منى عباس فضل
قيل إن الوجود في جوهره حرية وإن الحرية شمس
تشرق في كل نفس وحيث حريتي ثمة وطني، لم لا وهي أغلى ما يملك الإنسان، أما زنازين
القمع والاستبداد الباردة الكئيبة الفتاكة بكل أهوالها ومآسيها وضراوتها من
الانتهاكات فهي حالة مأساوية تشهد عليها جدران الأقبية وحكايات المعتقلين في
عزلتهم ومعاناتهم وما يذوقونه خلف القضبان، حكايات تبقى شاهدة على عظمة الإنسان وقوة
صبره وإرادته، وهي حتما لن تشفع لكل من تورط في ظلمه وهدر كرامته.
من إطلالة هذه النافذة قرأت بنفس واحد
متواصل كتاب "رحلة مع الخط العربي، روافد وذكريات" للصديق الكاتب والصحفي
قاسم حسين في طبعته الأولى الصادرة من بيروت 2019 عن مركز أوال للدراسات والتوثيق؛
حيث يدون فيه جانباً من تجربته مع الخط العربي أثناء الاعتقال في ثمانينيات القرن
الماضي وكيف تمددت هذه التجربة وأينعت شغفاً وثماراً انعكس على نتاجات ممتعة وغنية.
غالباً ما تميز أدب السّجون في أجواء القمع
والقهر بالكتابات
الإبداعية التي أنتجت نثراً وشعراً وروايات، إلا إننا مع قاسم نقف أمام نصٍ إبداعيٍ
بلغة قوية متقنة يثير الدهشة ويشد القارئ منذ عتباته الأولى، كما يشكل إضافة نوعية
لأدب السجون المحلي، فقد تميز النص بكتابة بحثية رصينة أبحرت في تاريخ الخط العربي
وأصوله، وفي زاوية منه عكس صورة حية وواقعية في مقاومة العزل والمعاناة يذكر في
تقديمه: "كان هذا الكتاب حلماً يراودني لسنوات، لأنه يروي حكاية عشق للحرف
العربي وشغفي بهذا الجمال الباهر الساحر الذي أبدعته حضاراتنا الإسلامية في عصور
الصعود والازدهار..في كتابي عرض لتجربة ذاتية استثنائية، تمثل حكاية تستحق أن
تُروى لما فيها من صعوبات وتحديات؛ ودرساً في الحياة بأننا
"نعم..نستطيع"، التعلَم حتى في أقسى الظروف وأصعب الحالات.
يتكون الكتاب من
أربعة فصول أولها بعنوان "جزء من الذكريات" التي يشير فيها إلى بذور موهبته
الأولى مع الخط العربي وعن تشجيع أستاذه في مدرسة الخميس الابتدائية واستعانة
معلمة القرآن في قريته "بنت الملا" له في نسخ كتب الرثاء الحسينية، وكيف
انتقلت تلك الهواية الممتعة معه إلى مدرسة النعيم الثانوية وكلية الخليج الصناعية
من خلال المجلات الحائطية. ومع تصاعد الأحداث بعد الثورة الإسلامية في إيران عام
1978، وغلبة اهتمامه بالنشاط السياسي وتعرضه كحال العشرات إلى الاعتقال، واجه
تجربة جديدة عبر العيش في ظروف عزلة تامة عن العالم ولسنوات طويلة راجع من خلالها الذات
واستحضر اهتماماته كما فعل زملاؤه في المعتقل، وبدأ طريق صقل موهبة الخط عنده عبر التعلم
وكانت أولى الخطوات في الكتابة على باب الزنزانة الأسود الذي مثل سبورته الجديدة
لتعلّم أصول الخط العربي على يد أصدقاء السجن.
باب الزنزانة ومكعبات السكر
عبر تجربته آنذاك يتحدث
عن حرمان السجناء من الأقلام والأوراق، واضطراره للكتابة بقطعة من النعال المطاطي
التي تقطع على هيئة رأس قلم عريض، تغمس بالماء في علبة بلاستيكية صغيرة، ثم
يمرّرها على الباب الحديدي الأسود لتظهر الحروف للحظات بفعل انعكاس الضوء، وسرعان
ما يجفّ الماء، ويمكن وقتها كتابة حروفٍ وكلمات أخرى، في هذا الصدد يقول: "لم
نكن بحاجة إلى ممحاة، فالهواء الحار أغلب فصول السنة، في ذلك السجن الصحراوي
البعيد جنوب البلاد، كفيلٌ بمحوها سريعاً لتكتب من جديد"، بيد إن هذه التجربة
القاسية لا يمكن محوها ببساطة من ذكرى أيَّ إنسان عانى وقاسى من ظروف الاعتقال.
وفي زوايا أخرى حيث
الأقلام وأدوات الكتابة ممنوعة في السجن كما الكتب والمجلات التي يجري التحكم في
دخولها بالتقطير، يسرد حكاية القطعة الورقية من الورق المشمّع المستخدم في تغليف
الصابون التي وجدها مخبّأة وراء أنبوب المجاري بالحمام الداخلي بالزنزانة، وكيف كان
عثوره عليها وعلى بقايا قطع صغيرة من مادة قلم الرصاص شكَّل كنزاً ثميناً له تم
مصادرته في إحدى جولات تفتيش العنبر، كما يسترسل في سرده عن ورق مكعبات السكر
الصغيرة الأنيقة التي كان يحضرها الأهل له ويحرص على تجميعها والاحتفاظ بها، فقد أنجز
منها لوحات قرآنية وأحاديث وأشعار وكتابات تم إخراجها بالتهريب بسبب انعدام
القوانين المتسامحة مع النزلاء، كانت هذه الأوراق الصفراء الباهتة التي احتفظت بها
أسرته لسنوات من أثمن ما يملك على الإطلاق، فهي ثروته وعصارة سنوات من العمل
الدؤوب الذي يعكس إصراره على التحدّي والتعلم الذاتي والبحث عن مشارب لصقل المواهب
الفنية، في ظروف تئد الإنسان وتسعى إلى تحطيمه وخنق روحه ليخرج إنساناً معاقاً
روحياً وجسدياً، وفي التدريب الدائم من أجل إجادة الخط، إلى جانب تدريب الآخرين.
صناعة قلم الخطاط
في بيئة الاعتقال
الضاغطة على النفس تعلم كيف يصنع قلماً، وكيف يتم استغلال أوقات الفراغ الطويل
جداً حيت جرى تنظيم دروس لتنشيط الذاكرة، والاستفادة من خبرات الكوادر المتعددة
الاختصاصات والاهتمامات من النزلاء، فحرص على الإبقاء على ما لديه من كلمات
إنجليزية وهي نتاج ثلاث سنوات من دراسته الهندسة في كلية الخليج الصناعية قبل
الاعتقال، فمن خلال كتابتها وحفظها باستمرار، والقيام بترجمة أي موضوع صغير كان
يخطر بباله، لكن الأهم كان من خلال القلم الثالث، المجوّف ذي الرأسين والذي نفّذ
به الكثير من اللوحات الفنية التي أشرنا إليها.
في سرديته المكثفة
ثمة مدرسة تشكلت للخط العربي أثناء الاعتقال قوامها مجموعات متعددة من الأشخاص كان
يمارس فيها دروساً يومية تتخللها أمسيات جميلة في واقع راكد كئيب تماما كما يصفها
الكاتب، وكان التدريب الدائم من أجل إجادة الخط إلى جانب تدريب الآخرين ومحاولاته تعزيز
المعرفة والثقافة بهذا المجال، وحيث أخذته ورفاقه الحماسة والنشوة إلى تنظيم معرض
فني للخط العربي بعيداً عن أعين الرقيب، بقى المعرض حدثاً استثنائياً غير مسبوق
بكل المقاييس ويستحق أن تُروى تفاصيله، يذكر: "حين أنظر للوراء، أرى مقدار
الجرأة في تنظيم المعرض، في داخل سجن يتعرّض يومياً للتفتيش وللاجراءات الأمنية
المشدّدة وعمليات المداهمات، فالعثور على أي لوحات فنية حتى لو كانت على قطع
الكارتون تشكل سبباً للاستنفار كما تقود إلى حساب عسير..في اليوم الموعود، اختير
وقت الافتتاح عصراً، حيث نادراً ما يدخل الحرّاس العنبر، وتم عرض اللوحات المنفذة
على قطع الكارتون، وعلقت على حبالٍ ممدودٍ في الممر المؤدي إلى الحمّامات. لم يكن
المعرض بحاجة لأكثر من ساعة أو ساعتين حتى يطلّع عليه الجمهور الذي لا يزيد عن ثلاثين
نزيلاً..".
آفاق المحبة والتهديد
ويستطرد في زاوية
أخرى قائلا: "في سنة متأخرة شرعت في تحويل ورقة الرسالة إلى "مجلة"
شهرية، بطيّها نصفين لتتحوّل إلى أربع صفحات، أخطّطها بطريقة الإخراج الصحافي،
واخترت لها عنواناً عاطفياً، "آفاق المحبة"، وعلى جانبيه أختار بعض
الكلمات أو العبارات محل الإعلانات المعتادة في الصحف. وأكتب افتتاحية وأختار موضوعاً
رئيساً مع المانشيت، وبعض الفقرات المتنوعة. كنت أستغلها لكتابة ملخص للكتب التي
أقرأها خلال الشهر، أو كتابة ما يعنّ لي من خواطر أو أشعار، وكنت أكتب النصوص بخط
النسخ، بينما العناوين بالخط الفارسي أو الديواني، أيّهما أنسب للمقام. بعد ثلاثة
شهور تم استدعائي إلى ضابط السجن، الذي أخبرني باستياء إدارة السجون مما أكتب،
وقال: لن يتم إرسالها، وسأعطيك ورقة أخرى لكتابة رسالة إلى أهلك. وختمها بتهديد:
-"هذه آخر
مرة...فهمت؟"
بيد إنها مع الخط
العربي والتحرير لن تكون آخر مرة في حياة الكاتب، إذ مع انطلاقه إلى فضاء الحرية عام
1996 -أي بعد خمسة عشر عاماً- كان يعيشها مع زملائه خارج الزمن، وبرغم الظروف
الصعبة التي قضاها كان لابد من الخروج من الكهف حيث يتناول في الفصول المتبقية وبشكل
مشوق كما في الفصل الثاني بحثه وتعمقه معرفة "بمسيرة الخط العربي" كونه الأصل ومحور
الفنون وفترات صعوده ومميزاته، فيما يتطرق الفصل الثالث إلى روافد الخط العربي
ورأي بيكاسو وباولو كويلو فيه، وفي السياق يأخذ القارئ في رحلة جميلة حول تقنيات
الخط العربي من حيث التشكيل والتنقيط وخارطة انتشاره وتجربة أبرز الخطاطين، ويعرج
في الفصل الرابع على "مسيرة الخط العربي في البحرين" من حيث قدمه
وعراقته ومدرسة الخطوط وعلاقة ذلك بالعمل الاجتماعي متناولاً تجارب أشهر الخطاطين
البحرينيين.
ختاماً، يستحق النص القراءة والتأمل باعتباره
تجربة إنسانية عميقة وقاسية، كما يبرز جانباً نجهلة في حياة المؤلف ومما قد يساهم في
التعمق بعدالة قضايا الإنسان ونضاله، فقد تحدث الكثيرون في أدب السجون عن مقاومة
ظروف الاعتقال التي تجرد الإنسان من إنسانيته ومدى حاجته للتسلح بعدد المناعة كي
تبقى المعنويات مرتفعة وبرمجة العقل تأقلماً مع بيئة السجن الكئيبة،
والكتاب وثيقة غنية حول الخط العربي ومهنة الخطاطين التي أحبها وعشقها استاذ حسين.
منى عباس فضل
المنامة –29 أغسطس 2019
من اجمل ما قرأت في الفترة الأخيرة
ردحذف