السبت، 11 مارس 2023

عايدة تعود AIDA RETURNS

 

منى عباس فضل


https://www.youtube.com/watch?v=hRDODbrQw7g

https://www.gofundme.com/f/mama-aida-a-film-by-carol-mansour

رابط لمقطع من فيلم عايدة تعود على اليوتيوب


قيل "سيموت الكبار وينسى الصغار"، هل ينطبق ذلك على الفلسطينيين؟ بيقين؛ أقول لا.

 فالقضية الفلسطينية التي يخوض شعبها معركته الشرسة المستمرة في الساحات وبمختلف الأدوات؛ في الداخل وفي الشتات، وعبر الأجيال حية باقية وتدور رحاها دون هوادة، دون يأس.

 

 إنها تجربة مريرة، قاسية صعبة ومستفزة، هي حكاية النزوح من فلسطين التي اختارت عبرها المخرجة اللبنانية الفلسطينية وكاتبة الأفلام الوثائقية والتي تشارك في بطولة الفيلم؛ "كارول منصور"؛ تجسيدها من خلال فيلم "عايدة تعود AIDA RETURNS" حيث مدة الفيلم ساعة واحدة، وتتمحور أحداثه حول دفن رماد "عايدة عبود" والدة المخرجة في مسقط رأسها بيافا.

 


يدور الفيلم الوثائقي بحكايته الحزينة المؤلمة المؤثرة عبر رحلة ممتدة من الخسائر المتداخلة بشحنات بعدها العاطفي والإنساني وبمنعطفات تتخللها روح الدعابة والابتسام، إنها سردية "عايدة" التي أصيبت بزهايمر التهم ذاكرتها ولم يمح الوطن منها الذي طالما كانت تعود إليه بموجات متكررة مع استنطاق ذكريات طفولتها وشبابها ومدرستها ونزوحها وعائلتها بعد النكبة إلى لبنان وحتى عودتها الأبدية إلى يافا.

 

تشير أحداث الفيلم أنه وبعد أربع سنوات من وفاة "عايدة" عام 2015، صادف أن زارت "تانيا" التي تقيم في رام الله صديقتها "كارول منصور"، وعرفت منها رغبة "والدتها عايدة" وتوقها للعودة إلى يافا؛ فاقترحت عليها أن تحمل رفاتها "الرماد" وتهربه بنفسها إلى يافا، تقول كارول: "في البداية لم أمتلك القوة لمشاهدة اللقطات التي صورتها منذ عام 2007 وأنا التي احتفظت برمادها في منزلي سنتين، حتى جاءت "تانيا" وأخبرتني منتجة الفيلم "منى الخالدي" أن أعطى الرماد لها فعلى الأقل سيكون في فلسطين".

 

تظهر مشاهد الفيلم الذي استغرق سبع سنوات لإكماله، كيف كانت المخرجة تخطط بتدبير وتصميم لإعادة رفات والدتها، إلى مسقط رأسها في يافا لترقد بسلام في رحلة خاصة وبحبكة مؤثرة تحاكي قصص مئات الآلاف من فلسطيني الشتات ممن يعانون وتعاني عائلاتهم مع إصابتهم بمرض الزهايمر، وحيث الذاكرة وسيلة للحفاظ على الهوية، وهم لا زالوا ينتظرون حقهم في العودة إلى فلسطين. تبرز في مشهد المهمة الصعبة صديقة أخرى تشارك في بطولة الفيلم هي "رائدة طه" التي تتولى مع الفريق تنفيذ الخطة بمتابعة "كارول" عبر المحادثات الهاتفية.

 


يرتكز الفيلم في سرديته على السيرة الذاتية وعلى صور من حياة "عايدة" وأسرتها في فلسطين ولبنان وكندا، وتتكامل حلقاته مع مقابلة تمت مع "عايدة" عام 2007 تتذكر فيها وببريق يشع من عيونها؛ تتذكر يافا وتستعيد معه مغادرتها، فيما تلتقط من خلالها "كارول" ذكريات والدتها وحياتها في يافا التي تعشق بحرها وتتشبث بجذورها رغم مسافات الزمن. تتضمن مشاهد الفيلم محادثات حميمة بين "كارول وعايدة" بعد أن تفاقم عليها المرض، وقد تم تصوير مشاهد الفيلم في مونتريال مع تدهور ذاكراتها حيث زارت المخرجة كندا أكثر من 21 مرة خلال ثلاث سنوات لتكون بجانب والدتها وتصورها بهاتفها للاحتفاظ بذكرياتها الجميلة؛ تنوه "كارول" إنها لم تخطط في البداية لصناعة فيلم عنها، لكنها بعد أن حصلت على مزيج من المواد كان من الواضح لها أن ما يجب أن تفعله هو صناعة فيلمٍ يوثق رحلة والداتها: "عودتها" إلى يافا وفلسطين في شبابها، ويجسد حرمانها من حقها أن تدفن بأرضها...".

 

عرض الفيلم للمرة الثانية واستعداداً للمشاركة به في مهرجانات عالمية في حرم الجامعة الأمريكية ببيروت في 7 مارس 2023، امتلأ مدرج الجامعة عن آخره من الحضور الفلسطيني والعربي وكل من قلبه ينبض بفلسطين وبحق العودة لشعبها، يمتزج السرد ما بين المقابلة التي تتحدث فيها عايدة عن نشأتها وصباها في مجتمع يافا المتعدد والمتنوع، وحيث ولدت عام 1928 وعملت بمصرف بريطاني وكانت تعيش وعائلتها في استقرار وأمان ورغد إلى أن تعرضت المدينة إلى إطلاق النار وهرب آل عبود خلال النزوح الجماعي للفلسطينيين إلى بيروت عام (النكبة) 1948 تاركين وراءهم بيوتهم، مفترضين أنهم سيعودون خلال أسابيع أو شهور قليلة، لكن الواقع أثبت لهم استحالة ذلك، فبدأوا بالعمل وتدبير العيش مع حال الشتات وبما تبقى لهم من حلم العودة يوما ما إلى فلسطين؛ والتقت "عايدة عبود" بزوجها "ميشال منصور" وتزوجا ثم هاجروا كأسرة في المنفى إلى كندا، وهناك تدهورت صحتها وأصيبت بالزهايمر.

 


في يافا الحاضر، يبدأ المشهد برائدة طه وتانيا وآخرين ممن يجسدون جزءاً من الرواية، يسيرون على الأقدام باتجاه منزل عبود القديم الذي كانت تسكنه وقتها عائلة غير فلسطينية، لم يجدوا به أحداً، دخلوا حديقته خلسة ودفنوا بعضاً من رمادها في الحديقة، أخذوا بعض الصور وكانوا على اتصال مباشر مع "كارول" التي استغرقت في حزنها ودموعها وواصلت المشاهدة الحية لرحلة فريق الدفن والتصوير، ثم عثروا على مقبرة بها قبور لأفراد من عائلة عبود يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، وأودعوا بين جنبات ترابها بعضا آخر من "رماد عايدة"، وفي الأخير اتجهوا إلى شاطئ هادئ من بحر يافا يتردد عليه الفلسطينيون، وخاضوا فيه بكاميراتهم تتقدمهم "رائدة طه" وهي تخطو في رمال الشاطئ وتقترب منه رويداً رويداً وبيدها بقية الرماد وتردد ترنيمة لمطلع من بيت شعر لمحمود درويش "هذا البحرُ لي.. هذا الهواءُ الرَّطب لي.." وهنا يتداخل المشهد بين الدعابة وبين حزن الفقد يخترق الجوف ويلخص حكاية وجع الشتات ووجع فلسطين.

 

السرد جزء محوري من الثقافة الفلسطينية وتراثها، تقول "رائدة" التي التقينا معها بعد نهاية العرض وهي تعلق على قيامها بدفن "عايدة": "أخذوا منا كل شيء، إلا الأمل، يحاربوننا في كل شيء إلا الذاكرة، خربوا التطور الحضاري للمجتمع الفلسطيني الذي كان متقدماً قبل النكبة مقارنة بمن حوله.. لكننا لانزال على أمل". إن رحلة العبور إلى يافا لدفن رفات "عايدة" كانت مجازفة، جنون، قل عنه ما تريد، بيد إنه جزء لا يتجزأ من نضال الشعب الفلسطيني اليومي لتأكيد حقه في العودة إلى بلاده المحتلة.

 


صورت المخرجة "كارول" بعضاً من ذكريات الشعب الفلسطيني العالقة على لسان أمها "عايدة" وربطت المعاناة الإنسانية التي عاشتها وعائلتها في الشتات بأسلوب حي وإنساني مؤثر، ساد قاعة العرض صمت وحشرجات وبكاء مكتوم ودموع تتستشعرها لمن يجاورك في مشاهدة العرض؛ إنه منجز تُحكى فيه قصة الشعب الفلسطيني بعد مرور أكثر من 75 عاماً من عمر (النكبة) وعبر أجيال متعددة رابطها المشترك هو حلم العودة إلى الجذور؛ إلى الأرض.

 


في الفيلم تجسيد شخصي وإنساني لمعاناة نابعة من الوجدان، إنه يناقش قضية إنسانية حيث ترفض دولة الكيان الصهيوني العودة الصريحة للاجئين الفلسطينيين، الأمر الذي يجعل من حالة وفاتهم ورحيلهم قضية سياسية بامتياز، وهو محطة لاستعادة الذاكرة الفردية والجماعية الفلسطينية ولتوصيل روايتها في حق العودة في إطار متجدد بعيداً عن السرد السياسي والتاريخي، وفي جزئية منه تعبيراً عن رد الاعتبار لهذه الرواية من منظورها الشخصي حتى وهي تطال مجتمعاً بكامله حُرم من تطوره التاريخي، وهو علامة للتذكير كل يوم بأن الإنسان الفلسطيني محروم من حقه في الدفن في قبره ومن استنشاق هواء وطنه.

 

لن يتوقف الشعب الفلسطيني عن الحنين إلى أرضه، ولا عن حلم العودة إلى دياره، فهو شعب سلبت أرضه من استعمار ومن تآمر وكراهية؛ والاحتلال خلف خسائر معنوية ومادية لا تزال شاهداً على قسوة العالم وازدواجيه معاييره، ولهذا فالفيلم يعد أحد الأدوات التي يُمرَّر عبرها رسالة إلى العالم بأن "حق العودة" قضية إنسانية عادلة ولن نتخلى عنه؛ وبانتظار أن نشاهد عرض هذا الفيلم في صالات السينما البحرينية؛ عوضاً عن استقبال الوفود الصهيونية التي يرفض شعبنا البحريني التطبيع معها، لأن فلسطين كانت وستظل بوصلته وقضيته الأولى.


المنامة - 11 مارس 2023



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق