منى
عباس فضل
تواصلت معي عبر الواتس آب قائلة: معك فاطمة، أبى أسلمش نسخة من كتاب "مكية بنت منصور"، اتفقنا على كيفية الاستلام، وظل بالي طيلة يومين من اتصالها حبيس صورة المرحوم زوجها ظافر الذي اختطفه الموت فجأة من أحضان أحبائه وخلف فقده جرحاً غائراً لا يلتئم، هكذا هي حيواتنا ونحن نودع أحبائنا تباعاً بحزن يمتد ويأكل فينا ولا ينتهي.
حين
استلمت الكتاب، عرفت أنه سيرة والدتها المرحومة مكية. قرأته بتأن، ليس من عادتي كتابة
أي تعليقات أو تحليل انطباعي لكتاب إلا حين تتلبسني مادته التي يعالجها؛ سوءاً
تفاعلت مع مضمونها أو اختلفت. كلما توغلت في سيرة مكية التي حررها علي الديري الذي
طالما تجادلت معه بشأن كتابة سير الأموات بتفاصيلها ودهاليزها، وبسؤالي دوماً؛ ما
الجديد؟ ما القيمة التي ستضيفها هذه السير؟ تسألت مراراً وتكراراً عما يشغله بهذه
السيرة ويدفعه للتوغل في التعبير عنها ووصفها وتفكيكها وتحليلها في بعدها الايديولوجي
الديني المشبع حد النخاع ببعده الطائفي "بالمناسبة؛ لا أقصد هنا المذمة"؛
وإنما تحفيز سؤالا حساساً لا يحبذه البعض؛ وأجيب على سؤالي بسؤال: هل من إشكالية في
التدثر بعباءة الطائفة؟ الغرق في هوياتها الفرعية؛ الإيغال بالتمسك بها وبمظاهرها؟
من الذي فتح عش الدبابير وأطلق ولع الناس ونهمهم لكتابة سير أهاليهم وتعليق صور
موتاهم وأعلامهم في الطرقات والفرجان؟ من؟
هنا لا
تحتمل مضامين المسألة وأبعادها المفاضلة بين موقف صواب وآخر خطأ بين
أبيض وأسود، ولطالما تجادلت مع الديري حول إعلاء الهوية الفرعية الحاضنة حين تتنكر
لك الهوية الوطنية، دارت بيننا مناقشات متقطعة منذ بدايات قرأتنا للهويات القاتلة
لأمين معلوف وما تلاها من مؤلفات، وخطاب الهوية لعلي حرب وغيرهم الكثير، تغيرت
الأحداث السياسية والحراك الذي مرت به مجتمعاتنا المحلية بمآسيها وموبقاتها وتفشي
الظلم والتمييز؛ لم يغلق باب هذه الإشكالية؛ وليس في المنظور القريب أن يغلق.
صوتي
الجواني يعلو؛ وأنا أتصفح سيرة مكية، يعلو بشحنات انفعالية تغالب عقلي أحاول
الوقوف على مسافة قريبة منها وأتفهم، أتفهم لأنني في نهاية المطاف ابنة هذه البيئة
التي تربيت فيها وترعرعت، قلت: لا لؤم على الناس حين تُؤقظ ذاكرتهم المتحررة من
وطأة الماضي، حين يجدون أن الحاضر يطمس الوقائع؛ وإن تاريخهم يلفظ ويقضم ويحذف ويشوه
ويهمل ويعدم وقل ما شئت، فالسعي لتشكيل حقيقة مزيفة حسب الأهواء تكاد تتغلغل وتطبق
على أنفاس الناس.
تتقافز
الأسئلة تباعاً: من يكتب تاريخ الناس؟ من يقرأه من يفسره وكيف؟ للحديث بموضوعية وبتجرد
من التحيزات؛ ثمة عدّد نحتاجها وإن لم تروق إلينا الصور وتفاصيل الحكايات في بعدها
الديني والطائفي المؤدلج، لسنا معنيين بأن نكون قضاة قساة على الناس وعلى ما يدور
في عقولهم وأفئدتهم، ماذا لديهم كي يتحدثوا عنه ويسردوه غير عقيدتهم، غير الذي عاشوه وشكل
هاجساً وقلقاً لهم، ففي تدوينهم لتفاصيل حياة آبائهم وأجدادهم يكمن تاريخ المجتمع ببعده
الإنساني، وفي الحقيقة بكل التباينات التي رافقت أحداثه، وحين نتوغل في تفاصيل
سيرة مكية، يأخذنا الديري إلى ساحل بحر الديه الذي سرق كما غيره من سواحل قرى
البحرين حيث غابت السواحل وراء أسوار اسمنتية، معه نستحضر الغوص وشطف العيش وحياة البساطة
للناس بين البساتين الخضراء والنخيل التي مثلت تراثاً متجذرا في الأصالة، وهذا
يثير وجع الناس ممن عايش تلك الفترة، في استحضار نهب البساتين من أصحابها وتشكل علاقة
"السخرة" بالاستغلال والظلم.
يطيل
السرد عن المكان "المأتم"، وبما يشكله من موقع ومكانة في الذاكرة
الجمعية هذا المكان الذي لا يرد ذكره في كتب المدرسة ومناهجها، يصفه وصفاً دقيقاً
حتى وإن شاب السرد التكرار حتى في علاقات أصحاب المكان وطقوسه في كل شيء، فهو هنا
يؤرخ بأمانة وصاحبة السيرة "ملاية" معروفة بين ناسها ووسط قريتها والقرى
المجاورة، تعبير لا تجده هو الآخر في كتاب التاريخ المدرسي المحكوم ببعد ايديولوجي
وطائفي تغيب عنه صورة المختلف المهمش وبتقصد، يدرك الديري أن هذه الذاكرة أداة
قوية لقراءة حال الحاضر وعلاقاته والتنبؤ بالمستقبل، وهو يلامس موضوعاً سجالياً ويترافع
فيه بتحد عبر إبراز المآسي العوز وقيود التكبيل كما يكشف عن التحولات التي حدثت في
القرية في إطار التغيير الذي طرأ بتحولاته النوعية على المجتمع، هو يسرد، وعليك أن
تكتشف وتربط الأحداث بوقع التراث الذي يوغل في تفكيكه من خلال سردية الملاية مكية
التي يضيع في متاهاتها من لا يدرك عمقها ولا
يقر بحق الناس في كتابة تاريخهم وتاريخ ابائهم المغيب.
التقط الديري
ما يغور في عقل ابنتها فريال، أخذ موقعه في الماضي القريب وهو يسرد، يرسم تفاصيل بيئة
قرية الديه وأدار حواراً مقتطعاً مع شخصيات عاصرت الملاية مكية، وكشف بتأويلات عن
بساطة معيشة الناس وأبوابهم المشرعة على مصراعيها، عن مرارة التجارب الحياتية وعلاقات
الأهالي التراتبية الطبقية المتخفية والتي يمكنك استشفافها بين السطور، اهتم
الديري بالتفاصيل وبالرموز ودلالتها، باللغة الدارجة في القرية، بالعادات التي
تجسدت في مواقف وطقوس شكلت ولا تزال عموداً فقرياً في العقل الجمعي وحاضنته، إنها العقيدة
المستوحاة من سيرة الإمام الحسين عليه السلام وثورته التي تناولها عبر القبب
والمزارات والمكان "المأتم" وطقوس المجلس الحسيني ودور
"الملاية" وخدمة الحسين التي يضفي عليها المهابة فهي بالنسبة له الأمانة
والصدق والعطاء والتضحية.
أن تقرر
أسرة العكري الإفصاح عن سيرة إحدى نسائها المعروفات بقرية الديه "الملاية
مكية"، لهو بحد ذاته جرأة في القول ونقل الأحاجي والصور التي لا تنضب، فما غُرس
في الرؤوس لا يزال يشع ولم يتوقف، لقد آمن الديري بأن حقيقة مكية وغيرها من
الملايات ونساء القرى والمدن ليست ملكاً لهن أو لعائلتهن، هي ملك للناس فمن خلالها
تُوقظ الذاكرة الجمعية.
يقول
هنري بر، "أن التاريخ روح التعليم، هو معرفة الماضي الإنساني، بكل تعقيداته
وغناه"، أما دور كايم فيذكر: "اعتقد انه بدراستنا الماضي باعتناء فقط،
يمكننا أن نستبق المستقبل ونفهم الحاضر، وبالتالي يكون تاريخ التعليم أفضل مدرسة
تربوية"، أما اللبناني عصام خليفة فيذكر "قراءة التاريخ تلقّن الناس
دروس في الحكمة".
ختاماً
لا أعلم عن الأسباب الحقيقية التي حملت ابنتها فريال؛ الإصرار على كتابة سيرة
والدتها، لكن المهم إن السيرة تشكل إضافة لتدوين تاريخ الناس المغيب في مناهج المدرسة
وفي سرديات الإعلام الرسمي، وربما هي تجيب على أسئلة نخله وهبة في كتابه أحفاد بلا
جدود حين قال:
-
كيف أجد أجدادي
في كتب التاريخ إذا لم أجد تاريخ منطقتي، كي أقول تاريخ قريتي؟ كيف أشعر أنني حفيد
الأرض التي احتضنت رفات جدتي وجدي ووالدتي إذا لم يمر التاريخ ولو مرة عابرة على
ما شهدته تلك الأرض بصفتها مسرحاً لحدث أو أكثر من الأحداث المهمة التي تستحق أن
ينتبه التاريخ إليها؛ أو بصفتها معبراً أو ملجأ، كيف التقى ذاتي في بقعة ليس من
يحافظ على قدسية ما في باطنها ولا على قيمة ما على جلدتها ولا على ما يحيا ويتحرك
ويتفاعل في فضائها.
المنامة – 19 سبتمبر 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق