الأربعاء، 6 نوفمبر 2024

بلقزيز بين "الأنا" و"الآخر"

 


منى عباس فضل 

تطرق المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز مؤخراً في محاضرة فكرية له أقيمت في مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث وهي بعنوان "نحن والغرب: المعرفة والصور النمطية المتبادلة"، تطرق إلى علاقة العرب بالغرب وما نتج عنها من تمثلات ذهنية متبادلة عبرت عنها الشعوب في صور نمطية وثقافية يعاد إنتاجها، وذكر بأن السؤال عن هذه العلاقة ينتمي إلى إشكالية الذات مع الآخر، وكيف يعي كل منهما نفسه في الآخر، إذا لا يمكن التفكير في "الأنا" إلا عبر التفكير في "الآخر"، فهما حدين لا انفصال بينهما ولا يمكن لأحدهما إقصاء الآخر، إنها علاقة ثنائية تطرح نفسها في صورة علاقات جدلية مركبة تلقائية حيث تتحد "الأنا" في سياق علاقتها بالآخر. 

تأسيساً على ذلك أشار بلقزيز إلى مبدأ للفيلسوف الألماني هيغل وهو أن "الأنا لا تعي نفسها إلا في علاقتها بالآخر" وشرح بأن الأخير تناول هذه العلاقة بالنظر إلى هذه الثنائية من منطلق حاجة الأنا إلى الآخر كي تحدد "نفسها -أي الأنا-"، ولأننا لا نعيها إلا بصفتها المتميزة والمتمايزة عنه، فالآخر بالنسبة لهذا للمبدأ الهيغلي هو الذي يحدد الأنا، بمعنى إننا لا نعي وعيناً إلا بوجود الآخر، ولكي تمر الأنا من لحظة الوعي الذاتي، فأن الآخر هو من يحْمل على انبثاقها خصوصاً في لحظة الصدام معه، وساق مثاله على ذلك؛ في عيش العرب مندمجين في المجتمعات الغربية، لكن شعورهم بالاختلاف الثقافي والديني، يتبلور وينكشف في لحظة وقوع الصدام فيصبح معها المجتمع الغربي بالنسبة لهم هو "الآخر".   

وأضاف، بأن إشكالية الأنا والآخر "ثنائية تقاطبيه" وهي ليست وليدة الوقت الحاضر، وإنما ملازمة لكل زمن وأمة، وتبرز في شكلها المتضخم المرضي في اللحظات التي تتأزم فيها العلاقات بين "الأنا والآخر"، ويتعرض فيها طرفي العلاقة إلى حالة صدام مادي تتسبب فيه المصالح والتباينات والتناقضات بينهما وما يتغذى عليه من أسباب في المتخيل الجمعي أو في الصور النمطية التي تحملها جماعة أو طرف عن "الآخر" وتبعاً للظّرف التّاريخيّ فيتحول؛ عندها هذا التقاطب إلى عدوان متبادل وإلى تعبير الذات عن نفسها "بالإنكار"؛ وبالتالي فإن ثنائية "الأنا" و"الآخر" تبرز في شيطنته، وهي موجودة في كل العصور لكنها اليوم مكتنزة بالمشكلات، ورأى بأن نزعة التفوق والمبالغة والمغالاة في التمييز بين "الأنا" و"الآخر"، تستند إلى "القوة" وإن العرب تعرفوا على الآخر "الغرب" كغازٍ، كما تعرفوا عليه في موطنه الأصلي أيضاً كوجه إنساني متحضر وديمقراطي، أما معرفة الغرب للعرب، فكانت عن طريق "الاستشراق".    

ثمة أمر مهم ذكره، بإن ادعاء معرفة "الآخر" تمثل "معرفة إيديولوجية" والتي تعني عنده بأنها "انتقائية"، ورأى أن "الاستشراق" نوعين، الأول منه يتمثل في المستشرقين الأوائل الذين كان من بينهم مفكرين يجيدون العديد من اللغات ويقرؤون بواطن الفكر والثقافة ويحققون في تاريخ المجتمعات التي يتناولونها، وإن "الاستشراق" قدم وظيفة أساسية للمؤسسة السياسية العسكرية "الاستعمارية"، منوهاً إلى إن أغلب تراثنا الذي تم تحقيقه قد اكتشفه هؤلاء المستشرقين الذين حققوه وكتبوه لنا، وقارن بين هذا النموذج من "الاستشراق" بما هو موجود حالياً من خبراء واستشاريين في مراكز الدراسات والأبحاث ممن يعملون مع المؤسسة السياسية؛ مشيراً إلى إنهم لا يجيدون فهم المجتمعات التي يقدمون حولها الاستشارات ويحررون التقارير كما لا يجيدون لغتها وكل ما يتناولونه عنها -أي المجتمعات- هو مجرد تصورات نمطية؛ فالمجتمعات الإسلامية والعربية لديهم هي فقط ذكورية وتضطهد المرأة وإرهابية ومتخلفة..الخ، وتحدث عن سيطرة المدرسة الألمانية "التأريخّية" وما تتميز به في الحالة الاستشراقية، وهي التي تؤمن بأن معرفة أي حضارة تفترض معرفة "لسانها" "لغتها" فاللغة هي المنفذ لأي حضارة، وأشار بأنه كان من المألوف عند المستشرقين أن يتعلموا لغة الإسلام أو اللغة العربية أو الفارسية أو التركية أو الكردية..إلخ من اللغات. 

وهو يعتقد بوجود تيارين عربين في مجتمعاتنا تتوزع بينهما الثقافة؛ وهما على طرفي نقيض، "تيار انكفائي" يؤمن بالماضي والعودة إلى الأصول حيث يركز نقده على شيطنة الغرب، أما التيار الآخر فهو يؤمن بـ"التثاقف" ولا يعتمد مرجعية ثقافية، لكنه منفتح على ثقافات الآخرين، وهذا منقسم إلى تيارين أيضاً، أحدهما يقلد الغرب؛ اجتراري له سردية وردية وتلميعيه عن الغرب، أما الثاني فهو "تيار نقدي" يأخذ من الغرب ما يفيد مجتمعاتنا، وإن الحالة بين هذين التيارين هي أشبه بالحرب الأهلية الثقافية الفكرية ونحو وضع ثنائي بين الأنا والآخر "أنا وأنت"، وهذا ما يؤدي إلى حروب أهلية بحكم المضاربات الإيديولوجية "الانتقائية". 

في السياق تناول بالتحليل "تعددية الأنا" و"تعددية الآخر"، وأهمية التمييز بين "الغرب الثقافي" و"الغرب السياسي"، وشدد على إن في باطن كل من الأنا والآخر حركة ديالكتيكية تحمل متناقضاتها، ففي الأنا ما هو حسن وما هو شر، وفي الآخر "الغرب" ما هو شيطان من جانب وما يمثل حضارة وعلم وتقدم، منوهاً إلى إن كل طرف يريد أن يقدم صورة واحدة عن الغرب، وتساءل هنا "ما العمل؟". 

أجاب: أن العمل يكمن في الخروج من "الوعي الأيديولوجي" "الانتقائي"، فالغرب لديه نفس الصور النمطية عن العربي بأنه "متخلف، إرهابي، ذكوري..."، وهو -أي الغرب- متعدد ومتناقض في داخله أيضاً، ونحن أيضاً متناقضين ومتعددين في داخلنا، ولا يمكننا نقد الآخر، ما لم نبدأ بنقد ذاتنا، إننا بحاجة إلى رؤية تؤمن بأن الاختلاف والتعدد هو من طبيعة الأمور. 

وأضاف إنه وبرغم أن "الغرب السياسي" اليوم يتنكر لثقافة عصر الأنوار، إلا إن هناك "غرب آخر" هو "الغرب الثقافي" الذي يفترض ألا نخلط بينهما، مشيراً إلى إن لدينا أيضاً عيوبنا كـ"الثقافة الذكورية" وهذه ليست وليدة العصر وإنما هي سابقة على ظهور الأديان، ويستوجب التخلص منها ومن "الاستبداد" الذي لا يمكن تبريره لكونه من ثقافتنا. 

ختاماً؛ نصل عبر الرؤية الفلسفية للمفكر بلقزيز؛ إلى إن العلاقة بين "الأنا والآخر" علاقة جدلية تفاعلية تبادلية غير ثابتة، وهي تستبطن التلاقي والتناقض في باطنها، والأهم أن لا وجود فيها للأنا دون الآخر، وإن مسألة القوة والتفوق لا تبرر الاستعلاء على الآخر المختلف، كما لا تسوغ احتقاره ولا تشرعن إبادته، "فالآخر المتعدّد" في نهاية المطاف، هو مصدر لوجود "الأنا المتعدّدة" بكل ثقلها المعرفي والحضاري. 

المنامة – 6 نوفمبر 2024


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق