الأربعاء، 20 يناير 2021

هل حقاُ نفتقر إلى القيادات النسائية؟

 

منى عباس فضل

أن تكتب مقالاً علمياً تحليلياً موضوعياً حول أي قضية من قضايا المرأة في مجتمعاتنا العربية عامة والخليجية خاصة تحتاج إلى أدوات بحثية ليس أقلها بيانات إحصائية حديثة ودقيقة ورؤية معرفية شاملة تمكن من مقاربة هذه القضايا واستقرائها في سياق الواقع المحلي وتفاعلات البنية الاجتماعية وتشابكها المعقد في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية والتقنية السريعة، بمعنى، لا يمكن إغفال هذه العناصر أو إسقاطها من الاعتبارات البحثية كي نصل من خلالها إلى نتائج يمكن تعميمها والاستناد إليها كدلالات ومؤشرات. 

في مقال نشر باللغة الإنجليزية على صفحات موقع مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، بتاريخ 20 ديسمبر 2020 بعنوان «لماذا يفتقر الخليج إلى القيادات النسائية؟» للباحث والكاتب بالمركز الدكتور عمر العبيدلي، (أنظر المقال في الموقع:)

 https://english.alarabiya.net/en/views/news/middle-east/2020/12/16/Why-does-the-Gulf-lack-female-leaders-Data-has-the-answers

أجد أنه من الأهمية الاطلاع عليه والتمعن فيه من قبل الناشطين والمهتمين بقضايا النساء وحقوقهن. تأتي الأهمية لما ورد فيه من نتائج وخلاصات، صحيح إن الباحث تناول بالتحليل حالة القيادات النسائية في الخليج عامة، لكن القيادات النسائية في البحرين هن جزء لا يتجزأ من هذه الفئة التي يحلل واقعها وبالتالي ينطبق عليهن ذات التحليل والنتائج، والنتيجة تبعا له إننا نفتقر في مجتمعنا المحلي إلى قيادات نسائية. هذا بحد ذاته سيثير لغطاً ونقاشاً سجالياً على المستويين الرسمي والأهلي في آن، ذلك لأن الخطاب الرسمي ما فتئ يتحدث عن الانجازات المتحققة في مجال تكافؤ الفرص وسد الفجوة الجندرية بتمكين المرأة ومساواتها بالرجل، فيما يرى الخطاب الأهلي أن هناك تقدماً ما حدث في واقع المرأة لا ينكر وإن مؤسسات المجتمع المدني قد ساهمت بل إنها معنية بما تحقق من تطور وبما يُسعى إلى تحقيقه من أهداف استراتيجية في هذا المجال لكن لا يزال هناك نواقص واختلالات، كما لا أظن إن هذا السجال سيتوقف عند مناقشة الأمر في بقية بلدان الخليج التي طالما تفاخرت بما حققته من إنجازات متطورة للنساء.



أيضاً صحيح إن الكاتب أشار إلى اختلال في واقع تمثيل القيادات النسائية في البرلمانات الخليجية والقطاع الخاص في المنطقة، وهنا لا نختلف معه، إلا إن القضية الرئيسية ذات العلاقة بهذا الاختلال وحسب رأينا تعني ما تعنيه من قصور يتعلق بمشاريع واستراتيجيات تمكين النساء ومناهضة التمييز ضدهن في كافة المواقع القيادية دون استثناء، لذا فالنواقص لا تقتصر على الجانب البحثي رغم أهميته، فهذه الاستيراتيجيات بمؤشراتها ومبادراتها في غالبها لا تتجاوز من كونها كتبت كوثائق تلبي متطلبات الالتزامات الدولية، فيما تكشف البيانات الرقمية المتحققة من أسف عن فجوات عميقة لا تزال قائمة بين الجنسين في كافة المواقع والمجالات وأبرزها كما أشار إليه المقال التمثيل السياسي في الحياة التشريعية وتبوء المناصب القيادية الإدارية في الاقتصاد وغيره من المجالات رغم ما حققته النساء من مستويات تعليمية متقدمة.

من ناحية متصلة، ثمة ما تتميز به قراءة كاتب المقال د.عمر العبيدلي أبرزها؛ تأكيده بأن تمثيل النساء الخليجيات -وطبعاً البحرينيات منهن-، في مواقع صنع القرار والقيادة تمثيل ناقص ويرسم صورة قاتمة، مشيراً إلى أن احتمالية التمييز ضد المرأة يكون في حالتين، الأولى في حال تمتعها بنفس سنوات خبرة الرجل؛ والثانية احتمالية تمتعها بسنوات خبرة أقل، ويجد أنه في الحالة الأولى يمكن أن يشكل التدخل الإيجابي بتكليف من الحكومة عنصراً فعالاً في عكس مسار التمييز، فيما قد يؤدي نفس هذا التدخل في الحالة الثانية إلى نتائج عكسية قد تؤدي إلى إجبار الشركات على تعيين نساء غير مؤهلات، وهذا يعزز من القوالب النمطية السائدة؛ ببساطة وهذا من عندي يعني إن التدخل هنا لن يساعد في تغير حال الافتقار إلى القيادات النسائية، ويصل في تحليله إلى أنه وفي ظل هكذا ظروف، ستبقى السياسة الأكثر فعالية هي تلك التي ستعالج وتبحث في سبب عدم احتمالية تمتع المرأة بالخبرة الإدارية المطلوبة، وما فهمته منه إن سبب غياب الخبرة عند النساء في مجتمعاتنا الخليجية بالأساس إنما هو لتعرضهن إلى التمييز ضدهن في المستويات الأدنى وفي المؤسسات التعليمية أو النظام القانوني، وإن تصحيح الوضع ربما يؤدي إلى ضمان تمثيل المرأة على قدم المساواة في المستوى التنفيذي الأعلى دون الحاجة إلى اجراءات إيجابية تدخلية من الحكومة طبعا.


هنا يجوز طرح السؤال: ما الذي يجزم بأن خبرات المرأة الإدارية المطلوبة كي توصلها للمواقع القيادية هي دائما أقل من الرجل، لماذا لا يفترض النقيض؟ ثم ما هي الفرص التي حصل عليها الرجل تعليمياً ولم تحصل عليها المرأة؟ ولماذا لم يتناول تأثير التربية والتنشئة الاجتماعية ومنظومة الأعراف والعادات والتقاليد والثقافة السائدة وما إلى ذلك؟ أتفق معه حول التمييز قانونياً، ولهذا طالما طالبنا بتعديل التشريعات والإجراءات وبما يمنح فرصًا أكبر تحقق المساواة وتفرز صفًا من القيادات النسائية على جميع المستويات.

في مقاربة لواقع المرأة في الغرب، يشير العبيدلي إلى نتائج أبحاث الاقتصاديين بشأن التمييز ضد النساء والتي خلصت إلى أن النساء الغربيات أكثر ميلًا من الرجال في تجنب المخاطر كما يترددن في بدء المفاوضات ويتجنبن البيئات التنافسية ويبحثن عن وظائف ذات ساعات عمل مرنة وبمهام ترقية منخفضة، كذلك نوه إلى ما توصل إليه خبيران من جامعة تكساس في دراسة لهما للتفاعلات "بأن احتمال سعي النساء الغربيات للمناصب الإدارية أقل من الرجال وأن المديرات منهن كن أكثر عرضة من نظرائهم الرجال لتلقي رسائل غاضبة من المرؤوسين، وأن هؤلاء المرؤوسين كانوا أكثر عرضة للتشكيك في قرارات المديرات مقارنة بقرارات المديرين، بمعنى أن هناك انعدام ثقة في قدرات النساء الإدارية ومهاراتهن"، ومع ذلك وفي حدود تجربة الخبيرين، لم يكتشفا أي فروق بين الجنسين في الأداء الإداري، وهذه برأيي خلاصة مهمة يمكن التأسيس عليها، رغم أنه لا يمكن مطابقة تلك النتائج حرفيًا مع واقع النساء في مجتمعاتنا المحلية خصوصاً مع غياب الدراسات البحثية في هذا الشأن.

ينتهي الكاتب إلى أن حجم الأبحاث حول قضايا الفروق بين الجنسين في بلدان الخليج محدود للغاية، على الرغم من الحاجة الملحة لإجرائها، منوهاً إلى إن الإنفاق على الأبحاث وتمويلها حول قضايا المرأة من منظمات المجتمع المدني متواضع بسبب محدودية حجمها وأن القطاع الخاص في الولايات المتحدة يمول هذا النوع من الأبحاث، ما يعني أن هناك قصوراً من القطاع الخاص في بلداننا لهذا الغرض. في السياق نتساءل ماذا عن الجانب الرسمي المفترض أن لديه الإمكانيات والقدرة على التمويل؟

إلحاقاً بما سبق، يرى أن صانعي السياسات في الخليج يمكنهم الاستفادة من الأبحاث الغربية؛ على الرغم من الاختلافات القانونية والثقافية، وأن المؤسسات في بلداننا تقوم على التراتبية التي  تقلل من فرص المرؤوسين في التعبير عن عدم رضاهم عن قرار المدير، مما قد يؤثر على جاذبية المناصب الإدارية للنساء، بمعنى أن التراتيبة تشكل عاملاً طارداً للنساء نحو المناصب الإدارية. في تصوري إن الأمر لا علاقة له بالجاذبية الإدارية والتراتبيبة فقط وإنما بمحدودية الخيارات والفرص المتاحة لاسيما عند النظر في السياسات والإجراءات المعتمدة في تعيين النساء للمناصب القيادية "التدخل الإيجابي الحكومي" والتي تتجه نحو فئات منتقاة وشرائح ضئيلة من المجتمع ضمن معايير العلاقات القرائبية والقبلية والولاءات حتى وإن اقترنت أحياناً بعامل الكفاءة.



خلاصة الأمر، نتفق مع الكاتب حول أهمية إجراء أبحاث ودراسات تساهم في الإجابة على السؤال بشأن افتقار الخليج للقيادات النسائية، لكن المهم الأخذ بالاعتبار أن مسألة التمييز والتمكين التي سبق وتناولناها في العديد من المقالات والبحوث ولها صلة شديدة بما تتعرض له النساء من تمييز قوي ومباشر في التشريعات التي يستوجب تعديلها وحظر التمييز في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسن قوانين وإجراءات خاصة ملزمة تضمن التوازن الجندري، كما ننوه إلى أنه ولكي تقوم مؤسسات المجتمع المدني بالمساهمة بالأبحاث العلمية في هذا المجال فإنها تحتاج إلى رفع القيود عنها وإفساح المجال أمامها للحصول على التمويل لهذا الغرض.

إن الحديث يطول ويتشعب لتناول هذه القضية الإشكالية التي غالبا ما يتجاذبها الخطاب الرسمي في صف الإنجازات وما تحقق للمرأة في مواقع صنع القرار، باعتبار أن بلداننا قطعت أشواطاً متقدمة في عملية التمكين وتحقيق المساواة، فيما ترى وجهات نظر أخرى أن التقدم المتحقق لا يزال بطيئاً وأشواط العمل لا تزال بعيدة أمام نساء الخليج للوصول إلى المواقع القيادية، وهذا يتطلب الجدّية ومضاعفة الجهود والشراكة التي تحقق هدف المساواة.

المنامة – 20 يناير 2021

منى عباس فضل

-   ينشر بالتزامن في نشرة الاتحاد النسائي البحريني

 


السبت، 16 يناير 2021

من الذاكرة

 


منى عباس فضل

 في عام 2000 تعرفت صدفة على هشام شرابي من خلال كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" الصادر عن دار الطليعة ببيروت 1975، وكما حدث معي في بدايات قراءتي لمؤلفات نوال السعداوي، حدث ذات الأمر وأنا أقر لشرابي، اهتز شيء ما بداخلي لما تناوله من تحليل نقدي لبنية مجتمعاتنا، كتب في مقدمة كتابه:

- إن التجربة كشفت لي عن مقدرة الثقافة المسيطرة في اخضاع عقلية الفرد لقيمها وتضليله على أعمق المستويات. شعرت انني ابتدأت بكسر القيود الفكرية التي كبلتني، وأصبحت أسير في اتجاه فكرى مستقل استمده من قوة داخلية وليس من قوة تسيطر علي من الخارج. أدركت أن الخطوة الأولى في التحرر تكمن في التحرر الذاتي، وان بداية التحرير تكمن في التخلص من عبودية الفكر المسيطر.  

 

من هذه العتبة انطلقت استكمل قراءة كتاب هشام شرابي بنهم، تعرفت على آراءه لبنية العائلة بالمجتمع العربي من حيث سماتها؛ الاتكالية، العجز، التهرب، إلى رؤيته للوعي والتغير، إلى تنظيره بشأن الإنسان العربي والتحدي الحضاري والمثقف العربي والمستقبل حيث ركز على التثقيف الاجتماعي والتلفزيون والأهم هيمنة البنية الأبوية البطريريكية في المجتمع العربي المعاصر تلك التي تتجسد في علاقات المجتمع لاسيما العلاقة مع المرأة وما تتعرض إليه من تنشئة اجتماعية يسودها التسلط والأبوية. 

 

حين أنهيت الكتاب شعرت بظمأ شديد للتعرف أكثر على أفكاره وأعمق، من أسف وقتها مكتباتنا كانت فقيرة لا تحتوي رفوفها على الممنوع والمغاير من الكتب، شاءت الأقدار أن أحصل على عنوان بريده الإلكتروني تواصلت معه حيث كان يقيم في واشنطن، كتبت له بحماس طفولي ماذا فعلت بي أفكاره وتحليلاته شاكية حال مكتباتنا، طلب مني عنواني الدائم فأرسلته، وإذا بي أستلم منه بعد أسابيع كتابين عليهما إهداء خاص بتوقيعه، "النقد الحضاري لواقع المجتمع العربي المعاصر" و"صور الماضي: سيرة ذاتية"، انكببت عليهما كطالبة مجتهدة قرأتهما، بل قل قمت بدراستهما وتلخيص أفكارهما واستلهام القضايا الإشكالية التي تطرق إليها في المشروع النهضوي العربي، وما تناوله بشأن العلاقة الوطيدة بين الممارسة والفكر كي يحدث التغيير الاجتماعي والسياسي هذا التغيير الذي كما اعتقد لن يحدث دون نضوج الرؤية والهدف من داخل المجتمع ذاته، هكذا أصر على أن مسالة النقد الحضاري تشكل شرط أساسي لعملية التغيير نحو الحداثة بل هي الخطوة الأولى لأي حركة اجتماعية ترمي إلى استئصال الأبوية في مجتمعنا.  

 

بعد سنوات كتبت مقالا بعنوان "أزمنة فلسطين هي أزمنة هشام شرابي" حول كتابه "الجمر والرماد"، جاء في افتتاحيته: أقرأ هذا الكتاب في الأيام التي نعيش فيها زمن الانتفاضة الفلسطينية المتأججة؟ أهي مصادفة أن أعيد قراءة جزء من تاريخنا الذي مررنا عليه مرور الكرام لسبب ربما يكون خارج إرادتنا أو بإرادتنا وتجاهُلنا لما حدث ويحدث؟ أهي مصادفة أن تتم القراءة دوماً من نافذة الماضي الذي طالما يفلت منا لنرتفع بعده بحدود الحقيقة، بعيداً عن الوهم؟‍‍

 

مضيفة، الجمر عند شرابي هو الوعي المتأصل في قدرته على استعياب أبعاد قضيته الشخصية والوطنية كمتلازمتين، وقدرته الفائقة على تمثل الوعي المتحضر لمعنى "الوطنية" والوطن الضائع، في سرديته إلى أبعد وأقدم رؤيا للوطن من خلال نافذة الطائرة، يشهد أول مراحل الاغتصاب على أيدي الصهاينة على مرئى من العالم، كما يحدث دوماً حتى اللحظة، وفي الشارع الواقع خلف جامع حسن بك، انتشرت الجثث على الأرض وفوق المئذنة إلي جانب علم الاستسلام الأبيض الذي رفعه العرب، يرفرف على الدولة اليهودية، قال: "أتذكر بحر يافا جيداً، انه بحر طفولتي، أشم رائحته في هذه اللحظة، وأتذوق طعمه المالح، أحس بهوائه على وجهي، كان لونه بالفعل مائلاً إلى الاخضرار عندما يكون هادئاً" واستطرد؛ كلما صعدت إلى أنفي رائحة روث الخيل الحلوة تعود ألي ذكرى المنشية وصورها، أما الآن فقد اقتلعت جذورنا، وفقدنا الأرض التي تنغرز في حياتنا.  

  

تتعاظم مأساة اغتصاب الوطن وتمتدُ عند شرابي حتى لحظات العمر المتأخرة فيتذكر:"أما بيت جدي فما يزال قائماً وتسكنه عائلة يهودية، اختفت الأشجار من حوله وأغلقت نوافذه بالحجارة من جهة الشارع، وظهر لي كما تظهر الأشياء في الأحلام، معهودة، لكنها غريبة آتية من عالم آخر. ولا يزال الجامع المجاور، الذي أخذتُ فيه أول دروسي القرآنية، قائماً كما هو إلا الشيخ قد غادره وأمسى مهجوراً. لقد حرم على من تبقي من السكان العرب السكن في المدينة الجديدة (خارج السور) وأجبروا على الإقامة في المدينة القديمة (داخل السور) التي أصبحت بالنسبة لليهود قصبة يزورها السواح الأجانب ليشتروا منها الحاجيات المصنوعة محلياً ويتفرجوا على سكان إسرائيل العرب.

 

النبش في الآلام الكامنة، يعيدنا إلى فلسطين الحبيبة، قضية العصر الأولى، القضية التي ضاعت في زمن التفسخ والخيانات بالتطبيع مع كيان العدو الصهيوني؛ ختمت مقالتي التي حررت في 2000: هناك ثمة شباب بلا عدد يحملون كل يوم أرواحهم على أكفهم، ثمة من يودعون الأمهات ويمضون لساحات المواجهة في كل درب، بعيد كان أم قريب، لصوت الحق الفلسطيني لأجل فلسطين قضيتنا الكبرى.

 

رحم الله الفلسطيني العروبي هشام شرابي الذي توفي ببيروت في 13 يناير 2005 وترك لنا إرثا من الفكر والنقد الحضاري لمجتمعاتنا العربية، ترك لنا كما غيره جمرة لا تخمد في قلوبنا جمرة اسمها فلسطين.  

 

المنامة – 16 يناير 2021