منى عباس
فضل
إذا كانت بلد كفرنسا يدعي ممارسة الشفافية ويتوافر على مؤسسات ديمقراطية
عريقة تخضع للرقابة الشعبية منذ عقود، قد حظيت زوجات رؤساءه المعاصرات بنفقات خيالية
غطت أكلاف مكاتبهن ومعاونيهن وأعمالهن العلنية والخيرية ناهيك عن مزايا خدمات الحماية
وفرق الحراسة واستخدام الطائرات النفاثة المملوكة للدولة وحضور مصففي الشعر ومنسقي
الزهور التي تغطيها جميعاً ميزانية الإليزية السنوية بآلاف تزيد على "7 ملايين يورو"،
حتى قيل بإن نفقات شريكة فرنسوا هولاند السابقة بلغت لوحدها نحو 400 ألف يورو عام 2013
"قرابة 15 ألف د.ب" شهرياً، فماذا يمكن تخيله أو قوله بشأن مستوى إنفاق
مثيلاتهن في البلدان العربية؟
-
طبعاً الكثير الكثير وفوق المتصور.
زوجات الحكام والأزمات
ثورات الربيع هتكت المستور
ولم تخفِ عورات واقع البلدان العربية، حيث كشفت تقارير متعددة أن معظم زوجات
الحكام كان ولا يزال لهن دور في أزمات بلدانهن بشكل مباشر وغير مباشر، إضافة إلى دور
حاشيتهن الفاسدة. أغلبهن يحرصن على الظهور بأناقة مفرطة، في حين تعاني شعوبهم من الفقر
والعوز والبطالة، كما برزت موضة تصدرهن للشأن العام في السنوات الأخيرة وعبر
مؤسسات فصلت على مقاسهن فيما يتعلق بأدوارهن الجديدة التي أخذت طابع إصلاح حقوقي للنساء.
عند انطلاق شرارة ثورة
الياسمين في 2011 لم تسلم زوجة المخلوع التونسي من الشعارات المضادة لها بسبب يدها
الملطخة بالفساد وبنفوذها؛ حيث عرفت بـ"السيدة 20 بالمئة"، لإصرارها
الحصول على هذه النسبة من المشاريع التي تحتضنها تونس. قيل أنها هربت بثروة هائلة
جمعتها وكميات كبيرة من الذهب بسبب موقعها كسيدة أولى، فيما سعت إلى تقريب أفراد
عائلتها من مراكز القرار الرسمية وجعلتهم لوبياً ضاغطاً حتى على زوجها المخلوع. مثلها
أو أقل فعلت صفية القذافي التي قدر رصيد ثروتها بـ"30 مليار دولار"
وعليهم مخزون من الذهب والمجوهرات، أما "ماما سوزان" فعرفت بحبها
المتعطش للمال والسلطة الذي تختفي تحت مظلة أنشطتها الخيرية، والبقية حدث ولا حرج.
لكن حديثنا اليوم عن المدرّسة المسكينة المتقاعدة عالية التعليم وغزيرة
الخبرة بريجيت قرينة الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الفتى الذي أحبها حباً
جماً منذ كانت معلمته حتى أصبحت شريكة حياته، وهي تكبره بـ"25 عاما"
اللهم لا حسد، إذ تصاعد الجدل بشأن وعد قطعه زوجها أثناء حملاته الانتخابية حول نيته
"استحداث موقع رسمي فعلي" للسيدة الأولى" بهدف وضع حد للرياء وازدواجية
الوضع والكف عن "النفاق" بهذا الشأن.
القانوني الأخلاقي
غير إن مسعاه لإضفاء الطابع الرسمي على هذا الدور ومهامه البروتوكولية، أثار
حفيظة أوساط من الرأي العام الفرنسي خصوصاً مع تزامن طرح "مشاريع قوانين
تخليق الحياة السياسية" في الجميعة الوطنية الفرنسية. معلوم أن اليسار
الراديكالي يعارض في هذا السياق منح أموال لزوجة الرئيس على غرار أعضاء الحكومة
والبرلمان، وللحد من امتيازات الوزراء والبرلمانيين الفرنسيين ومنعهم من التوظيف
أو الاستعانة بخدمات زوجاتهم وأفراد من أقربائهم. معروف أن ماكرون اقترح أثناء
حملته الانتخابية التسريع بتشريع "قانون أخلاقي" يساهم في تنظيف الحياة العامة
بعد الفضائح التي هزت فرنسا، بيد أن الأمر ليس بهذه السهولة، فإقرار القانون يتطلب
أغلبية من أصوات النواب "289" من أصل "577" صوتاً، مما يشكل حتماً
تحدياً ومواجهة مع السياسيين الذين يهددونه بإفشال التصويت، أحدهم قال: "إنه ليس
أولوية..وغير مجدٍ وفقير فكرياً" - يقصد القانون الأخلاقي-.
وعليه فالتساؤلات والسجالات التي تم تدويرها بشأن دور "السيدة الأولى"
متعددة وتركزت حول ماهية الدور وتأثيره على أخلاقيات العمل العام، وما إذا سيتضارب
مع "القانون الأخلاقي"؟ فضلاً عن الأكلاف التي ستتحملها ميزانية الدولة؟
واضح أن المناوئين لماكرون في هذا الصدد، لا يقبلون بسهولة وضعاً كوضع
الرئيس الإمريكي دونالد ترامب الذي تتصدر
ابنته إيفانكا وزوجها واجهة البيت الأبيض واستقبالاته وأنشطته الرسمية في مشهد
يثير العالم بالسؤال عن كيفية قبول المواطن الأمريكي بذلك، أما بالنسبة للعالم
العربي الذي تحكم مفاصله دول غنائمية بأشكالها الإستبدادية والدكتاتورية، حتماً لا
يجروء الموطن فيها على الاعتراض من شئ كهذا، فالأفواه مكممة لا يمكنها التفوه ببنت
شفة بسؤال أو اعتراض.
باي باي "للسيدة
الأولى"
ما علينا، نعود
لفرنسا بلد الحريات والديمقراطية العريقة التي كشفت استطلاعات الرأي في "هاف
بوست ومؤسسة You Gov" أثناء حملة ماكرون
الانتخابية في مايو الماضي أن "68%" من الفرنسيين يعارضون أي دور سياسي
رسمي لزوجة الرئيس. بدوره تيري بول فاليت رسام وكاتب فرنسي تصدر المعارضة بعريضة
انترنتية على موقع "تشانج.أورغ" قبل أسابيع رفض فيها مع الموقعين الـ"275
ألف" موقع على العريضة هذا الدور، وجاء مضمون نصها: "ندين بشدة جميع
هجمات التمييز الجنسي التي تتعرض لها بريجيت ماكرون، ولا نشكك بتاتا في كفاءتها،
لكن وفي ظل سعى الحكومة لتخليق الحياة السياسية، ومع تبني القانون الذي يمنع توظيف
الوزراء والنواب لأقربائهم، ليس بإمكاننا الموافقة على المبادرة لاستحداث لقب رسمي
لزوجة الرئيس ماكرون." ونقطة على السطر.
باختصار رفضوا "شاهر
ظاهر" وبكل شفافية دون خوف من عقاب أو انتقام، تخصيص لقب وميزانية لزوجة
الرئيس من المال العام ومن الضرائب المستحصلة من الشعب الفرنسي، وبرغم نية
الإليزية التوضيح بأن المسكينة بريجيت لن تتقاضى أجراً ولن يعدل الدستور لتحديد
إطار عملها كزوجة رئيس الجمهورية أو الموارد المخصصة لها، حيث يفتقد الأخير أي نص
قانوي وبرتوكولي من الناحية النظرية لهذا المنصب، إلا أن أصواتاً من المعارضة
ارتفعت قائلة :"إن بريجيت لديها حاليا قرابة ثلاثة مساعدين وكاتبين ورجلي أمن
وهذا كاف". عملياً الأمر ليس كذلك كما أسلفنا، حيث كلفة دور زوجات الرؤساء
ونفقاتهن مرتفعة وتتحملها ميزانية الإليزية وجيوب الفرنسيين.
ضغينة الخصوم
خلاصة الأمر بعد هذا السجال اتخذت
الحكومة قرارها النهائي بحرمان بريجيت من لقب "السيدة الأولى" رسمياً، ما
يعني عدم حصولها على ميزانية خاصة واقتصار دورها تبعاً "لميثاق
الشفافية"، على أنشطة علنية لا تتضمن أي تأثير سياسي. في هذا الصدد أشارت الكاتبة
"نبيلة رمضاني" من "الإندبندنت" البريطانية، إلى سبب خوف سيدات
فرنسا الأوليات من الاقتراب -ولو قيد أنملة- من هذا المنصب؛ الذي يجلب الحرج
والمذلات المتعددة لمن يحملنه، بدءاً من الخيانات الزوجية، وانتهاء بمنعهن من حق
التكلم والتعبير عن أنفسهن بتاتاً. رمضاني تقول أن ماكرون مختلف جذريا مقارنة بمن
سبقوه، لديه نزعة قوية لمناصرة المرأة والحركة النسائية، ولهذا سعى إلى تغيير
الواقع، لاسيما وزوجته ترفض لعب دور الأنثى في مسلسل العذاب المهين، فهي تتمتع
بصوت قوي وازن، ولهذا يفضل ماكرون إضفاء الصفة الرسمية على منصبها.
إن مجموعات الضغط من خصوم ماكرون ومناوئي بريجيت كما
تختم رمضاني أبدوا ضغينة وموقفاً حاقداً على النساء، ولهذا نظموا العريضة
الإلكترونية، التي يتمحور مضمونها حول دلالة المنصب كما يبدو لهم من خلال السيدات
الأوليات ليس إلا، فما ذهب إليه ماكرون ومساعدوه مجرد وضع "ميثاق
شفافية" لن تكون له أي تكلفة ولا يتطلب جهداً تشريعياً ولن يتقاضى عن المنصب
الجديد أي مرتب ولا يتطلب تغييراً دستورياً، فالدور بالنسبة لهم "عام"
وليس "سياسي". الأهم تضيف: "أن كسب المال والإحاطة بهالة وجيش من
الحرس آخر هم بريجيت".
ومنه إذا صحت رؤيتها بشأن المسكينة بريجيت،
فالمرجح والأكيد أن ذلك لا ينطبق على السيدات العربيات الأوليات في عشق المال والسلطة
والشهرة.
منى عباس فضل
المنامة-19 أغسطس 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق