منى عباس فضل
العبور مشياً على الأقدام عبر بوابة باب البحرين، منطلقين من السوق أو قادمين من فريق المخارقة والحمام وزرانيقهم التي تبدأ من كنيسة القلب المقدس وصولاً إلى المآتم المطلة على الشارع "مأتم أبو عاقلين، مأتم العجم ومسجد الخواجه ومأتم القصاب ومأتم مدن.." ومنها نخترق سوق المنامة القديم، هو عبور للتاريخ الذي احتضن أهل المكان ورواده من كل مكان؛ والعبور هنا مهمة صعبة وملتبسة في آن في أحياء تتداخل فيها الأحداث والثقافات والعادات والتقاليد؛ كما تتشابك حولها الذكريات وتتفاعل لمن عاش في هذه الأمكنة بكل مظاهر التعدد والتنوع والاختلاف والقبول، أجيال وراء أجيال كل شيء لا يزال حي يرزق في وجداننا ويتحرك في فضاء الذاكرة المتيقظة.
للتاريخ الوطني حرمته، وكذلك ذاكرة الناس الذين عاشوا فيه، صحيح أن الزمن غربل تاريخهم؛ وانتفت آثار وأحداث قديمة منه؛ لكنه ما برح يعبر عن هويتنا ونرى فيه ذواتنا وطفولتنا وتاريخ أجدادنا؛ فلا نبخسهم حقهم في استحضار ما عاشوه وما شهدته أزمانهم بكل صغائر الأمور وكبائرها، كيف عاشوها وعملوا واجتهدوا وناضلوا في حياة صعبة ومضنية؟؛ كيف تعايشوا مع بعضهم وعلى اختلاف مذاهبهم؟ وكيف تسامحوا مع الغريب القادم إليهم؟؛ شاركوه مائدتهم وتمتعوا بأطباقه وبادلهم ذات الاتراح والأحزان.
يجلسون مع الإعلامي المصري "محمود سعد" في قلب شارع باب البحرين، ليأكل "الخنفروش" وقبلها "المهياوة" في قهوة حاجي، بالمناسبة أتخم المسكين من الأكل، وبالمناسبة أيضاً تاريخنا الوطني؛ وتراثنا الشعبي ليس أكل وأطباق شعبية؛ كما إنه ليس تعبيراً عن كرمنا وطيبتنا "ويظنها البعض سداجتنا" .. يا جماعة صححوا له هذه المعلومة"؛ اتخم الإعلامي من الشرح الاستشراقي لأطباقنا الشعبية ولتراثنا، جلس في مقهى في قلب شارع باب البحرين المسكون بالتاريخ؛ لم يسردوا له حكايات هذا المكان "ربما لم يعيشوا فيه وفي ذروة ازدهاره وشهرته، جاءوا إليه مع الفورة النفطية؛ وبعد أن أصبح أطلال بل ومسخ"، هذا الجزء من الشارع الذي كان مسقوفاً نابضاً بالحياة ويضج بالمارة ومرتادي السوق في قلب العاصمة ويمثل مركزها التجاري وحكايات ازدهار تجارة المدينة ومنطلق تجارها.
هنا في هذا المقهى الذي احتسى الإعلامي فيه العصير وأكل "الخنفروش"، وسأل عن أصل كلمة "خنفروش"؛ لم يحصل على جواب؛ حتماً هناك التباس في فهم طبيعة هذه الجولات والسرديات، حسب دلال الشروقي وغيرها، أن الكلمة أصلها فارسي ومتشدد آخر يصر على أصلها "الهولي -أي الكلمة-"، ما علينا، هي تتكون كما قالوا من "خان" وتعني "بيت" و"فروش" تعني "بيع"، وعلى ذمة الشروقي أيضًا العبارة تعني بالانجليزي Home made وترجمتها للعربي "بيع البيت"، وتضيف بأن القادمين من عرب الهولة، استقر سكنهم في خانات ومارسوا عمل وبيع هذه الحلوى وغيرها من بيوتهم وهي معروفة كوصفات في بلدانهم الأصلية، الآن؛ لماذا أقدم عليها البحرينيين وأدمنوا أكلها ومحبتها كما "المهياوة الفارسية، والسمبوسة الهندية" وأصبحت جزءً من مطبخهم الشعبي؛ فهنا تكمن الحكاية التي تلتبس على السرد الاستشراقي حين يلامس تاريخنا الوطني وتراثنا الشعبي من فوك لفوك! بالمناسبة "الخنفروش غير "العقيلي"؛ .. المهم تنهد "سعد" ومسح عرق جبينه قائلاً: "كان لازم أزور البلد دي من زمان". بالطبع له حق!
المقهى الذي جلس فيه "سعد" كان "حفيز، متجر" للتاجر البحريني المشهور في السوق قديماً "حسن المحروس" حيث تجاوره وتقابله متاجر أخرى للأخوين صادق وتقي البحارنه وروبين ويعقوبي وعديدين لبيع الأكترونيات والجلديات والساعات وأشهر الماركات العالمية لكل أنواع السلع التي تباع في هذا الشارع؛ للمكان ذاكرة.. وحين يزور القادمين للبحرين لا يفوتهم المرور بهذا الشارع وسوقه "الكشخة"، فهو زينة المنامة واطلالتها على البحر في ذاك الزمان، أما في عصر الفورة النفطية والمجمعات التجارية؛ فقد أهمل المكان وغادره من غادر، وترك مرتعاً لأصحاب الدكاكين الأجانب ممن دفعوا قيمة تأشيرتهم "لهيئة سوق العمل"، يسرحون ويمرحون في تجارتهم حتى أصبح منظر الشارع منفرًا؛ تشوه المكان وطمس تاريخه وعبقه، لم يعد كما كان.
يؤشرون "لسعد" على دكانة "آلو بشير" على بعد أقدام، ويشرحون له طبيعة الأطباق التي يقدمها؛ وإن أهل البحرين يطلقون على البطاطا "آلو"، يا جماعة الأكلة هندية وصاحب الدكان أيضا آسيوي، والسوق هنا يعج ببيع المأكولات الهندية من سمبوسة ومتاي ولدو..الخ، أدمن البحرينيين على هذه المأكولات وأصبحت جزء من مائدتهم؛ لماذا؟ هناك الكثير مما يرددونه في هذا الشأن ككليشهات؛ التسامح، التعايش قبول الآخر الطيبة الكرم..إلخ، ربما هذا وذاك ربما كلها؛ بيد إن جميعها جعلت أهل البلد يأكلون هواء ويدفعون ثمن ذلك أغلى من بيع السوق كما يقول المثل الدارج!
المنامة - 13 نوفمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق