الاثنين، 20 مارس 2023

المسألة الشرقية تعيد نفسها بمكر ومهزلة

منى عباس فضل

التزاماً بواجب "التعقّل"، وإعادة ترتيب الأفكار، وتحطيم التصوّرات والتخيّلات، وبالقدر نفسه تفكيك النمطيّات والروايات التافهة والمكرّرة، يعيد "جورج قرم" في كتابه "المسألة الشرقية الجديدة؛ دار الفاربي: بيروت ط 2021"، مناقشة قضية الشرق ويتعمق في تفكيكها بمنهج تحليلي استراتيجي-جيوبوليتيكي ويقاربها من كونها موضوعاً حياً مؤلماً لايزال يتجسد في مشهد الصراع الغربي-الشرقي الذي انطلق منذ صراع البلدان الأوروبية "الغرب" والعثمانيين "الشرق" في أوائل القرن التاسع عشر؛ وعبر الحملات الاستعمارية وما آلت إليه بسقوط الإمبراطورية العثمانية.

 يحلل قرم الأحداث منذ اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 والنكبة 1948 ونكسة 1967 وحتى الربيع العربي 2011، كاشفاً عن دور الدول الإمبريالية فيها؛ منوهاً إلى ولادة "مسألة شرقية جديدة" مع نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 وتراجع وضع الدول التقليدية الكبرى كألمانيا وفرنسا وبريطانيا وصعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، متيقناً بأن الأحداث التي ضربت الشرق الأوسط، قد أدت إلى بروز الفوضى وتأجيج الإرهاب؛ واستمرار دوامة العنف منذ سبعين عاماً ولاتزال في ذروتها المتمثلة في حروب "العراق وسوريا وليبيا وفلسطين واليمن".

أما عن دافعه في العودة إلى الكتابة، فهو لإحساسه بالخطر، وبأهمية مواصلة جهوده في التحليل وترتيب الأمور فكرياً ولغوياً، لاسيما وإن إحياء نكبات العالم العربي قد حدثت بفعل متغيرات طرفية واستراتيجية جديدة كما يشير؛ وارتكازاً على رؤيته كخبير سياسي في العلاقات الدولية والاستراتيجية والتاريخية؛ اتبع منهجية التحليل القائم على العوامل المتعددة وارتباطها بأسباب موضوعية وذاتية مختلفة على الرغم من تركيزه على تأثير العناصر الموضوعية في علاقة الشرق بالغرب وما تتسم به من حالة صراعية حيث يٌذكر بأنه "لابد أن نكون واعين بأن القوّة أو التأثير في العوامل الداخلية ترتبط بشكل واسع بما تحظى به من دعم بفضل التدخلات الخارجية"، مضيفاً بأن هذه العلاقة قد تحولت راهناً إلى صراع عربي-عربي، سيؤدي بالمنطقة نحو المزيد من العنف والإرهاب، بل والفوضى المطلقة وإلى تناقضات في السياسات المتبّعة والهذيان المتفاقم، مؤكداً "بأن كل تحليل لا يأخذ في اعتباره التعقيد الناجم عن تفاعل العوامل الداخلية بالخارجية فهو يبسّط مسائل هذه المنطقة التي تمر اليوم في انهيار عنيف".

في ثمانية فصول من كتابه يرصد قرم الصراعات العربية وتطوّرها عبر الكيفية التي تنظر فيها الجماعات الفكرية الغربية إلى عالمنا العربي وتركز عليه بنمطية أحادية خاضعة إلى تأثير السرديات الدينية وثقل الصراع التاريخي بين الشرق والغرب لاسيما مع سياقات تأثير الحرب الباردة التي أعادت رسم "المسألة الشرقية الجديدة" في بعدٌ ديني "مسيحي" عبرت عنه قضايا الصراعات المحلية، وكذلك ثورات الربيع العربي والتراجع التنموي.

 

خطاب العنصرية والازدراء

تناول المؤلف في الفصل الأول إرث الضغوطات التي تثقل أطر تحليل العلاقات الدولية وتأثر الكبار اللاعبين المؤثرين في أحداثها بذاكرات جمعية واجتماعية وانتماءات غالباً ما تسّوغ فيها تحليلاتهم؛ لأعمال العنف والحروب وانتشار الجيوش والاحتلالات، وبتأثير من مفاهيم ومقولات غامضة تشكل قاموس مفردات تلك التحليلات، لم لا والأنثروبولوجيا الدينية والسوسيولوجيا الكولونيالية تبعاً لقرم لها تأثير جوهري على بث خطاب العنصرية والصراع والازدراء تجاه الآخر، وبتأثير خبيث من وسائل الاعلام التي تبث صورة عن بلدان الشرق في الغرب.

 في هذا الصدد ينوه إلى إنه وبرغم اتخاذ دول الشرق توجه "عدم الانحياز" تجاه تحولات الحرب الباردة، إلا إنها كانت الخاسر الأكبر، خصوصاً مع بروز الأحادية القطبية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي 1989 الذي حفز وأحيا خطاب "مركزية الفكر الأوروبي-أرنست رينان" إضافة إلى تطور أيديولوجيات "صراع الحضارات" بتدخل مباشر وسافر في إعادة تشكيل الخريطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث استخدمت "نظرية فوكوياما" وشعارات تعزيز دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، لتسويغ السياسة الإمبريالية الأميركية وحلفائها الأوروبيين، في تدمير الأنظمة غير الديمقراطية بالقوة، تماماً كما حدث في اجتياح العراق عام 2003، وهذا أدى كما يقول إلى انحرافات في تحليل نزاعات الشرق الأوسط التي أخذت بعداً في الروايات النمطية التي سعى إلى تفكيكها. 

 

"النمطيات القاتلة" شرّعت العنف

يحدد قرم "النمطيات القاتلة" التي سّهلت وشرّعت، تصاعد أعمال العنف في العالم العربي ويحللها في سيرورة علاقة الغرب بالشرق خلال القرن الأخير، ودور "الكليشهات" في وصم هذا العالم بمفاهيم "العنف والتطرف والإرهاب والفوبيا"، فضلاً عن تعزيز نظريات المؤامرة المسوغة إلى شرعية التقسيم الجيواستراتيجي العمودي "شمال وجنوب"، والتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجنوب عبر تقسيم عاطفي بين "أخيار" يساندون أمريكا والغرب و"أشرار" يمثلون دول معارضة ومنافسة تبعاً للمصالح الجيوسياسية واستراتيجية سياسية معززة بالضغط الدولي لشيطنة "الدول المارقة" أو "محور الشر" كما يحدث لإيران وسوريا وكوريا الشمالية؛ وتهميشها من خلال بسط الهيمنة الغربية على العالم، أما في المجال الديني؛ فيجد أن تسيس الديانة بات يجتاح المساحة الجيوسياسية الكاملة للعالم التوحيدي، وإن النزاعات الطائفية المتطرفة قد ازدهرت منذ التسعينيات.

في السياق ناقش الملابسات حول مفهوم الإرهاب واقترنه بالإسلام في العالم العربي، وازدواجيه التعاطي مع قضايا الأمن الدولي، حيث يدعم بعضهم ويجابهه البعض الآخر، وتحت شعارات "العهد الصليبي"، والتمييز بين وجود مفترض لجماعات إرهابية "معتدلة" يجب دعمها وجماعات "متطرفة" تجب مقاومتها؛ كما في الرغبة الجامحة لإسقاط النظام السوري، وحلل في الإطار موضوع "المثلث الشيعي" وتداوله كمصدر للإرهاب.

 

الإسلام السياسي وليد الاستعمار

يكمل تحليله حول "ثقل الروايات الرسمية" التي يفككها في الفصل الثالث عبر إثارة أسئلة افتتاحية؛ هل الإرهاب الإسلامي وليد الدكتاتوريات العلمانية العربية؟ هل الإسلام السياسي ردّ فعل ضد القمع في المرحلة التي أعقبت الاستعمار؟ هل بلوغ الحداثة السياسية يجب أن يمرّ حتماً بالإسلام؟ هل الإسلام عنيف في جوهره؟ وهل يدعو إلى التعامل الشائن مع الأقليات الدينية؟ وهل يستهدف الإرهابيون القيمَ الغربية؟

هنا لا يكتفي "جورج قرم" بالإجابة على تلك التساؤلات؛ وإنما يناقشها من جهة تأثير المحددات الدينية والتاريخية في تشكيل صورة الشرق في المخيلة الغربية، ودور الصيرورات السياسية والتاريخية التي تربط بين الإسلام والعنف والإرهاب وعلاقة ذلك بالدكتاتوريات العربية والعلمانية؛ فكل هذا وذاك برأيه يساهم في تشكيل ذهنية الغرب وصناعة رأيه العام وموقفه من "المسألة الشرقية"، ومنه يخلص إلى إن الإسلام لم يرتبط يوماً بالعنف والإرهاب أو معاداة الأقليات، وحتى حركات الإسلام السياسي التي برزت كانت وليد رد فعل على سنوات الاستعمار في الشرق، وبالتالي فما يحدث اليوم هو امتداد لرهانات وتصورات تاريخية، الأهم أن الغرب لعب دوراً أساسياً في تشكيل هذه الكيانات -أي الإسلام السياسي- ومحاربتها فيما بعد، منوهاً بأن مختلف التحليلات والدراسات المتعلقة بها والتي تروج لها مراكز الدراسات والأبحاث الأكاديمية ووسائل الإعلام؛ ما هي إلا دراسات استعمارية جديدة و"أبوية"، وهي اجترار لنظرية "صراع الحضارات" والرغبة في طمس "المسألة الشرقية" بشكل دائم.

 

تدخّلات خارجية بتواطؤ القادة العرب

يسلط الضوء في الفصل الرابع حول "مكونات المسألة الشرقية القديمة"، ويبدأ حديثه عن الجذور التاريخية والسياسية لتشكلها وهي تتعلق أساساً بالاضطرابات وأعمال العنف التي تواجهها المنطقة، واستشعار الغرب بخطر التمدد الإسلامي عبر "الإمبراطورية العثمانية" على مصالحه التوسعية والإمبريالية، ودلالته في ذلك كيفية تناول نسق الإسلاموفوبياً في الغرب؛ الذي لا يتم إلا عبر العودة إلى الجذور التاريخية للمسألة، وبقصد شرعنة الهيمنة وطمس الهوية الشرقية، ويعطي قرم نموذجاً لذلك حين استخدمت منذ حملة نابوليون بونابارت وحتى اتفاقية سايكس بيكون ومعاهدة سيفرس 1920 كأداة لإضعاف قوى الشرق من خلال بث الفرقة وتشكيل فسيفساء دينية وعرقية" في العديد من البلدان العربية كـ(لبنان والعراق وسورية..) وتحويل "الوطن القومي لليهود" إلى دولة يهودية "إسرائيل" بوصاية وإشراف غربي.

وفي مقاربة تحليلية؛ يذكّرنا أنّ ما يحدث اليوم يشبه تطوّرات بلاد البلقان التي أثارتها تدخّلات القوى الأوروبية الكبرى وظهور مختلف أشكال الإرهاب التي انتشرت فيها آنذاك جراء الغليانات الوطنية، بحكم الأقليات غير التركية وغير المسلمة في الإمبراطورية العثمانية وأشعلت الحرب العالمية الأولي عام 1914 وانتهت إلى انهيار الإمبراطورية النمساوية-المجرية، والإمبراطورية العثمانية ومن نتائجها السيطرة التامة الفرنسية والبريطانية على المجتمعات العربية؛ في هذا، الفصل يستفيض حديثه عن القضية الفلسطينية، كونها همشت على الساحة الدولية إن بفعل الدعم المطلق الذي تلقاه الدولة الإسرائيلية في بناء مستعمراتها، وإن بأعمال العنف الفظيعة التي تهزّ المجتمعات العربية في المشرق، حيث تجدّدت التدخّلات الخارجية بكثافة وبتواطؤ العديد من القادة العرب.

 

التوظيف اللامسؤول للدين

يغوص قرم في الفصل الخامس بـ"معطيات المسألة الشرقية الجديدة"، منذ إنهاء الاستعمار، وتزايد تدخلات القوى الخارجية الغربية والاتحاد السوفياتي، واحتلال فلسطين وبروز دولة لليهود، والتوظيف اللامسؤول للديانة الإسلامية ونشوء القاعدة، مروراً بالحرب الباردة المخلة بالاستقرار، ومصادرة الثورة الإيرانية الشعبية الإيرانية 1979 من قبل رجال الدين ونتائجها على العالم العربي، وحرب الخليج وغزو العراق، واختطاف الربيع العربي في 2011، والتدخل الروسي في سورية، كل ذلك أفضى إلى العنف المعمّم، الذي تلقى فيه الإسلام السياسي دعماً بطرق مختلفة وعبر سياسات القوى الأوروبية والولايات المتحدة، بوصفه العلاج المضاد لانتشار النزعة المناهضة للإمبريالية، وللحركة القومية العربية، فكل ذلك يكشف مجدداً عن مدى استمرار التدخّلات الخارجية في شؤون المنطقة ونتائجها العبثية.

 جاء عنوان الفصل السادس "مسيحية الأصول في طريقها إلى الزوال" حيث يحلل "قرم" قضية تقلق الرأي العام الأوروبي وعالمنا العربي وتركيا؛ ألا وهي مصير مسيحّيي الشرق. من منطلق الاختلاف والتعددية الدينية في الشرق الأوسط، ركز تحليله على المتغير الديني، والشروط التاريخية المتحكمة في توزيع الطوائف المسيحية في لبنان وسورية منذ سبعينيات القرن الماضي، ورأى أن الباحثين -كما المجتمع الدولي- تغاطوا عن دور السوريين المسيحيين في صياغة شروط الفعل الاحتجاجي في المجال السوري، وإنهم غالباً ما يجنحون إلى الحديث عن "المسيحيين المشرقيين" أو "المسيحيين في الشرق" متغافلين الآثار السوسيو-ثقافية على تشكيل منطق التعايش والتعددية الثقافية في منطقة عرفت بالاضطرابات المستمرة، فتسمية "مسيحي الشرق" تجعل من الشرط الديني بالنسبة لهم مدخلاً وحيداً لتحديد الهوية والانتماء، بعيداً عن المتغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي يمكن الارتكاز إليها لتكون مفتاحاً لمناشدة الوحدة في إطار التعددية وسياق تحولات المشهد السياسي والاستراتيجي الإقليمي.

 

إباحة التدخل العسكري وتفكيك الدول

ويضيف قرم هنا بإن الرهان لا يدور قط حول العيش المشترك الإسلامي-المسيحي، أو الإسلامي-اليهودي وحسب، بل أيضا حول التعددية الدينية داخل العالم الإسلامي وبين مختلف الجماعات الإسلامية، السنة كأكثرية ساحقة، والشيعة، وجماعات أخرى من الإسلام، ويصل في هذا الفصل؛ "إلى إن بعض القوى الأوروبية وعلى رأسها فرنسا قد أباحت لنفسها أن تتدخل عسكرياً، وتؤجّج النار سياسياً وعسكرياً، لم تفعل سوى العودة إلى التقاليد الاستعمارية البغيضة؛ وبالأمس كانت تتذرّع بالدفاع عن الأقليّات المضطهَدة، واليوم تتذرّع بحقوق الإنسان المحتقرة، وإن هذه القوى تعمل اليوم على تفكيك الدول القائمة، بعد أن سلخت لواء الاسكندرون عام 1939 حيث تقع مدينة أنطاكية مرجع المسيحية المشرقية الأعلى، لتقدمه إلى الأتراك، بعد أن مهّدت لاستعمار فلسطين والقدس على يد الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، مما تسبّب في إزالة الفلسطينيين المسيحيين، والجماعات المسيحية في سورية مهدّدة بالاندثار، لأن قادة أوروبيين مصابين بالعمى، لاسيما في فرنسا، لم يتردّدوا من مساندة التعصب الديني لدى المجموعات الإسلامية المتطرفة، التي صادرت لمصلحتها المعارضة السورية". 

اقتصاد الريع أصل المشاكل

وكاقتصادي يدق "جورج قرم" في الفصل السابع ناقوس الخطر بشأن التراجع التنموي وما تتخبط به أغلب البلدان العربية، على الرغم من امتلاكها ثروات طبيعية مهمة، إلا إن مجتمعاتها تعيش وضعاً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً كارثياً، مقارنة بدول أخرى أثبتت وضعها الاقتصادي العالمي كدول جنوب شرق آسيا، أما أسباب ذلك التناقض المثير فيكمن في تعميم اقتصادات بُنيت على الهدر الناجم عن الفساد والنموذج المدمر للنمو والتنمية، وعلى اقتصاد الريع حتى في داخل المجتمعات التي لا تملك احتياطيات نفطية، وهنا لا يكتفي بذلك؛ إنما يحاول فهم أسباب الإخفاقات المتكرّرة في محاولات التصنيع، وفشل الإرياف، واستمرار بؤر واسعة من الأميّة، والبطالة بين حملة الشهادات من الشباب والهجرة وتشكل شرائح واسعة تعاني من الفقر والتهميش الذي جعلهم ضحية رخيصة للدعاية الدينية المتطرفة التي تموّلها التنظيمات الإرهابية وبعض الدول، إضافة إلى تطبيق وصفات اقتصادية مالية نيوليبرالية لم تفعل سوى تأجيج الوضع المتفجّر.

مضيفاً بأن التحولات في المجتمعات المحلية والنسيج السوسيو-اقتصادي العربي لم تواكبه دراسات علمية جادة -محلياً بالأساس- للوقوف عند مكامن خلل الخطط التنموية، والمعضلة تبعاً له لا تنحصر في ضعف الموارد المادية البشرية واللوجستية، وإنما في إدارتها وتدبيرها وقيادتها، في وقت تتنامى فيه حدة ظواهر الفساد واللاعدالة الاجتماعية وسوء توزيع الثروات والموارد المحلية في الاقتصاد الريعي التي شكلت أهم عناصر تفجر حركات الانتفاضات الشعبية عام 2011.

 

أطروحة "هانتينغتن" هذيان عرقي

يتصدى "قرم" بحزم في كتابه لمفهوم "صراع الحضارات"، فيدحض منهجياً أطروحة "هانتينغتن" ويندّد بوظائفها الإيديولوجية ويرى بأنها هذيان عرقي تجب مقاومته من دون هوادة، وهي تكرار قديم لعنصرية القرن التاسع عشر الأوروبي العنيفة التي قسمت العالم إلى كيانين خياليين: العرق النبيل والراقي، عرق الآريين، والعرق المنحط، عرق الساميين ذوي العقل الثقيل، المتجسد اليوم في الإسلام. وإن تشجيع فكرة حوار للحضارات والثقافات والأديان، إنما يدعم فكرة "هانتينغتن" من أن الحضارات والثقافات والأديان، تشكل الأسباب الحقيقية للنزاعات، وليس طموح القادة السياسيين واعوجاج ضمائرهم، إن هذه الأطروحة تستخدم في تشريع وعلى نحو مباشر وواع وغير مباشر وغير واع، تشريع السياسات الهوجاء القائمة على تدخّلات الحلف الأطلسي، في شؤون العالم العربي الداخلية، وخدمة مصالح اقتصادية غربية، كما إن اقترانها بظاهرة الإرهاب شكل ذريعة للتدخل في المنطقة العربية وتحت مسميات متنوعة كاجتثاث التطرف وزرع الديمقراطية، وإن ربط الحضارة بالصراعات الاجتماعية الثقافية والسياسية ما هو إلا دليل على البعد الديني للمسألة، أكثر من البعد الاستراتيجي أو الاقتصادي.

 في خلاصة الكتاب، طالب مجلس الأمن بالامتناع عن التصويت على أي عقوبات اقتصادية تمسّ حياة الشعوب البريئة عوضاً عن حياة قادة الدول المتهمين، فهي تشكل جريمة ضد الإنسانية، ووجد أن أسباب التدخلات في منطقتنا العربية تعود إلى الرغبة في تشغيل معامل السلاح والحصول على امتيازات اقتصادية كالعقود النفطية والغازية، هذه التدخلات التي بررتها الولايات المتحدة وحلفائها الغرب بالكذب وتسميم الأجواء والإعلام الكاذب، كي يبرّروا في عيون برلماناتهم ورأيهم العام المغامرات العسكرية الخارجية، وتساءل: كيف يمكن ألا تعاقب الأكاذيب المكشوفة لمسؤولين كبار كجورج بوش الأبن وطوني بلير بسبب اجتياحهم العراق عام 2003 وما سببوه من خراب وآلام بشرية، ومناطق للنزاع وموجات من اللاجئين؟

 بحق؛ إن قراءة الكتاب مهمة، خصوصاً ومنطقتنا العربية لاتزال تطحنها التدخلات الأجنبية والاحترابات الطائفية والعرقية واستمرار وتيرة العنف وعجز الشعوب عن تحقيق حلمها في الانتقال السياسي والديمقراطي الذي وعدت به، وما تعانيه من فساد وهدر للثروات. إن الحل الاستراتيجي لتجاوز حالة الصراع التاريخي بين الشرق والغرب، تكمن في البحث عن صور "التعددية" وقبول الآخر الغربي أو الشرقي بوصفه مختلف عنا ويشكل غنى وإضافة نوعية لوجودنا.

 

المنامة – 20 مارس 2023


السبت، 11 مارس 2023

عايدة تعود AIDA RETURNS

 

منى عباس فضل


https://www.youtube.com/watch?v=hRDODbrQw7g

https://www.gofundme.com/f/mama-aida-a-film-by-carol-mansour

رابط لمقطع من فيلم عايدة تعود على اليوتيوب


قيل "سيموت الكبار وينسى الصغار"، هل ينطبق ذلك على الفلسطينيين؟ بيقين؛ أقول لا.

 فالقضية الفلسطينية التي يخوض شعبها معركته الشرسة المستمرة في الساحات وبمختلف الأدوات؛ في الداخل وفي الشتات، وعبر الأجيال حية باقية وتدور رحاها دون هوادة، دون يأس.

 

 إنها تجربة مريرة، قاسية صعبة ومستفزة، هي حكاية النزوح من فلسطين التي اختارت عبرها المخرجة اللبنانية الفلسطينية وكاتبة الأفلام الوثائقية والتي تشارك في بطولة الفيلم؛ "كارول منصور"؛ تجسيدها من خلال فيلم "عايدة تعود AIDA RETURNS" حيث مدة الفيلم ساعة واحدة، وتتمحور أحداثه حول دفن رماد "عايدة عبود" والدة المخرجة في مسقط رأسها بيافا.

 


يدور الفيلم الوثائقي بحكايته الحزينة المؤلمة المؤثرة عبر رحلة ممتدة من الخسائر المتداخلة بشحنات بعدها العاطفي والإنساني وبمنعطفات تتخللها روح الدعابة والابتسام، إنها سردية "عايدة" التي أصيبت بزهايمر التهم ذاكرتها ولم يمح الوطن منها الذي طالما كانت تعود إليه بموجات متكررة مع استنطاق ذكريات طفولتها وشبابها ومدرستها ونزوحها وعائلتها بعد النكبة إلى لبنان وحتى عودتها الأبدية إلى يافا.

 

تشير أحداث الفيلم أنه وبعد أربع سنوات من وفاة "عايدة" عام 2015، صادف أن زارت "تانيا" التي تقيم في رام الله صديقتها "كارول منصور"، وعرفت منها رغبة "والدتها عايدة" وتوقها للعودة إلى يافا؛ فاقترحت عليها أن تحمل رفاتها "الرماد" وتهربه بنفسها إلى يافا، تقول كارول: "في البداية لم أمتلك القوة لمشاهدة اللقطات التي صورتها منذ عام 2007 وأنا التي احتفظت برمادها في منزلي سنتين، حتى جاءت "تانيا" وأخبرتني منتجة الفيلم "منى الخالدي" أن أعطى الرماد لها فعلى الأقل سيكون في فلسطين".

 

تظهر مشاهد الفيلم الذي استغرق سبع سنوات لإكماله، كيف كانت المخرجة تخطط بتدبير وتصميم لإعادة رفات والدتها، إلى مسقط رأسها في يافا لترقد بسلام في رحلة خاصة وبحبكة مؤثرة تحاكي قصص مئات الآلاف من فلسطيني الشتات ممن يعانون وتعاني عائلاتهم مع إصابتهم بمرض الزهايمر، وحيث الذاكرة وسيلة للحفاظ على الهوية، وهم لا زالوا ينتظرون حقهم في العودة إلى فلسطين. تبرز في مشهد المهمة الصعبة صديقة أخرى تشارك في بطولة الفيلم هي "رائدة طه" التي تتولى مع الفريق تنفيذ الخطة بمتابعة "كارول" عبر المحادثات الهاتفية.

 


يرتكز الفيلم في سرديته على السيرة الذاتية وعلى صور من حياة "عايدة" وأسرتها في فلسطين ولبنان وكندا، وتتكامل حلقاته مع مقابلة تمت مع "عايدة" عام 2007 تتذكر فيها وببريق يشع من عيونها؛ تتذكر يافا وتستعيد معه مغادرتها، فيما تلتقط من خلالها "كارول" ذكريات والدتها وحياتها في يافا التي تعشق بحرها وتتشبث بجذورها رغم مسافات الزمن. تتضمن مشاهد الفيلم محادثات حميمة بين "كارول وعايدة" بعد أن تفاقم عليها المرض، وقد تم تصوير مشاهد الفيلم في مونتريال مع تدهور ذاكراتها حيث زارت المخرجة كندا أكثر من 21 مرة خلال ثلاث سنوات لتكون بجانب والدتها وتصورها بهاتفها للاحتفاظ بذكرياتها الجميلة؛ تنوه "كارول" إنها لم تخطط في البداية لصناعة فيلم عنها، لكنها بعد أن حصلت على مزيج من المواد كان من الواضح لها أن ما يجب أن تفعله هو صناعة فيلمٍ يوثق رحلة والداتها: "عودتها" إلى يافا وفلسطين في شبابها، ويجسد حرمانها من حقها أن تدفن بأرضها...".

 

عرض الفيلم للمرة الثانية واستعداداً للمشاركة به في مهرجانات عالمية في حرم الجامعة الأمريكية ببيروت في 7 مارس 2023، امتلأ مدرج الجامعة عن آخره من الحضور الفلسطيني والعربي وكل من قلبه ينبض بفلسطين وبحق العودة لشعبها، يمتزج السرد ما بين المقابلة التي تتحدث فيها عايدة عن نشأتها وصباها في مجتمع يافا المتعدد والمتنوع، وحيث ولدت عام 1928 وعملت بمصرف بريطاني وكانت تعيش وعائلتها في استقرار وأمان ورغد إلى أن تعرضت المدينة إلى إطلاق النار وهرب آل عبود خلال النزوح الجماعي للفلسطينيين إلى بيروت عام (النكبة) 1948 تاركين وراءهم بيوتهم، مفترضين أنهم سيعودون خلال أسابيع أو شهور قليلة، لكن الواقع أثبت لهم استحالة ذلك، فبدأوا بالعمل وتدبير العيش مع حال الشتات وبما تبقى لهم من حلم العودة يوما ما إلى فلسطين؛ والتقت "عايدة عبود" بزوجها "ميشال منصور" وتزوجا ثم هاجروا كأسرة في المنفى إلى كندا، وهناك تدهورت صحتها وأصيبت بالزهايمر.

 


في يافا الحاضر، يبدأ المشهد برائدة طه وتانيا وآخرين ممن يجسدون جزءاً من الرواية، يسيرون على الأقدام باتجاه منزل عبود القديم الذي كانت تسكنه وقتها عائلة غير فلسطينية، لم يجدوا به أحداً، دخلوا حديقته خلسة ودفنوا بعضاً من رمادها في الحديقة، أخذوا بعض الصور وكانوا على اتصال مباشر مع "كارول" التي استغرقت في حزنها ودموعها وواصلت المشاهدة الحية لرحلة فريق الدفن والتصوير، ثم عثروا على مقبرة بها قبور لأفراد من عائلة عبود يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، وأودعوا بين جنبات ترابها بعضا آخر من "رماد عايدة"، وفي الأخير اتجهوا إلى شاطئ هادئ من بحر يافا يتردد عليه الفلسطينيون، وخاضوا فيه بكاميراتهم تتقدمهم "رائدة طه" وهي تخطو في رمال الشاطئ وتقترب منه رويداً رويداً وبيدها بقية الرماد وتردد ترنيمة لمطلع من بيت شعر لمحمود درويش "هذا البحرُ لي.. هذا الهواءُ الرَّطب لي.." وهنا يتداخل المشهد بين الدعابة وبين حزن الفقد يخترق الجوف ويلخص حكاية وجع الشتات ووجع فلسطين.

 

السرد جزء محوري من الثقافة الفلسطينية وتراثها، تقول "رائدة" التي التقينا معها بعد نهاية العرض وهي تعلق على قيامها بدفن "عايدة": "أخذوا منا كل شيء، إلا الأمل، يحاربوننا في كل شيء إلا الذاكرة، خربوا التطور الحضاري للمجتمع الفلسطيني الذي كان متقدماً قبل النكبة مقارنة بمن حوله.. لكننا لانزال على أمل". إن رحلة العبور إلى يافا لدفن رفات "عايدة" كانت مجازفة، جنون، قل عنه ما تريد، بيد إنه جزء لا يتجزأ من نضال الشعب الفلسطيني اليومي لتأكيد حقه في العودة إلى بلاده المحتلة.

 


صورت المخرجة "كارول" بعضاً من ذكريات الشعب الفلسطيني العالقة على لسان أمها "عايدة" وربطت المعاناة الإنسانية التي عاشتها وعائلتها في الشتات بأسلوب حي وإنساني مؤثر، ساد قاعة العرض صمت وحشرجات وبكاء مكتوم ودموع تتستشعرها لمن يجاورك في مشاهدة العرض؛ إنه منجز تُحكى فيه قصة الشعب الفلسطيني بعد مرور أكثر من 75 عاماً من عمر (النكبة) وعبر أجيال متعددة رابطها المشترك هو حلم العودة إلى الجذور؛ إلى الأرض.

 


في الفيلم تجسيد شخصي وإنساني لمعاناة نابعة من الوجدان، إنه يناقش قضية إنسانية حيث ترفض دولة الكيان الصهيوني العودة الصريحة للاجئين الفلسطينيين، الأمر الذي يجعل من حالة وفاتهم ورحيلهم قضية سياسية بامتياز، وهو محطة لاستعادة الذاكرة الفردية والجماعية الفلسطينية ولتوصيل روايتها في حق العودة في إطار متجدد بعيداً عن السرد السياسي والتاريخي، وفي جزئية منه تعبيراً عن رد الاعتبار لهذه الرواية من منظورها الشخصي حتى وهي تطال مجتمعاً بكامله حُرم من تطوره التاريخي، وهو علامة للتذكير كل يوم بأن الإنسان الفلسطيني محروم من حقه في الدفن في قبره ومن استنشاق هواء وطنه.

 

لن يتوقف الشعب الفلسطيني عن الحنين إلى أرضه، ولا عن حلم العودة إلى دياره، فهو شعب سلبت أرضه من استعمار ومن تآمر وكراهية؛ والاحتلال خلف خسائر معنوية ومادية لا تزال شاهداً على قسوة العالم وازدواجيه معاييره، ولهذا فالفيلم يعد أحد الأدوات التي يُمرَّر عبرها رسالة إلى العالم بأن "حق العودة" قضية إنسانية عادلة ولن نتخلى عنه؛ وبانتظار أن نشاهد عرض هذا الفيلم في صالات السينما البحرينية؛ عوضاً عن استقبال الوفود الصهيونية التي يرفض شعبنا البحريني التطبيع معها، لأن فلسطين كانت وستظل بوصلته وقضيته الأولى.


المنامة - 11 مارس 2023