الأربعاء، 23 أبريل 2025

منهاج بيجين والبروتوكولات الشكلية

 

منى عباس فضل

 

بعد حالة تقشفيّة ناشفة من التواصل بين المنظمات النسائيّة والمجلس الأعلى للمرأة المعني "بالاستراتيجيّة الوطنيّة للنهوض بالمرأة البحرينية" وتمكينها ومساواتها، طالعتنا مؤخرًا وسائل الإعلام المحلّي والتواصل الاجتماعي؛ بفيديوهات ترويجيّة لإحياء فكرة "العلاقة التشاركيّة التشاوريّة" من خلال توقيع "مذكرة تفاهم" وعقد لقاءات بين الأعلى وبعض هذه المنظمات ومن يمثلها.

في حقيقة الأمر؛ حسنًا يبدو هذا المشهد؛ بيد إنه غريب ويثير التساؤل؛ فقد مضى زمن اكتفى فيه الأعلى بالترويج "للاستراتيجيّة الوطنيّة" وما يعلنه ويتداوله من خطاب يغلب عليه لغة الإنجازات وترديد المصطلحات والمفاهيم المتداولة بكثافة والتي تحمل عناوين "كالتمكين، والتوازن بين الجنسين، وتكافؤ الفرص" وغيرها الكثير إلى جانب ما يرى إنه حققه من إنجازات ومكاسب على مستوى حقوق النساء والفتيات البحرينيّات.

فتور وأبويّة

ثمة وجه آخر للمشهد يمور في العمق ويعبر عن حقيقة مغايرة وإن لم يُفصح عنها؛ فعند العودة للوراء والتغلغل في العمق؛ نجد إن العلاقة بين الطرفين -أي المجلس الأعلى للمرأة والجمعيات النسائية- لطالما اتسمت بشيء من الفتور والأبويّة فيما سادتها الندب التي رسمت حدود فاصلة لتلك العلاقة ومعاييّرها على مدى ثلاث عقود ومن طرف واحد هو الذي يخطط وينفذ ويملئ التعليمات؛ فكل هذا وذاك لا يمكنه إذابة الجليد المتراكم؛ لاسيما وإن عبء التجربة قاسٍ ومقلقٍ؛ فقد كابدت "الحركة النسائيّة البحرينية بمنظماتها" الصعاب والمعيقات وهي تحمل تقاريرها الدورية وتستعرضها أمام المحافل الدوليّة لتناقش واقع المرأة البحرينية وما تتعرض إليه من تمييز وانتقاص لبعض الحقوق بسبب النواقص والخلل في التشريعات والقوانين التي تقف حائلاً إزاء تحقيق "المساواة" الفعليّة للنساء والفتيات؛ في مقابل سرديّة تركز حديثها عن الإنجازات والمكتسبات بتضخم وأطناب وفي الوقت الذي تطالب فيه المنظمات النسائية وبشدة، بالدعم وتخفيف القيود وبعلاقة قائمة على التشاور والتبادل بينها وبين المجلس الأعلى للمرأة.

على المستوى السطحي، ما يحدث اليوم في هذا المشهد ليس صدفة، ولا يمكن فهم واستيعاب هذا التقارب والصحوة المفاجئة في التواصل؛ دون تدوير أسئلة متعدّدة تتبادر للذهن ولا يمكن إغفالها؛ لماذا "مذكرة التفاهم" الآن؟ ما مضمونها؟ وكيف ستنفذ؟ وماذا بعد هذه اللقاءات؟ ما المطلوب من الحركة النسائيّة البحرينية؟

كلفة اللقاءات

إن كلفة هذه "اللقاءات وتوقيع مذكرة التفاهم" بين هذه الأطراف، كلفة عاليّة تدفع أثمانها المنظمات النسويّة إذا ما افتقدت إلى الجديّة والعمل الحقيقي؛ وهي التي تشتكي الحال دائمًا من الخلل والقصور في العلاقة التشاركيّة حيث "حجب المعلومات والبيانات والتهميش وانعدام التشاور والمساءلة بل والتضيق عليها في إنفاذ بعض برامجها ومشروعاتها"؛ أمَا في حسابات "المنظمات الدوليّة" فهي استجابة لمتطلبات طالما طالبت بها الدول الأعضاء داعيّة لهم إلى تعديل أوضاع علاقتهم مع "مؤسسات المجتمع المدني" ومنها "المنظمات النسائيّة" بما يحقق أهداف التنميّة المستدامة لاسيما وهم بالنسبة لها ركنًا رئيسيًا في هذه التنميّة.

لا شك أن هذا الانفتاح بين المؤسسة الرسميّة والأهليّة خطوة محمودة؛ وقد جاءت استجابة إلى ما تم تداوله ومناقشته في اجتماع "لجنة وضع المرأة" في دورتها التاسعة والستين في 21 مارس الماضي، حين تم استعراض قضايا المساواة والتمكين بعد مرور 30 عامًا من "إعلان منهاج بيجين"؛ هذا الإعلان الذي وضع خارطة الطريق لتمكين المرأة، حيث تركز نقاش اللجنة والوفود الرسميّة للدول الأعضاء ومنهم طبعاً البحرين التي قدمت تقريرها، على تقييم ما تم تنفيذه والتحديّات التي تؤثر على تحقيق المساواة بين الجنسين وبما يحقق خطة التنميّة المستدامة لعام 2030، وحث الحكومات على الشروع في مباشرة العمل وصياغة التشريعات لتقويّة الوعي العام بغية تعزيز حقوق المرأة وتحقيق التنميّة المستدامة؛ وإلغاء قوانين الخصخصة التي زادت من حدة الفقر وتعميق حالة عدم التكافؤ.

حقوق المرأة تحت الحصار

الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريش" أكد في هذا الاجتماع: "بأن النساء حطمن الحواجز وكسرن الأسقف الزجاجيّة، وأعدن تشكيل المجتمعات، فالمزيد من الفتيات دخلن المدارس، والمزيد من النساء شغلن مناصب السلطة، وإن النشاط الرقمي قد أشعل حركات عالميّة من أجل العدالة، وإن حقوق المرأة هي حقوق إنسان، لكنه اعترف بأن  هذه الحقوق لا تزال "تحت الحصار" والمكاسب المتحققة هشة وغير كافية، وإن سمّ النظام الذكوري قد عاد محملاً بالانتقام؛" وأضاف: "بإن المساواة للجميع مهمة طويلة الأمد وهي بعد ثلاثة عقود تبدو أبعد مما كنا نتخيل؛ وإن الوقت قد حان للعالم لتسريع التقدم والوفاء بوعد بيجين؛ كما إن الفجوات هائلة، والأهوال القديمة مثل العنف والتمييز وعدم المساواة الاقتصادية متفشيّة؛ منها فجوة الأجور التي تبلغ "20%" بين الجنسين وتعرض واحدة من كل ثلاث نساء للعنف عالميًا، وكل عشر دقائق، تُقتل امرأة على يد شريكها أو أحد أفراد أسرتها، وتعيش "612" مليون امرأة وفتاة في ظل الصراعات المسلحة؛ ويؤكد بأنه وبهذا المعدل فأن القضاء على الفقر المدقع للنساء والفتيات سيستغرق 130 عامًا"، وأختتم "بأن حقوق المرأة تتعرض للهجوم، والأدوات الرقميّة تعمل على إسكان أصوات النساء، وتضخيم التحيز وتأجيج المضايقات، وأصبحت أجساد النساء ساحات للمعارك السياسيّة، حيث يتصاعد العنف عبر الإنترنت إلى عنف في الحياة الواقعيّة، كما نشهد تعميمًا للتعصب وكراهية النساء.

لا قيمة للكلمات بدون عمل

أما المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة "سيما بحوث" أكدت من جهتها: "بأنه لا قيمة للكلمات بدون عمل، وإن هناك حاجة ملحة إلى تعزيز المساواة بين الجنسين"؛ فيما شدد "فيليمون يانغ" رئيس الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في كلمته على أهميّة "أن تحقيق المساواة بين الجنسين يتطلب توفير قدر أعظم من الموارد، وتشريعات وسياسات حاسمة، وتفكيك للمعايير التمييزيّة، والإصلاحات المؤسسيّة، وإن المساواة تتطلب التزامًا ثابتًا بتسخير التعدديّة لدعم وتعزيز المساواة بين الجنسين، وهذا يتطلب التزام حقيقي وإرادة.. إلخ"، بدوره دعا الأمين العام "غوتيريش" إلى تجديد الالتزام بإعلان بيجين والوقوف بحزم كي نجعل "وعد الحقوق والمساواة والتمكين" حقيقة واقعة لكل امرأة وفتاة حول العالم من خلال أربع خطوات لخصها كالتالي:

الأولى؛ تعزيز التمويل المستدام للتنميّة المستدامة حيث يرسم "ميثاق المستقبل" الذي اتفق عليه العام الماضي، خطوات جريئة إلى الأمام.

الثانية؛ تكثيف الدعم للمنظمات النسائيّة، لأنها تلعب دورًا حيويًا في المساءلة وفي دفع التقدم والدفاع عن الحقوق وضمان سماع أصوات النساء والفتيات ومصالحهن.

الثالثة؛ اتخاذ إجراءات بشأن التكنولوجيا، حيث يلتزم "الميثاق الرقمي العالمي" باتخاذ إجراءات من أجل النساء والفتيات لتشجيع قيادتهن ولتصحيح البيانات المتحيزة جنسيًا.

الرابعة؛ ضمان المشاركة الكاملة والمتساويّة والفعّالة للمرأة في بناء السلام؛ فضلاً عن اتخاذ الإجراءات الضامنة لمشاركتها بشكل كامل ومتساوٍ وفعالٍ وقيادتها في صنع القرار على كافة المستويات وفي جميع مناحي الحياة.

 

وعليه ماذا نستنتج؟

نستنتج بأن تكثيف دعم "المنظمات النسائيّة" التي يرتكز دورها الحيوي على الدفاع عن الحقوق وضمان سماع أصوات النساء والفتيات والأهم المساءلة؛ يمثل مرتكزًا مهمًا وحيويًا في تجديد التزام الدول الأعضاء ومنها البحرين "بمنهاج بيجين" وللوصول إلى تحقيق شعارات "التمكين والمساواة وتكافؤ الفرص" الذي يرفعها المجلس الأعلى للمرأة في خطاباته وفي "الاستراتيجية الوطنية للنهوض بالمرأة"؛ الأمر الذي يثير التساؤل عن مستوجبات ومستحقات الفترة القادمة؛ فما تم تداوله في اجتماع "لجنة وضع المرأة" في دورتها التاسعة والستين الشهر الماضي، حيث قدم الجانب الرسمي والأهلي تقاريرهما بشان الإنجازات والخلل؛ لهو في غاية الوضوح والعمل على تحقيقه لا يتطلب سوى الجديّة والإرادة القويّة والقرار الحكيم في إرساء "علاقة تشاركيّة حقيقية" قائمة على التشاور والتبادل والتكامل الفعلي بعيدًا عن ترديد الشعارات وبهرجة الإعلام المظهري؛ ويمكن تلخيصها في الآتي.

 

خلاصة

أن يتوافر الجانب الرسمي على الجديّة في إعادة طرح التعديلات التي تطالب بها الحركة النسائيّة البحرينيّة والمتعلقة بالمواد التمييزيّة في "قانون أحكام الأسرة" وإعطاء ذلك أولوية طرحه أمام السلطة التشريعيّة لمناقشة بنود الميراث والحضانة المشتركة والطلاق والخلع، ورفع الحد الأدنى لسن زواج الفتيات وتعدّد الزوجات..إلخ؛ وبما يحقق العدالة والإنصاف والمساواة للنساء.

كذلك تعديل "قانون الجنسيّة" بما يمنح المرأة البحرينية حق نقل جنسيتها لأبنائها؛ و"قانون الحمايّة من العنف الأسري" وتوفير البيانات والإحصاءات الرقميّة المتعلقة بالعنف ضد النساء والفتيات وكل ما يتعلق بحقوقهن؛ وفك القيود والتضيق على منظمات المجتمع المدني وتقويض وصول المرأة إلى مراكز صنع القرار بسبب المادة "43" في قانون الجمعيّات الأهليّة التي تحرم الناشطين والناشطات من الترشح لعضويّة مجالس إدارة مؤسسات المجتمع المدني بسبب عضويتهم السابقة في جمعيات سياسيّة منحلة، فهذه المادة تخالف الدستور والاتفاقيّات والمعاهدات الدوليّة، وقد أثرت سلبًا على انتخابات الاتحاد النسائي البحريني وجمعيتي نهضة فتاة البحرين، وأوال النسائية، إلى جانب مراجعة قوانين الضمان الاجتماعي وتعديلها بما يوفر الحماية الاجتماعية للفئات الهشة من المجتمع ومنهن النساء ربات البيوت ومن فقدن أعمالهن، والتغطيّة الاجتماعيّة للعاملين في "القطاع غير المنظم" و"المشاريع الخاصة الصغيرة" ممن يفقدن الحمايّة الاجتماعيّة والامتيازات الوظيفيّة.. فضلاً عن اعتماد الموارد الكافيّة للتدريب والخدمات وغيرها الكثير الكثير؛ إن في هذا تحدٍ كبير واختبار صعب لنجاح الإرادات!  

 

المنامة – 23 أبريل 2025


الأحد، 13 أبريل 2025

سيرة عاشها ثم كتبها

 

منى عباس فضل

 

بعد أيام قليلة سيناقش ميرزا القصاب في جلسة حوارية كتابه الأخير "لا تستكن تحديات هي الحياة "سيرة". سبق للمؤلف اصدار دراسة اقتصادية قيمة في عام 2022 بعنوان "ما بعد النفط تحديات البقاء في دول الخليج العربية"، في الدراسة دق ناقوس الخطر بشأن التحديات الوجودية التي ستواجه المجتمعات الخليجية في عصر ما بعد النفط وتناول الخلفية التاريخية لها ولاقتصاداتها ما قبل النفط وبعده وتأثيرات الطفرة النفطية وما أنتجته من دولة ريعية ونمو ديمغرافي وتفشي للبطالة وتنامي للإنفاق العسكري في ظل التحولات الاقتصادية الإقليمية والعالمية الحرجة.

 

تطرق إلى ما تتميز به هذه المجتمعات في سوق العمل والتعليم والتنمية المستدامة؛ وسلط الضوء بالبيانات الرقمية على الهياكل التنموية والإدارية لها والعجوزات والدين العام الذي تعاني منه؛ وحتى لا تكون هذه البلدان عرضة للانهيار المحتمل بعد النفط، عرض عليها تجارب عالمية ناجحة يمكن الاستفادة منها في تجنب الكارثة العظمي؛ وخلص إلى أهميّة الحاجة الماسة إلى توفر إرادة سياسيّة تجري إصلاحات وتغييرات جذريّة في أمور الحكم والسياسة والاقتصاد عبر وقفة مراجعة.

 

أما في ضوء كتابه الجديد؛ فهو يصطحب القارئ في رحلة يتناول فيها سيرته الذاتية بمصداقيّة وواقعيّة وبما اكتنزته من تجارب عاصر فيها التحولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة وهو الرجل العصامي كما يصف نفسه. السيرة تتخللها الأوجاع والذكريات ولدغات الزمن وجروحه؛ ما يثير السؤال دائمًا: مالذي يدفعنا للبوح؟ مالذي نبوح به من خلاصة سنوات مثخنة بالجروح من جهة، ومفعمة بالأوقات الجميلة والممتعة من جهة أخرى، فالحنين يشد أطرافنا حيث تترامي صفحات الحياة وتتشكل من أمامنا الحكايات لتبعث لنا نصًا يسرد فيه المؤلف كيف شق دربه بإرادته وجهوده الذاتية؛ وهو هنا يختزل سيرة جيلاً كاملاً بملامحه التاريخية لسنوات الحلم والطموح ومواجهة التحديات والسنوات العجاف والتجارب الفاشلة والمريرة والنجاحات الممزوجة بالمعاناة كل ذلك ليصنعوا مستقبلاً لهم ولأوطانهم؛ ولأن الأم في خضم هذه التجارب تبقى مدخلاً معنويًا وروحيًا له أثره وتأثيره كتب الأهداء إليها؛

 

"إلى أمي خاتون علوي هاشم الكامل، منها تعلمت الكفاح وتقديس العمل، فارقتني وأنا أرسم خارطة طريقي في الحياة، فكان الحصاد الذي لم تره"؛ وقد اعتبر المؤلف حياته مغامرة لها بداياتها غير الاعتيادية حين يروى بإسهاب عن مرحلة طفولته القاسية، وكفاح ما بعد الجامعة؛ وانخراطه في الدراسات العليا ثم مجالات العمل والعثرات التي واجهها.

 

تعتبر هذه السيرة نوع من أنواع الكتابة التراتيبة المتداخلة التي أجاد المؤلف حبكها بسلسلة فقرات لها بداية ونهاية وثمة خيط رفيع يجمعها يتجسد ما بين السرد المباشر حينًا والمتواري حينًا آخر خلف إشارات ورموز لها دلالاتها، وحضورها في النص ليس عبثي، بل فيه من فطنة بث رسائل من أرجاء الذاكرة الجمعية وما تخلف من تحت الأنقاض؛ لنقرأ له: "حقاً، كان عبد الناصر شخصية تاريخية هائلة فرضت نفسها على مجريات الأحداث في عصرها، وتركت بصماتها على مصر والعالم العربي. لقد كان خطيباً مفوهًا بصوت آسر، وزعيمًا تتجاوز كاريزمته كل الحدود، وكان له تأثير محلي واقليمي ودولي. وتعتبر الستينيات بحق السنوات الحالمة من زعامة عبد الناصر الكاسحة وذروة الدور المصري في المنطقة".

 

يميل نص السرد أحيانًا إلى الاقتضاب؛ لاسيما وقد أفاد المؤلف كثيرًا من تجاربه المهنية كأسلوب في سرد ما يفي المضمون وتفنن في التكثيف لخلاصة تجاربه ومغامراته التي خاضها في مجال العمل والتجارة والمخاطر التي تحملها وإن أطال وأسهب في بعضها؛ اختار ما أرد قوله وعبر عنه بشفافية، وهو الباحث الأكاديمي الملتزم؛ إنه لا يقول كل شيء لكنه من الجرأة أن لا يخفي أي شيء اقتنع بأن يكشف عنه؛ تحدث عن مرارة مذاق اليتم والطفولة والبؤس بجرأة وعن السعادة ومتعة الأسفار بين متاهات ذاكرة منعشة واكتشاف الذات والآخر، وقال ما يستوجب قوله من خلال التعبير عن مواقفه وهو يعلق على مشاهدته لمسرحية "يعيش يعيش" التي عرضت في عام 1970 على مسرح "قصر البيكاديللي" الذي شهد محطات فنية مميزة وهو يصفه بدقة لاسيما وقد شكل مسرحاً للثقافة والفن في بيروت، فيكتب: "تنتهي المسرحية بفكرة لاذعة في أغنية تقول: "الرعيان بوادي والقطان بوادي"، مؤكدة الاختلاف الكبير بين عالم الحاكمين وعالم المحكومين. فالكراسي هي الشغل الشاغل للحكام على اختلاف أنواعهم، وأنها لديهم أهم من البشر"!

 

صور السيرة الذاتية في النص ليست رمادية؛ بل تخللها إشراقات أحسن سردها وقراءتها بتنوعاتها؛ وكما هو حال كل من مروا بتجارب الدراسة الجامعيّة؛ يؤكد أن الفترة الدراسيّة التي قضاها في الجامعة كانت بمثابة نقطة تحول في مجرى حياته، وخلالها شعر بأنه ولد من جديد. "ففي الجامعة تعلمت كيفية التعلم، واكتساب المعرفة، والتفكير النقدي، والإفادة من مناخها الليبرالي النسبي، والتعرف على الناس من مختلف الجنسيات والأعراق. وقد ساعدني ذلك على شق طريقي الجديد في الحياة، وتحقيق النجاح من خلال العمل الدؤوب وما تملكني من طموح.. ص92"، وهو هنا يشير إلى الجامعة الأميركيّة في بيروت في تلك الأوقات وبما يتنافى وواقع جامعاتنا اليوم، ويضيف في سردية الحرم الجامعي بلا أسوار: بأن "أول ما لفت نظري هو حرم جامعة أوريغون في يوجين ليس له أسوار، إنه مفتوح على المدينة ومترابط معها من مختلف الجهات. وبالتالي، فإنه لا توجد بوابات للدخول أو الخروج. ولم أشاهد بالحرم الجامعي رجال أمن أو حراس على الإطلاق. وهذا ما يميز عادة الحرم الجامعي بالولايات المتحدة".

 

اغتنى المؤلف كثيرًا بما قرأه وتعلمه، كتب في الفصل التاسع ص 212..."من جانبها قررت منظمة اليونسكو الاحتفال بالكتاب ومؤلفي الكتب، وذلك بإنشاء "اليوم العالمي للكتاب" في عام 1995، بهدف تشجيع الناس على القراءة واكتشاف متعة القراءة، وكذلك تسليط الضوء على مفهوم الملكيّة الفكريّة وحق المؤلف في نسب مؤلفاته الخاصة إليه. وتحتفل باليوم العالمي للكتاب العديد من بلدان العالم خلال شهر أبريل من السنة.. إلخ.  

 

التزم بتسجيل ما مر به من مشكلات وصعوبات وطموحات ومواقف تعددت ما بين قصص النجاح والتحديات العامرة بالدروس والتي تجاوز بعضها صعودًا وهبوطًا حتى يجد لنفسه موطئ قدم في عالم إدارة الأعمال والمشاريع والتجارة وحتى مع توحش رأس المال سرد تفاصيل ومواقف مهمة عبر فيها عن آراء وتجارب ملهمة منذ انطلاقة رحلته الحياتية؛ وفي سياق التحرر من ثقل المطمور في بئر الأسرار، تحدث عن تجربته منذ البدايات في الحصول على درجة الدكتوراه والتحديات والمعوقات التي حالت دون ذلك، واقترن سرده بتجربة التدريس في جامعة البحرين، وخلص إلى أن هناك هوسًا وشغفًا حتى لغير أهل العلم في الحصول على لقب الدكتوراه الساحر وظاهرة الشهادات المزيفة التي انتشرت كظاهرة في مجتمعاتنا الخليجية والعربية بل وعالميًا من منطلق تعزيز فرص الكسب والحصول على الامتيازات غير المستحقة أو حب التفاخر وتضخيم الذات والإحساس بالزهو لحامل اللقب المزيف.

 

ختامًا، إن مطالعة السيرة الذاتية الريادية للقصاب تعدُ خطوة مهمّة يتجاوز فيها المرء حدود التسلي بتتبع الحكايات الخاصة، إلى التعلَم واقتفاء الأثر لهذه السيرة وتجاربها لما لها من المصداقيّة والواقعيّة وبما انتهى إليه المؤلف في تخطي الصعوبات وتحقيق النجاحات.

 

 

المنامة – 13 أبريل 2025


الثلاثاء، 1 أبريل 2025

"الهدر الغذائي" في رمضان واقتصادات الخليج

منى عباس فضل 

ينشر بالتزامن مع مجلة الهدف على موقعها الإلكتروني  * 

https://hadfnews.ps/post/130875/

في مشهديّة المجتمع الخليجي اليوم تبرز ثقافة الاستهلاك والتبذير في ظاهرة مجتمعيّة لا يمكن التغاضي عنها، وفي السياق تفعل العولمة فعلها بقوة في صياغة تجلياتها المتمثلة في الابتذال والبهرجة التي تنعكس على سلوكيّات الأفراد واتجاهاتهم، لتشكل بحق نموذجًا من "ثقافة التفاهة"؛ تمامًا كما حللها "آلان دونو" في كتابه "نظام التفاهة".

فالمجتمع يكشف عن مظاهر جوفاء محملة بحقائق ذات أبعادً خطيرة على مستقبل بلداننا واقتصاداتها، وتبعًا لمنصة "إيكومينا" المختصة بالبيئة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط؛ لم يعد أمر "الهدر الغذائي" مجرد عادات مجتمعيّة وثقافيّة بل صار مشكلة بنيويّة ذات تأثير عميق في ميزانيات هذه الدول الغنية. وماذا أيضًا؟

تفاقم الوعي الاستهلاكي

بلدان الخليج لا تزال تعيش بحبوحة "دولة الرعايّة" وسكرة الترف وتفاقم الوعي الاستهلاكي في إطار "الهدر الغذائي" الذي يستنزف اقتصاداتها المحليّة، لم لا والإنفاق على الطعام والشراب في شهر رمضان الكريم، يرتفع باطراد وبنسب دراماتيكية ما بين "50%-200%"، لاسيما مع مد موائد الإفطار العامة والخاصة، وعلى الرغم مما تعكسه هذه الموائد من روح التعاضد والتواصل الاجتماعي في مجتمعاتنا المحليّة؛ إلا إنها من أسف مقترنة بهدر كبير للطعام والشراب. في هذا الصدد؛ يشير خبير اقتصادي "بأن متوسط إهدار الفرد في هذه البلدان يزيد عن المتوسط العالمي البالغ "90 كيلوغرامًا" للفرد، ليصل إلى "184 كيلوغرامًا" حيث تقدر قيمة الهدر بدول الخليج مجتمعة قرابة "20 مليار دولار" سنويًا، وفي تقارير حديثة أخرى تصل إلى النسبة "30%" والرقم بالطبع يتضاعف في الشهر الفضيل كما تؤكده الشواهد؟

لدى مراجعة التقارير والتحقيقات؛ تبين أن ظاهرة "الهدر الغذائي" بأرقامها ومؤشراتها فاقعة وصادمة؛ وتمثل معضلة اقتصاديّة وبيئية خطيرة في بلدان التعاون؛ فالخسائر لا تقتصر على الموارد الفرديّة، وإنما تمثل إهدارًا لموارد الدول وتؤدي إلى خسائر تقدر بمليارات الدولارات، لكن المفارقة هنا تكمن من كون هذه البلدان تستورد أكثر من "98%" من احتياجاتها الغذائية؛ ما يعني تحمل تكاليف باهظة وخسائر ماليّة واستنزافًا وهدرًا مناخيًا أيضًا؛ لماذا؟ لأن نفايات الطعام المهدور المعد للاستهلاك في المنازل والمتاجر والمطاعم مآلها إلى صناديق النفايات، والمثير للأمر أن نسبة "60%" منها مصدرها البيوت؛ وحسب خبراء البيئة فهي تمثل أحد مصادر انبعاث الغازات الدفينة التي تلوث المناخ وترفع من نسب الاحتباس الحراري. وتبعًا للأبحاث؛ بلدان الخليج تتحمل مسؤوليّة "8%-10%" من غازات الاحتباس الحراري العالمي، وهي تُصنف من أعلى معدلات الهدر عالميًا من حيث نصيب الفرد. من كل هذا وذاك؛ تقف وراء هذه "الظاهرة الاجتماعيّة" الخطيرة دوافع وأسباب تناولتها مراكز الدراسات والأبحاث بالتفصيل؛ وقبل الخوض فيها؛ لندقق النظر فى بيانات "الهدر الغذائي" المرعبة.

بيانات مرعبة

في دراسة حديثة لمعهد "الموارد العالمية الأمريكي"؛ قدرت تكلفة "الهدر الغذائي" في السعودية وحدها بحوالي "10.7 مليار دولار" سنويًا، وذكرت بأن هذا الرقم يتفاقم في شهر رمضان بنسب تتراوح ما بين "50%-100%"، وإن السعودية تأتي في المرتبة الأولى من حيث الهدر الذي وصل معدله عام 2021 إلى "184 كيلو غرامًا" من الطعام للفرد سنويًا وبتكلفة "40 مليار ريال سعودي"، وبالتالي فهي تفوق ضعف المعدل العالمي حسب دراسة رسميّة "للمؤسسة العامة للحبوب"، أما بحث مشابه أعدته مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية فيشير، إلى إن نسبة الهدر فيها تبلغ "33%" أي نحو "8 ملايين طن سنويًا"؛ فيما قدرت "الهيئة العامة للإحصاء السعودية" بأن ما يهدره المواطن السعودي سنويًا يصل إلى "427 كيلوغرامًا من الطعام، وتكلف فاتورة "الهدر الغذائي" نحو "13 مليار دولار سنويًا!"، ووفق تقديرات "وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية"، فإن هدر المملكة من الدقيق بلغ "917 ألف طن"، و"557 ألف طن" من الأرز، و"22 ألف طن" من اللحوم، و"13 ألف طن" من لحوم الإبل، و"41 ألف طن" من لحوم الأبقار، و"444 ألف طن" من لحوم الدواجن، و"69 ألف طن" سنويًا من الأسماك، ونحو "600 ألف طن" من الخضروات.

أما البحرين فقد صنفت بالثانية عام 2020 وبمعدل هدر للطعام وصل إلى "132 كجم" للفرد سنويًا تبعًا لتقرير "مؤشرات هدر الغذاء" في برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) وبمجموع "230 ألف طن سنويًا" بتكلفة تفوق "100 مليون دينار سنويًا"، وفي تقارير حديثة مماثلة، بلغ حجم الهدر اليومي للطعام "400 طن، بما يعادل "146 ألف طن" سنويًا، بقيمة "251 مليون دولار"، وفي شهر رمضان وصل إلى "600 طن" يوميًا، حسب جمعية "حفظ النعمة". وفي الإمارات التي تعد الرابعة عالميًا فأن نسبة "38%" من الطعام المعد فيها مصيره النفايات التي تقدر بحوالي "3.27 ملايين طن" سنويًا، وترتفع النسبة ما بين "40%-60%" في شهر رمضان؛ وحسب تقارير أخرى؛ فهي تهدر ما يتجاوز قيمته الـ"2.7 مليار دولار"، وإن الفرد الواحد بالدولة يهدر "179 كيلو غرامًا من الطعام سنويًا".

كذلك سجلت الكويت وفق تقرير لقناة (CNBC) يستند إلى بيانات من إدارة شؤون البيئة؛ بأن "الهدر الغذائي" يقدر بنحو "مليون و528 طنًا سنويًا" ويبلغ نصيب الفرد منه حوالي "95 كيلو غرامًا"، وبحسب رصد لـ"الخليج أونلاين" يستند فيه إلى بيانات رسمية أيضًا فأن معدلات الاستهلاك للمواد الغذائية ترتفع بنسبة "40%" خلال شهر رمضان،  فيما تبلغ كمية الطعام المهدور سنويًا في قطر "1.4 مليون طن" حسب برنامج "أصدقاء الطبيعة القطري" وبشكل عام ترتفع نسبة الاستهلاك في رمضان للسلع إلى "20%"؛ فيما أفادت بيانات سلطنة عُمان بأن قيمة الغذاء المهدور وصلت إلى "300 مليون دولار سنويًا.

تأثيرات وأبعاد متناقضة

وعلى النقيض مما يجده بعض المحللين الاقتصاديين من إن الاستهلاك المرتفع للطعام يحقق على المدى القصير معدلات إيجابية على الحركة التجاريّة في بلدان الخليج وعلى ارتفاع مداخيل تجارها، إلا إن تأثيراته البعيدة برأي أغلبهم يستنزف سيولة اقتصادات بلدان الخليج لمصلحة البلدان المنتجة للمواد الاستهلاكيّة، خصوصًا وقد سبق الإشارة إلى إن هذه البلدان تستورد أكثر من "98%" من احتياجاتها من الخارج، حيث وصلت قيمة الواردات الغذائية لها في عام 2023 إلى "61 مليار دولار" مقارنة بـ"30 مليار دولار" في عام 2016، كما يتوقع تقرير لشركة "آلبن كابيتال" في 2023 أن ينمو استهلاك الغذاء في دول التعاون بمعدل نمو مركب نسبته "2.8%" ليصل إلى "56.2 مليون طن بحلول 2027.

عند إمعان النظر في ظاهرة "الهدر الغذائي" وتأثيراتها على اقتصاديات بلدان مجلس التعاون الخليجي؛ ثمة أسباب يستوجب التركيز عليها من منظور تحليلي؛ لاشك أن الأسباب تتعدد وتتنوع، من جهتها تشير "مؤسسة المهندسين الميكانيكيين" البريطانية في تقرير لها إلى إن المواد الغذائية أصلاً معرضة للتلف بسبب سوء التخزين، وصرامة الإلتزام بموعد الصلاحية، وعروض البيع بالجملة، وعادات الاستهلاك السيئة، وترفع بعض المستهلكين عن الشراء بسبب شكل المنتج... إلخ، بيد إنه وفي بلدان الخليج يبقى السبب الأبرز يتمثل في هشاشة السلوك الاجتماعي الاستهلاكي وإلى ارتفاع المداخيل والقدرة الشرائية نسبيًا عند شعوب المنطقة التي تنفق أمولاً طائلة على شراء المواد الغذائية، بأكثر من حاجتها، وطبيعة تناول وإعداد الأطعمة بكميات كبيرة مبالغ فيها بالولائم وحتى في الوجبات الاعتياديّة، إضافة إلى النمو السكاني الذي بلغ "0.8%" عام 2021 حسب المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون.

وثمة من يعزو "ظاهرة الهدر" والإفراط في النزعة الاستهلاكيّة في رمضان إلى العادات والتقاليد المتوارثة؛ لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير؛ إذ تفاقمت النزعة مع متطلبات العولمة وأسواقها وانعكاساتها التي أنتجت انفتاحًا لا حدود له وتزييفًا للقيم وأنماطًا للسلوك وتنافسًا مُفرطًا خاضعًا لرأس المال وفلسفة الاستهلاك التي تمظهرت بين الفنادق وفي الأسواق والإعلانات والدعايات للمطاعم وأسواق "الهايبر ماركت" حيث تتزاحم الأسر الخليجيّة على الشراء بكميات مُفرطة من الأغذية واحتياجات السفرة الرمضانيّة من الضروريات والكماليّات التي قد لا يستخدمون أغلبها وليسوا بحاجة إليها، في اتجاه يعبر عن ضعفًا في أنماط سلوك التسوق العشوائي عند الأفراد وعدم قدرتهم على التحكم في الشراء، إلى جانب مظاهر البذخ والإسراف على الموائد والتباهي بتقديم ما لذ وطاب في الوجبات الرمضانية حيث أصبح ذلك معيارًا للقيمة والوجاهة الاجتماعيّة في التباري والتباهي الاستهلاكي سواء أكانوا في وضع مادي مترع أم في وضع معيشي متوسط مما يضعهم كأفراد في مأزق مادي لتلك المظاهر والسلوكيّات، ومما فاقم من هذه الحالة دخول "السوشيال ميديا" على الخط، حيث التصوير والعروض الترويجية التي لا تتوقف لتحضير الوجبات والموائد ونشرها في حسابات التواصل الاجتماعي.  

خلاصة الأمر؛ تقف بلدان الخليج اليوم أمام تحديات كبيرة ومنظورة؛ تتطلب أخذ مبادرات جادة تعمل على تحقيق "الأمن الغذائي" والحد من ظاهرة "الهدر" وهذا يتطلب العمل على تغير الثقافة الاستهلاكيّة المجتمعية الباذخة حيث الكماليّات تتحول إلى ضروريات، وإلى اعتماد سياسات عامة وتشريعات تكثف الوعي على ضرورة ترشيد الإنفاق الاستهلاكي.

المنامة - 1 أبريل 2025