الأحد، 17 ديسمبر 2023

إبادة وتواطؤ.. فلسطين تقاوم


منى عباس فضل 

نشر في الشروق: السبت 18 نوفمبر 2023 - 6:40 م | آخر تحديث: السبت 18 نوفمبر 2023 - 6:40م

 

جريمة العصر في زمن الاحتلال الإسرائيلي انحلت وتفككت تعبيراتها، شهداؤها مازالوا أحياء صامدين يبعثون من وسط الركام، أسطورة تتوالد على الجدران تتدفق بين الساحات، في زنازين العدو وفى الشتات، في أحلام العائدين إلى الأرض، في زيتونها في قببها وكنائسها، طرقاتها وأحيائها، حيث تتجاور الحياة مع الموت.

مشهد كارثي تكتنفه عبثية تهيمن على اللحظة الإنسانية، حيث يذوب الحدث في شاشات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي؛ ترسانة السلاح الإسرائيلية والأمريكية أخرجت ما في جعبتها من قنابل وصواريخ بمتفجرات وفسفور أبيض لتخترق الأنفاق وتنزل على المستشفيات والملاجئ والمخابز والمدارس في استهداف غير مسبوق ومتعمد للأحياء، أي جحيم هذا؟! عائلات بأكملها تقتل ومجتمع برمته يخضع للتهجير وللإبادة البربرية، أطفال لم يتسنَ لهم حلم طفولة أو فسحة لعب ودراسة يلقون حتفهم في أتون محرقة إسرائيلية أمريكية غربية.

تتراص الجثث، يحتضن الموتى بعضهم بعضا يرقدون في أحضان الأرض المعمدة بالدم رافضين قرار التهجير الصهيوني والشوارع العربية تصرخ فيهم لإنقاذ شعب صابر، ولتوقف المجازر، ولتصرخ الضمائر ضد العدو الغاشم..»، فهنا الأرض، هنا فلسطين التي تعيش الرعب في مدنها وبلداتها وفى كل مرفأ ومعبر وعمارة وخيمة وملجأ، شوارع وطرقات تجرف وأبنية تنهار على رءوس قاطنيها، عدوانا على المدنيات والمدنيين الأبرياء، أشلاء تتناثر فوق الركام وتحته، لا صور في التجليات تختلف في تاريخ الوجع الفلسطيني، فالمشهد يتساوق وخططهم وسياساتهم واستراتيجياتهم.

بشاعة الموت، رائحة البارود، بقايا الفسفور الأبيض على أجساد الصغار، أشلاء تتناثر في شوارع الموت عند أبواب المشفى داخل سيارات الإسعاف، كل شيء مستباح وبما يفوق الوصف وخارج الإدراك، وأكاذيبهم تتحاشى حقيقة الموقف وسردية الحكاية، تستنزف الوقت وتتضاعف معها الهستيريا التي ما فتئت تتمدد وتتكرر يوميا؛ تارة في ميدان محرقة غزة، وأخرى في أروقة مجلس الأمن ومساجلاته حامية الوطيس حول الإغاثات والمساعدات، والمجلس عاجز عن إيقاف القتل والدمار، إننا أمام مآزق بشرية تعبر عن نفسها بلا استحياء ولا أخلاق.

نشاهدهم هاربين من بيوتهم إلى بيوتهم إلى قبورهم يتوسدون مفاتيح العودة، رافضين التهجير والتوطين، لا وقت لديهم للبكاء لا مكان للنحيب أو الاستنجاد، فمن حولهم خدر، صم بكم تبلدت مشاعرهم عن الصراخات والنداءات، إنه وقت الصلاة على الموتى، وقت النشيد لهم. هلع الصغار ورعشات أجسادهم من البرد والانفجارات، بكاؤهم يفطر القلب وسط الخراب، نعيش الوقت الأكثر فظاعة والأعنف في أبعاده التي نتجرعها سما عبر الشاشات، غصة سيتوارثها الشعب الفلسطيني في سرديته لأجيال، هنا سقطت الأرض واغتيلت الطفولة، وذاكرة المكان يستحيل أن تمسح.

تعاظمت فلسفة التبرير والتحليل والتنظير، يتكلمون ببداهة وغرابة وتجهيل، أو بصمت صاخب مريب يعبر عن فانتازيا الجحيم، فهم سيقدمون المساعدات ويشيدون المستشفيات والمدارس بعد أن تنتهي الحرب، بعد أن تسوى غزة بالتراب فلا يعود فيها من يذهب إلى هذه المدارس والمستشفيات، ورغم ذلك فعند أسوار فلسطين الحبيبة وعلى عتبات أبوابها يصيح المنادى «حيا على الجهاد، حيا على الكفاح.. إنها الكلمة العليا»، فلا حياد فأنت إما مع الفلسطيني أو مع العدو الصهيوني المحتل».

وعندما تحاصر إسرائيل فعل المقاومة وتوصمها بالإرهاب، فهي لا تحاصر الفلسطيني ولا الرأي العام العربي والعالمي الرافض للاحتلال وجرائمه الكبرى، بقدر ما تحاصر الدلالة التي تعطى معنى جوهريا وقيميا لهذه المقاومة، لهذا الصمود والثبات وقوة الإصرار، هي ترتعد من هذه الدلالة، وهي تحاصرها في الخفاء والعلن وتتخذ من نهج الحصار والتجويع والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والعنصرية أسلوب بقاء، تطلق عليه «حق الدفاع عن النفس» وهي التي مجرد كيان مصطنع وغاصب محتل.

أما في جوقة التصهين والتطبيع، فقد كثر المرتدون للأقنعة، تمددت هيئتهم كما هيئة ذئاب تنهش في أجساد الأطفال الذين تفترس مجازر إسرائيل بلادهم وأحلامهم ومستقبلهم، يتوارون بالأقنعة متقمصين قبح مواقفهم أو انكفائهم حول ما تريده سيدة الرعب والقتل والتدمير، ينفذون لها المهمات القذرة بدوافع البقاء على الكراسي البالية أبد الآبدين، وعلى أجساد شعوبهم ينخرطون في تنفيذ «الجريمة الكبرى» وفى تخريب الوعى ودس السموم في التفاصيل والجزئيات حتى ليغدو حديثهم حديث سلام وأمان، وفى حقائق الأمور يشاركون في النكبة الجديدة، في حفلات القتل اليومية التي تقام على مذابح «المعمداني، مخيمات جباليا والشاطئ والنصيرات وجنين... فكل أرض فلسطين مستباحة»، وأياديهم مغمسة بالدماء وأشلاء الشهداء الذين يتساقطون بالمئات والآلاف في أيام.

إنه الانتقام الأسود والأكاذيب والاستكانة والتورط في الجريمة، لا تحركهم مشاهد الإبادة وسردية الكارثة النكبة الأكثر مأسوية، حيث التهجير القسري والبيوت التي تحال إلى خرائب لا أسقف ولا جدران لا شوارع ولا طرقات، الأرض ابتلعت أطفالها ونساءها، شبابها وشيبها، ضباب أسود حزين، دموع جفت والمنخرطون في تدجين الوعى بالهمجية ما زالوا يبررون القتل والإبادة ويتآمرون على فلسطين التي تقاوم، يا لها من وصمة عار أخلاقية ستلاحقكم.

المجد للمقاومة، الخلود للشهداء.

منى عباس فضل كاتبة وباحثة من البحرين

https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=18112023&id=4ed1d61d-736b-4b1a-a8d3-be3f20a92549 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق