الأربعاء، 9 فبراير 2022

تسويغ النموذج الصيني للجدارة


 

د.منى عباس فضل

مرت المجتمعات الإنسانية ولاتزال بأنساق مختلفة من الأنظمة السياسية التي طالما ادعى أغلبها أنه يتسم بالعدالة والحق، وإنه ديمقراطي ويمارس حكم الشعب بالشعب، حتى في الأنظمة الملكية التي شاعت تاريخياً ولا تزال تتوارث السلطة التي اكتسبت شرعيتها بقوة الحديد والدم أكثر مما اكتسبته بالقانون.

 من هذا المنطلق، يمكن قراءة ما يسوغه دانييل بيل من فكرة رئيسية في كتابه "نموذج الصين: الجدارة السياسية وحدود الديمقراطية" قراءة نقدية تفكيكية بما استفاض به من تحليل متشعب لهذا النموذج؛ فهو ومن خلال مقاربته لنظام الجدارة مع النظام الديمقراطي، كشف عن عيوبهما وقدم مقترحاته لتطوير نظام الجدارةmeritocracy   بصفته تجربة سياسية كبرى تحمل في طياتها إمكانية علاج العيوب الرئيسة في الديمقراطية الانتخابية؛ وطالب من هم خارج التجربة بتشجيعها بدلاً من أن يأملوا فشلها، أو حتى تعزيز سياسة خارجية مؤيدة للديمقراطية لكنها مصممة لزيادة احتمالات الفشل في الصين؛ وهو على ما يبدو يقصد فشل المشروع الأمريكي لدمقرطة الشرق الأوسط.

عيوب الديمقراطية ولكن!

شرح دانييل بيل عيوب الديمقراطية الغربية وأزمة حكمها التي أدت لإضعاف الإيمان بها بل وفتح المجال للبدائل السياسية لها، لماذا؟ لأنها كما يقول لم تعد نموذجاً إيجابياً لدول أخرى، خصوصاً في الأوقات الصعبة والأزمات الاقتصادية، ذلك على الرغم من بروز اتجاه يطرح قضية تجديدها بإدخال درجة أكبر عليها من الممارسات والمؤسسات التي يتميز بها نظام الجدارة.

 المؤلف يُذكر القارئ بأنه كتب الكتاب أساساً للقراء الغربيين الذين نشأوا على ثقافة تقديس الديمقراطية الانتخابية باعتبارها أفضل النظم وأقلها سوءٍ، وأيضاً إلى الديمقراطيين الصينين المؤمنين بشكل أعمى بفوائدها، ذاهباً إلى القول بوجود بدائل سياسية لها يمكن تنفيذها سياسياً ومرغوب فيها أخلاقياً ويمكنها المساعدة في معالجة عيوب الديمقراطية الرئيسية، على الرغم من قناعته بأن مناقشة النظريات غير الديمقراطية والسياسات الواقعية كما في سنغافورة والصين "كنماذج للجدارة السياسية" هي بحد ذاتها مثيرة للجدل، واستهدف بالأساس إزالة "صفة القداسة" عن الديمقراطية  من خلال الإيضاح بأنها لا تنجز الأمور بشكل أفضل من النظم القائمة على الجدارة وفقاً للمعايير المتعارف عليها بشكل واسع حول الحكم الجيد.

 أما عيوب الديمقراطية بنظره فهي تبرز في ظروف مختلفة حصرها؛ بأنها تثير الصراعات الاجتماعية بدلاً من تخفيفها، وطغيان الأغلبية وقمع الأقليات خلال العملية الديمقراطية؛ وقد تتميز في ظروف أخرى بطغيان الأقلية "المجموعة الصغيرة" لمنع التغيير، أو طغيان الجماعة الانتخابية أو طغيان الأشخاص المتنافسين.

 في الإطار، نجد أن دانييال لم يأتي بجديد في نقده لفكرة الديمقراطية الجوهرية "حكم الشعب بالشعب"؛ إذ سبقه علماء اجتماع ومفكرين معاصرين في نقدهم، بل وأثاروا حولها الكثير من التساؤلات المتعلقة بمن هو الشعب؟ ما هي حدود المشاركة المسموح بها للناس؟ ما هي الظروف والأوضاع التي يفترض أنها ستؤدي إلى المشاركة؟ فضلاً عن تساؤلاتهم حول الحُكم ومدى الاتساع أو الضيق في المجال الذي يمارس فيه، هل ينحصر في نطاق الحكومة؟ أم تتسع لمجالات أخرى، هل تشمل القرارات الإدارية أم السياسية أم جميعها؟ علاوة عن آليات الحكم؛ هل ينبغي الامتثال لحكم الشعب؟ ما هي حدود الالتزام بهذا الحكم أو الاختلاف والانشقاق عنه؟ هل يحق للناس التصرف خارج حدود القانون حين يجدون أن القانون القائم لا يتسم بالعدل والإنصاف؟ ما هي الظرف التي يمكن أن تدفع بالحكومة الديمقراطية إلى استخدام الإرغام لمواجهة المعارضين لسياستها؟

 كلها أسئلة تمتد وتثير الجدل، لاسيما حين يتوصل عالم الاجتماع البريطاني أنتوني غدنز إلى (أن الديمقراطية الغربية تعاني من التناقضات والمخاطر وتتسم بمواقف التذمر والمعارضة والإحساس بالخديعة..) فيما يشير عالم اجتماع أمريكي آخر إلى (إنها أصبحت عاجزة عن تقديم إجابات مقنعة ومتوازنة وعادلة عن مجموعة التساؤلات الكبرى، بل إنها مسخرة لتوجيه سياساتها لخدمة قطاعات اقتصادية واجتماعية وسياسية معينة دون غيرها، وقد فقدت سيطرتها على أنشطة الشركات الاقتصادية والتجارية العملاقة، كما إن المواطنين في الدول الديمقراطية بدأوا يفقدون ثقتهم بالسياسيين وبممثليهم المنتخبين لاقتناعهم بعدم تأثيرهم على تحسين حياتهم ولزيادة الهوة الطبقية بينهم وعدم قدرتهم على معالجة قضايا البيئة والفقر، وبعض الحكومات فيها تنتهج أساليب غير ديمقراطية لممارسة مهماتها، حيث ينجرف كبار المسؤولين فيها للإغراءات والفساد والمحسوبية والرشوة واختلاس المال العام).

 من الواضح أنه ليس ثمة اتفاق بشأن الديمقراطية، بيد إن نتائج الدراسات والمسوحات التي تمت في بعض الدول الديمقراطية وجدوا أن شعوبها لا تزال تؤمن بها كأفضل شكل للحكم، وتبقى قوة أساسية مقارنة بالأنظمة التسلطية والدكتاتورية، فهي في نهاية المطاف تشجع المواطنين على الانخراط في العمل السياسي والنشاط المجتمعي، فيما تنكر الأنظمة الشمولية والتسلطية هذه الحقوق أو تحد منها حيث مصالح الناس لا تشكل أولوية بالنسبة لها بل احتياجات الدولة ومصالح النظام الحاكم ومن يدور في أفلاكه.. "أنظر كتاب علم الاجتماع لأنتوني غدنز، ص480، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت".

 وفي كل الأحوال يبقى السؤال عالقاً بشأن عيوب الديمقراطية التي ناقشها المؤلف وغيره؛ وهل ستقود المواطن الصيني أو غيره إلى قناعة راسخة بنموذج الجدارة الصينية المحسنة كبديل عن الممارسة الديمقراطية؟   


الاختيار.. التعين عوضاً عن الانتخاب

عبر تفاصيل سردية تناول المؤلف الخلفية التاريخية لممارسة السلطة في النظام الإمبراطوري المتوارث الذي يستمدها من الأخلاقيات والمبادئ الكونفوشية القائمة على فكرة الجدارة والمهارات الاجتماعية والفضيلة، كما يشترط وصول ذوي الكفاءة والجدارة إلى مواقع السلطة أو إحاطتها بنخبة مميزة من الخبراء في كافة المجالات، وحتى في مرحلة انتعاشها لجهة صعود الصين التي أصبح اقتصادها منذ التسعينيات أكبر اقتصاد في العالم، ففي هذا النظام يوضح كيف تعمل آلية تدريب وتقييم وتعيين القادة السياسيين ممن يمتلكون السلطة النهائية في الجماعة السياسية تماماً مثل القادة المنتخبين في الديمقراطيات، ويشير إلى إنه لا يوجد تمييز مؤسسي واضح في نظام الجدارة بين الموظفين العموميين والقادة السياسيين، وإن نظام اختيار وترقية الموظفين العمومين يعتمد على امتحانات وتقييمات الأداء في المستويات الدنيا للحكومة، منوهاً إلى إن الجدارة ليست بغريبة على الغرب، فقد تناولها أفلاطون ودافع عنها كنظام سياسي في اختيار القادة السياسيين استناداً إلى قدراتهم المتفوقة في التوصل لأحكام سياسية أخلاقية ولديهم القوة لحكم الجماعة، أما الديمقراطيات الليبرالية فتلجأ إليها في تعيين خبراء ومستشارين في مواقع إدارية وقانونية لكنهم مسؤولون من قبل القادة المنتخبين ديمقراطياً، ما يعني إن ممارستهم للسلطة يتم في مجال ضيق ومحدود على أن يبقوا محايدين سياسياً.

 في السياق ناقش عملية اختيار القادة السياسيين الأكفاء في نظام الجدارة السياسية وصفاتهم وأهميته، إلى جانب الآليات الأفضل لاختيارهم وترقيتهم، وطرح تصوراً لنظام جدارة سياسي مرغوب فيه يمكن تحقيقه في سياق دولة كبيرة سلمية قيد التحديث تأخذ به من خلال استخدام مقياس التقييم القائم في الصين، وتوصل إلى أن الأخيرة يمكنها بل ويجب عليها تحسين نظامها القائم على تقييم الأقران من أعلى المستويات لأدناها رغم إقراره بأن هذا النظام مثير للقلق لاحتمالية ما قد ينتج عنه من مكافأة الموظفين الذين يتملقون رؤساءهم بطرق لا أخلاقية، الأمر الذي يتطلب التحديث والإصلاح من داخل النظام بتجذير "ممارسة ديمقراطية القاع" ذات الجذور الكونفوشية لتشمل مستويات الحكم الأعلى، واختيار كوادر الحزب وترقيتهم استناداً إلى الخبرات المتراكمة لسنوات أكثر من الطاقة الثورية؛ فضلاً عن إعادة تصميم معايير التقييم لزيادة احتمالية امتلاك القادة السياسيون الدافع والقدرة على وضع سياسات سليمة، حيث تتميز الصين برأيه بعدم تقيدها بدروس الفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعية مقارنة بما هو معمول به في الديمقراطيات الانتخابية التي تعتمد على أهواء الشعب، ما يعني إمكانية معالجة وتقليل مساوئ النظام وليس فقط تدعيم مزاياه، فهو يمثل بديلاً وتحدياً للديمقراطية الانتخابية مع استمرارية سرعة نمو الاقتصاد الصيني.

 يضيف إنه من الجيد للجماعات السياسية أن يتولى حكمها قادة على مستوى عال، وإن نظام الحزب الواحد في الصين ليس في طريقه إلى الانهيار، وإن الجانب المتصل بالجدارة به جيد جزئياً ويمكن تحسينه، ويحتاج إلى اختبارات تقيس بشكل أكثر فعالية القدرات الفكرية المتصلة بالسياسة، على أن يكون العمل حثيثاً على زيادة النساء في المواقع القيادية من أجل زيادة احتمالية توافرالقادة الذين يمتلكون القدرات الاجتماعية لصناعة قرارات تتسم بالفعالية، فضلاً عن المزيد من الاستخدام المنهجي لنظام مراجعة الأقران بهدف ترقية المسؤولين السياسيين الذين لديهم الدافع والرغبة في خدمة العامة.

 

عيوب نظام الجدارة

استناداً لما سبق ناقش باستفاضة مشاكل تطبيق نظام الجدارة وعيوبه التي لخص أبرزها، في أن القادة الذين يختارون على أساس قدراتهم المتفوقة يميلون على الأرجح إلى إساءة استخدام سلطاتهم، إضافة إلى الهرمية السياسية التي يتصف بها النظام والتي قد تصبح جامدة وتضر بالحراك الاجتماعي، الأهم قوله في صعوبة إضفاء الشرعية على النظام في نظر من هم خارج بنية القوة -أي المعارضين له- وغير الموالين.  

 ومع ذلك، جادل المؤلف مجموعة الأفكار التي تناولها بعض المحللين كـ  Pan Wei الذي رأى "أن الصين على اقتراب لتأسيس رأسمالية السوق الحرة تحت مظلة دولة سلطوية تقوم على نظام الحزب الواحد وتؤكد على الاستقرار السياسي قبل أي شيء آخر. وإن نموذج الصين هو مزيج من الحرية الاقتصادية والقمع السياسي"، كذلك ما أشار إليه Suysheng Zhao  إلى "أن الصين حققت جوانب في اقتصاد السوق الحر، الذي يتدفق فيه العمل ورأس المال والسلع بحرية، في حين لا تزال الدولة تحتفظ بالسيطرة الكاملة على قطاعات استراتيجية من الاقتصاد ومجموعة كبيرة من الصناعات الأساسية، بما فيها المرافق والنقل والاتصالات والتمويل ووسائل الإعلام"، وما ذكره Barry Naughton "بإن لدى جمهورية الصين الشعبية اقتصاداً مختلطاً يتضمن ثلاثة مستويات تشمل: شركات حكومية كبيرة ومركزية؛ وشركات محلية وأجنبية مختلطة؛ ورأسمالية صغيرة".

 فقد علق على آرائهم قائلاً: "بإن الافتراض القائل إن الحكم الاستبدادي القمعي هو السمة السياسية الرئيسية لـ"نموذج الصين" هو مضلل. من الصحيح أن الحكومة الصينية تنفق ببذخ على جهاز الأمن للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، وتلجأ إلى تدابير قاسية لإخماد التهديدات المحتملة لحكم الحزب الواحد، غير أن الصحيح أيضاً أن الحزب الشيوعي الصيني هو محرك الإصلاح السياسي، وأنه لن يعمد إلى تشريع عملية إصلاح قد تقود إلى زواله...".

 ختاماً لا شك أن مقاربة المؤلف بين نظامي الديمقراطية الغربية والجدارة الصينية تضفي أهمية كبيرة على الكتاب، كما إن تناوله لأليات نظام الجدارة القائمة على التقييم بالاختبارات وآراء الأقران والرؤساء في المستويات الهرمية أو الأفقية المتداخلة مع العناصر الأخرى وأبرزها الولاء للنظام والصلات القرآبية والحزبية وغيرها، تثير الالتباس والغموض حول كيفية وصعوبة تطبيق هذه المقاييس بمثالية مع استبعاد الأغلبية من المشاركة السياسية؛ بل وترجيحه للجدارة كبديل عن الديمقراطية.

 في نهاية المطاف النظام الصيني شمولي تسلطي يعيد إنتاج نفسه بتكثيف آليات تسلطه ويفتقد للمساءلة الشعبية ولا يمكن لعلاقته الأبوية مع الشعب الصيني وحكم وصاية الحزب الواحد من إنضاج ظروف للعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية الحقيقية، بل هو بيئة مثالية لتفشي الفساد والنخبوية بما يمس عمق شرعية النظام القائم رغم كل ما حققته وتحققه الصين من نمو اقتصادي.


المنامة - 9 فبراير 2022