الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

الأسرة الخليجية وتحديات الرقمنة


منى عباس فضل

 شاركتُ مؤخرًا في منتدى عقده المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون ومعهد الدوحة الدولي للأسرة وباستضافة كريمة من وزارة الشئون الاجتماعية بالكويت؛ حول "الأسرة الخليجية بين التحديات الرقمية وفرص الاستثمار البشري"؛ حيث تم فيه تداول محاور مهمة تتعلق بسياسات الحمايّة الاجتماعيّة الرقميّة وتأثيرها على الأسرة الخليجيّة إلى جانب الاستثمار البشري الذكي والابتكار في بناء الأسرة المستدامة، والتربيّة الرقميّة وأهميّة تعزيز القيم والأخلاقيات الأسريّة فضلاً عن رأس المال البشري كقوة محركة للتنميّة المستدامة للأسرة الخليجيّة. 

في حقيقة أمر الأسرة الخليجية وتبعًا لإحصاءات رسميّة خليجيّة يمثل أطفال بلدان مجلس التعاون ما دون سن الـ15 عاماً حوالي "12.6" مليون طفل، الذكور منهم "51.1%" والإناث "48.9%"، وإن نسبة "100" من هذه الأسر تتمتع بإمكانية الحصول على خدمات المياه النظيفة والكهرباء إلى جانب إن التغطيّة الصحيّة فيها قد بلغت "72%" مقارنة بالنسبة العالمية "68%"، أضف إليه ارتفاع نسبة الشباب واليافعين ممن يتقنون مهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كما وهناك توسعة في بناء شبكات الضمان الاجتماعي واعتماد سياسات تمكين المرأة وتشجيع للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وتضمين دعم الأسرة في استراتيجياتها السكانية بهدف تعزيز دورها وحمايتها، لكن ومع كل هذه المميزات وتلك؛ إلا إن الأسرة الخليجية وبشهادة الباحثين والاختصاصين تتعرض إلى تحديات متزايدة في ظل الانفتاح الرقمي والتكنولوجي، وهي التي في الأصل تعاني من هدر وجودي في حياة أفرادها اليومية يكاد يطال بنيتها وعلاقاتها الوظيفية؛ كيف؟

تحديات التطوّر الرقمي  

تناول الخبراء والباحثين هذه الإشكاليات والتحديات بالدراسة المتعمقة والتحليل؛ وتوصلوا إلى إن أبرز سمات هذه الإشكاليات تتعلق بأسلوب الحياة المفرط في الاستهلاك والذي أصبح معياراً للقيمة والوجاهة لاسيما في ظل ما تتعرض إليه من طوفان تأثيرات التطوّر الرقمي السريع ووسائل التواصل الاجتماعي التي أوصلت الأفراد عامة إلى حالة من الإغراق في التعامل مع هذه الوسائل والتعرض إلى تأثيراتها بكل ما تعكسه من سلبيات أو ايجابيات تؤثر بهذا الشكل أو ذاك على تماسك العلاقات الأسرية وبنية المجتمع، ففي إحصائية عرضتها الباحثة آمنة النعيمي في المنتدى حول التحديات المرتبطة باستخدام الألعاب الإلكترونيّة ومحتوى الأنترنت على الأسرة؛ تشير إلى إن عدد لاعبي الألعاب الإلكترونية حول العالم في ازدياد وقد بلغ "2,686 لاعب في عام 2024، وإن "21%" منهم في عمر أقل من 18 سنة، وإن عددهم في الشرق الأوسط وأفريقيا وطبعًا من ضمنهم بلدان الخليج يصل إلى "377 مليون"؛ لاسيما وإن المخاطر تكمن كما ذكرت في قصور وعي الأسرة الخليجية لتصنيف هذه الألعاب ومحتواها التي يتم تبادلها في بطاقات الهدايا والتعبئة؛ هذا وتجمع أغلب الدراسات الاجتماعيّة والنفسيّة على تأثيراتها السلبية ومنها بروز ظواهر اجتماعيّة خطيرة كالطلاق والهجر وممارسة العنف الأسري واهمال رعاية أفراد الأسرة لبعضهم البعض ناهيك عن حالة العزلة والاغتراب التي يعيشونها في المجتمع. 

بالطبع أدى ذلك إلى ارتفاع حالات الصراع واتساع الفجوات بين المتطلبات الملحة ومحدودية الإمكانيات المتوفرة، إضافة إلى إشكالية تنشئة ورعاية الأبناء في ظل التعاطي مع المتغيرات السريعة وتطوّر وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي الذي جعل عالمنا المحلي مفتوحًا فأخل بالضوابط السلوكيّة وغابت معه المرجعيّة الوالديّة وكل هذه القضايا الشائكة وغيرها المتعلقة بواقع الأسرة في ظل تحديات التنمية المستدامة؛ قد تم تفكيكها ومناقشتها خلال يومي المنتدى في إطار تفحص لسياسات الحمايّة الاجتماعيّة الرقميّة الخليجيّة من قوانين وتشريعات ومبادرات استحدثتها بلدان الخليج للتعامل مع متغيرات الواقع السريعة وتأثيرات التحول الرقمي وانعكاساتها على العلاقات الأسريّة والتحديات التي تواجهها وذلك بالتركيز على مناقشة أنظمة التعليم والصحة والضمان الاجتماعي  والمبادرات، والتطرق للاستثمار البشري الذكي والابتكار في بناء الأسرة المستدامة فضلاً عن التربية الرقميّة لتعزيز القيم والأخلاقيات الأسرية. 

في ذات سياق التداول؛ شاركتُ في حوارية "رأس المال البشري من كونه قوة محركة للتنميّة المستدامة للأسرة الخليجيّة"، وكان من المجدي أن أتطرق إلى مفهوم "رأس المال البشري" استنادًا إلى النظريات والبحوث التي تناولته؛ لاسيما المتعلق منها من كونه قوة محركة للتنميّة المستدامة في المجتمعات؛ آخذة بعين الاعتبار ما أشار إليه تقرير  CIPD من أن بعض بلدان الخليج لم تستفد إلا بجزء من رأس مالها البشري وإن نحو "44%" منه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غير مُستغل بالكامل. 

رأس المال البشري

يُعرف رأس المال البشري "Human Capital Theory" الذي يتبناه معظم الباحثين والمنظمات والمؤسسات الدولية بأنه "مجموع المعارف، والمهارات والكفاءات، والصحة التي يمتلكها الأفراد والتي تُساهم في زيادة إنتاجيتهم وقدرتهم على الإبداع والعمل كما تُوظَّف لخلق قيمة اقتصاديّة واجتماعيّة، ما يعني إنه؛ استثمار في الإنسان نفسه من خلال التعليم والتدريب والصحة والخبرة، بهدف تحسين قدرته على الإنتاج وتحقيق التنمية، وتبعًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) يعرف بأنه "المعرفة والمهارات والكفاءات والسمات المتجسدة في الأفراد التي تسهل خلق الرفاه الشخصي والاجتماعي والاقتصادي"، أما البنك الدولي فيشير إلى إنه "يتألف من المعارف والمهارات والقدرات الصحيّة التي تتراكم لدى الأشخاص على مدار حياتهم بما يمكنهم من استغلال إمكاناتهم كأفراد منتجين في المجتمع، وتبرز أهميته من كونه يحارب الفقر والفوارق الاجتماعية وبناء مجتمعات الرفاه وتحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة". 

حسب مصادر متعدّدة، برزت نظريّة "رأس المال البشري" منذ خمسينات القرن الماضي خصوصًا بعد الحرب حيث تركز اهتمام أغلب الاقتصاديين على فكرة فوائد التعليم والتدريب الاقتصادية والتي يعود أصلها إلى "نظرية التطوّر الاقتصادي الكلي" التي تتضمن عوامل أساسية للإنتاج من أرض ورأس مال مادي وإدارة، وارتفعت وتيرة بروزها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بين 1988 و1992 بسبب أبحاث نماذج "نمو رأس المال البشري" ومن أهم روادها المساهمين في تطوير المصطلح "ثيودور شولتز"؛ بيد إن التطبيق الأكثر شهرة لفكرة "رأس المال البشري" في الاقتصاد جاءت على يد "غاري بيكر"   Gary Becker من "مدرسة شيكاغو" والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، ففي كتاب له بعنوان "رأس المال البشري" الذي نشر في عام 1964 والذي أصبح مرجعاً معيارياً لسنوات عديدة، عرف "رأس المال البشري" "بأنه الأنشطة التي تؤثر على الدخل النقدي والنفسي في المستقبل من خلال زيادة الموارد لدى الناس"، كما حدد أشكالها الرئيسية في كل من التعليم والتدريب أثناء العمل. 

من جهة متصلة، تشير نظريته إلى أهمية تحقيق الاستثمار منذ الصغر وفي مرحلة الشباب حيث تقل وينخفض الاستثمار في رأس المال البشري مع تقدم العمر؛ وهو يشبه رأس المال البشري بـ"الوسائل المادية للإنتاج"، مثل المصانع والآلات؛ ويؤكد على إنه يمكن للمرء الاستثمار في رأس المال البشري عن طريق التعليم والتدريب والعلاج الطبي، وتعتمد مخرجات المرء جزئيا على معدل العائد على الإنسان رأس المال الذي يملكه، ومن ثم فإن رأس المال البشري يعد وسيلة للإنتاج، ويؤدي الاستثمار الإضافي فيه إلى إنتاج إضافي ولا يمكن نقله كما الأرض أو العمل أو رأس المال الثابت. اللافت أن النظرية تعرضت إلى انتقادات متعدّدة، كونها تتجاهل خبرة العامل ولم تتطرق لقياس الخبرات على الرغم من أهميتها بما تلعبه من دور رئيسي، كما ركزت على التعليم والتدريب الرسمي العام والخاص وتجاهلت التعليم غير الرسمي الناتج من التجارب العملية. 

رأس المال الاجتماعي

يجدر التنويه بإن "نظرية رأس المال البشري" تختلف عن "نظرية رأس المال الاجتماعي" Social Capital Theory والتي أبرز روّادها "بيير بورديو" الذي قدم مفهومًا أكثر دقة "لرأس المال البشري" يتضمن رأس المال الثقافي ورأس المال الاجتماعي ورأس المال الاقتصادي ورأس المال الرمزي" وتشارك معه "جيمس كولمان وروبرت بوتنام" بأن نظرية "رأس المال البشري" تقوم فكرتها على إنه إلى جانب المعرفة والمهارات، هناك شبكات العلاقات والثقة والتعاون الاجتماعي داخل المجتمع أو الأسرة، وكلها تساهم في تعزيز الكفاءة الاقتصادية والتنمية المستدامة، كما إنها مرتبطة بنظرية القدرات Capabilities Approach وصاحبها امارتيا سن  Amartya Sen حيث تدور فكرتها بإن "التنمية ليست فقط زيادة الدخل، بل توسيع قدرات الإنسان وحرياته الفعلية من خلال التعليم، الصحة، الاختيار، المشاركة، ما يعني إن "الأسرة التي تنمي قدرات أفرادها في تعليم البنات، ودعم الشباب، وتمكين المرأة.. إلخ، تساهم في تحقيق تنمية مستدامة أعمق، وهناك أيضاً "نظرية رأس المال المعرفي" Knowledge Capital Theory التي تدور فكرتها؛ حول إن المعرفة Knowledge تمثل رأس المال الأهم في عصر الاقتصاد الرقمي. 

ولجهة "آدم سميث" فقد عرف أربعة أنواع من "رأس المال الثابت" الذي ينتج عائدات/أرباح دون تداول أو تغيير الأساسيات، وهي: الآلات المفيدة، وأدوات التجارة، المباني كوسيلة للحصول على الإيرادات، تحسين الأراضي، القدرات المكتسبة والمفيدة لجميع السكان أو أعضاء المجتمع. وبالتالي انتهى إلى إن "رأس المال البشري" يعني "القدرات المكتسبة والمفيدة لجميع سكان أو أعضاء المجتمع، في الحصول على مثل هذه المواهب، من خلال إعالة الطالب عبر تعليمه أو دراسته، أو التلمذة الصناعية، يكلف دائما نفقات حقيقية، وهو رأس مال ثابت ومتحقق ويتمثل في شخصه ومواهبه التي تشكل جزءًا من ثروته. 

وبناءً عليه فأن تراكم رأس المال البشري يبدأ بالتعليم قبل المدرسي، ومن خلال التدريب داخل الشركة وينتهي بالتعلم بالممارسة، وعلى الرغم من أن رأس المال البشري أقل قابلية للقياس الكمي، إلا أنه يمكن مقارنته برأس المال الحقيقي بعدة طرق، وكلاهما يرفع من قدرة الاقتصاد على إنتاج السلع والخدمات ويمثل عامل إنتاج منتج وقوة محركة للتنمية المستدامة. 

أبعاد ومقومات محركة

استناداً إلى ما سبق، يمكن إثارة سؤال مهم عن أبعاد ومقومات "رأس المال البشري" الذي يمكنه أن يشكل قوة محركة للتنمية المستدامة للأسرة الخليجية لاسيما مع تركيز بلدان الخليج على التعليم والتدريب والصحة باعتبارها استثمار بشري وأولوية من أولويات استراتيجياتها التنموية؟ في المجمل لخصت الدراسات هذه الأبعاد والمقومات بالعناصر التالية: 

1.    تعليم أفراد الأسرة، فإذا تمتع كلا الوالدين أو أحدهما بمستوى تعلم مرتفع أو مهارات متطورة فاحتمالية انعكاسها إيجاباً على الأطفال كبير حيث يُشكّلان بيئة تعليمية فضلى ترفع من إمكانات الأطفال ومستقبلهم كما قد يحسن من استقرار الأسرة المالي ويرفع من جودة الحياة فيها وتمكين الأبناء من التكيف مع اقتصاد المعرفة.

2.    الصحة والرفاه، إن الصحة الجيدة لأفراد الأسرة الخليجية تعني القدرة على العمل، وإنتاج دخل، والمشاركة الفعالة في المجتمع وتأمين بيئة أسرية مستقرة للأطفال والمسنّين، مما يعزز من رفاه الجميع وتحسين جودة حياتهم، وتقليل الفقر والتمييز، وتقوية دور المرأة ورفع مستوى العدالة الاجتماعيّة.

3.    المهارات والتمكين، في عصر التحول الرقمي والاقتصاد المعرفي، أصبحت تنميّة مهارات القدرة على استخدام التكنولوجيا والبرمجة والبحث العلمي والابتكار، والتفكير النقدي، والتعلم مدى الحياة مهمة للغاية، وكلما تطورت قدرة الأسر الخليجيّة على تنمية هذه المهارات لدى أفرادها كلما تعززت قدرتها على التكيّف مع المتغيرات التي تتطلبها سوق العمل المتغيّر.

4.    المشاركة المجتمعية والاقتصادية، عندما يكون أفراد الأسرة لاسيما النساء والشباب مشاركين بنشاط في التعليم أو سوق العمل، فإن ذلك يُعزّز من تنمية الأسرة اقتصاديًا واجتماعيًّا، ويساهم في التنمية المحليّة والوطنية على المدى البعيد، وينتج أفراد متعّلمين وقادرين على تبني ممارسات مستدامة ومواجهة تحديات التغير المناخي أو التحولات الاقتصادية بوعي أكبر.  

الخلاصة، بين التطور والتقدم تبرز التحديات التي تواجه "رأس المال البشري" الخليجي، لاسيما مع استمرار الفجوة بين التعليم والمهارات المطلوبة في سوق العمل؛ ولهذا خلص المنتدى إلى بعض التوصيات المهمة؛ مثل إعداد إطار خليجي موحد للسياسات الرقميّة بهدف الاستخدام الآمن والمسؤول للتكنولوجيا داخل الأسرة، وإعداد دراسات وورش عمل وتدريب والدعوة لتحديث التشريعات والسياسات الاجتماعيّة بما يتناسب مع متطلبات العصر الرقمي ويوفر الحمايّة القانونيّة لأفراد الأسرة من مخاطر الفضاء الإلكتروني ومواجهة تحديات الرقمنة والتحول للعمل عن بُعد، ما يعني إن مهارات السوق المطلوبة قد تغيرت وهذا يفرض على الأسرة الخليجية الاستثمار أكثر في التعلم المستمر والتأقلم مع واقع التغيير السريع بأن ترفع الأسرة من معارفها حول التغيّرات الاقتصادية؛ وتكون على وعي بأن مهارات مثل التفكير النقدي، والإبداع والتقنيات الرقمية أصبحت اليوم محورية وأساسية لسوق العمل.

المنامة - 25  نوفمبر 2025 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق