بالحديث عنه علانية أو كشفه، يحكي الخوف والقلق والتوتر القابع في دواخلنا دون حرج، دون مواربة.

 

الرواية إن صح تسميتها رواية، عبارة عن نصوص قصيرة متتابعة ومتفرعة من وقفات لسيرة المؤلف الذاتية، يتناغم فيها الواقع بالمتخيل، الجدية بالسخرية في استعادة ماضٍ لسنوات الطفولة في علاقته مع أسرته وفي الأكثر تشابكاً وتعقيداً؛ وهو علاقته بالأم والأب ومغامراته في مضاجعة النساء، بل وفي فشله بذلك مع اشتداد خريف العمر وهو يتجاوز السبعين عاماً وقد عرف من طبيبه أنه مصاب بسرطان البروستات. أخذ عليه بعض النقاد في كتابة هذا النص؛ ميله للتشبه بتجارب كتاب عالمين وتقليدهم، بعضهم وصف نصه بأنه عبارة عن أقاصيص وحكايات ويوميات ومدونات شخصية لا تتعدى كونها قصصاً قصيرة.

 

على أيا حال، ما يجمع نصوصه يبرز عبر تنقله في الحكي عن حياته منذ الصغر وحتى الشيخوخة وبما تضج به من خبرات وما خلص إليه من عبر. قد يجد القارئ نفسه في لحظة ما، بين دفة نص مفكك متناثر لا رابط بين أجزاءه غير متعة التسكع والبحث والتلصص في المدى الذي سيصل إليه رشيد في البوح والتضارب والتهكم على الهزائم المتلاحقة على المستوى الشخصي والعام.

 

يكشف رشيد بأسلوب الخفة عن كوارث لبنان التاريخية وما انتجته، يأخذنا إليها عبر النص، وعلى محمل الجد حيناً وبالسخرية والهزلية إلى حد الاستفزاز حيناً آخر، تماماً كما عهدناه في أعماله السابقة. فالضعيف مثقل بالهموم الكبرى والقضايا المصيرية؛ بيد إنه يفسح لنا مساحة يحررنا فيها ويضعنا على مسافة قريبة من مكاشفة ذواتنا، يشجعنا للمضي قدماً للاعتراف ولو ما باب المزح والتندر بما هو مقفل ويستعصي الحديث عنه؛ من ألم وضعف وهزال وعبث يرافق حيواتنا في مجتمعاتنا الشرقية المشوهة في علاقاتها مع ذواتها ومع الآخرين، ومع ذلك فهو يختبر ذائقتنا الأدبية في آن، كيف؟

 

قرأت النص، وأنا في خضم إنجاز بحث علمي، شعرت خلاله إنني محاصرة به -أي العمل-، وحاجتي ملحة لقراءة شيء من رشيد الضعيف تحديداً، بحثت عن تسلية لكنها لم تكن كأي تسلية، في حقيقة أمرها؛ هي رؤية مفاهيمية سجاليه تغلف ما يعترينا من حالة نفسية ووجودية بهالة ضبابية. أمضيت وقتاً أتامل في نصوصه الواقعية وأعيد قراءتها وأقلبها فقد أشعلت في ذهني أسئلة وأفكار تداعت إلى الوقوف عند مساءلة مواقف معقدة أشاهدها حولي في أشكالها ومضامين بواطنها.

 

نصه يعد نقداً اجتماعياً لاذعاً وإن أنكر عليه ذلك بعض النقاد، فهو يفكك الذكورة الشرقية في أقصى تجلياتها ومعانيها الحميمية، يتحرر منها بالبوح عبر شخصيته، ويترك من خلالها خيطاً رفيعاً من الهلع الذي يضع فيه الشرقي بمواجهة صارخة مع خيانة الجسد والتقدم في العمر ومع ازدواجيته وتناقضه في علاقته بالمرأة، المرأة الزوجة التي تقدمت معه في العمر، وهي تعاني مما يعانيه وإن تجاهل ذلك، يقابلها علاقته بالمرأة الأخرى المشتهاة، الشابة الصغيرة التي في عمر ابنته، والأخرى صديقته أيام الدراسة التي يستحضرها في أحاديثه وعبر مغامراته في أحلام اليقظة، وحتى علاقته بالمرأة عاملة المنزل الحبشية التي ينظر إليها مجتمعه بعنصرية وازدراء، رشيد يفضح حالة العجز في وداع الفحولة ويختبر نفسيته كإنسان بجرأة يكشف فيها حالة التأقلم مع هذا الوضع المشوه والمريض والمؤلم بكل تحيزاته.

 

وبنظرة فرويديه يمارس الضعيف تعرية النفس وإن بتورية، ينبش القديم من دفاتره بلوحات يرسمها بهزلية حول علاقته المضطربة مع أمه ويخلخل الهالة التي يدور حول دورها وتشابك ذلك مع سرديته بعلاقة الفطام بالسياسة، تبرز الشهوانية بنفور حادّ وهو يربط تلك الصور مع سيرة حياة جدته التي عثر عليها وهو يتقصى تاريخ عائلته المهاجرة في نيويورك، ليكتشف أمرها وهي الصبية المهاجرة ذات العشرين عاماً حيث كانت مدبرة شؤون منزل السيد المسن الأمريكي "بايكر". هي اليوم أشبه بعلاقته المماثلة مع مدبرة منزله الحبشية "فاكرة"، إذ تأخذ فيها العلاقة أبعاداً بدلالات مخفية، تجد تعبيراتها في الرغبة الجنسية الأقرب إلى التحرش والاعتداء الجنسي وتتشابك مع الاستغلال بالاستدراج بالمال والملامسات في وضع العوز والفقر والهجرة والرغبة، وهنا لا يغفل رشيد التوقف عند استسلام المرأة لهذا الاستدراج وتناقضها وهي تصر على الاحتفاظ بما تبقى لها من عذرية تؤهلها للزواج عند العودة إلى بلادها.

 

يقابل ذلك تداوله في سيرة صديقه الشيوعي "نعيم" وما وصل إليه، يعرى خفاياه في علاقته الملتبسة مع زوجته التي يحبها ويحترمها وتمثل عنده خطاً أحمر لا يمس، في ظل علاقاته الأخرى المدنسة والعابرة حتى وهو يتخطى السبعين عاماً، لاسيما مع نادلة المقهى الشابة الصغيرة "غنى" بل والفتى الصغير، وهو الذي يتباهى  استعراضاً لأفكار النظرية الماركسية ومبادئها ورموزها وللحتمية التاريخية والتنظيم الحزبي، صور تعبر عن مفارقات في درب العبور، شُعورٌ بالقرف والاشمئزاز الممزوج باللامبالاة، وعند نهاية المطاف يبرع الضعيف في استحضار تقنية التهرب منها وهو الذي يلجأ إليها كلما أراد كسر التابوت والغوص بنقده للوضع الممسوخ بالمحرمات.

 

في كل الأحول، رغم الانتقادات الحادة التي تناولت نصه الجريء، إلا إن النص ينطوي على دلالات حسية عميقة لعلاقة الرجل بالمرأة وما تعكسه من ازدواجية وتناقضات في مجتمعاتنا، وليبقى أمره تعبيراً عن مدى استعداد القارئ للتماهي مع حالة الاستدراج التي يقودنا إليها رشيد الضعيف للبوح والتعبير عن مكونات النفس وهي تتألم.

 

المنامة – 6 أغسطس 2022