الخميس، 4 سبتمبر 2025

آچار ومربى

 

منى عباس فضل

ماذا يعني أن تخصنا العمة رازقية في كل فصل من فصول حصاد ثمرة "البمبر" و"ليمون الترنج" بمرطبانات الآچار ومربى الترنج المهيل بماء الورد والزعفران؟

-       يعني الكثير.  

هي أشياء صغيرة برسالة كرم ومحبة وتدليل لا تخصني وأخواتي وأخواني بها فقط، إنما تخص أولادنا بنين وبنات تكتب أسماءهم عليها جمعيًا ويتجاوز كرمها لأقرب صديقاتها ومن يعز عليها.

من منزلها تدق علينا الهاتف، تذكرنا بمحصول الخير والمحبة المتجدّدة؛ تذكرنا بأن لأبناء وبنات أخيها الذين أسهمت في تربيتهم مكانًا حاضرًا في قلب لا يزال ينبض بالحياة ويفيض بحب لا ينضب.

العطية الموسميّة غدت تقليدًا لعمتي التي هي على عادة أهلنا الذين رحلوا وتركوا البيوت فارغة بأبواب مؤصدة إلا من ذكريات ملتبسة بين سعادة ووجع ينخر بين ضلوعنا. هناك في تلك الليالي بأضوائها الخافتة وبطقوس دافئة تجتمع عائلتي على سفرة عشاء بسيط تتقاسم فيه "مربي الترنج" الذي تم تحضيره في البيت ولكل منا قطعة صغيرة من الجبن ورغيف خبز ساخن للتو أحضره العم عيسى من الخباز.

يلتم شملنا على وقع ضوضاء وأحاديث تتداخل فيها أصوات وانفعالات تعلو على التلفاز الذي نتحلق حوله؛ وفي تلك الزاوية تتربع الجدة بنت زبر وهي نبع من حنان؛ لكنها هذا المساء غاضبة لابسة قناع الصرامة؛ غاضبة تشكوني أو تشكو أحد الأخوة أو الأخوات على أمر ما عند والدي المثقل بأعباء الحياة وكدها؛ نظرات العمات صامتة تكشف أسرارها في الأعماق وهي تنبي بالكثير؛ مصحوبة بوجل وخوف على المشتكى عليها أو عليه؛ غالبًا ما تمضي الليلة بسلام بعد عتاب ونهر وغضب دفين يصاحبه التهام تلك الوجبة فمع الجوع لا مجال للزعل أو الحرده.

مع هذا الطقس يبقى طعم ذلك المربى البيتي عالقًا في الذاكرة يهزنا؛ ولا ينسى؛ وعمتي تشبه نفسها حين يتقمصها الحنين وهي تعد المربى والآجار؛ لا يمكنها مفارقة ذلك الزمن ولا التحرر من ذاك المكان المثقل بالذكريات والأوجاع وقسوة الزمن ولا القفز على شعورها العميق بالواجب التربوي الذي حملته على كاهلها منذ صغرها ولا مسؤولية متابعة كل شاردة وواردة في شأن عائلتها الممتدة؛ فهي لازالت تدور في رحى الدائرة التي تتنفس منها؛ دائرة المحبة والبذل والعطاء بسخاء...

شكرًا عمتي "رازقية" من الأعماق على كل شيء جميل أعددته وصنعته بلمسة حب.

المنامة – 4 سبتمبر 2025

السبت، 30 أغسطس 2025

في رثاء "حسين" الإنسان

 

منى عباس فضل

 رحل من رحل وبقيت صورهم تنتحت في ذاكرتنا وتستفز وعينا لزمنٍ مضى حيث كانت الأحلام والأمنيات على مرمى قدم في زمن الشباب وفي الماضي الجميل الذي تعرفت فيه على الفقيد "حسين السماك" كان في أوج نشاطه الطلابي في الاتحاد الوطني لطلبة البحرين-فرع الكويت؛ خمسين عامًا مضت ولا يزال الأصدقاء والصديقات يتساقطون بيننا كأوراق خريف إنها سنة الحياة ورتمها الحزين.

 استقبلنا مع مجموعة أخرى من طلاب وطالبات الاتحاد الوطني لطلبة البحرين القدامى في الكويت وكنا دفعة جديدة في أول يوم من فترة التسجيل للكورس الدراسي الأول من ذلك العام، تحديدًا في إحدى قاعات كلية العلوم بالخالدية، كان الوقت مساءً بعد الإفطار في شهر رمضان في سبتمبر من العام الدراسي الأول 1975-1976. عرفت بأنه أحد أعضاء وعضوات "لجنة شئون الطلبة"، ومهمته معنا والتي كان يبذل فيها جهدًا واخلاصًا وإلتزامًا بلا مقابل، أن يساعد الطلبة والطالبات الجدد الذين في عهدته على تسجيل كافة موادهم الدراسيّة حسب نظام الجامعة الجديد.

كان الازدحام كثيفًا والجميع في حوسه، وقد تملكني وقتها خوفاًً شديدًا بأن أعود أدراجي بخفي حنين دون التمكن من تسجيل أي مادة من المواد، بخبرة طالب قديم يعرف دهاليز عملية التسجيل؛ شعر بقلقي وخوفي وأخذ يطمئنني وغيري بأن الأمور تسير على ما يرام، لكنني ومن شدة الإجهاد وارتفاع درجة حرارة الطقس والازدحام ممزوجًا بشعور من الحزن والضياع والغربة بعيدًا عن الأهل والديار؛ كاد يغمي علي، لم يتوانى وطالبات أخريات في لجنة شئون الطلبة بالاتحاد من إسعافي، لم يتركوني في هذا الحال الهائج المائج؛ حتى أتممت وغيري عمليّة التسجيل بنجاح؛ إنه يوم فارق في حياتي الطلابيًة؛ إن يتعزز شعوري بأنني لست وحيدة والدنيا بخير!

منذ ذلك الوقت تشكلت علاقة زمالة دراسيّة متداخلة بالنشاط الطلابي بيني وبين الفقيد "أبو إيمان"، علاقة سادها الاحترام والعطاء والبذل ضمن أنشطة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين ولمن حولنا من الطلاب والطالبات البحرينيين خصوصًا الجدد منهم! كان الفقيد حريصًا على المشاركة في كافة الأنشطة الطلابية في أروقة الجامعة أو خارجها من الأيام الرياضية إلى الرحلات أثناء الإجازات وحفلات استقبال الطلبة والطالبات الجدد التي يقيمها الاتحاد، فضلاً عن الحفل السنوي الذي يحرص على المشاركة في فقراته بحيوية والتزام، ولطالما شارك في لجان الاتحاد المتنوعة الثقافية وبرامجها من دورات توعية ثقافية وبرامج اجتماعية ورياضية تميز في أغلبها بالعطاء والحيوية ومساعدة الطلبة في أمورهم الدراسيّة واللوجستيّة.

 ومما عرفته لاحقًا بأن له ذائقة فنية وموهبة في فن الرسم حيث أسعفته الريشة والألوان في مراحل من العلاج للتغلب على صعوبات المرض في السنوات الأخيرة؛ كما عبر من خلالها عن جوهر استيعابه وقناعاته في القضايا الوطنية.

 حدثني صديق لي من أيام الدراسة بأن الفقيد  كان مبدعًا ومن أبرز من برعوا وتطوعوا في استخدام بعض التقنيات الاحترافيّة لعمل بعض البوسترات لصور الشهداء أو المناسبات الطلابية والوطنية، كما سجلت له مواقفه الوطنية الراسخة من قناعات وانحياز ووعي ثقافي وسياسي تعرض عبره للمضايقات ودفع أثمانها غاليًا لاسيما حين جاء قرار إبعاده مع بعض طلبة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين من الكويت ومنعهم من استكمال الدراسة في الجامعة على خلفية خلافات وشجار مفتعل حدث بين أعضاء من نادى الطلبة وآخرين من الاتحاد الوطني لطلبة البحرين – فرع الكويت؛ علمًا بإن النادي أنشئ في الأصل في تلك الفترة لمزاحمة الاتحاد والقضاء على نشاطه الطلابي.

عند عودة الفقيد للوطن، عمل بنشاط والتزام مهني في القطاع المصرفي الذي أكسبه خبرة وعطاء واقترن بصديقتنا الغالية الأم والزوجة الحنون "بدرية القاسمي" التي أنجب منها ثلاث شابات "إيمان وأمل ومريم" حيث أحاطته هذه الأسرة الصغيرة الرائعة بفيض من حنان وحب ورعاية لم يتوقف.

 في فقده اليوم، نترحم عليه إنسانًا خلوقًا عرف بمحبته للخير والعطاء، وندعو له  بالرحمة والسكينة وأن يلهم أسرته الحنون وأفراد عائلته الصبر والسلوان.

 

المنامة - 29 أغسطس 2025






السبت، 23 أغسطس 2025

هل المقاومة ذكورية؟

 


منى عباس فضل

 

بشأن مناقشة الكاتب موسى السادة في مقالة له بعنوان: "إسرائيل الكبرى": حديقة الحيوانات والرجولة في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 21 أغسطس/آب 2025؛ أتفهم حرقة قلبه إلى ما آلت إليه أوضاعنا العربية من واقع انهزامي عبرت عنه ممارسات النظام العربي الفاشل للقيام بأدواره ومستوجباته وتخاذله وتآمره على القضية الفلسطينية والحق العربي؛ لكن من الصعوبة في آن؛ تمرير وتسويغ "منطقه الذكوري" في تحليل عملية المقاومة والنضال ضد الاحتلال وحصرها في شجاعة الرجولة "كقيمة متجذرة في العقل الجمعي" ومسؤولية المقاومة كواجب يخص الرجال الشجعان فقط.  

 

صحيح وله الحق في مقاربته لما تناوله تقرير سوري رسمي حول أحداث الساحل، بأن يساق وبإرادتهم للحرب الأهلية ومسلخ الاقتتال على الهوية 200 ألف مقاتل، أضعاف ما يستدعيه جيش العدو من الاحتياط لاحتلال مدينة داخل غزة، فيما هم عاجزين -أي "مقاتلي العشائر والطوائف والوطنيات العربية"- عن إرسال هذا العدد أو أقل منه واستحضار قيم الشجاعة والمروءة والأخلاق لمواجهة العدو الصهيوني في غزة، نعم تساؤله منطقي وعقلاني، بيد إنه هنا يستثير النخوة العربية الذكورية في مواجهة الاحتلال ولا غير؟!

 

إن ترجمة المعاناة القاسية والمتوحشة التي يمر بها واقعنا العربي؛ لا تمنحنا مبرراً طوعياً للتخلي عن مفاهيم الحداثة التي استوعبنا صياغتها وفهمنا مفاهيمها ودلالاتها؛ والتي يأتي على قمتها مفهوم "المساواة"! إن ما ذهب إليه الكاتب يعكس بعداً فكرياً وسيكولوجياً وسيولوجياً؛ وهو بحق يخترق الذات الجمعية في مجتمعاتنا ويتجاوز من خلالها لغتنا وقناعاتنا وحتى حريتنا في التفكير، فالمرأة في منهجه التحليلي فعل مستتر وغائب ولا وجود له في فعل المقاومة والنضال؛ إن المقالة حمالة بعداً فكرياً ووعياً فاقعاً ومكشوفاً وقائماً على إن العملية النضالية ومقاومة الاحتلال هي في الأصل والتكوين "ذكورية" بحته صفتها ومدلولاتها "الشجاعة والنخوة والإقدام"، وهي كما نعلم فكرة حاضرة ومعاشة في التاريخ العربي والتراثي تخص الرجال، وعليه تبقى المقاومة والتصدي للاحتلال والعدوان والاستعباد والقمع والإكراه بالنسبة إليه تتفاعل وتفسر في داخل أسوار "الأبوية" وقلاعها؛ هذا البعد الخفي يكسر الدائرة المفرغة فنحن أمام صراع فكري حقاً يتجاوز مرارة الواقع والانحطاط الذي وصلت إليه مجتمعاتنا في ظل الاحتلال الصهيوني-الأمريكي ونظام الاستبداد والقهر العربي.  

 

خاضت مجتمعاتنا العربية برغم قسوة الواقع؛ مراحل من التطوّر والتغييّر الذي لا يمكن فيه لجم فكرة وجود "المرأة" في الفضاء العام ولا يمكن تقييّد أدوارها وإلغاءها خارج أسوار "الفعل الذكوري" إن صح التعبير وفي المهمة النضاليّة بالذات ومقاومة المحتل ومواجهة الاستبداد، لا مدلول غامض فيما سوغه فهو واضح في استثارة النخوة العربية بلغة فصيحة لمواجهة الحالة الكارثية والخذلان الذي بتنا عليه، وشئنا أم أبينا إن جزء مما ينمي هذا التوجه في مفاهيم هكذا ومصطلحات، هو اللامبالاة وصمت غالبية نساء مجتمعاتنا العربية وعدم اكتراثها ولنقل قبولها بهذا الواقع وصمتها عن هذا التحليل والقبول به كمسلمة لمجرد إنه مع القضية الفلسطينية وضد الاحتلال الصهيوني.

 

في حقيقة الأمر، نعم لا يمكننا الانفلات من قيود الحاضر ولا استحضار صور الماضي ونماذجه لمواجهة المحتل، إلا إن الحاضر كما يقول هشام شرابي "هو أرض المستقبل وهدفه ودون العمل فيه وتغييّره لا يمكن العمل في المستقبل وبناءه"؛ وعليه لا يمكن لمجتمعاتنا العربية أن تتحرر من الاحتلال والاستعباد وانتهاك الحريات والحقوق طالما قبلنا واكتفينا "بالذكورية" منهجاً وتفكيراً وأسلوب حياة ودرباً للتحرر والانعتاق.

إن قسوة الواقع وكارثيته تتطلب منا كأفراد رجالاً ونساءً وعيّاً مكثفاً لفهم الإشكاليّات والقضايا التي نعايشها ونعاني وزر نتائجها،  صحيح إننا نسعى إلى التحرر من الاحتلال الصهيوني والإخضاع والاستبداد والاستعمار، لكن الصحيح أيضًا إننا مطالبين وبالأخص المثقفين الحداثيين والملتزمين تميز أدوارنا في "المجتمعات العربية الأبويّة المعاصرة"، فنحن كنا ولا نزال في مراحل استهداف التغييّر الاجتماعي أو ما يطلق عليه "الثورة الاجتماعيّة"؛ هذا ليس تنظير من أبراج عاجيّة، إن تغير المجتمع والإنسان يتطلب مجابهة الواقع السياسي المعاش من خلال وعي اجتماعي سياسي يدرك ماهية وطبيعة دور "قوة السلطة القمعيّة في مجتمعاتنا دينية كانت أو سياسيّة أو احتلاليّة"؛ إن في هذا الوعي فرصة لمواجهة حروب الهويّة والاقتتال المذهبي والإثني والارتقاء به إلى تحرر الإنسان والأوطان؛ في هذا الصدد يشير شرابي ثانية وبما معناه وتصرف "إن الخطر الأكبر يأتي من داخلنا من التمسك بالإيديولوجيات الماضيّة والاتجاهات الفكريّة والممارسات السياسيّة التقليديّة التي لم تعد تصلح لمجابهة أوضاع الواقع الحالي وتحدياته...إلخ".

 

إن نزعة التغييّر والتحرر من الاحتلال الصهيوني ومن الاستبداد والقهر يستوجب أن تتوافر في صميمها وجوهرها على إرادة قويّة على المستوى الفردي والجمعي، إرادة التحرر من الاحتلال والاستعمار وإرادة في آن لتغيير النظام الأبوي الذكوري، أن لا يحكمنا هذا النظام في مفاصل حياتنا اليوميّة وقراراتنا؛ أن نتحول إلى نظام آخر يقبل "بالمساواة وبالعلاقات النديّة والأفقيّة" وأن يتجاوز مستوى الوعي فيه وفي حاضرنا مسألة استحضار مفهوم الشجاعة والنخوة بمنطق ذكوري، فهذا المنطق لن يمنحنا الحلول النهائيّة لمشكلات مجتمعاتنا العربية ولن يحررنا ولن يأخذنا إلى حاضرة الحداثة والتطوّر التقني.

 

إن التمسك بالذكورة كأداة حل ومدخل للتحرر من الاحتلال؛ إنما يعكس عورة أيديولوجية ونفاق أخلاقي وقيمي على حساب النصف الآخر من المجتمع، وفيه ما فيه من التكاذب على الذات، فأمثلة الإقدام والشجاعة والمروءة والكرم والنخوة في مجتمعاتنا العربيّة التاريخيّة لها ما لها وعليها وما عليها وهي ليست نموذجًا موضوعيّاً يحتذى به لإعادة قراءة واقعنا الحاضر. إن بروز الوعي الاجتماعي والسياسي على المستوى الفردي والمجتمعي الناقد لذاته وأوضاعه لهو شرط أساسي ومركزي لتغيير الواقع الأبوي وتجاوز تناقضاته بل لمقاومة الاحتلال ومواجهة كوارثه وتحقيق التحرر والعدالة ونيل الحريات.  


المنامة - 23 أغسطس 2025

السبت، 2 أغسطس 2025

"ألبانيز" والعقوبات الأميركية

 

منى عباس فضل

جاء اليوم الذي بتنا فيه شهودًا على ظاهرة مرعبة تتعلق بعدالة القانون الدولي والتي يُستوجب الوقوف عندها. إنها قضيّة جوهريّة ذات دلالات على التكوين البنيوي للإمبرياليّة المتوحشة وتمدّد نفوذها؛ وبما تُعبر عنه من أزمات أخلاقيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وذلك لارتباط شركاتها ومؤسساتها بمنظومة كيان العدو الصهيوني وآلته الأمنية والعسكرية.

 

الظاهرة المرعبة تتمثل في قضيّة المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة "فرانشيسكا ألبانيز" التي فرضت عليها الإدارة الأميركيّة "عقوبات" لا لسبب سوى إنها مارست عملها وحكّمت ضميرها ومبادئها ووثقت تفاصيل الحرب و"الإبادة الإسرائيليّة للفلسطينيين في قطاع غزة" منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، هذه الحرب التي تسببت بسقوط أكثر من 58 ألفا و677 شهيدًا فلسطينيًا و150 ألف جريح أغلبهم أطفال ونساء وألقت فيها 125 طنًا من متفجرات دمرت 88 بالمئة من القطاع وخسائر تفوق 62 مليار دولار وتهجير مليوني مدني وكوارث مجاعة ستخلدها ذاكرة التاريخ.  

 

ألبانيز لم تكتفِ في توثيقها الجرائم الإسرائيليّة في تقرير أو اثنين؛ إنما عدة تقارير أحدثها قدمته الشهر الماضي إلى مجلس حقوق الإنسان، اتهمت فيه أكثر من 60 شركة عالميّة من بينها شركات أسلحة معروفة كـ"لوكهيد مارتن الأمريكيّة" و"ليوناردو الإيطاليّة العاملة في الفضاء والدفاع والأمن"، و"كاتربيلر ّتي ترتكبها إسرائيل في غزة، فهي ضالعة في تزويد إسرائيل بأسلحة ومعدّات تُسهل استخدام أدوات المراقبة، وتدعم مشروعها الاستعماري في تهجير الفلسطينيين واستبدالهم؛ ما يعني تحملها المسؤوليّة القانونيّة بإلحاق الدمار بغزة وتجويع أهلها وانتهاكات حقوق الإنسان فيها. المقررة لم تكتفِ بوصف المأساة وإنما طالبت بملاحقة الجهات والشخصيات الضالعة في جريمة الإبادة. ومنه يبقى السؤال مفتوحًا عن تداعيات هذه العقوبات وآثارها؟

 

التداعيّات

لا شك أن التداعيّات خطيرة ويمكن استنباطها من ردود الأفعال الشديدة التي عبر عنها وزير الخارجية الأميركي في وصفه جهود ألبانيز بغير الشرعيّة والمخزيّة لحثها المحكمة الجنائية الدوليّة على التحرك ضد مسؤولين وشركات ومديرين تنفيذيين أميركيين وإسرائيليين.. قال: لا تسامح مع حملتها بعد الآن من حرب سياسيّة واقتصاديّة على الولايات المتحدة وإسرائيل مؤكدًا مواصلتهم لاتخاذ أي خطوات ضروريّة، وإنهم سيقفون دائمًا مع شريكتهم إسرائيل في الدفاع عن النفس". الأخطر منه تهديدات البعثة الأميركيّة في الأمم المتحدة ومطالبتها بإقالة ألبانيز من منصبها متهمة إياها بـ"معاداة السامية" ومحذرة من أن عدم إقالتها سيضعف الأمم المتحدة وسيتطلب اتخاذ إجراءات جادة على سوء سلوكها، كما اتهمتها بتحريف مؤهلاتها وترخيصها المهني. الجدير بالذكر أنه سبق للولايات المتحدة أن فرضت عقوبات على أربع قاضيات في المحكمة الجنائية، على خلفية قضايا مرتبطة بمذكرة توقيف لنتنياهو ووزير دفاعه السابق، تحظر عليهن دخول الولايات المتحدة وتجميد أي أصول يملكنها فيها.

 

مقابل ذلك توالت الانتقادات الدوليّة على لسان مسؤولي الأمم المتحدة كـ"ستيفان دوجاريك" الذي وجد إن استخدام العقوبات أحاديّة الجانب ضد المقررين الخاصين أو أي خبير أو مسؤول آخر في الأمم المتحدة يعد "سابقة خطيرة" و"أمر غير مقبول"، موضحًا بأن هؤلاء لا يقدمون تقاريرهم إلى الأمين العام، وليس لديه سلطة عليهم أو على عملهم، وعليه يحق للدول الأعضاء التعبير عن آرائهم والاختلاف مع تقاريرهم، فيما أبدى رئيس مجلس حقوق الإنسان "يورغ لاوبر" أسفه قائلاً: "إن السيدة ألبانيز تم تعيينها بواسطة مجلس حقوق الإنسان، وإن المقررين الخاصين يُعدون أداة أساسيّة للمجلس في أداء ولايته المتمثلة في تعزيز وحماية جميع حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، داعيًا إلى الامتناع عن أي أعمال ترهيب أو انتقام ضدهم"؛ أما المفوض السامي "فولكر تورك" فقد حث على التراجع الفوري عن العقوبات، وتوقف الهجمات والتهديدات ضد المقررين وضد مؤسسات كالمحكمة الجنائيّة الدوليّة.

 

إسكات الضمير

من جهتها رأت "ليز ايفنسون" من هيومن رايست ووتس: "أن الولايات المتحدة تعمل على تفكيك المعايير والمؤسّسات التي يعتمد عليها الناجون من الانتهاكات الجسيمة وإن فرض العقوبات محاولة لإسكات خبيرة أممية عن أداء عملها، والتحدث عن الحقيقة بشأن الانتهاكات الإسرائيليّة ضد الفلسطينيين، داعية الحكومات والشركات إلى عدم التواطؤ، وشدّدت على أهميّة مقاومة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية بقوة للجهود السافرة من الحكومة الأميركيّة لمنع العدالة في أسوأ الجرائم في العالم، وأن تدين العقوبات المشينة المفروضة على "ألبانيز"، أما الرئيس السابق للمنظمة وصف العقوبات: "بأنها محاولة لردع الملاحقة القضائيّة لجرائم الحرب الإسرائيليّة والإبادة الجماعيّة في غزة".

 

المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بدوره ندد بالعقوبات واعتبرها مؤشرًا خطيرًا على انحراف السياسة الأميركيّة تجاه منظومة حقوق الإنسان ولردع من يكشف تواطؤها في جرائم الاحتلال ضد المدنيين في غزة، كما إنه يمثل تهديدًا لاستقلاليّة عمل المقررين الأمميين، وجدًد دعمه لألبانيز ولمواقفها داعيًا إلى تحرك دولي عاجل لحماية المنظومة الحقوقية من الضغوط السياسيّة التي تقوّض دورها الرقابي والأخلاقي.

 

في السياق أصدر "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" بيانًا ندد فيه بالعقوبات وذكر بإنها محاولة لإسكات صوت الحق وكسر شوكة الضمير العالمي وإن استهداف ألبانيز يمثل اعتداءً صارخًا على صوت الحق داخل منظومة العدالة الدولية التي فشلت في تحمل مسؤوليّاتها كاملة تجاه فضح الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية. وأكد بأنها مارست دورها بمهنيّة وشجاعة واضعة الحقيقة أمام العالم: أن الاحتلال ليس فقط غير قانوني، بل يقوم على منظومة أبارتهايد وإبادة ممنهجة لا يمكن السكوت عنها.

  

ألبانيز تتحدى

"فرانشيسكا ألبانيز" لم تصمت إزاء الحرب عليها وعلى مواقفها واعتبرت فرض العقوبات أسلوب من "أساليب ترهيب مافياويّة.. وقالت بثقة؛ "أنا منشغلة بتذكير الدول الأعضاء بالتزاماتها وقف ومعاقبة الإبادة الجماعيّة، ومن يستفيد منها.." وأضافت "يستحق المواطنون الإيطاليون والفرنسيون واليونانيون أن يعلموا أن كل عمل سياسي ينتهك النظام القانوني الدولي، يُضعفهم ويعرضنا جميعًا للخطر.. وطالبت هذه الدول بتقديم توضيحات حيال سماحها بتوفير مجال جوي آمن لنتنياهو المطلوب للعدالة الدوليّة لارتكابه جرائم حرب"، منوهة بأنها تواجه الآن تجميد أصولها وقيودًا محتملة على السفر، وحذرت بأنها سابقة "خطيرة" للمدافعين عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، إذ لم تعد هناك خطوط حمراء، إنه أمر مخيف، ربما يمنعني ذلك من التنقل، سيكون له تأثير على الأفراد الذي يتعاملون معي، لأنه بالنسبة للمواطنين الأمريكيين أو حامل البطاقة الخضراء، سيكون هذا الأمر إشكالاً كبيرًا"، واعتبرت إن العقوبات بحقها مصممة لإضعاف مهمتها، لكنها وبإصرار أكدت استمرارها لما تقوم به وإن شكل ذلك تحديًا لها.

 

إلى هنا لا عجب إن انطلقت حملات التضامن من أحرار العالم ومنظماته الحقوقيّة لمساندة فرانشيسكا ألبانيز ومعلنة رفضها للعقوبات الانتقاميّة ودوافعها السياسيّة، ولا مبالغة إن رشحوها لنيل جائزة نوبل. إن "ألبانيز" في هذا الزمن الكالح تمثل نموذجًا للمصداقيّة المتبقية من القانون الدولي؛ ودعمها ومساندتها في حقيقته استنكارًا لجريمة الإبادة وتضامنًا ودفاعًا عن حق الفلسطينيين في الحياة والحرية والعدالة.

 

خلاصة الأمر؛ هذه العقوبات تكشف عن مدى تآكل مصداقيّة المنظمة الدولية وعجزها بل وفشلها في الحفاظ على أمن الأبرياء ومنع وقوع حروب التطهير العرقي وجرائم الإبادة، وهي حلقة من حلقات الترهيب السياسي ومحاولة لإفلات الاحتلال من المساءلة على جرائمه الأكثر همجيّة ووحشيّة ضد الإنسانيّة، كما إنها انعكاس لهيمنة نفوذ الدول الكبرى الشريكة في الإبادة، فضلاً عن أن الفساد الرسمي الذي أصبح شرعيّا في الولايات المتحدة وبما يفسحه من مجال للشركات التي كشفت المقررة كيف تتربح من الدم الفلسطيني والمعاناة اليوميّة لأهل غزة وتهجيرهم وتجويعهم تحت الحصار والعدوان، إنها جزء من نظام امبريالي متوحش وهي ذاتها التي تتبرع وتمول حملات الأقليّة الانتخابية وتوصلها إلى سلطة القرار لتمارس أساليبها القذرة في مواجهة العدالة الدوليّة وفرض نفوذها؛ إنها معركة أخلاقيّة تستخدم فيها الأسلحة الأميركيّة والأوروبيّة كأدوات قتل وتدمير وبكثافة في إبادة المدنيين الفلسطينيين جماعيًّا ما يجعلهم شركاء لإسرائيل في جريمة التطهير العرقي والإبادة الجماعيّة. 


المنامة - 2 أغسطس 2025

 ينشر بالتزامن مع مجلة "الهدف" عدد تموز/يوليو 2025، (1547) بالتسلسل العام العدد 73 رقميًا* 

https://hadfnews.ps/post/133480/  لتصفح رابط المجلة  * 

الخميس، 24 يوليو 2025

سبعون عاماً وصوتها الأقوى

 

منى عباس فضل

تمرنا هذا العام الذكرى السبعون لتأسيس "جمعية نهضة فتاة البحرين" كأول تنظيم نسائي رائد في البحرين والخليج العربي؛ ومع كل منعطف زمني وفي كل مرحلة تاريخية من مراحل التغيير؛ تطوّر مسار "النهضة" وحضورها بفاعلية وتميز وبما يستحق التوقف عنده تأملاً وتحليلاً؛ فهي وبواقع الدلائل والشواهد؛ برزت بصوتها الأقوى الذي تجلى بتعبيراته على وضع المرأة البحرينية وعلى المجتمع ككل، لم لا وهي التي لامست احتياجات النساء ومشكلاتهن ومارست نشاطاً تراكميًا ملتزمًا وملموسًا برزت من خلاله أسماء رائدات تُوجت جهودهن بعصر ذهبي شكل قيمة مضافة في ساحة العمل النسوي في بلادنا، وإن كان ذلك بمقاييس ومعايير وظروف الفترات الزمنية التي خضن فيها نضالهن النسائي وصراعهن الاجتماعي.

 

ثمة ما يجمع عليه المحللون والمؤرخون بأن نشاط "النهضة" المتمرس قد اقترن بثقافة معرفيّة متراكمة؛ تنامت وتطوّرت في إطار عمليّة التغيير والتحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والإداريّة التي مرت بها البلاد وهي تنفتح على العالم بشكل لافت، فتشابكت أنشطتها وأدوارها الريادية وفاعليّة خطابها النسائي وبتأثير متبادل وتفاعلي مع المنظمات الأهليّة والنسويّة المحليّة والعربيّة والدوليّة، وقد استفادت بعمق من هذا الانفتاح في نسج العلاقات والتشبيك على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي؛ الأمر الذي ساعدها في إعادة صياغة رؤاها وأهدافها وأدوارها في المجتمع تلبية لتطوّر احتياجات الأفراد وخصوصًا النساء منهن على الرغم من التحديات والصعوبات التي واجهتها ولا تزال.

 

في سياق الحراك التاريخي الاجتماعي والسياسي برزت مستجدات أثرت على ماهيّة الأدوار التي لعبتها "النهضة" في كافة أنشطتها وفعاليّاتها، ومنها المتغير السياسي المحلي والعربي على مدى عقود إضافة إلى تأثير الثورة التقانية والاتصالاتية؛ ما جعلها في مواجهة جملة من التحديات والتعقيدات المتعلقة بقضايا النساء وحقوقهن وهمومهن الأسريّة.

 

ولتعزيز واقع المرأة ومكانتها وتعدّد أدوارها في المجتمع؛ توجهت "النهضة" نحو مأسّسة عملها التطوعي من خلال أطرها وهياكلها التنظيميّة حيث ساهم في ذلك نهوض الدولة وتطوّرها الإداري لاسيما لجهة التشريعات والقوانين، وكل هذا وذاك قادها إلى التحول النوعي في أداء أنشطتها من العمل "الرعوي الخيري" الذي كان يتم عبر "مشاريع تعليم الكبار ومحو الأمية" ودورات الخياطة وإقامة المهرجانات التضامنية والأسواق الخيرية ومحاضرات التوعيّة الثقافيّة والصحة الإنجابيّة وتأسيس الرياض والحضانات؛ إلى أخذ زمام المبادرة في تبني اتجاهات العمل المطلبي والحقوقي للنساء في منعطفات تاريخية منذ سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وحتى مرحلة الإصلاح السياسي مع بدء الألفيّة؛ فثمة مطالبات لها تركزت حول مطلب إقرار "قانون للأحوال الشخصية" و"منح حق المشاركة السياسية للنساء" وأخرى بتحسين ظروف العاملات "ساعات العمل والرضاعة وتأمين بيئة عمل لائقة" وغيرها.


كما تبنت "النهضة" من كونها حركة نسائية ديمقراطية مطلبيّة؛ مرجعيتها ما جاء في الدستور والميثاق بمنح حق المساواة، و"منهاج بجين" و"مخرجات مؤتمر السكان" و"المعاهدات والمواثيق الدوليّة" "كاتفاقية السيداو" و"الإعلان العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة"؛ تبنت العديد من المفاهيم كالتمكين والمساواة ومصطلح النوع الاجتماعي والأهداف التنمويّة التي تستهدف تمكين النساء والدفاع عن حقوقهن ومصالحهن الماديّة بالسعي إلى إقرار التشريعات والقوانين المنصفة لهن وإلغاء التمييز ضدهن في قانون العقوبات والجنسية وقانون الأسرة وإنصاف المطلقات والأرامل والمعلقات ومنح الأم البحرينية المتزوجة من أجنبي الحق في نقل جنسيتها لأبنائها، واستمرارها في حملات قانون الجنسية والمشاركة السياسية. 

 

والحق يقال؛ فقد تميزت "النهضة" أيضًا بدورها الريادي وقدرتها على تحديد استراتيجيتها وخطط عملها وتبني تحالفاتها مع "الجمعيات النسائيّة" والأهليّة وإدارة التشبيك والحوار معها بفاعليّة؛ أدت إلى تأسيس "الاتحاد النسائي البحريني" وبإرادة نسائية جماعيّة؛ وإلى تحقيق العديد من المكتسبات المتعلقة بقضايا المرأة والتشريعات التمييزية ضدها، فضلاً عن تبني "أهداف التنمية المستدامة" التي تستهدف تمكين المرأة ومساواتها، فيما تركز نشاطها في السنوات الأخيرة وبكثافة على المطالبة بتعديل "قانون الجمعيات الأهلية" وبما يفتح المجال لحرية ومرونة واستقلاليّة أكثر للعمل النسائي الأمر الذي جعلها في حركة تغير حداثي ضاغط لمصلحة المرأة البحرينية في المجتمع.  

 

من هنا؛ وارتكازًا إلى هذا التاريخ الحي المتحرك والممتد بنشاط وحيوية، صار لازمًا و"النهضة" تحتفل بالسبعين عامًا من عمرها؛ التوقف وإمعان النظر لمراجعة الأهداف التي تأسست عليها؛ واحتساب ما لها وما عليها من خلال تبين نقاط القوة والضعف؛ وبالتسلح بالآليّات الدوليّة كقوة معنوية عند المطالبة بتحديث التشريعات والقوانين التي تمثل أبرز الأهداف التي تسعى إليها. وهذا يستوجب مراجعة مسار العمل وإلى أين وصلت به وكيف ستواصل المسير؛ فالزمن يتغير في رتم سريع ويفرض طرح العديد من الأسئلة المتداخلة والمتعلقة بالطاقات والمهارات لكوادرها المتبقية ومدى ملاءمتها لماهيّة البرامج والأنشطة التقليديّة المعتمدة والتي في جوهرها تمس مشكلات المرأة والفتيات خصوصًا مع استمرار ظاهرة عزوفهن عن العمل التطوعي والنشاط في أطر الجمعيات النسائيّة؛ ومنه يحق السؤال: هل الخلل في الأهداف التي رسمت منذ سنوات وجمود البرامج؟ أم إنه يكمن في طرق وأساليب العمل والتواصل التقليديّة في عرضها للبرامج؟

 

فهذه الأسئلة وغيرها تتطلب تدوير نقاش وتبادل للآراء حول حقيقة "واقع جمعيّة نهضة فتاة البحرين" وما تقوم به من دور ومدى فاعليّة الأنشطة التي تمارسها؛ وبما يتلاءم والمتغيرات السريعة التي تجري في عالمنا وتؤثر على واقع المرأة واحتياجاتها المتغيرة؛ كما يستلزم مراجعة العديد من المصطلحات والمفاهيم وخطط العمل التي تبنتها منذ عقود ومناقشة مدى ملاءمتها لواقعنا المحلي، فضلاًَ عن تقييم حالة التشبيك والتواصل بينها وبين الجمعيات النسائيّة الأخرى في سبيل إرساء البعد القادم من العمل النسائي وآليّاته بواقعيّة وموضوعيّة تتناسب والمتغيرات التي تجري في عالم يسوده الفقر والعنف والنزاعات والأزمات.


المنامة – 24 يوليو 2025

v   ينشر بالتزامن مع نشرة "النهضة" إصدار جمعية نهضة فتاة البحرين في عددها الثاني يوليو 2025


الأحد، 18 مايو 2025

تحديات التمييز في قانون الجنسية

 


منى عباس فضل

 واقع الحال إن الآراء والمواقف تتباين حول "قضية" حق البحرينيات في نقل جنسيتهن إلى أبنائهن، وهي تثير جدلاً واسعًا وإن بخفوت في أوساط المجتمع المحلي ومؤسساته بين مؤيد ومعارض أو لامبالي، ومع ذلك فهي من أبرز القضايا الشائكة التي تواجه المسؤولين في الدولة ونواب البرلمان ونشطاء مؤسسات المجتمع المدني المدافعة عن هذا الحق. وفي الوقت الذي لا تزال فيه "لجنة السيداو" تطالب الدولة؛ الإيفاء بالتزاماتها فيما يتعلق بمنح هذا الحق وذلك من خلال تعديل "قانون الجنسية" ضمن جدول زمني محدد، فإن الآراء والمواقف تبقى على ما هي عليه في تقديم مبررات الرفض والتلكؤ باعتبار أن مسألة المساواة متحققة وليس هناك تمييز ضد المرأة وإن التوسع بمنح المساواة ينال من سيادة الدولة، وهناك اعتبارات تتعلق بمبدأ ازدواجية الجنسية.. إلخ. 

دعونا نصارح بعضنا البعض وبشفافية؛ ما أدخل القضية الشائكة في أبعادها الحالية وتأثيراتها إلى دائرة ردود الأفعال المتباينة هو "إشكالية التجنيس" الذي حدث منذ عقدين وانعكس سلبًا بهذا الشكل أو ذاك على تحميل المرأة البحرينية تداعيات هذه المعضلة واستمرار الانتقاص من مواطنتها والاعتراف "بحقها في نقل جنسيتها إلى أبنائها" ففي الأخير هي من تتحمل نتائج وزر هذا الحرمان واستمراره في الوقت الذي يتمكن فيه الرجل الحاصل على الجنسية البحرينية من نقل جنسيته إلى زوجته غير البحرينية وإلى أبنائه وبناته تبعًا لمقتضيات قانون الجنسية البحريني.

المساواة حق أصيل

وعليه؛ مهما يحدث من تأجيل في معالجة هذه القضية، فهذا الحق، يعد حق أصيل من حقوق المساواة ومرتكزًا أساسيًا من مرتكزات تحقيق أهداف التنمية المستدامة الـ "SDGs"، كما لا يغيب عن البال بأن تسعة من هذه الأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها لها علاقة مباشرة "بحقوق الجنسية المتساوية" وهي "1، 2، 3، 4، 5، 8، 10، 11، 16"، حيث يجمع خبراء التنمية بإن مشاركة أفراد المجتمع تعد شرطًا أساسيًا لتحقيق التنمية المستدامة في المجتمعات؛ ولهذا من المهم السماح للأطفال عامة بالحصول على جنسيات أمهاتهم، الأمر الذي يعزز من فرصتهم في الوصول إلى التعليم والعمل والسكن والرعاية والصحة وممارسة كافة حقوق المواطنة، كما يلغي الضغط النفسي عن من يعاني ويجاهد منهم في الحصول على هذه الحقوق، ويقلل من الآثار الضارة على صحتهم وحالتهم المعيشية والنفسية. 

تنشط الجهات المدافعة عن حق الأم البحرينية منح جنسيتها إلى أبنائها وعلى رأسها "الاتحاد النسائي البحريني"، مطالبة بإزالة التمييز من خلال تعديل المادة "الرابعة" من قانون الجنسية المعمول به منذ عام 1963 وبما يتضمنه من تعديلات، وهو الذي يكرس التمييز القائم على النوع الاجتماعي في هذا الحق، لم لا وقد حظيت المرأة باهتمام بالغ في المواثيق الدولية بما يكفل لها معاملة متساوية مع الرجل في نقل الجنسية إلى أبنائها مقارنة بما تعانيه من تمييز في أغلب التشريعات الوطنية، فهي تتمتع بحقوق الإنسان المعترف بها دوليًا دون استثناء، إضافة إلى تمتعها بعدد من الحقوق التي فرضها الواقع الاجتماعي، ومن المهم الإشارة إلى المعاملة التفضيلية التي شدد عليها "النص الدستوري البحريني وميثاق العمل الوطني" على مبدأ المساواة وسن التشريعات الخاصة بحماية الأسرة وأفرادها وبما ويتماشى والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان وبالمساواة بين الجنسين؛ ما يعني أن أي تشريع يُعتمد محليًا ويتسم "بالتمييز" في الحقوق والواجبات بين المواطنين على أساس الجنس، يعد تشريعًا مخالفًا للدستور، ويتوجب إلغاؤه استنادًا إلى ما سبق.

التباس التدابير المؤقتة

في شأن ما سبق، تردد الحديث كثيرًا في وسائل الإعلام وعند مناقشة "تقرير السيداو الرابع" عن المتحقق من تطور وحلول قامت بها الدولة من خلال مجموعة من المبادرات التي جاءت لصالح "الأمهات البحرينيات المتزوجات من أجانب". ولإبراز الاهتمام بهذه القضية المعقدة؛ قيل بإن "المجلس الأعلى للمرأة" يتابع هذا الملف من خلال "لجنة مشتركة" بينه وبين "الديوان الملكي" و"وزارة الداخلية"؛ وإن الدولة منحت خلال عشر سنوات ما لا يقل عن 4000 جنسية، وصدر قانون (22) لسنة 2017 بتعديل مادة من القانون (74) لسنة 2006 لأبناء المتضررات من ذوي الإعاقة، ويمكن لهؤلاء الأمهات الاستفادة من صندوق النفقة شريطة إقامة أسرتهن الدائمة حيث يتم تنفيذ الإجراء تبعاً لتقدير الصندوق لظروف كل حالة على حده، فيما صدر قرار لوزير الداخلية برقم (24) لسنة 2022 بشأن تأشيرة الدخول ورخصة الإقامة العائلية "الإقامة الذهبية"، إلى جانب الحديث الدائم عن معاملة هؤلاء الأبناء كالبحريني في رسوم الصحة وإعفاءات من رسوم التعليم والإقامة استنادًا إلى القانون رقم (35) لسنة 2009، وعن تيسير منحهم تأشيرة دخول ولغير المقيمين منهم إقامة ميسرة وتسهيل إجراءات إصدار وثيقة سفر محددة المدة لأبنائهم للدراسة أو العلاج؛ وهنا يستوجب طرح التساؤلات عن مدى فاعلية وجدوى هذه المبادرات والحلول المؤقتة؟. 

من خلال الرصد البياني، وجدنا إن عدد الأمهات المتضررات من التمييز في قانون الجنسية في سجل "الاتحاد النسائي البحريني" قد ارتفع من 2017 ولغاية 2025 من "444 إلى 1263" حالة بنسبة زيادة قدرها 285%، وتبين دراسة سابقة بأنه ما لا يقل عن نسبة "75%" منهن تقدمن بطلب الحصول على الجنسية لأبنائهن من شئون الجنسية والجوازات والإقامة فضلاً عن المجلس الأعلى للمرأة، كما تبين إن لدى هؤلاء الأمهات من الأبناء والبنات وتبعًا لما أدلو به من معلومات أنهن أمهات إلى ما لا يقل عن عدد "3,537" ابن وابنة يعني "بدون جنسية أو هوية"، وإن أغلب أزواجهن ينتمون إلى بلدان يسودها الاضطرابات والحروب وعدم الاستقرار ما يعني رغبتهم الشديدة للإقامة الدائمة في البلاد حيث يأملون في الأمن والاستقرار الاجتماعي والنفسي.   

في حقيقة الأمر، ورغم أهميّة "التدابير المؤقتة" وضرورتها؛ إلا إنها لا تحل المشكلة جذريًا، وتطبيقها يعتمد الانتقائيّة كمنهج وهي تفتقد للمعايير العلميّة والمقاييس في تجزئتها للمشكلات بل وتخلق الالتباس والتشويش حول بعض الممارسات، فشواهد وضع الحالات وشكواهم المستمرة تعكس في جانب منها؛ حالة من التضليل بين المعلن عنه وبين تضخيم هذه التدابير مقابل تصغير لتأثيرات المعاناة الذهنية والنفسية والاجتماعية للأمهات والأبناء، إن شهادات الحالات التي استقبلها "الاتحاد النسائي البحريني" أو ما تضج به المؤتمرات والملتقيات المحلية والخارجية من شكاوى ومآسي؛ تكشف عمليًا وفعليًا بأن الأمهات المتزوجات من أجانب يواجهن مصاعب وإجراءات مضنية في مسار تتبع وتنفيذ التدابير المؤقتة، سواء في الحصول على قرض أو سكن من الإسكان، أو عند التقدم بطلب لإقامة أبنائهم ما فوق 21 عامًا المرهونة بحصولهم على عمل وكفالة جهة محددة، أو عدم حصول بعضهم على بطاقات شخصية لإنجاز معاملاتهم في الصحة والعمل ومواجهة بعض المشكلات عند إدخال أبنائهم للعلاج في قسم الطوارئ وكل هذه المعاناة وتلك تزداد في حالة طلاق الزوجة أو هجرها.. إلخ. تتحدث إحدى الأمهات باسم "um7amza76" تعليقًا على خبر نشر على حساب "انستغرام الاتحاد النسائي البحريني" قائلة: 

- "ليتنا نحصل على حل بأسرع وقت، أنا أم بحرينية، وأولادي يدرسون في الخارج حالهم حال أي طالب بحريني، لكن عند تجديد الإقامة في البداية يتم الرفض، قالوا لي: ولدج "ابنك" مقيم خارج البحرين أكثر من 6 شهور. قلت لهم: لا. هو يخلص الفصل ويرجع إلى البحرين، الفصل 3 شهور ونص، والصيف 5 أشهر في البحرين، طلع إنهم حاسبين أيام الدراسة إضافة لأيام الترانزيت إيلي يستخدم عشان يوصل مكان دراسته وأقل من أسبوع سافر فيه للإجازة، وحاولت معاهم، وقدمت إثبات إنه يدرس بره "خارج" مثل أي طالب بحريني، ليش القسوة لعيال أم البحرينيات "تقصد المتزوجات من أجانب"، أو بالأصح عقاب وإلى درجة عدم الموافقة على تجديد الإقامة، يعني ولدي ما يرجع البحرين؟!، وأنزين وين يروح؟ لهالدرجة عظيم الجرم الزواج من أجنبي، إنه ولد البحرينية ما يقدر يسافر، ولين وافقوا بعد محاولات..."أشكره هددوا: "تحملي إنه ولدج يقعد بره البحرين أكثر من 6 أشهر خلال السنتين..."!  

الاستقرار الأسري للمرأة

هذه الشكوى وغيرها المئات، تلفت النظر للتوقف عند إعلان "المجلس الأعلى للمرأة"، مؤخرًا وفي مؤتمر اعلامي صحفي عن أولوية مجالات الخطة الوطنية لنهوض المرأة البحرينية للفترة (2025-2026) أي خلال عام واحد، والتي تركز على أربع محاور بمبادراتها ومؤشراتها المتعلقة بصنع واتخاذ القرار والمشاركة الاقتصاديّة وجودة الحياة؛ في الحقيقة ثمة ما يستدعى التوقف عند هذا الإعلان وإثارة السؤال حول أهم أولوياته المتمثلة في "تأمين الاستقرار الأسري للمرأة" من خلال مواصلة تطوير منظومة التشريعات وسياسات الحماية الاجتماعيّة ونشر الثقافة القانونيّة والتوعية الأسريّة وذلك لأهميّة تعزيز دور المرأة في الأسرة والمجتمع والحفاظ على القيم والثوابت والهوية الوطنية"، عن مدى الجدية في تحقيق المبادرات والوعود المتعلقة بحل ملف "الجنسية" وعن مدى مطابقة المعلن عنه بحقيقة واقع ومعاناة حال الأمهات مع أبنائهن المعلقة لأكثر من عشر سنوات حيث يرزح "مقترح تعديل قانون الجنسية" منذ 2014 للتداول، السؤال: هل سنشهد قريبًا تغيير نوعي في الموقف الرسمي تجاه منح المرأة البحرينية "حق" نقل جنسيتها لأبنائها تحقيقًا لتأمين الاستقرار الأسري لها كما نص الدستور وكما كفلته المواثيق الدولية وكما يعدون بتحقيقه في المحافل الدولية والإعلام؟

خلاصة الأمر، المراوحة والتأجيل في البرلمان هو سيد الموقف، والمطلوب يتعلق بتعديل المادة (4-أ) من "قانون الجنسية" بنص اقترحه "الاتحاد النسائي البحريني" كجهة مدافعة عن هذا الحق ومطالبة به: "يعتبر الشخص بحرينيًا إذا ولد في البحرين أو خارجها وكان أباه بحرينيًا أو أمه بحرينية عند الولادة"، وإضافة الفقرة (ج) للمادة (4) لمعالجة وضع الأبناء ممن ولدوا قبل تاريخ العمل بتعديل القانون بحيث تنص على إنه "يحق للأبناء الذين ولدوا لأم بحرينية وأب غير بحريني قبل تاريخ العمل بتعديل القانون، الحق في إعلان رغبتهم في التمتع بالجنسية لوزير الداخلية ويعتبرون بحرينيين ويصدر قرار بذلك من الوزير أو بالقضاء مدة سنة من تاريخ الإعلان دون صدور قرار مسبب بالرفض"، تماماً كما طالبت به أيضاً لجنة "السيداو" وأصرت على وضع جدول زمني لاعتماد تعديل المادة من القانون.


المنامة – 18 مايو 2025

* المقال مضمون لندوة قدمتها الكاتبة في الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان بعنوان "اللامساواة في حق الأم البحرينية منح جنسيتها إلى أبنائها" بتاريخ 14 مايو 2025، إضافة إلى بعض ما تم تداوله في المناقشات.    


الأربعاء، 23 أبريل 2025

منهاج بيجين والبروتوكولات الشكلية

 

منى عباس فضل

 

بعد حالة تقشفيّة ناشفة من التواصل بين المنظمات النسائيّة والمجلس الأعلى للمرأة المعني "بالاستراتيجيّة الوطنيّة للنهوض بالمرأة البحرينية" وتمكينها ومساواتها، طالعتنا مؤخرًا وسائل الإعلام المحلّي والتواصل الاجتماعي؛ بفيديوهات ترويجيّة لإحياء فكرة "العلاقة التشاركيّة التشاوريّة" من خلال توقيع "مذكرة تفاهم" وعقد لقاءات بين الأعلى وبعض هذه المنظمات ومن يمثلها.

في حقيقة الأمر؛ حسنًا يبدو هذا المشهد؛ بيد إنه غريب ويثير التساؤل؛ فقد مضى زمن اكتفى فيه الأعلى بالترويج "للاستراتيجيّة الوطنيّة" وما يعلنه ويتداوله من خطاب يغلب عليه لغة الإنجازات وترديد المصطلحات والمفاهيم المتداولة بكثافة والتي تحمل عناوين "كالتمكين، والتوازن بين الجنسين، وتكافؤ الفرص" وغيرها الكثير إلى جانب ما يرى إنه حققه من إنجازات ومكاسب على مستوى حقوق النساء والفتيات البحرينيّات.

فتور وأبويّة

ثمة وجه آخر للمشهد يمور في العمق ويعبر عن حقيقة مغايرة وإن لم يُفصح عنها؛ فعند العودة للوراء والتغلغل في العمق؛ نجد إن العلاقة بين الطرفين -أي المجلس الأعلى للمرأة والجمعيات النسائية- لطالما اتسمت بشيء من الفتور والأبويّة فيما سادتها الندب التي رسمت حدود فاصلة لتلك العلاقة ومعاييّرها على مدى ثلاث عقود ومن طرف واحد هو الذي يخطط وينفذ ويملئ التعليمات؛ فكل هذا وذاك لا يمكنه إذابة الجليد المتراكم؛ لاسيما وإن عبء التجربة قاسٍ ومقلقٍ؛ فقد كابدت "الحركة النسائيّة البحرينية بمنظماتها" الصعاب والمعيقات وهي تحمل تقاريرها الدورية وتستعرضها أمام المحافل الدوليّة لتناقش واقع المرأة البحرينية وما تتعرض إليه من تمييز وانتقاص لبعض الحقوق بسبب النواقص والخلل في التشريعات والقوانين التي تقف حائلاً إزاء تحقيق "المساواة" الفعليّة للنساء والفتيات؛ في مقابل سرديّة تركز حديثها عن الإنجازات والمكتسبات بتضخم وأطناب وفي الوقت الذي تطالب فيه المنظمات النسائية وبشدة، بالدعم وتخفيف القيود وبعلاقة قائمة على التشاور والتبادل بينها وبين المجلس الأعلى للمرأة.

على المستوى السطحي، ما يحدث اليوم في هذا المشهد ليس صدفة، ولا يمكن فهم واستيعاب هذا التقارب والصحوة المفاجئة في التواصل؛ دون تدوير أسئلة متعدّدة تتبادر للذهن ولا يمكن إغفالها؛ لماذا "مذكرة التفاهم" الآن؟ ما مضمونها؟ وكيف ستنفذ؟ وماذا بعد هذه اللقاءات؟ ما المطلوب من الحركة النسائيّة البحرينية؟

كلفة اللقاءات

إن كلفة هذه "اللقاءات وتوقيع مذكرة التفاهم" بين هذه الأطراف، كلفة عاليّة تدفع أثمانها المنظمات النسويّة إذا ما افتقدت إلى الجديّة والعمل الحقيقي؛ وهي التي تشتكي الحال دائمًا من الخلل والقصور في العلاقة التشاركيّة حيث "حجب المعلومات والبيانات والتهميش وانعدام التشاور والمساءلة بل والتضيق عليها في إنفاذ بعض برامجها ومشروعاتها"؛ أمَا في حسابات "المنظمات الدوليّة" فهي استجابة لمتطلبات طالما طالبت بها الدول الأعضاء داعيّة لهم إلى تعديل أوضاع علاقتهم مع "مؤسسات المجتمع المدني" ومنها "المنظمات النسائيّة" بما يحقق أهداف التنميّة المستدامة لاسيما وهم بالنسبة لها ركنًا رئيسيًا في هذه التنميّة.

لا شك أن هذا الانفتاح بين المؤسسة الرسميّة والأهليّة خطوة محمودة؛ وقد جاءت استجابة إلى ما تم تداوله ومناقشته في اجتماع "لجنة وضع المرأة" في دورتها التاسعة والستين في 21 مارس الماضي، حين تم استعراض قضايا المساواة والتمكين بعد مرور 30 عامًا من "إعلان منهاج بيجين"؛ هذا الإعلان الذي وضع خارطة الطريق لتمكين المرأة، حيث تركز نقاش اللجنة والوفود الرسميّة للدول الأعضاء ومنهم طبعاً البحرين التي قدمت تقريرها، على تقييم ما تم تنفيذه والتحديّات التي تؤثر على تحقيق المساواة بين الجنسين وبما يحقق خطة التنميّة المستدامة لعام 2030، وحث الحكومات على الشروع في مباشرة العمل وصياغة التشريعات لتقويّة الوعي العام بغية تعزيز حقوق المرأة وتحقيق التنميّة المستدامة؛ وإلغاء قوانين الخصخصة التي زادت من حدة الفقر وتعميق حالة عدم التكافؤ.

حقوق المرأة تحت الحصار

الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريش" أكد في هذا الاجتماع: "بأن النساء حطمن الحواجز وكسرن الأسقف الزجاجيّة، وأعدن تشكيل المجتمعات، فالمزيد من الفتيات دخلن المدارس، والمزيد من النساء شغلن مناصب السلطة، وإن النشاط الرقمي قد أشعل حركات عالميّة من أجل العدالة، وإن حقوق المرأة هي حقوق إنسان، لكنه اعترف بأن  هذه الحقوق لا تزال "تحت الحصار" والمكاسب المتحققة هشة وغير كافية، وإن سمّ النظام الذكوري قد عاد محملاً بالانتقام؛" وأضاف: "بإن المساواة للجميع مهمة طويلة الأمد وهي بعد ثلاثة عقود تبدو أبعد مما كنا نتخيل؛ وإن الوقت قد حان للعالم لتسريع التقدم والوفاء بوعد بيجين؛ كما إن الفجوات هائلة، والأهوال القديمة مثل العنف والتمييز وعدم المساواة الاقتصادية متفشيّة؛ منها فجوة الأجور التي تبلغ "20%" بين الجنسين وتعرض واحدة من كل ثلاث نساء للعنف عالميًا، وكل عشر دقائق، تُقتل امرأة على يد شريكها أو أحد أفراد أسرتها، وتعيش "612" مليون امرأة وفتاة في ظل الصراعات المسلحة؛ ويؤكد بأنه وبهذا المعدل فأن القضاء على الفقر المدقع للنساء والفتيات سيستغرق 130 عامًا"، وأختتم "بأن حقوق المرأة تتعرض للهجوم، والأدوات الرقميّة تعمل على إسكان أصوات النساء، وتضخيم التحيز وتأجيج المضايقات، وأصبحت أجساد النساء ساحات للمعارك السياسيّة، حيث يتصاعد العنف عبر الإنترنت إلى عنف في الحياة الواقعيّة، كما نشهد تعميمًا للتعصب وكراهية النساء.

لا قيمة للكلمات بدون عمل

أما المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة "سيما بحوث" أكدت من جهتها: "بأنه لا قيمة للكلمات بدون عمل، وإن هناك حاجة ملحة إلى تعزيز المساواة بين الجنسين"؛ فيما شدد "فيليمون يانغ" رئيس الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في كلمته على أهميّة "أن تحقيق المساواة بين الجنسين يتطلب توفير قدر أعظم من الموارد، وتشريعات وسياسات حاسمة، وتفكيك للمعايير التمييزيّة، والإصلاحات المؤسسيّة، وإن المساواة تتطلب التزامًا ثابتًا بتسخير التعدديّة لدعم وتعزيز المساواة بين الجنسين، وهذا يتطلب التزام حقيقي وإرادة.. إلخ"، بدوره دعا الأمين العام "غوتيريش" إلى تجديد الالتزام بإعلان بيجين والوقوف بحزم كي نجعل "وعد الحقوق والمساواة والتمكين" حقيقة واقعة لكل امرأة وفتاة حول العالم من خلال أربع خطوات لخصها كالتالي:

الأولى؛ تعزيز التمويل المستدام للتنميّة المستدامة حيث يرسم "ميثاق المستقبل" الذي اتفق عليه العام الماضي، خطوات جريئة إلى الأمام.

الثانية؛ تكثيف الدعم للمنظمات النسائيّة، لأنها تلعب دورًا حيويًا في المساءلة وفي دفع التقدم والدفاع عن الحقوق وضمان سماع أصوات النساء والفتيات ومصالحهن.

الثالثة؛ اتخاذ إجراءات بشأن التكنولوجيا، حيث يلتزم "الميثاق الرقمي العالمي" باتخاذ إجراءات من أجل النساء والفتيات لتشجيع قيادتهن ولتصحيح البيانات المتحيزة جنسيًا.

الرابعة؛ ضمان المشاركة الكاملة والمتساويّة والفعّالة للمرأة في بناء السلام؛ فضلاً عن اتخاذ الإجراءات الضامنة لمشاركتها بشكل كامل ومتساوٍ وفعالٍ وقيادتها في صنع القرار على كافة المستويات وفي جميع مناحي الحياة.

 

وعليه ماذا نستنتج؟

نستنتج بأن تكثيف دعم "المنظمات النسائيّة" التي يرتكز دورها الحيوي على الدفاع عن الحقوق وضمان سماع أصوات النساء والفتيات والأهم المساءلة؛ يمثل مرتكزًا مهمًا وحيويًا في تجديد التزام الدول الأعضاء ومنها البحرين "بمنهاج بيجين" وللوصول إلى تحقيق شعارات "التمكين والمساواة وتكافؤ الفرص" الذي يرفعها المجلس الأعلى للمرأة في خطاباته وفي "الاستراتيجية الوطنية للنهوض بالمرأة"؛ الأمر الذي يثير التساؤل عن مستوجبات ومستحقات الفترة القادمة؛ فما تم تداوله في اجتماع "لجنة وضع المرأة" في دورتها التاسعة والستين الشهر الماضي، حيث قدم الجانب الرسمي والأهلي تقاريرهما بشان الإنجازات والخلل؛ لهو في غاية الوضوح والعمل على تحقيقه لا يتطلب سوى الجديّة والإرادة القويّة والقرار الحكيم في إرساء "علاقة تشاركيّة حقيقية" قائمة على التشاور والتبادل والتكامل الفعلي بعيدًا عن ترديد الشعارات وبهرجة الإعلام المظهري؛ ويمكن تلخيصها في الآتي.

 

خلاصة

أن يتوافر الجانب الرسمي على الجديّة في إعادة طرح التعديلات التي تطالب بها الحركة النسائيّة البحرينيّة والمتعلقة بالمواد التمييزيّة في "قانون أحكام الأسرة" وإعطاء ذلك أولوية طرحه أمام السلطة التشريعيّة لمناقشة بنود الميراث والحضانة المشتركة والطلاق والخلع، ورفع الحد الأدنى لسن زواج الفتيات وتعدّد الزوجات..إلخ؛ وبما يحقق العدالة والإنصاف والمساواة للنساء.

كذلك تعديل "قانون الجنسيّة" بما يمنح المرأة البحرينية حق نقل جنسيتها لأبنائها؛ و"قانون الحمايّة من العنف الأسري" وتوفير البيانات والإحصاءات الرقميّة المتعلقة بالعنف ضد النساء والفتيات وكل ما يتعلق بحقوقهن؛ وفك القيود والتضيق على منظمات المجتمع المدني وتقويض وصول المرأة إلى مراكز صنع القرار بسبب المادة "43" في قانون الجمعيّات الأهليّة التي تحرم الناشطين والناشطات من الترشح لعضويّة مجالس إدارة مؤسسات المجتمع المدني بسبب عضويتهم السابقة في جمعيات سياسيّة منحلة، فهذه المادة تخالف الدستور والاتفاقيّات والمعاهدات الدوليّة، وقد أثرت سلبًا على انتخابات الاتحاد النسائي البحريني وجمعيتي نهضة فتاة البحرين، وأوال النسائية، إلى جانب مراجعة قوانين الضمان الاجتماعي وتعديلها بما يوفر الحماية الاجتماعية للفئات الهشة من المجتمع ومنهن النساء ربات البيوت ومن فقدن أعمالهن، والتغطيّة الاجتماعيّة للعاملين في "القطاع غير المنظم" و"المشاريع الخاصة الصغيرة" ممن يفقدن الحمايّة الاجتماعيّة والامتيازات الوظيفيّة.. فضلاً عن اعتماد الموارد الكافيّة للتدريب والخدمات وغيرها الكثير الكثير؛ إن في هذا تحدٍ كبير واختبار صعب لنجاح الإرادات!  

 

المنامة – 23 أبريل 2025