الأربعاء، 13 نوفمبر 2024

الخنفروش

 

منى عباس فضل

 

العبور مشياً على الأقدام عبر بوابة باب البحرين، منطلقين من السوق أو قادمين من فريق المخارقة والحمام وزرانيقهم التي تبدأ من كنيسة القلب المقدس وصولاً إلى المآتم المطلة على الشارع "مأتم أبو عاقلين، مأتم العجم ومسجد الخواجه ومأتم القصاب ومأتم مدن.." ومنها نخترق سوق المنامة القديم، هو عبور للتاريخ الذي احتضن أهل المكان ورواده من كل مكان؛ والعبور هنا مهمة صعبة وملتبسة في آن في أحياء تتداخل فيها الأحداث والثقافات والعادات والتقاليد؛ كما تتشابك حولها الذكريات وتتفاعل لمن عاش في هذه الأمكنة بكل مظاهر التعدد والتنوع والاختلاف والقبول، أجيال وراء أجيال كل شيء لا يزال حي يرزق في وجداننا ويتحرك في فضاء الذاكرة المتيقظة.

للتاريخ الوطني حرمته، وكذلك ذاكرة الناس الذين عاشوا فيه، صحيح أن الزمن غربل تاريخهم؛ وانتفت آثار وأحداث قديمة منه؛ لكنه ما برح يعبر عن هويتنا ونرى فيه ذواتنا وطفولتنا وتاريخ أجدادنا؛ فلا نبخسهم حقهم في استحضار ما عاشوه وما شهدته أزمانهم بكل صغائر الأمور وكبائرها، كيف عاشوها وعملوا واجتهدوا وناضلوا في حياة صعبة ومضنية؟؛ كيف تعايشوا مع بعضهم وعلى اختلاف مذاهبهم؟ وكيف تسامحوا مع الغريب القادم إليهم؟؛ شاركوه مائدتهم وتمتعوا بأطباقه وبادلهم ذات الاتراح والأحزان.

يجلسون مع الإعلامي المصري "محمود سعد" في قلب شارع باب البحرين، ليأكل "الخنفروش" وقبلها "المهياوة" في قهوة حاجي، بالمناسبة أتخم المسكين من الأكل، وبالمناسبة أيضاً تاريخنا الوطني؛ وتراثنا الشعبي ليس أكل وأطباق شعبية؛ كما إنه ليس تعبيراً عن كرمنا وطيبتنا "ويظنها البعض سداجتنا" .. يا جماعة صححوا له هذه المعلومة"؛ اتخم الإعلامي من الشرح الاستشراقي لأطباقنا الشعبية ولتراثنا، جلس في مقهى في قلب شارع باب البحرين المسكون بالتاريخ؛ لم يسردوا له حكايات هذا المكان "ربما لم يعيشوا فيه وفي ذروة ازدهاره وشهرته، جاءوا إليه مع الفورة النفطية؛ وبعد أن أصبح أطلال بل ومسخ"، هذا الجزء من الشارع الذي كان مسقوفاً نابضاً بالحياة ويضج بالمارة ومرتادي السوق في قلب العاصمة ويمثل مركزها التجاري وحكايات ازدهار تجارة المدينة ومنطلق تجارها.

هنا في هذا المقهى الذي احتسى الإعلامي فيه العصير وأكل "الخنفروش"، وسأل عن أصل كلمة "خنفروش"؛ لم يحصل على جواب؛ حتماً هناك التباس في فهم طبيعة هذه الجولات والسرديات، حسب دلال الشروقي وغيرها، أن الكلمة أصلها فارسي ومتشدد آخر يصر على أصلها  "الهولي -أي الكلمة-"، ما علينا، هي تتكون كما قالوا من "خان" وتعني "بيت" و"فروش" تعني "بيع"، وعلى ذمة الشروقي أيضًا العبارة تعني بالانجليزي Home made وترجمتها للعربي "بيع البيت"، وتضيف بأن القادمين من عرب الهولة، استقر سكنهم في خانات ومارسوا عمل وبيع هذه الحلوى وغيرها من بيوتهم وهي معروفة كوصفات في بلدانهم الأصلية، الآن؛ لماذا أقدم عليها البحرينيين وأدمنوا أكلها ومحبتها كما "المهياوة الفارسية، والسمبوسة الهندية" وأصبحت جزءً من مطبخهم الشعبي؛ فهنا تكمن الحكاية التي تلتبس على السرد الاستشراقي حين يلامس تاريخنا الوطني وتراثنا الشعبي من فوك لفوك! بالمناسبة "الخنفروش غير "العقيلي"؛ .. المهم تنهد "سعد" ومسح عرق جبينه قائلاً: "كان لازم أزور البلد دي من زمان". بالطبع له حق!

المقهى الذي جلس فيه "سعد" كان "حفيز، متجر" للتاجر البحريني المشهور في السوق قديماً "حسن المحروس" حيث تجاوره وتقابله متاجر أخرى للأخوين صادق وتقي البحارنه وروبين ويعقوبي وعديدين لبيع الأكترونيات والجلديات والساعات وأشهر الماركات العالمية لكل أنواع السلع التي تباع في هذا الشارع؛ للمكان ذاكرة.. وحين يزور القادمين للبحرين لا يفوتهم المرور بهذا الشارع وسوقه "الكشخة"، فهو زينة المنامة واطلالتها على البحر في ذاك الزمان، أما في عصر الفورة النفطية والمجمعات التجارية؛ فقد أهمل المكان وغادره من غادر، وترك مرتعاً لأصحاب الدكاكين الأجانب ممن دفعوا قيمة تأشيرتهم "لهيئة سوق العمل"، يسرحون ويمرحون في تجارتهم حتى أصبح منظر الشارع منفرًا؛ تشوه المكان وطمس تاريخه وعبقه، لم يعد كما كان.

يؤشرون "لسعد" على دكانة "آلو بشير" على بعد أقدام، ويشرحون له طبيعة الأطباق التي يقدمها؛ وإن أهل البحرين يطلقون على البطاطا "آلو"، يا جماعة الأكلة هندية وصاحب الدكان أيضا آسيوي، والسوق هنا يعج ببيع المأكولات الهندية من سمبوسة ومتاي ولدو..الخ، أدمن البحرينيين على هذه المأكولات وأصبحت جزء من مائدتهم؛ لماذا؟ هناك الكثير مما يرددونه في هذا الشأن ككليشهات؛ التسامح، التعايش قبول الآخر الطيبة الكرم..إلخ، ربما هذا وذاك ربما كلها؛ بيد إن جميعها جعلت أهل البلد يأكلون هواء ويدفعون ثمن ذلك أغلى من بيع السوق كما يقول المثل الدارج!

المنامة - 13 نوفمبر 2024

الأحد، 10 نوفمبر 2024

حين يُسرد التاريخ الوطني مشوَّهًا

 

منى عباس فضل


المتأمل في مشاهد فيديو "لما تزور البحرين لازم تروح المحرق تشوف بيوتها التراثية" للإعلامي المصري "محمود سعد"، يعز عليه الوقوع في فخ الاستماع إلى تاريخنا الوطني بكل ثقل أحداثه وعراقة تراثه بعبارات تلفظ بلكنة استشراقية ركيكة تتداخل فيها الألفاظ وهي تبتلع حيزًا من أزمانه وأحداثه وإن بغير قصد، فيقدم التاريخ بعد خضوعه لتشوهات تجعلك في وضع استنفار وأنت تسعى للاقتراب من حقيقة تاريخ الناس وكيف كانوا يعيشون. 


إن خدش العبارات الشعبية وتشوه الألفاظ التراثية وابتسارها تفقد السردية جوهر المعنى والدلالة الحقيقية لماهية تاريخنا الوطني وما في ثناياه من تعدد وتنوع واختلاف وتعايش وتسامح خصوصًا وقد ارتبط بشقاء الأجداد الأوائل ممن أسسوا وشيدوا لنا صرح هذا الوطن الجميل بكل ما يحتويه من أصالة وعمق لا تزال تنبض في الوجدان.

***

في الفيديو القصير، وأثناء تجوال الإعلامي "سعد" ومشاهداته في أزقة المحرق "بعربة جولف عصرية"؛ وهو الذي عودنا في برامجه القيام بجولاته في الأحياء الشعبية في خان الخليلي وشارع المعز والسيدة زينب وامبابة وباب اللوق والغورية..إلخ، مشيًا على الأقدام؛ متحدثًا للناس، وللباعة الواقفين أمام عرباتهم ولمفترشي النواصي وجالسي القهاوي الشعبية يعبرون فيها عن أنفسهم وآمالهم وأوجاعهم ببساطة شديدة، يسير متجليًا متأمًلا لمظاهر حياة الناس وهندسة المكان ناقًلا ومعبرًا عن جوهر الإنسان المصري، أما في تجواله هنا؛ فتشعر أن هناك شيئًا ما مبتورًا ومشوهًا؛ شيئًا لا يشبهك؛ وقائع تطمس وتبتسر ويصبح معها المكان وطرقاته وجدرانه مكانًا كان يعيش فيه ناس بعينهم في مدينة المحرق العتيدة والتي هي كما قال؛ أصل البحرين وعاصمتها الأولى قبل أن تصبح المنامة.. "ما تفتكرش إن المنامة بعيدة من هنا.."، هكذا ببساطة اخُتزل المكان والزمن الذي مر عليهما بالانتقاء والإبراز وإن كان دون قصد؛ أو هكذا أظن، وفي هذا الأمر مسؤولية كبيرة وعميقة لا يُستخف بها ولا يتم استسهالها، كتب أحدهم: "إن أول خطوات معرفة الذات التي بشر بها فلاسفة اليونان الأقدمون ونقشوها على عتبة الأكروبولس في أثنيا "اعرف نفسك" هي قبول التاريخ كما هو وليس تركيبه على مقاس أو مزاج كل واحد أو كل مجموعة"، في السرد التاريخي نحتاج إلى الوقوف على مسافة قريبة من مفاصل التاريخ ومجرياته وأناسه وفي هذا تعبير عن فهمنا واستيعابنا لحقيقة التعدد والتنوع والاختلاف بكل الأبعاد. 

البحريني المتجذر بالأرض كيانًا قائمًا لا يزال موجودًا وحاضرًا يمكنه تقديم تاريخنا الوطني ورموزه بفصاحة تعبر عن عراقة التراث والعادات والتقاليد والثقافة الشعبية دون خوف أو تردد أو تلعثم بلكنات استشراقية تشوه اللفظ وجوهر المعنى لدلالات العبارات ومضمونها بلهجتنا المحلية، يتساءل أحدهم متعجبًا ممن شاهد الفيديو: "أين البحرينيات والبحرينيين؟! تمنيت أن أسمع الشرح عن المحرق القديمة بصوت بحريني أصيل..". 

نعم هو محق كما غيره ممن استفزهم فيديو المحرق وبيوتها التراثية؛ إن تاريخنا الوطني متحرك نابض بالحياة لا يمكن اختزاله في مدينة المحرق الحبيبة فقط ولا في المنامة أو غيرها من المناطق بما تحتويه من بيوت ودواعيس وفرجان، تاريخنا امتداد لهويتنا الوطنية وهو متعمق في سرديات متعددة ولحياة عاشها الأجداد بمختلف انتماءاتهم؛ ولمهن مارسوها وعبرت عن شقائهم ولظى العيش الذي مروا فيها، وهي ليست أدوات جامدة معلقة للزينة في المتاحف والدور؛ بقدر ما هي نفائس وآثار وقيم ومعارف وسرديات تحكى على لسان أهل الديرة الحاضرين من خلال حكايات الغوص والنواخذه والمزارعين ولكل المهن التي عمل فيها البحريني وأبدع وعانى فيها الشقاء والتعب؛ لا يمكنك سماع نشاز في هذه السردية وتبقى صامتًا دون توقف! 

تقول المرشدة: "هذا بيت عجاج.."عياياي كما يلفظه أهل المحرق" بيت النوخذه.. هنا غرفة الاجتماعات بتاعت الضيوف ايلي كانوا يروحوا علشان الغوص...ويضيف "سعد": "النوخذه داه زي ما تقول زي سعادة الباشا..لكن النوخذه ليس بالمعنى إنه باشا وإنما اللقب جزء من المهنة.." وترد عليه المرشدة: "هو الكابتن بتاع البوت وهو الكبير بتاع عملية الغوص.. زي القبضان.. واختتم "سعد" قائلاً: "إنه كبير وزي القبضان"! 

وأنت تستمع لهذا الحوار المتقطع؛ تأخذك الذاكرة التراثية المتوارثة إلى حيث يستقبل أهالي الغواصين أهلهم العائدين من رحلة الغوص المضنية محملين بخيرات اللؤلؤ التي يستحوذ عليها النوخذه، وبالأخبار المحزنة لمن فقدوه في هذه الرحلة أو أصيب، تأخذك إلى حيث العلاقة التي تناولتها السرديات المروية والمكتوبة حول الغوص وعلاقة النوخذه بالغواصين، وما تردد في الأغاني الشعبية والمواويل البحرينية والخليجية: "يا نوخذاهم لا تصلب عليهم، ترى حبال الغوص قطع أيديهم"، "وتوب توب يا بحر، أربعة والخامس دخل، ما تخاف من الله يا بحر، جيبهم، ربي جيبهم"؛ فكم وكم من العمق في المعنى والدلالة الذي تحاكيه هذه العبارات المثقلة بالهموم والشكوى وهي تنقل مشهدية الغواصين في عرض البحر وما يوجهونه من مخاطر أمواجه وأهواله في سبيل الصيد أو الغوص للؤلؤ، وهي حكايات الديون التي يستدينها الغواصون من النوخذه قبل دخولهم الغوص وبما يثقل كاهلهم ويجعلهم عبيداً للنوخذه حتى يسددوا الدين؛ إذن هي ليست حكاية النوخذه "الباشا" وكفى ولا عقد اللؤلؤ ببريقه ولمعانه الذي تتزين به نساء الأثرياء، وإنما هي سردية تحاكي كفاح الغواصين من أجل لقمة العيش؛ هي علاقة السيد بالعبيد التي يصعب اختزالها في جدران بيت تم ترميمه وفيلم وحديث على الماشي. 

***

كما إن تاريخنا الوطني المتدفق ليس مكبًلا ومخنوقًا في زاويا دواعيس منمقة في نماذج جامدة تحاكي زمن الأجداد، ففي هذا الفيديو نحن إزاء إشكالية في الشكل والمضمون والمعنى للتعرف على التاريخ، فهذه الفرجان والدواعيس ليست مكانًا خاصًا لهذه العائلة أو تلك، فالساحات الشعبية وبيوت فرجان "الأول" كانت فضاء مفتوحًا بين أهلها ممن تعايشوا مع بعضهم وشكلت المجتمع الشعبي بمنازله وعرشانه الممتدة على شواطئ البحر، هنا كان بحر وردم، هنا وهناك في المحرق والمنامة وسترة وبقية القرى وغيرها من مناطق البحرين، يعبر بنا الزمن بوقائعه وأحداثه دون اجتزاء أو تحريف فالتاريخ منجز من عامة الناس والجماعات بكل أطيافهم واختلافهم دون تمييز، ورغم قصر المسافات بين هذه المناطق، إلا إنها تعكس طبيعة من نشأ وترعرع ومن استوطن أيضاً البلاد واستقر فيها كمجموعات قبلية أو اثنية حيث كان الجميع يسكنون "الفريج" الذي غالباً ما يكتسب تسميته من اسم هذه القبيلة أو الأسرة أو من كانوا أصحاب حرف ومهن من حياكين وبنائين وصاغة وحداده وغيرها، فأحياؤهم اكتسبت تسميتها من حرفهم التي كانوا يمارسونها. 

لذا حين يحدث الانتقاء من تاريخنا الوطني نكون أمام معضلة سرد استشراقي للوقائع التاريخية، وتبدو الكيفية التي يتم فيها "الانتقاء" حالة انحيازية سياسية وإن تم إنكارها، وهي تمثل اختيارًا بقدر ما هو مرتكزًا على الخلفية الذهنية والأفكار، بقدر ما يعبر عن وضعية سياسية واجتماعية لسارد التاريخ وأحداثه، فصاحب السردية المجتزأة في رأي أحد الفلاسفة "يصنع تاريخًا يُمكنه السكن في داخله"؛ وبالتالي فهو على ذوق ومقاس من يكتبه ويسرده. 

تزفر ممتعضة إحداهن بعد مشاهدتها للفيديو: "طفولتي كانت هنا، بيتنا لم يكن جوار هذا المكان، كنا على الشارع، على مقربة منه؛ كنت أمر في هذه الدواعيس، وكانت والدتي ترسلني لشراء الحليب من سيدة تقطن هذا الفريج، وتطلب مني المرور على جارة السيدة أيضًا لتأتي إلى مساعدة والدتي في أعمال البيت، أهلنا كانوا يسكنون هنا، بيت فلان، وبيت فلان..وفلان؛ وحين نسير في هذه الدواعيس نشم روائح أكل البيوت المتلاصقة ببعضها، سمك صافي يقلى، رائحة عيش شيلاني ومرقة السمك المطفي، نشم رائحة المجبوس؛ فتشعر وأنت تسير في الدواعيس وكأنك داخل مطابخ كل هذه العائلات، تلتقى بالمارة هذا يلقى عليك التحية والسلامات وذاك يدعوك لاحتساء استكانة شاي وفنجان قهوة أو دعوة مفتوحة على الغداء، أبواب البيوت مفتوحة تعبق بالحياة كما قلوبهم، هذه هي طفولتي حيث نسير مشيًا على الأقدام إلى مدارسنا في دواعيس وفرجان تشبه الدواعيس التي مرت بها "عربة الجولف للإعلامي محمود سعد" وتخطت هذه المظاهر، وكانت هناك مدارس و"دور طرب شعبية" وتفاصيل لطفولة عاشها أغلب الناس الذين يمكنهم سرد حكايات نبض ما وراء الجدران والتراث بشعور يلامس الأمكنة والأزمنة وأناسها، أن تحفظ بعض العبارات وترددها بلغة الاستشراق ودون الشعور بها بعمق لا تمكنك من استثارة أي متعطش للتعرف على تراث وأصالة هذه البلاد وتاريخها، كما لا تجعل منك بحرينيًا أكثر علمًا ومعرفةً بتراثنا وتاريخنا الوطني".

***

كان الأجدى أن يتولى مهمة جولة الفرجان والبيوت التراثية مع الإعلامي، من عاش وتمرغ في هذه الأمكنة والأزمنة، وهم كثر وعلى استعداد للقيام بهذه المهمة بمحبة واقتدار، كان الأجدى المرور به على جسر المحرق القديم الذي كان يربط المنامة بالمحرق كالوريد ويسرد تاريخ بداياته؛ كيف كان يفتح في أوقات تسمح بمرور قوارب الصيد، ثم يقفل ليفسح السير عليه للعربات، وكيف عبر أهل المنامة إلى المحرق في تظاهرات انتفاضة الـ1965 وكيف استقبلت المحرق الزعيم الراحل جمال عبدالناصر أثناء العدوان الثلاثي على مصر في 1956 وكيف هتف له شعب البحرين، وأن ينصت لشيبتها في القهاوي الشعبية المنتشرة في المحرق والمنامة ممن كانوا ينصتون لصوت الزعيم الخالد في المذياع وكيف كانت مشاعرهم وردود أفعالهم إزاء خطاباته، وأن يتعرف من خلالهم بأن صورته لا تزال أيقونة تتصدر مجالس بيوتهم؛ ففي هذا معاني وقيم عميقة ودلالات جوهرية. 

كان الأجدى أن يحاور الإعلامي أهل البلاد هنا وهناك حيث يعيشون في أمكنتهم وأزمانهم وبعضهم لا يزال يرتاد القهاوي الشعبية أو جالساً على نواصي الشوارع والمحلات في الأسواق الشعبية وفرشات أسواق الخضار والسمك في المحرق والمنامة وسترة وقرى البحرين الممتدة على طول شارع البديع من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها فهم لا يزالون يعيشون جوار قلعة البحرين التاريخية التي زارها ومنازلهم امتدادًا لبقايا آثار حضارة دلمون وأصل البحرين، وأن يأخذوه في جولة للمنامة العاصمة فتاريخنا لا يتوقف عند حدود المحرق فقط فلكل مكان ثقله وبعده القيمي والتراثي المتجذر في الوجدان لا يمكن نسيانه أو إلغاؤه من الذكراة. 

وهناك الكثير من البيوت القديمة في المنامة التي تم ترميمها وتحكي قصة التعايش بين الناس "سنتهم وشيعتهم" متجاورين وسط الأحياء والأسواق والأعمال، إذ كان التداخل والتعايش والتمازج والمصاهرة بين أهالي هذه الأحياء مألوفًا و"فريج الحياج والصاغة" في المحرق نموذجًا و"فريق الفاضل والحورة" في المنامة نموذجًا مقابلاً حيث يجاور "بيت القصيبي، بيت الشاعر إبراهيم العريض"، وفيها المآتم وخط مرور مواكب العزاء الحسينية في فترة عاشوراء... هذه هي بلادنا؛ وهذه هي حقيقة تاريخنا الوطني وتراثنا وهويتنا، هنا كان البحر يجاورنا وردم والنخيل الباسقات التي تحولت إلى مباني اسمنتية عالية، وهناك كانت بيوتنا القديمة؛ وهنا كان "البادكير" أو "ملاقف الهواء" التي تعد من روائع فن العمارة الخليجية وهندستها؛ فتحات بفراغات المباني لتأمين تهوية طبيعية تخفض من درجة حرارة فناء المنازل وسطوحها العلوية و"للعريش/البرستجات"، وهكذا تلفظ بالعامية "بادكير"؛ لا كما تفضلت المرشدة بلفظها "بأكدير.. يعني مثل البلكونة"؟!، شتان بين من يقدم تاريخًا وطنيًا بشعور من عاش أزمانه وترعرع في دهاليزه وبين من يقرأه مجتزأ ويسمع عنه محورًا في المرويات الانتقائية.  

المنامة - 10 نوفمبر 2024

الأربعاء، 6 نوفمبر 2024

بلقزيز بين "الأنا" و"الآخر"

 


منى عباس فضل 

تطرق المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز مؤخراً في محاضرة فكرية له أقيمت في مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث وهي بعنوان "نحن والغرب: المعرفة والصور النمطية المتبادلة"، تطرق إلى علاقة العرب بالغرب وما نتج عنها من تمثلات ذهنية متبادلة عبرت عنها الشعوب في صور نمطية وثقافية يعاد إنتاجها، وذكر بأن السؤال عن هذه العلاقة ينتمي إلى إشكالية الذات مع الآخر، وكيف يعي كل منهما نفسه في الآخر، إذا لا يمكن التفكير في "الأنا" إلا عبر التفكير في "الآخر"، فهما حدين لا انفصال بينهما ولا يمكن لأحدهما إقصاء الآخر، إنها علاقة ثنائية تطرح نفسها في صورة علاقات جدلية مركبة تلقائية حيث تتحد "الأنا" في سياق علاقتها بالآخر. 

تأسيساً على ذلك أشار بلقزيز إلى مبدأ للفيلسوف الألماني هيغل وهو أن "الأنا لا تعي نفسها إلا في علاقتها بالآخر" وشرح بأن الأخير تناول هذه العلاقة بالنظر إلى هذه الثنائية من منطلق حاجة الأنا إلى الآخر كي تحدد "نفسها -أي الأنا-"، ولأننا لا نعيها إلا بصفتها المتميزة والمتمايزة عنه، فالآخر بالنسبة لهذا للمبدأ الهيغلي هو الذي يحدد الأنا، بمعنى إننا لا نعي وعيناً إلا بوجود الآخر، ولكي تمر الأنا من لحظة الوعي الذاتي، فأن الآخر هو من يحْمل على انبثاقها خصوصاً في لحظة الصدام معه، وساق مثاله على ذلك؛ في عيش العرب مندمجين في المجتمعات الغربية، لكن شعورهم بالاختلاف الثقافي والديني، يتبلور وينكشف في لحظة وقوع الصدام فيصبح معها المجتمع الغربي بالنسبة لهم هو "الآخر".   

وأضاف، بأن إشكالية الأنا والآخر "ثنائية تقاطبيه" وهي ليست وليدة الوقت الحاضر، وإنما ملازمة لكل زمن وأمة، وتبرز في شكلها المتضخم المرضي في اللحظات التي تتأزم فيها العلاقات بين "الأنا والآخر"، ويتعرض فيها طرفي العلاقة إلى حالة صدام مادي تتسبب فيه المصالح والتباينات والتناقضات بينهما وما يتغذى عليه من أسباب في المتخيل الجمعي أو في الصور النمطية التي تحملها جماعة أو طرف عن "الآخر" وتبعاً للظّرف التّاريخيّ فيتحول؛ عندها هذا التقاطب إلى عدوان متبادل وإلى تعبير الذات عن نفسها "بالإنكار"؛ وبالتالي فإن ثنائية "الأنا" و"الآخر" تبرز في شيطنته، وهي موجودة في كل العصور لكنها اليوم مكتنزة بالمشكلات، ورأى بأن نزعة التفوق والمبالغة والمغالاة في التمييز بين "الأنا" و"الآخر"، تستند إلى "القوة" وإن العرب تعرفوا على الآخر "الغرب" كغازٍ، كما تعرفوا عليه في موطنه الأصلي أيضاً كوجه إنساني متحضر وديمقراطي، أما معرفة الغرب للعرب، فكانت عن طريق "الاستشراق".    

ثمة أمر مهم ذكره، بإن ادعاء معرفة "الآخر" تمثل "معرفة إيديولوجية" والتي تعني عنده بأنها "انتقائية"، ورأى أن "الاستشراق" نوعين، الأول منه يتمثل في المستشرقين الأوائل الذين كان من بينهم مفكرين يجيدون العديد من اللغات ويقرؤون بواطن الفكر والثقافة ويحققون في تاريخ المجتمعات التي يتناولونها، وإن "الاستشراق" قدم وظيفة أساسية للمؤسسة السياسية العسكرية "الاستعمارية"، منوهاً إلى إن أغلب تراثنا الذي تم تحقيقه قد اكتشفه هؤلاء المستشرقين الذين حققوه وكتبوه لنا، وقارن بين هذا النموذج من "الاستشراق" بما هو موجود حالياً من خبراء واستشاريين في مراكز الدراسات والأبحاث ممن يعملون مع المؤسسة السياسية؛ مشيراً إلى إنهم لا يجيدون فهم المجتمعات التي يقدمون حولها الاستشارات ويحررون التقارير كما لا يجيدون لغتها وكل ما يتناولونه عنها -أي المجتمعات- هو مجرد تصورات نمطية؛ فالمجتمعات الإسلامية والعربية لديهم هي فقط ذكورية وتضطهد المرأة وإرهابية ومتخلفة..الخ، وتحدث عن سيطرة المدرسة الألمانية "التأريخّية" وما تتميز به في الحالة الاستشراقية، وهي التي تؤمن بأن معرفة أي حضارة تفترض معرفة "لسانها" "لغتها" فاللغة هي المنفذ لأي حضارة، وأشار بأنه كان من المألوف عند المستشرقين أن يتعلموا لغة الإسلام أو اللغة العربية أو الفارسية أو التركية أو الكردية..إلخ من اللغات. 

وهو يعتقد بوجود تيارين عربين في مجتمعاتنا تتوزع بينهما الثقافة؛ وهما على طرفي نقيض، "تيار انكفائي" يؤمن بالماضي والعودة إلى الأصول حيث يركز نقده على شيطنة الغرب، أما التيار الآخر فهو يؤمن بـ"التثاقف" ولا يعتمد مرجعية ثقافية، لكنه منفتح على ثقافات الآخرين، وهذا منقسم إلى تيارين أيضاً، أحدهما يقلد الغرب؛ اجتراري له سردية وردية وتلميعيه عن الغرب، أما الثاني فهو "تيار نقدي" يأخذ من الغرب ما يفيد مجتمعاتنا، وإن الحالة بين هذين التيارين هي أشبه بالحرب الأهلية الثقافية الفكرية ونحو وضع ثنائي بين الأنا والآخر "أنا وأنت"، وهذا ما يؤدي إلى حروب أهلية بحكم المضاربات الإيديولوجية "الانتقائية". 

في السياق تناول بالتحليل "تعددية الأنا" و"تعددية الآخر"، وأهمية التمييز بين "الغرب الثقافي" و"الغرب السياسي"، وشدد على إن في باطن كل من الأنا والآخر حركة ديالكتيكية تحمل متناقضاتها، ففي الأنا ما هو حسن وما هو شر، وفي الآخر "الغرب" ما هو شيطان من جانب وما يمثل حضارة وعلم وتقدم، منوهاً إلى إن كل طرف يريد أن يقدم صورة واحدة عن الغرب، وتساءل هنا "ما العمل؟". 

أجاب: أن العمل يكمن في الخروج من "الوعي الأيديولوجي" "الانتقائي"، فالغرب لديه نفس الصور النمطية عن العربي بأنه "متخلف، إرهابي، ذكوري..."، وهو -أي الغرب- متعدد ومتناقض في داخله أيضاً، ونحن أيضاً متناقضين ومتعددين في داخلنا، ولا يمكننا نقد الآخر، ما لم نبدأ بنقد ذاتنا، إننا بحاجة إلى رؤية تؤمن بأن الاختلاف والتعدد هو من طبيعة الأمور. 

وأضاف إنه وبرغم أن "الغرب السياسي" اليوم يتنكر لثقافة عصر الأنوار، إلا إن هناك "غرب آخر" هو "الغرب الثقافي" الذي يفترض ألا نخلط بينهما، مشيراً إلى إن لدينا أيضاً عيوبنا كـ"الثقافة الذكورية" وهذه ليست وليدة العصر وإنما هي سابقة على ظهور الأديان، ويستوجب التخلص منها ومن "الاستبداد" الذي لا يمكن تبريره لكونه من ثقافتنا. 

ختاماً؛ نصل عبر الرؤية الفلسفية للمفكر بلقزيز؛ إلى إن العلاقة بين "الأنا والآخر" علاقة جدلية تفاعلية تبادلية غير ثابتة، وهي تستبطن التلاقي والتناقض في باطنها، والأهم أن لا وجود فيها للأنا دون الآخر، وإن مسألة القوة والتفوق لا تبرر الاستعلاء على الآخر المختلف، كما لا تسوغ احتقاره ولا تشرعن إبادته، "فالآخر المتعدّد" في نهاية المطاف، هو مصدر لوجود "الأنا المتعدّدة" بكل ثقلها المعرفي والحضاري. 

المنامة – 6 نوفمبر 2024