منى عباس فضل
نشر في الشروق:
الثلاثاء 28 نوفمبر 2023 - 6:35 م | آخر تحديث: الثلاثاء 28 نوفمبر 2023 - 6:35 م
من قلب المحرقة التي تطل من منحدر عميق
تنبض حكايات الفلسطينيات وأطفالهن التي خلفتها مجازر الذبح وشلالات الدم على
الجدران، في المخيمات وعند المعابر والحدود وفى الشوارع العارية، كلها مساحات
مفتوحة تحتضن السردية الفلسطينية مع المعاناة والصبر والثبات.
من تحت الحصار وكوابيس الاحتلال الممتد
على شريط ثمانية وسبعين عاما تتجلى صور التضحيات وذكريات العذابات، تدور القصص في
طبقات متشابكة، هناك الأموات والجرحى والمعاقون والأسيرات؛ هناك الفقد المفتوح
أبوابه بلا انقطاع، هناك المخيمات والمنافي والجوع والبرد؛ كلها حاضرة في الأنين
والجراحات المؤلمة التي صنعت وعيا مقاوما أشد تأثيرا وأقوى حضورا، إنه الوجه الآخر
للمأساة التي تكابدها المرأة الفلسطينية مع الاحتلال وفى حرب لا تستثنيها من القتل
بالقنابل والتفجير والتهجير والاضطهاد، في واقع تغيب فيه صور القبيلة والطبقة
الاجتماعية وأنماط العيش وأشياء كثيرة، حيث يبقى الانحياز قائما على المعادلة
الوجودية وما يحدث في الأرض المحتلة والإصرار على تحريرها.
• • •
تقول هيام التي تعرض منزلها لغارة جوية
على حي تل الهوى، «نشكر الله على كل يوم نستيقظ فيه أحياء. نحن أكفان مؤجلة، نرتدي
ملابسنا ونحن مستعدون للقاء الموت في كل لحظة ننتظر دورنا، نحن نعيش في اللا وجود،
في الملجأ المؤقت، وعلينا مساعدة بعضنا البعض، بناتي الثلاث يقدمن المساعدة لثلاث
مسنات في المنزل، إحداهن مصابة بمرض السكرى، والأخرى بارتفاع ضغط الدم، والأخيرة تعاني
من مرض السرطان، ومع ذلك فنحن نحمل العبء النفسي لمواصلة العيش وسط هذه الأزمة
والوضع غير المحتمل الذي يزداد فيه الألم بعد فقدان الأقارب والأصدقاء».
وتزفر إحدى الأمهات بعيون دامعة «كنت
أتمنى من كل قلبي أن أشوف ابني دكتور، الآن تسأليني شوو بتتمني؟ أتمنى من كل قلبي
إن متنا واستشهدنا أن لا أشوف ابني مقطعا أشلاء»، أما عم «روان» ذات العشر سنوات
فيحملها على كتفيه وهي تودع أمها وأباها وأخاها حمزة الذين استشهدوا بعد قصف
الاحتلال لمنزلهم شمال غزة.. تذرف دمعا حارقا أعظم من طفولتها البريئة: الله يرحمك
يا يمه، الله يرحمك أخي حمزة». هذا حال الصغيرات والأمهات الفلسطينيات اللواتي
وقبل النوم يكتبن أسماء أولادهن وأرقام هوياتهن على أياديهن وأرجلهن، حتى وإن
تمزقوا وتناثرت أشلاء أجسادهن تعرفوا عليهم». أي جنون يسكن عالمنا؟ أي خطايا لا
تنسى ولا تغتفر؟
لقد فرض الحصار الإسرائيلي الأمريكي الغربي
على الحياة الفلسطينية عامة وعلى النساء خاصة وضعا لا إنسانيا ولا أخلاقيا مفزعا،
والفلسطينيات يتحملن عبئا ثقيلا منه لحماية أسرهن، وبما يحيط بهن من كوابيس وشعور
بالخوف والألم وعذابات مستمرة من حالات الفقد الذى يهمين على حياتهن حيث تحاصرهن
فكرة البقاء على قيد الحياة مع الخسائر الموجعة، فإما أن تغادر أو يتعرض منزلك إلى
الغارات الجوية الإسرائيلية وقذائفها فتدفن تحت أنقاض منزلك وتغادر الحياة ويتحول
كل شيء إلى ركام، لا يمكنك التنقل، ولا الجلوس وكل الاحتياجات الأساسية لا يمكن
الحصول عليها وإن وجدت فهي بتقتير شديد، لا حياة خاصة مترفة لهن في ملاجئ غزة التي
تعانى من الاكتظاظ والنقص الشديد للغذاء والكهرباء والماء، والغارات الجوية
الإسرائيلية مستمرة تدمر الإحياء والمخيمات بأكملها وعلى رؤوس أهلها.
الحديث عن واقع المرأة الفلسطينية
ومعاناتها مع العنف وجرائم الاحتلال وما يمارسه من قتل وتهجير ليس ترفا فكريا، ليس
حملة سنوية حقوقية عمرها ستة عشر يوما والسلام، وليس شعارات تقودها هيئة الأمم
المتحدة للمرأة، التي تقر «بأن الوضع الإنساني في غزة التي تخضع للحصار؛ مأسويا
قبل مجازر غزة وإنه تفاقم الآن بشدة، وفرض ضغوطا على النساء والفتيات خصوصا مع
المطالبات الإسرائيلية بترحيل (تهجير) نحو 1.1 مليون فلسطيني، وهى التي تشدد على
ضرورة احترام القانون الدولي والإنساني، وقانون حقوق الإنسان والالتزام بهما»، هل
يؤثر فيكم اليوم خطاب هذه الهيئة وغيرها؟
• • •
فى حقيقة الأمر نستقبل احتفالات العالم
بحملة مناهضة العنف ضد المرأة هذا العام في وضع إشكالي واستفزازي بما يحمله هذا
الشعار من ثقل تراكم في وعينا الجمعي عبر أعوام؛ ثمة معضلة تواجهها النخب المدافعة
عن حقوق الطفولة والنساء، لاسيما بعد سقوط الأقنعة وانكشاف البشاعة والخزي في
ازدواجية المعايير بالانحياز إلى إسرائيل وهي تقصف المستشفيات وتقتل الفلسطينيين
المدنيين والأطفال الرضع في حاضناتهم من منظور عرقي وديني.
نعم لقد حان وقت المراجعة للقانون الدولي
للمنظومة الفكرية والأممية التي تتصدر أجندات الهيئات الأممية وبما تحمله مضامينها
من مفاهيم الحق والعدالة، مراجعة تضع المسافة بيننا وبينها وهى التي انزلقت مع
الهراء والكذب الإسرائيلي الفاشي، لنتأمل؛ فهي ــ أي الهيئات ــ تقف مع الاعتداءات
الهمجية الصهيونية على الفلسطينيين وضد «وقف الحرب والقصف» من منطلق «الدفاع عن
النفس» كما تعتبر دعوات إيقاف الفصل العنصري ومقاومة الاحتلال معاداة لليهودية،
لنتذكر أن أغلبية شهداء مجازر الإبادة الجماعية في غزة هم من النساء والأطفال؛
وهناك مئات الأسيرات من النساء والأسرى من الأطفال منذ ما قبل 7 أكتوبر؛ فعن أي
عنف وانتهاك حقوق وعدالة يتحدثون؟
بعد غزة لا حاجة لنا لنردد لغو شعارات
تم هندستها في المنظومة الفكرية والقانونية الإنسانية لعقود وهى التي طالما دافعنا
عنها باستماتة؛ وفى حقيقتها لم تكن إنسانية ولا قانونية في تعاطيها مع المدنيين
الأبرياء والنساء والأطفال الفلسطينيين، حين أبيدت أرواحهم على مقصلة قصف الطائرات
الإسرائيلية وقنابلها، لم يكن للمرأة الفلسطينية وأطفالها وقضيتها من موقع عند
مقاربة جريمة الإبادة الجماعية وما أنجز واقعا والتزاما بمفاهيم هذه المنظومة ورعاياها.
بعد غزة نحن لا نملك ترف ملامسة شعارات
«مناهضة العنف» التي تطلق في الحملات الترويجية على منصات التواصل الاجتماعي
وتتصدرها أنشطة هيئات الأمم المتحدة ومؤسسات المجتمع المدني وهناك وتبعا للمديرة
التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة أكثر من «14 ألف مدنى شهيد 67% منهم كانوا
نساء وأطفال، وأن امرأتين تستشهدان كل ساعة و7 نساء كل ساعتين في قطاع غزة»، لا
خيار لنا؛ لا نملك هذا الترف، غزة وضعتنا على محك الاختبار والاختيار، والمسألة
كما يراها المفكر المغربي محمد المعزوز «ليست مسألة احتلال أرض فقط ولا مسألة
سياسية، وإنما هي سردية الإنسان الفلسطيني المضطهد منذ 48؛ لقد اهتزت الثوابت
الأخلاقية للوجود الإنساني فلم يعد مسعى إبادة الأطفال والنساء إبادة للهوية أو
الجنسية فقط، وإنما هو إبادة لماهية موصولة بالجنس البشرى، رتبتها «موقعها» أكثر
من العنف باعتبار إن العنف ينتهى دائما إلى لحظة خمود بأثر كابح من كوابح ثابت أخلاقي
ملزم».
الخلاصة إن هذه الإشكالية الفكرية لم
تناقش بعد وبجدية في أوساط المثقفين والمفكرين والناشطين والناشطات العرب في شتى
المجالات الحقوقية، ربما لصدمة مما يحدث أو قصور وعى أو انتهازية أو يقين، بيد إن
سردية حقوق الإنسان والقوانين الدولية والمواثيق الإنسانية وباعتراف الأغلبية قد
انزلقت وسقطت وفقدت وجاهتها بما شكلته من استفزاز فكرى وثقافي وأخلاقي في تجاوزها
لمعاناة الإنسان الفلسطيني مع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذى يمارسه
الاحتلال الإسرائيلي؛ وما تعيشه النساء والأطفال مع فصول هذه الإبادة الذى ينفذ
بمراحل منذ الاحتلال الإسرائيلي وحتى اللحظة.
https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=28112023&id=b734e161-d52c-4e84-90c5-a3d1a2ae790c
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق