الخميس، 17 يونيو 2021

توحش الفساد وتمدده في المغسلة

 


منى عباس فضل

يعد فيلم المغسلة  The Laundromat المنتح عام 2019 والذي يعرض على منصة "نتفليكس" الإلكترونية للمخرج ستيفن سودربيرغ من الافلام التي نالت نقداً لاذعاً من نقاد السينما، بيد إن أهميته تكمن من كونه يستند إلى قصة حقيقية تتعلق بفضيحة ما عرف في 2016  بـ"تسريبات وثائق بنما" والتي سرب فيها "11 مليون وثيقة" من شركة استشارات قانونية تعتمد الخصوصية والسرية في أعمالها، وفضحت من خلالها شبكة عملاقة تتعامل في التهرب الضريبي، الشركة ساهمت في إخفاء ثروات تقدر بمليارات الدولارات لـ 12 زعيم من زعماء دول سابقين وحاليين إضافة إلى 60 شخص من بينهم مسؤولين كبار ومشاهير.  

 

القانون وغسيل الأموال

أحداث الفيلم تدور حول تفجر الفضيحة من قبل موظف بشركة المحاماة البنمية "موساك فونسيكا" وهي تحمل أسرار أكثر من 200 ألف حساب وشركة وهمية، مما تسبب في ضجة إعلامية كشفت عن تورط عدد كبير من رجال سياسة سقطوا من مناصبهم ورجال أعمال وأصحاب ثروات كبرى ساعدتهم الشركة في غسيل الأموال والاحتيال والتحايل على العقوبات والتهرب من دفع مبالغ ضخمة من الضرائب.




في الفيلم يقدم المخرج شخصيتين رئيستين تمثلان محور الفضحية؛ هما الممثل غاري أولدمان بدور المحامي الالماني "يورغن موساك" وأنتونيو بانديراس بدور المحامي البنمي "رامون فونسيكا"، اللذين يلعبان دور المتحدث الأشبه بدور مذيع برامج تلفزيونية في أغلب المشاهد ويرتديان بدلات فخمة للايحاء بما ينعمان به من رفاهية وبحبوهة. يتركز حديثهما لمساعدة المشاهد في فهم الفيلم وشرح المصطلحات المالية والمصرفية والتعقيدات المتعلقة بالشركات الوهمية. وهما من يدير شركة "موساك فونسيكا" التي تسربت منها الوثائق، ويحاولان الدفاع عن أنشطتهما المشبوهة وغير القانونية وتبريرموقفهما بتكرار انهما غير مسؤولان عن تصرفات العملاء وإن  دورهما يقتصر على توفير الخصوصية والسرية للعملاء التي جاءت دلالتها بعبارة في أحد مشاهد الفيلم "المساكين هم المتوّرطون".

 

أما ميريل ستريب "إلين مارتن" فتؤدي دور امرأة متقاعدة في السبعين من عمرها، يموت زوجها "جيمس كرومويل" مع 21 شخص في حادث غرق العبارة التي سرعان ما يكتشف مالكوها بأن بوليصة التأمين التي بحوزتهم ما هي إلا عملية احتيال وجزء من نظام الشركات الوهمية، وعند محاولة إلين الحصول على التعويض من شركة التأمين بعد حادث الغرق، يصعب عليها فهم ما يجري كون شركة التأمين بيعت إلى شركة أخرى مملوكة لشركة وهمية ضخمة لا وجود لها في الأصل إلا على الورق، وبسبب تعقد الإجراءات أمامها وتقلص التعويضات الممكن أن تحصل عليها، تبدأ إلين رحلة معقدة تماما كما هي القوانين التي يدار بها النظام المالي والمصرفي في العالم، فتتولى بنفسها تتبع نشاط الشركة وموقعها وتسافر إلى جزيرة نيفيس وتصل إلى المسؤول مالكوس بونكامبر الذي تردد اسمه بأنه يعمل في الشركة "المتحدة للتأمين" التي تدار من شركة "موساك فونسيكا"، وعندما تلتقيه ينكر اسمه أمامها ويهرب، لكنه يقع في يد الأمن بمطار فلوريدا بتهمة الاحتيال.


 

فضائح لعالم غامض

يتشكل الفيلم من أربع قصص متوازية كالقصتين السابقتين التي يعرض فيها وبإيجاز شديد ممارسات مرتكبي الجرائم القانونية والأخلاقية وتأثيرها على ضحاياهم، هنا يرى بعض النقاد إنه لا توجد أي شخصية مكتملة أو قصة تشكل وحدة مترابطة، وإن المخرج يوظف هذه الشخصيات والقصص لفضح تفاصيل عالم غامض عن الشركات الوهمية والممارسات السرية وعمليات التمويل المشبوهة التي لا تخضع لرقابة وتدقيق، فيما تدور القصة الثالثة حول ابنة رجل أسود ثري تكتشف أمر علاقته مع صديقتها الشابة، فتتواجه مع والدها ولكي يتجنب الفضيحة أمام زوجته، يعرض عليها -أى ابنته- تسوية يمنحها بموجبها شركة وهمية تقدر قيمتها بـ"20 مليون دولار"، وعند محاولتها تسلم حصتها من شركة "موساك فونسيكا" يتبين لها أن القيمة الفعلية لأسهم الشركة لا تساوي شيئاً هي مجرد مبلغ ضئيل ليس إلا.

 

أما القصة الرابعة فتتعلق ببريطاني متخصص في غسيل الأموال يزور موكلته الصينية المتزوجة من رجل سياسي كبير في الصين وهما شريكين له، يضغط عليها لتزيد حصته من عملية غسيل الأموال التي تتم من خلال شركة "موساك وفونسيكا"، فيكتشف بأن غسيل الأموال والاحتيال ليست الجريمة الوحيدة التي يمكن لموكلته الصينية ارتكابها بمعاونة جماعات ترتشيها من الأمن والشرطة؛ إنما هناك عملية سرقة للأعضاء البشرية والمتاجرة فيها. يتراوح تقديم المخرج للقصص تارة بمشاهد ساخرة وحيناً بتوعية تلقينية تعرض فيها إلى نقداً بسبب استخدامه لمصطلحات مختصرة ومكثفة يجدونها صعبة الفهم والاستيعاب على المشاهد وتخلق تشتتا والتباساً له.

 

سلط نقاد الفيلم الضوء على السيناريو مشيرين إلى إنه صعب ومعقد على الرغم من سهولة متابعة أحداث القصص الأربع، إلا إن المشاهد يجد صعوبة في جمع خيوطها لبلورة صورة شاملة، فهو يشرح التعقيد والالتباس الذي يعاني منه القانون الامريكي في مصطلحي "تجنب الضريبة" والتي تعد ممارسة قانونية و"التهرب الضريبي" الذي يعد جريمة، ويشبه العلاقة بينهما مثل الجدار الفاصل بين زنزانتين، وهنا يظهر الرئيس السابق أوباما متحدثا في مشهد "ليس في خرقهم للقانون، ولكن القانون ملئ بالثغرات"، والمخرج هنا يحاول توصيل رسالة للمشاهد بأن لا تحاولوا فهم أساليب الاحتيال والنصب المعقدة والمنتشرة بشكل يصعب تخيله. 

 

أضاف البعض بأن أسلوب المخرج ساهم بالتشتيت لأن المشاهد عرضت بوتيرة سريعة ومتعبة لا تمهل ولا تترك مجال للتأمل ومراجعة المعلومات والمواقف تتدفق على المشاهد بغزارة وبتفاصيل تفتقد أحيانا للمعنى والربط بين القصص، تماما كما حدث عند اكتشاف زواج بونكامبر في بنما من امرأة ثانية سراً في فلوريدا.


مبادئ الرشوة

قيل أيضاً إن الحكايات متقطعة عن بعضها البعض غير تصاعدية تنتقل بالمشاهد من بلد إلى آخر وبين عناوين مختلفة كالسر الأول: لا حق للمساكين، السر الثاني: ما هي إلا شركات وهمية، السر الثالث: أخبر صديقك، السر الرابع: مبادئ الرشوة، السر الخامس: التربح من القتل، بيد إن هذه العناوين عبرت عن القصة التي يدور محورها حول المال، فكرته، ضرورته الحياة السرية له، والحديث عن الأيتمان كاختراع للبشرية، حيث تعقدت الأمور أكثر وازداد المال المتداول بشكل غير مسبوق وإزدادت معه المصطلحات المعبرة عن المال بشكل غير مسبوق، سلع وقروض وأسهم وسندات واعتمادات مالية لرؤوس الأموال، اتجار آجل وأسهم ومشتقات وديون مسندة وبيع مكشوف وطلبات التغطية وكلها أدوات مادية ومصطلحات خفية مجردة لعالم وهمي.

 

القانون يلامس الفساد

في ختام الفيلم تستعرض ميريل ستريب طبيعة النظام الامريكي السياسي والمالي المعطل كاشفة عن الرشاوى والفساد وغسيل الأموال بمليارات الدولارات التي تختفي عبر شركات وهمية، وتطالب بإصلاحات فورية ومساءلة.

 ومع إن الفيلم نال ما نال من انتقادات فنية ودرامية قيل فيها بأن مستويات متعة المشاهد متفاوتة وتتسم بالتشويس، فضلاً عن التساءل عمن يتصدر بطولة الفيلم لاسيما وزمن ميريل ستريب على الشاشة كان قصيراً وتكاد تكون مختفية رغم قوة أداءها وأداء غاري أولدمان وأنتونيو بانديراس الذين انحصر دورهما في تقديم شروحات مسرحية لفك الغموض عن بعض مفاهيم النظام المالي والمصرفي وبأسلوب تراوح بين السخرية والهزل، إضافة إلى القول إن الفيلم استهدف خدمة أجندة سياسية للتوعية من خلال أفكار مقتبسة، إلا إنه ومن وجهة نظرنا يبدو متماسك وجرئ في نقده لعالم الجشع والتوحش الذي يعاني منه النظام الرأسمالي بما يتحوطه من فساد يساهم في تعزيزه القانون وانهيار المنظومة الاخلاقية والقيم الإنسانية.   

المنامة – 17 يوينو 2021