الثلاثاء، 10 مارس 2020

كيف قرأ تاريخ مدرسة الهداية؟

منى عباس فضل
بخبرته المتمرسة في التأليف التربوي والتنظير في كتابة التاريخ، يدرك المفكر التربوي "نخلة وهبة" تمام الإدارك السجال الذي ستمر به قراءته التحليلية التي بسطها في كتابه الجديد "الاهتداء إلى هواجس أهل "الهداية"، وهي كما يعرض غلاف الكتاب قراءة مختلفة لتاريخ السنوات العشر الأولى من عمر مدرسة "الهداية الخليفية".

ترى ما الاختلاف الذي يتصدر هذه القراءة عما سبقها من قراءات ومؤلفات تناولت بدايات التعليم النظامي في البحرين؟ وهل الاختلاف الذي يعنيه أو "الفرضية" التي ساقها في قراءة مناحي حدث نشأة مدرسة الهداية من الواقعية والموضوعية التي ترتكز بقوة على وقائع مادية؟ أم إنها إعادة سرد مكثف بمنهجية مختلفة عن الحالة السردية التقليدية لذات الوقائع التي تناولتها المؤلفات السابقة؟ وهي الآن -أي قراءة المؤلف- تحتكم إلى فرضيات تأويلية غاصت في العمق وحلقت بعيداً في تفسير ماهية الحدث وحمّلته في بعض المفاصل والجوانب بأكثر مما يحتمل وربما نقول ربما، بما يلبي ويطوع مسار بعض وقائع تاريخ "التعليم النظامي" وتحليلها بمنحى أحادي اعتدنا عليه في تضخيم جوانب محددة وإلغاء عناصر مهمة ساهمت بشكل عميق في صناعة هذا الحدث أو ذاك؟

إعرف نفسك
حين نقرأ الكتاب نستحضر ما تعلمناه في كتاب "أحفاد بلا جدود" للمؤلف نخلة، بأن لا يغيب عن البال تعرض حقائق التاريخ إلى عمليات التحريف والاجتزاء والانتقاء والطمس والإبعاد والإبراز، وإن على الباحث في التاريخ في أول خطوات معرفة الذات التي بشر بها فلاسفة اليونان الأقدمون ونقشوها على عتبة الأكروبول في أثينا "إعرف نفسك"، هي قبول التاريخ كما هو وليس تركيب التاريخ على مقاس مزاج كل واحد أو كل مجموعة؟  

بداية لابد من الإشارة إلى إن مؤلف الكتاب اعتمد بشكل كبير على ثلاثة مصادر أساسية في تناول الحدث وهي كتاب "الهداية الخليفية: رجال وآفاق" لعبد الحميد المحادين و"رجال في جزيرة اللؤلؤ" لخالد البسام و"لمحات من ماضي البحرين" لخليل المريخي مضاف إليهم كتابي مهدي التاجر ومحمد الرميحي وبعض الوثائق البريطانية التي قام بترجمة بعضها وتفسير دلالالتها.

من المهم التنويه إلى تحذيراته التي ساقها في المقدمة وهي المتعلقة بصعوبة الحصول على وصف كامل وناجز للحدث الماضي كما ذكر: "نادراً ما تسمح البئيات والوثائق بالكشف عن جميع أسرار الحدث الذي غار في أعماق الزمن، ولعل في التكتم الذي مارسه ومازال يمارسه الماضي على مكنوناته، في محاولة لمنع تسربها إلى أهل الحاضر"، هنا يجوز السؤال عما إذا كان في ذلك إيحاء ما بوجود ما هو "سري ومخفي وله علاقة بنشأة هذه المدرسة" في تلك المرحلة بالذات وهي التي تميزت باضطربات سياسية بطابع طائفي في ظل سلطة احتلال استعماري وبلد فاقد للسيادة الوطنية، حيث اختلفت التحليلات والمنطلقات والمصالح حول تلك الحقبة وتدوين أحداثها التاريخية، بيد إننا لم نجد غير فرضية المؤلف وحسب فهمنا المتواضع التي التقت بأغلب ما ذهبت إليه مؤلفات سابقة، من إن وراء فكرة نشأة "مدرسة الهداية الخليفية" "..ظروف موضوعية أحاطت بها كما سائر المؤسسات الأهلية التي قامت في الربع الأول من القرن العشرين، وإنها جاءت استجابة لحاجات أهلية واعية وإرهاصات قومية شعبية، وبعضاً من هاجس الولاء للأمة والانتماء للعروبة والإسلام والشعور بثقل حركة التبشير المسيحي التي كانت توفر الخدمات العامة ومنها التعليم".

في السياق يشير نخلة إلى أن "مجموعة من الأفراد المستنيرين لاحظوا ضموراً واضحاً من الهواجس القومية، وتقلصاً ملموساً في الالتزام الفكري عند شريحة الشباب الجديد؛ فتهيأ لها أن الوعي السياسي والفكر الملتزم معرضان للاندثار أو للابتلاع من قبل إيديولوجيا المدنية والتغرّب..كما إن العقد الذي سبق إنشاء مدرسة الهداية لم يتصف بالتسامح الفكري، ولم يوفر الفرص للتثقيف السياسي والتنشئة القومية على مستوى جماعي وممأسس..لقد قلق الآباء الوطنيون على انتماء أبنائهم وولائهم، بعد أن غزرت خدمات الأجانب وعظمت شدة إغراءات كل ما هو مستورد من الغرب، وأخذ ذلك القلق يتحول تدريجيا إلى تفكير جدي بإيجاد الحل المناسب للمعضلة المستجدة" كما يفترض المؤلف، أن الضغط السياسي المتمثل بممارسة رقابة متشددة على مختلف أنواع النشاطات السياسية والفعاليات الثقافية التي يمكن أن تنشر فكراً اجتماعياً متبصراً وناقداً، قد دفع المواطنين الملتزمين بالقضايا المحلية والإقليمية الساخنة إلى البحث عن أداة لتكوين نخبة وطنية من الشباب الصاعد لمتابعة المسيرة "السياسية" من دون المجازفة بخطر الاحتكاك المباشر والعلني بالسلطة المهيمنة آنذاك. لذلك وجد هؤلاء المواطنون "أن المدرسة" كمؤسسة تربوية يمكن أن تلعب هذا الدور الريادي، في هذا الصدد وحسب فرضيته فإن أعضاء اللجنة التربوية التي شكلت لتأسيس المدرسة كانت لبعضهم مواقف معلنة ومتكررة في مناوأة الحكم الأجنبي، وإن لبعضهم هوية وميول سياسية قومية "أنظر صفحة 27"، ولهذا قاموا باختيار مدراء ومعلمين معروفين بمواقفهم القومية المناوئة للاستعمار لإدارة المدرسة إضافة لفرضيته بأن قيام المدرسة كان "كمخرج ذكي لمتابعة العمل السياسي ضد الاستعمار..ص28"، وعليه يحق السؤال، هل يتحمل واقع نشأة هذه المدرسة بالذات كل ثقل هذا التحليل والتأويل؟.

افترض المؤلف أيضا أن لدى المؤسسين إطلاعاً على الفكر المقاوم في مصر وبلاد الشام عبر المجلات والكتب حيث شكل ذلك الحجة الأقوى لتفعيل الدور التعليمي التشريبي للمؤسسة الناشئة...إلخ، ذلك على الرغم من استداركه في نفس الصفحة قائلاً: "لابد من أن نحتاط ونتهيأ للمأزق شبه المحتوم الذي سوف يداهمنا فيما لو تابعنا قراءتنا لتاريخ التعليم انطلاقا من الفرضية التي تقول بأن أول مدرسة أُنشأت في البحرين كانت نمطاً آمناً للنشاط السياسي الذي أراد المؤسسون تنفيذه، تقودنا فيما لو صحت، إلى التنبيه إلى إمكانية الخلط بين الممارسة السياسية والممارسة التربوية عند مؤرخي التعليم البحريني".

مدير أم عميل؟
هنا حتماً ستتعرض هذه الفرضية للسجال والمداولة لأمرين هامين؛ يتعلق أولهما؛ بطبيعة الوقائع التاريخية السياسية في نفس الفترة التي تأسست فيها المدرسة ومارست نشاطها وما سجلته حيث لم يرتبط ذكر تأسيسها بأي نشاط سياسي واضح المعالم أو حتى ممارسة دعوية لأصحابها في الشأن السياسي المقاوم للاستعمار؛ اللهم إلا إشارة  خالد البسام في كتابه "رجال في جزائر اللؤلؤ ص36" حين تناول سيرة أول مدير للمدرسة "حافظ وهبة" قائلا: "..وجد نفسه يستطلع نشاط الحركة السياسية فيها والنشطة آنذاك بسبب التدخل البريطاني في شئون البلاد وازدياد الحركة الشعبية المعارضة لهذا التدخل بقيادة عبدالوهاب الزياني وغيره. كما رأى نفسه يتفاعل مع بداية الحركة الثقافية وتأسيس النادى الأدبي، علاوة على مشاركته الفعالة في الحركة التعليمية والتي يقود عمودها الفقري "المدرسة" بنفسه فراح يشارك البحرينيين تذمرهم ومعارضتهم للوجود البريطاني المتسلط على بلادهم، ويحضر مؤتمراتهم واجتماعاتهم، ويعقد صداقات مع زعمائهم..إلخ"، ورغم إشارة نخلة وهبة المبطنة بين السطور بشكوك عمالة هذا المدير للإنجليز وإنه لم يترك أثراً يذكر في مجال مهنة التربية والتعليم.

التعليم بمبادرات أهلية
أما الأمر الثاني فيتعلق بفرضية أن تأسيس المدرسة وضع اللبنات الأولى للعملية التعليمية التربوية النظامية في البحرين، بيد إن وقائع التاريخ ومصادره تفيد بإن التعليم بدأ في البحرين بمبادرات أهلية وتحديداً من الطبقة الميسورة التي خصصت منازلها وإمكانياتها المادية والتي أخذ أغلبها طابعاً دينيا في البداية ومتأثراً بالرحلات التجارية التي يقوم بها أصحابها إلى بلاد الهند وما حولها، ومنها، ومن تلك المدارس: "مدرسة الإصلاح المباركية" بفريق الفاضل بالمنامة وقد تأسست عام 1913، وكان وراء تأسيسها مجموعة من التجار الإيرانيين المقيمين في البحرين حيث وضع لها نظام خاص ومناهج تتمشى بما هو معمول به في إيران، وفي كتاب "لعبد الملك الحمر" تشير المصادر إلى إن تأسيسها كان في عام 1910 وقد أطلق عليها "مدرسة الاتحاد" ثم استقرت في مقرها الأخير بفريق الحمام بالمنامة وتغير أسمها إلى "اتحادية إيرانيان والإصلاح" في عام 1923 وتغير اسمها إلى مدرسة "الجمهورية الإسلامية في البحرين" حيث أغلقت عام 1996، للمزيد "أنظر كتاب التعليم النظامي في البحرين لمنصور محمد سرحان، وهناك المدرسة الجعفرية بالمنامة والمدرسة العلوية في البلاد القديم حيث كان لكل منهما مجلس إدارة خاص بهما أيضاً مكون من بعض التجار والأعيان وغيرها، أما عبدالحميد المحادين فذكر في مقدمة كتابه "الهداية الخليفية: رجال وآفاق" "..بأنه وقبل 1919، وعلى امتداد عشرات السنين بل ومئاتها، كان هناك تعليم في البحرين، وهو في حقيقته امتداد لأنماط وفعاليات التعليم في العالم العربي، مع اختلافات طفيفة ظهرت بفعل خصوصية الظروف والبيئة. ومن مدارسه الشائعة مدرسة عبدالوهاب الطبطبائي الكويتي بالمحرق والتي كانت سابقة على مدرسة الهداية وأخرى تحت إشراف علي السيد إبراهيم الرستاقي، كما يشير إلى أن التعليم لم يقتصر على مدارس الحكومة، فقد رافق التعليم النظامي الرسمي تعليم مواز، تقوم به مدارس أهلية، وصل عددها إلى أكثر من عشر مدارس، وكانت مناهجها توافق مناهج مدارس الحكومة وشهادات بعضها النهائية تعادل شهادة إتمام الدراسة الابتدائية آنذاك، وكانت مدارس الحكومة تقبل المحولين إليها من المدارس الأهلية بعد اجراء فحص مستوى لهم. ص29، ومنها المدرسة الأهلية التي أسسها إبراهيم العريض في المنامة، ومدرسة الإصلاح الأهلية التي أسسها عبدالرحمن المعاودة في المحرق 1938، ومدرسة الفلاح التي أسسها محمد علي زينل عام 1928، ومدرسة العجم ومدرسة الاتحاد التي سبق الإشارة إليهما، ومدرسة دار العلم التي أسسسها عبداللطيف سعد الشملان"، وبالتالي فإن بدايات التعليم في البحرين عكس واقع المبادرات الأهلية في تشكله حتى بدأ بروز معالم تكوّن مؤسسات الدولة وتشكلها وبالتالي لا يمكن حصره وتنسيبه إلى جهود فردية محددة فقط، خصوصاً وإن طابع التعليم في بداية نشأة مدرسة الهداية لم يكن يختلف في شكله التقليدي الديني التلقيني عن بقية المدارس الأهلية.     

وفي إطار مناقشة المؤلف حول طبيعة مرتادي المدرسة من الطلاب منذ بداية تأسيسها، تجدر الإشارة إلى ما أورده  فؤاد اسحاق الخوري في كتابه "القبيلة والدولة في البحرين: تطور نظام السلطة وممارستها صفحة 181" إلى أن التجار المدينيين من السنة والشيعة لم يرسلوا أولادهم إلى مدرسة الهداية الخليفية إلا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي عندما بدأت شركات النفط، التي تتكلم الإنجليزية، وتتدفق على منطقة الخليج والجزيرة العربية. وإنه وبعد تأسيس مدرسة الهداية التي قصدها الطلاب وأكثريتهم من سنة سكان مدينة المحرق، أسس شيعة المنامة عام 1929 المدرسة الجعفرية.."، وهنا نتوقف لطرح سؤال آخر عن مدى تأثير الواقع السياسي الطائفي آنذاك على تأسيس مؤسسات تعليمية في جوهرها ومضمونها تستند على مظلة طائفية؟ ويستكمل الخوري: "..وفي السنوات اللاحقة دعمت الحكومة المدرستين معاً بالأموال العامة، وأشرفت على إدارة كل مدرسة لجنة من التجار الأغنياء الذين تطوعوا للقيام بهذا العمل. وأثار هذا التقسيم الطائفي في التعليم اعتراضات عديدة، مما جعل الحكومة تقرر في سنة 1932-1933 فتح مدرستين أمام الجميع بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية، وسميت، بعد ذلك القرار، مدرسة الهداية "مدرسة المحرق الابتدائية" كما سميت المدرسة الجعفرية "مدرسة المنامة الابتدائية" كما تأسست بين عامي 1934-1936 ثلاث مدراس عامة جديدة في سوق الخميس والبديع والحد، وتأسست في ذلك الوقت أيضاً دائرة التربية (المعارف).

الخلاصة، يشير نخلة، إلى إن الانطباع الذي تولد لديه من كتابات من قام بتأريخ التربية العصرية في البحرين، لم تتعامل مع الرجال المؤسسين للمدرسة، من منطلق مواقفهم وسلوكهم السياسي، ذلك على الرغم مما ذكره في المقدمة بأنه سيتعامل مع الرجال المؤسسين من منطلقات تربوية بحته، بغض النظر عن الماضي أو الحاضر السياسي لكل منهم، إلا أن تحليله وفرضيته لفكرة تأسيس المدرسة استمر كما شعرنا من منطلق كون المدرسة وليدة وعى فكري وموقف سياسي وطني وقومي، حيث ميّزها عن المدراس الأهلية الأخرى من حيث بنية التعليم سواء في "طابعه الديني أو التبشري" ذلك برغم إشارته وبالوقائع من استمرار مدرسة الهداية وعلى مدى سنوات في تقديم تعليم أشبه بتعليم الكتاتيب، مضيفاُ وللتاريخ كما أكد الخوري أيضا بأنها أسست لتحويل التعليم من سلعة تُشترى إلى خدمة تقدم مجاناً من الدولة.

إلى هنا، الكتاب جهد نوعي يستحق الاطلاع عليه، وهو يشكل تحدياً للباحث الملتزم عن الحقيقة، كما يثبت لنا أنه لا يمكن تحليل وقائع التاريخ وتحجيم أحداثه بمعايير محددة وبمعزل عن حراك المجتمعات في إطار بنيتها الديمغرافية المتعددة التي شهدنا تأثيراتها على نشأة المؤسسات التعليمية عامة، وليس بمعزل عما يدور فيها من صراع في الأفكار والإيديولوجيات؛ لهذا لا يمكن فرض نص وحيد للحقائق، لاسيما في مجتمعات قائمة على التنوع والتعدد.

منى عباس فضل
المنامة - 11 مارس 2020


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق