منى عباس فضل
هي الأرقام بصغيرها وكبيرها من تحرك الأصابع وهي من يلتقطها النظر، ولكل منها حكاية حين تفتح أبواب شهية القلب كل صباح على أحدها ويتحرك العقل ليبرمج يومه ونشاطه.
هي الأرقام بصغيرها وكبيرها من تحرك الأصابع وهي من يلتقطها النظر، ولكل منها حكاية حين تفتح أبواب شهية القلب كل صباح على أحدها ويتحرك العقل ليبرمج يومه ونشاطه.
هذا الصباح لم يكن كمثل
غيره من صباحات، فهي على موعد من يوم يليه في بدء حركة دؤوبه، يقولون: "ان
الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، يقولون: أن رتم الزمن الحاضر غدا متسارعاً
حد اللهاث والركض إلا إنه وفي نهاية المطاف تجدها تركن في أول نفق مفتوح تكون فيه
كل الأشياء مبهمة ومنفلتة من بين يديها.
لا يعجبها العجب من
تصاميم رزنامات الوقت المنتشرة، لذا فهي تخربش بأقلامها الملونه كما الصغار على
تلك التي اختارت أن تضعها على طاولة المكتب، تسرح بعيداً وهي تلون في ذاك الزمن
الذي يُستعصى فيه الحصول على دفتر تلوين رسُمت في صفحاته حيوانات أليفة وأشجار تفاح
وبرتقال عالية وأزهار وفراشات ملونة وفتيات صغار يشبهون حلاوة وخفة دم "سعاد
ودجاجاتها" حيث تنتشر خطوط الأعشاب التي تلونها بالأخضر الفاتح أو الغامق كما
تتخيلها في الطبيعة، وتلون السماء بالأرزق والشمس بالأصفر في تدويرها وسط كبد السماء، لا تغفل عن قوارب الصيد التي تجوب بأشرعتها سطح المياه ولطالما حلقت بأحلامها
في الترحال على متنها وتركض وراء بريق النجوم من سماء إلى سماء تحدد خطوط القمر في
هلاله أو دائرته وسط الشهر.
دفاتر التلوين احتوت
بدايات الطفولة والمرح وكانت شحيحة لا تتوفر لكل الأطفال برغم أسعارها الزهيدة،
كانت تتسلى بما يتسر لها من قصصات المجلات والصحف بما تحتويه من صور ملونة في عالم
رحب من قصص وألوان، عالم الألوان هو الحيز الحقيقي الذي أدركت على متنه الفرح وتعرفت
على الحزن واكتشفت متى يبدأ النهار وكيف ينتهي في متن آخر الصفحات.
***
في ذاك المدى الرحب من
التأمل، تنقلها الرزنامة المقسمة إلى مربعات كبيرة لترتيب مواعيدها المقبلة، هنا موعد
زفاف وهناك موعد سفر وترحال، وهنا موعد لمعاودة الطبيب، لشد ما تتثاقل الخطى لارتياد
عيادتة، لم لا ومن حولها لا حديث يتسلون به مع أنفسهم ومع الآخرين سوى التذمر والشكوى
والأنين مما أصابهم من أمراض وعلل مزمنة، حتى إن الاختصاصيون الاجتماعيون والنفسانوين
المعالجون أو غيرهم ممن يتعاطعون بشغف مع علوم الطاقة والرياضات البدنية والذهنية أو
حتى من الطارئين على عالم المعرفة التي يتلقونها كـ"فاست فود" عبر
رسائل "الواتس آب، أو الانستغرام..الخ" لا يهم، المهم يجهدون في تعليم الجميع
وتلقينهم من خلال المحاضرات أو مقتطفات من كتب "اليجبيات؛ من يجب"
المترجمة كاملة الدسم بالنصائح، يجهدون في تلقين النصائح للتخفف من تأثير الأمراض
البدنية وضغوط العصر وضبط الصحة النفسية وبناء علاقات اجتماعية سليمة مع
الآخرين، كما يضع بعضهم الآخر قوائم افتراضية مفصلة للطعام والشراب الصحي وحتى
الدواء الشافي من العلل ووصايا لها أول ولا نهاية لها، نصائح تتغلغل في عمق دواخل المرء
وتخترق خصوصيته وتتذاكى عليه وتتعامل معه وكأنه وليد صغير لا حول له ولا قوة،
تتعاطى مع المتلقي القارئ أو المستمع للرسائل وكأنها خلاصة علم وخبرة من خبير
الخبراء؛ هكذا تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى واعظ ثقيل الوزن على رأسها إضافة
إلى مواعظ رجال الدين المنتشرين كالفطر ممن يلقنون المعلومة والسلوك فيما يجب وما
لا يجب؟!
الكل غدا مرجعاً ومعلماً
واستاذاً وخبيراً وشيخ دين وطبيب معالج وناصح يبث نصائحه وتلقيناته على مدار
الساعة والتي غالباً ما تعنون للمتلقي: "أقرأ أفضل وأقوى مقال.."، يبتغي
إكسابك الفوائد العظمى لوجه الله، ثم يناشد متلقي الرسالة الموجهة للقيام بإعادة توزيعها
على خلق الله كي تعم الفائدة ويحصل هو كما الآخرون على الأجر والبركة والجزاء
الكبير من رب العالمين، سلوك يختصر لك حياتك في ثوان مع سرعة وتيرة الزمن، ويجعلك
أسيراً وعلى مدار الوقت لتلقي كماً هائلاً مما لا يعد ولا يحصى من رسائل تلقينية ونصائح.
***
تدقق النظر ثانية على تفاصيل
رزنامة الوقت التي تشير إلى مواعيد ملونة مزدحمة لأداء المستوجبات، من زيارات
مفتوحة وحفلات زفاف وأعياد ميلاد، تغمض عينها وتفتحها لتجد أن أيامها توالت كما
الركام على بعضها البعض، فلا هي تشعر بقيمة ما تشفي الغليل ولا بأشباع يحقق الملاذ
والراحة، لم يعد للأسئلة متسع من الوقت ولا مساحة لعزلة تبتغيها في زاوية تحتضن
فيها أفكارها وأوراقها وأحبارها، فهي أما موضوع زيارة على أجندة الآخرين أو مقصداً
لثرثرة على الماشي، أو لتلبية متطلبات لا نهاية لها، ينتهي اليوم وعقلها يتعب من
التلوين والخربشة وتركيب مربعات الأفكار على بعضها البعض؛ ومن تجهيز خططٍ غالباً
ما تنتهي إلى فقاعات وعجز مكشوف وثرثرة ولا شيء سوى النظر صباح اليوم التالي في
رزنامة الوقت وبأمنيات تشطب اليوم الجديد حسرة بالقلم الأسود، عل اليوم الذي يليه يكون
مشعاً ببريق كبريق شمس الربيع.
منى عباس فضل
منى عباس فضل
تبعدنا الجغرافيا ويلتهمنا الزمن ويجمعنا الفضاء الافتراضي. مودتي، عبيدلي
ردحذف