الأربعاء، 13 نوفمبر 2024

الخنفروش

 

منى عباس فضل

 

العبور مشياً على الأقدام عبر بوابة باب البحرين، منطلقين من السوق أو قادمين من فريق المخارقة والحمام وزرانيقهم التي تبدأ من كنيسة القلب المقدس وصولاً إلى المآتم المطلة على الشارع "مأتم أبو عاقلين، مأتم العجم ومسجد الخواجه ومأتم القصاب ومأتم مدن.." ومنها نخترق سوق المنامة القديم، هو عبور للتاريخ الذي احتضن أهل المكان ورواده من كل مكان؛ والعبور هنا مهمة صعبة وملتبسة في آن في أحياء تتداخل فيها الأحداث والثقافات والعادات والتقاليد؛ كما تتشابك حولها الذكريات وتتفاعل لمن عاش في هذه الأمكنة بكل مظاهر التعدد والتنوع والاختلاف والقبول، أجيال وراء أجيال كل شيء لا يزال حي يرزق في وجداننا ويتحرك في فضاء الذاكرة المتيقظة.

للتاريخ الوطني حرمته، وكذلك ذاكرة الناس الذين عاشوا فيه، صحيح أن الزمن غربل تاريخهم؛ وانتفت آثار وأحداث قديمة منه؛ لكنه ما برح يعبر عن هويتنا ونرى فيه ذواتنا وطفولتنا وتاريخ أجدادنا؛ فلا نبخسهم حقهم في استحضار ما عاشوه وما شهدته أزمانهم بكل صغائر الأمور وكبائرها، كيف عاشوها وعملوا واجتهدوا وناضلوا في حياة صعبة ومضنية؟؛ كيف تعايشوا مع بعضهم وعلى اختلاف مذاهبهم؟ وكيف تسامحوا مع الغريب القادم إليهم؟؛ شاركوه مائدتهم وتمتعوا بأطباقه وبادلهم ذات الاتراح والأحزان.

يجلسون مع الإعلامي المصري "محمود سعد" في قلب شارع باب البحرين، ليأكل "الخنفروش" وقبلها "المهياوة" في قهوة حاجي، بالمناسبة أتخم المسكين من الأكل، وبالمناسبة أيضاً تاريخنا الوطني؛ وتراثنا الشعبي ليس أكل وأطباق شعبية؛ كما إنه ليس تعبيراً عن كرمنا وطيبتنا "ويظنها البعض سداجتنا" .. يا جماعة صححوا له هذه المعلومة"؛ اتخم الإعلامي من الشرح الاستشراقي لأطباقنا الشعبية ولتراثنا، جلس في مقهى في قلب شارع باب البحرين المسكون بالتاريخ؛ لم يسردوا له حكايات هذا المكان "ربما لم يعيشوا فيه وفي ذروة ازدهاره وشهرته، جاءوا إليه مع الفورة النفطية؛ وبعد أن أصبح أطلال بل ومسخ"، هذا الجزء من الشارع الذي كان مسقوفاً نابضاً بالحياة ويضج بالمارة ومرتادي السوق في قلب العاصمة ويمثل مركزها التجاري وحكايات ازدهار تجارة المدينة ومنطلق تجارها.

هنا في هذا المقهى الذي احتسى الإعلامي فيه العصير وأكل "الخنفروش"، وسأل عن أصل كلمة "خنفروش"؛ لم يحصل على جواب؛ حتماً هناك التباس في فهم طبيعة هذه الجولات والسرديات، حسب دلال الشروقي وغيرها، أن الكلمة أصلها فارسي ومتشدد آخر يصر على أصلها  "الهولي -أي الكلمة-"، ما علينا، هي تتكون كما قالوا من "خان" وتعني "بيت" و"فروش" تعني "بيع"، وعلى ذمة الشروقي أيضًا العبارة تعني بالانجليزي Home made وترجمتها للعربي "بيع البيت"، وتضيف بأن القادمين من عرب الهولة، استقر سكنهم في خانات ومارسوا عمل وبيع هذه الحلوى وغيرها من بيوتهم وهي معروفة كوصفات في بلدانهم الأصلية، الآن؛ لماذا أقدم عليها البحرينيين وأدمنوا أكلها ومحبتها كما "المهياوة الفارسية، والسمبوسة الهندية" وأصبحت جزءً من مطبخهم الشعبي؛ فهنا تكمن الحكاية التي تلتبس على السرد الاستشراقي حين يلامس تاريخنا الوطني وتراثنا الشعبي من فوك لفوك! بالمناسبة "الخنفروش غير "العقيلي"؛ .. المهم تنهد "سعد" ومسح عرق جبينه قائلاً: "كان لازم أزور البلد دي من زمان". بالطبع له حق!

المقهى الذي جلس فيه "سعد" كان "حفيز، متجر" للتاجر البحريني المشهور في السوق قديماً "حسن المحروس" حيث تجاوره وتقابله متاجر أخرى للأخوين صادق وتقي البحارنه وروبين ويعقوبي وعديدين لبيع الأكترونيات والجلديات والساعات وأشهر الماركات العالمية لكل أنواع السلع التي تباع في هذا الشارع؛ للمكان ذاكرة.. وحين يزور القادمين للبحرين لا يفوتهم المرور بهذا الشارع وسوقه "الكشخة"، فهو زينة المنامة واطلالتها على البحر في ذاك الزمان، أما في عصر الفورة النفطية والمجمعات التجارية؛ فقد أهمل المكان وغادره من غادر، وترك مرتعاً لأصحاب الدكاكين الأجانب ممن دفعوا قيمة تأشيرتهم "لهيئة سوق العمل"، يسرحون ويمرحون في تجارتهم حتى أصبح منظر الشارع منفرًا؛ تشوه المكان وطمس تاريخه وعبقه، لم يعد كما كان.

يؤشرون "لسعد" على دكانة "آلو بشير" على بعد أقدام، ويشرحون له طبيعة الأطباق التي يقدمها؛ وإن أهل البحرين يطلقون على البطاطا "آلو"، يا جماعة الأكلة هندية وصاحب الدكان أيضا آسيوي، والسوق هنا يعج ببيع المأكولات الهندية من سمبوسة ومتاي ولدو..الخ، أدمن البحرينيين على هذه المأكولات وأصبحت جزء من مائدتهم؛ لماذا؟ هناك الكثير مما يرددونه في هذا الشأن ككليشهات؛ التسامح، التعايش قبول الآخر الطيبة الكرم..إلخ، ربما هذا وذاك ربما كلها؛ بيد إن جميعها جعلت أهل البلد يأكلون هواء ويدفعون ثمن ذلك أغلى من بيع السوق كما يقول المثل الدارج!

المنامة - 13 نوفمبر 2024

الأحد، 10 نوفمبر 2024

حين يُسرد التاريخ الوطني مشوَّهًا

 

منى عباس فضل


المتأمل في مشاهد فيديو "لما تزور البحرين لازم تروح المحرق تشوف بيوتها التراثية" للإعلامي المصري "محمود سعد"، يعز عليه الوقوع في فخ الاستماع إلى تاريخنا الوطني بكل ثقل أحداثه وعراقة تراثه بعبارات تلفظ بلكنة استشراقية ركيكة تتداخل فيها الألفاظ وهي تبتلع حيزًا من أزمانه وأحداثه وإن بغير قصد، فيقدم التاريخ بعد خضوعه لتشوهات تجعلك في وضع استنفار وأنت تسعى للاقتراب من حقيقة تاريخ الناس وكيف كانوا يعيشون. 


إن خدش العبارات الشعبية وتشوه الألفاظ التراثية وابتسارها تفقد السردية جوهر المعنى والدلالة الحقيقية لماهية تاريخنا الوطني وما في ثناياه من تعدد وتنوع واختلاف وتعايش وتسامح خصوصًا وقد ارتبط بشقاء الأجداد الأوائل ممن أسسوا وشيدوا لنا صرح هذا الوطن الجميل بكل ما يحتويه من أصالة وعمق لا تزال تنبض في الوجدان.

***

في الفيديو القصير، وأثناء تجوال الإعلامي "سعد" ومشاهداته في أزقة المحرق "بعربة جولف عصرية"؛ وهو الذي عودنا في برامجه القيام بجولاته في الأحياء الشعبية في خان الخليلي وشارع المعز والسيدة زينب وامبابة وباب اللوق والغورية..إلخ، مشيًا على الأقدام؛ متحدثًا للناس، وللباعة الواقفين أمام عرباتهم ولمفترشي النواصي وجالسي القهاوي الشعبية يعبرون فيها عن أنفسهم وآمالهم وأوجاعهم ببساطة شديدة، يسير متجليًا متأمًلا لمظاهر حياة الناس وهندسة المكان ناقًلا ومعبرًا عن جوهر الإنسان المصري، أما في تجواله هنا؛ فتشعر أن هناك شيئًا ما مبتورًا ومشوهًا؛ شيئًا لا يشبهك؛ وقائع تطمس وتبتسر ويصبح معها المكان وطرقاته وجدرانه مكانًا كان يعيش فيه ناس بعينهم في مدينة المحرق العتيدة والتي هي كما قال؛ أصل البحرين وعاصمتها الأولى قبل أن تصبح المنامة.. "ما تفتكرش إن المنامة بعيدة من هنا.."، هكذا ببساطة اخُتزل المكان والزمن الذي مر عليهما بالانتقاء والإبراز وإن كان دون قصد؛ أو هكذا أظن، وفي هذا الأمر مسؤولية كبيرة وعميقة لا يُستخف بها ولا يتم استسهالها، كتب أحدهم: "إن أول خطوات معرفة الذات التي بشر بها فلاسفة اليونان الأقدمون ونقشوها على عتبة الأكروبولس في أثنيا "اعرف نفسك" هي قبول التاريخ كما هو وليس تركيبه على مقاس أو مزاج كل واحد أو كل مجموعة"، في السرد التاريخي نحتاج إلى الوقوف على مسافة قريبة من مفاصل التاريخ ومجرياته وأناسه وفي هذا تعبير عن فهمنا واستيعابنا لحقيقة التعدد والتنوع والاختلاف بكل الأبعاد. 

البحريني المتجذر بالأرض كيانًا قائمًا لا يزال موجودًا وحاضرًا يمكنه تقديم تاريخنا الوطني ورموزه بفصاحة تعبر عن عراقة التراث والعادات والتقاليد والثقافة الشعبية دون خوف أو تردد أو تلعثم بلكنات استشراقية تشوه اللفظ وجوهر المعنى لدلالات العبارات ومضمونها بلهجتنا المحلية، يتساءل أحدهم متعجبًا ممن شاهد الفيديو: "أين البحرينيات والبحرينيين؟! تمنيت أن أسمع الشرح عن المحرق القديمة بصوت بحريني أصيل..". 

نعم هو محق كما غيره ممن استفزهم فيديو المحرق وبيوتها التراثية؛ إن تاريخنا الوطني متحرك نابض بالحياة لا يمكن اختزاله في مدينة المحرق الحبيبة فقط ولا في المنامة أو غيرها من المناطق بما تحتويه من بيوت ودواعيس وفرجان، تاريخنا امتداد لهويتنا الوطنية وهو متعمق في سرديات متعددة ولحياة عاشها الأجداد بمختلف انتماءاتهم؛ ولمهن مارسوها وعبرت عن شقائهم ولظى العيش الذي مروا فيها، وهي ليست أدوات جامدة معلقة للزينة في المتاحف والدور؛ بقدر ما هي نفائس وآثار وقيم ومعارف وسرديات تحكى على لسان أهل الديرة الحاضرين من خلال حكايات الغوص والنواخذه والمزارعين ولكل المهن التي عمل فيها البحريني وأبدع وعانى فيها الشقاء والتعب؛ لا يمكنك سماع نشاز في هذه السردية وتبقى صامتًا دون توقف! 

تقول المرشدة: "هذا بيت عجاج.."عياياي كما يلفظه أهل المحرق" بيت النوخذه.. هنا غرفة الاجتماعات بتاعت الضيوف ايلي كانوا يروحوا علشان الغوص...ويضيف "سعد": "النوخذه داه زي ما تقول زي سعادة الباشا..لكن النوخذه ليس بالمعنى إنه باشا وإنما اللقب جزء من المهنة.." وترد عليه المرشدة: "هو الكابتن بتاع البوت وهو الكبير بتاع عملية الغوص.. زي القبضان.. واختتم "سعد" قائلاً: "إنه كبير وزي القبضان"! 

وأنت تستمع لهذا الحوار المتقطع؛ تأخذك الذاكرة التراثية المتوارثة إلى حيث يستقبل أهالي الغواصين أهلهم العائدين من رحلة الغوص المضنية محملين بخيرات اللؤلؤ التي يستحوذ عليها النوخذه، وبالأخبار المحزنة لمن فقدوه في هذه الرحلة أو أصيب، تأخذك إلى حيث العلاقة التي تناولتها السرديات المروية والمكتوبة حول الغوص وعلاقة النوخذه بالغواصين، وما تردد في الأغاني الشعبية والمواويل البحرينية والخليجية: "يا نوخذاهم لا تصلب عليهم، ترى حبال الغوص قطع أيديهم"، "وتوب توب يا بحر، أربعة والخامس دخل، ما تخاف من الله يا بحر، جيبهم، ربي جيبهم"؛ فكم وكم من العمق في المعنى والدلالة الذي تحاكيه هذه العبارات المثقلة بالهموم والشكوى وهي تنقل مشهدية الغواصين في عرض البحر وما يوجهونه من مخاطر أمواجه وأهواله في سبيل الصيد أو الغوص للؤلؤ، وهي حكايات الديون التي يستدينها الغواصون من النوخذه قبل دخولهم الغوص وبما يثقل كاهلهم ويجعلهم عبيداً للنوخذه حتى يسددوا الدين؛ إذن هي ليست حكاية النوخذه "الباشا" وكفى ولا عقد اللؤلؤ ببريقه ولمعانه الذي تتزين به نساء الأثرياء، وإنما هي سردية تحاكي كفاح الغواصين من أجل لقمة العيش؛ هي علاقة السيد بالعبيد التي يصعب اختزالها في جدران بيت تم ترميمه وفيلم وحديث على الماشي. 

***

كما إن تاريخنا الوطني المتدفق ليس مكبًلا ومخنوقًا في زاويا دواعيس منمقة في نماذج جامدة تحاكي زمن الأجداد، ففي هذا الفيديو نحن إزاء إشكالية في الشكل والمضمون والمعنى للتعرف على التاريخ، فهذه الفرجان والدواعيس ليست مكانًا خاصًا لهذه العائلة أو تلك، فالساحات الشعبية وبيوت فرجان "الأول" كانت فضاء مفتوحًا بين أهلها ممن تعايشوا مع بعضهم وشكلت المجتمع الشعبي بمنازله وعرشانه الممتدة على شواطئ البحر، هنا كان بحر وردم، هنا وهناك في المحرق والمنامة وسترة وبقية القرى وغيرها من مناطق البحرين، يعبر بنا الزمن بوقائعه وأحداثه دون اجتزاء أو تحريف فالتاريخ منجز من عامة الناس والجماعات بكل أطيافهم واختلافهم دون تمييز، ورغم قصر المسافات بين هذه المناطق، إلا إنها تعكس طبيعة من نشأ وترعرع ومن استوطن أيضاً البلاد واستقر فيها كمجموعات قبلية أو اثنية حيث كان الجميع يسكنون "الفريج" الذي غالباً ما يكتسب تسميته من اسم هذه القبيلة أو الأسرة أو من كانوا أصحاب حرف ومهن من حياكين وبنائين وصاغة وحداده وغيرها، فأحياؤهم اكتسبت تسميتها من حرفهم التي كانوا يمارسونها. 

لذا حين يحدث الانتقاء من تاريخنا الوطني نكون أمام معضلة سرد استشراقي للوقائع التاريخية، وتبدو الكيفية التي يتم فيها "الانتقاء" حالة انحيازية سياسية وإن تم إنكارها، وهي تمثل اختيارًا بقدر ما هو مرتكزًا على الخلفية الذهنية والأفكار، بقدر ما يعبر عن وضعية سياسية واجتماعية لسارد التاريخ وأحداثه، فصاحب السردية المجتزأة في رأي أحد الفلاسفة "يصنع تاريخًا يُمكنه السكن في داخله"؛ وبالتالي فهو على ذوق ومقاس من يكتبه ويسرده. 

تزفر ممتعضة إحداهن بعد مشاهدتها للفيديو: "طفولتي كانت هنا، بيتنا لم يكن جوار هذا المكان، كنا على الشارع، على مقربة منه؛ كنت أمر في هذه الدواعيس، وكانت والدتي ترسلني لشراء الحليب من سيدة تقطن هذا الفريج، وتطلب مني المرور على جارة السيدة أيضًا لتأتي إلى مساعدة والدتي في أعمال البيت، أهلنا كانوا يسكنون هنا، بيت فلان، وبيت فلان..وفلان؛ وحين نسير في هذه الدواعيس نشم روائح أكل البيوت المتلاصقة ببعضها، سمك صافي يقلى، رائحة عيش شيلاني ومرقة السمك المطفي، نشم رائحة المجبوس؛ فتشعر وأنت تسير في الدواعيس وكأنك داخل مطابخ كل هذه العائلات، تلتقى بالمارة هذا يلقى عليك التحية والسلامات وذاك يدعوك لاحتساء استكانة شاي وفنجان قهوة أو دعوة مفتوحة على الغداء، أبواب البيوت مفتوحة تعبق بالحياة كما قلوبهم، هذه هي طفولتي حيث نسير مشيًا على الأقدام إلى مدارسنا في دواعيس وفرجان تشبه الدواعيس التي مرت بها "عربة الجولف للإعلامي محمود سعد" وتخطت هذه المظاهر، وكانت هناك مدارس و"دور طرب شعبية" وتفاصيل لطفولة عاشها أغلب الناس الذين يمكنهم سرد حكايات نبض ما وراء الجدران والتراث بشعور يلامس الأمكنة والأزمنة وأناسها، أن تحفظ بعض العبارات وترددها بلغة الاستشراق ودون الشعور بها بعمق لا تمكنك من استثارة أي متعطش للتعرف على تراث وأصالة هذه البلاد وتاريخها، كما لا تجعل منك بحرينيًا أكثر علمًا ومعرفةً بتراثنا وتاريخنا الوطني".

***

كان الأجدى أن يتولى مهمة جولة الفرجان والبيوت التراثية مع الإعلامي، من عاش وتمرغ في هذه الأمكنة والأزمنة، وهم كثر وعلى استعداد للقيام بهذه المهمة بمحبة واقتدار، كان الأجدى المرور به على جسر المحرق القديم الذي كان يربط المنامة بالمحرق كالوريد ويسرد تاريخ بداياته؛ كيف كان يفتح في أوقات تسمح بمرور قوارب الصيد، ثم يقفل ليفسح السير عليه للعربات، وكيف عبر أهل المنامة إلى المحرق في تظاهرات انتفاضة الـ1965 وكيف استقبلت المحرق الزعيم الراحل جمال عبدالناصر أثناء العدوان الثلاثي على مصر في 1956 وكيف هتف له شعب البحرين، وأن ينصت لشيبتها في القهاوي الشعبية المنتشرة في المحرق والمنامة ممن كانوا ينصتون لصوت الزعيم الخالد في المذياع وكيف كانت مشاعرهم وردود أفعالهم إزاء خطاباته، وأن يتعرف من خلالهم بأن صورته لا تزال أيقونة تتصدر مجالس بيوتهم؛ ففي هذا معاني وقيم عميقة ودلالات جوهرية. 

كان الأجدى أن يحاور الإعلامي أهل البلاد هنا وهناك حيث يعيشون في أمكنتهم وأزمانهم وبعضهم لا يزال يرتاد القهاوي الشعبية أو جالساً على نواصي الشوارع والمحلات في الأسواق الشعبية وفرشات أسواق الخضار والسمك في المحرق والمنامة وسترة وقرى البحرين الممتدة على طول شارع البديع من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها فهم لا يزالون يعيشون جوار قلعة البحرين التاريخية التي زارها ومنازلهم امتدادًا لبقايا آثار حضارة دلمون وأصل البحرين، وأن يأخذوه في جولة للمنامة العاصمة فتاريخنا لا يتوقف عند حدود المحرق فقط فلكل مكان ثقله وبعده القيمي والتراثي المتجذر في الوجدان لا يمكن نسيانه أو إلغاؤه من الذكراة. 

وهناك الكثير من البيوت القديمة في المنامة التي تم ترميمها وتحكي قصة التعايش بين الناس "سنتهم وشيعتهم" متجاورين وسط الأحياء والأسواق والأعمال، إذ كان التداخل والتعايش والتمازج والمصاهرة بين أهالي هذه الأحياء مألوفًا و"فريج الحياج والصاغة" في المحرق نموذجًا و"فريق الفاضل والحورة" في المنامة نموذجًا مقابلاً حيث يجاور "بيت القصيبي، بيت الشاعر إبراهيم العريض"، وفيها المآتم وخط مرور مواكب العزاء الحسينية في فترة عاشوراء... هذه هي بلادنا؛ وهذه هي حقيقة تاريخنا الوطني وتراثنا وهويتنا، هنا كان البحر يجاورنا وردم والنخيل الباسقات التي تحولت إلى مباني اسمنتية عالية، وهناك كانت بيوتنا القديمة؛ وهنا كان "البادكير" أو "ملاقف الهواء" التي تعد من روائع فن العمارة الخليجية وهندستها؛ فتحات بفراغات المباني لتأمين تهوية طبيعية تخفض من درجة حرارة فناء المنازل وسطوحها العلوية و"للعريش/البرستجات"، وهكذا تلفظ بالعامية "بادكير"؛ لا كما تفضلت المرشدة بلفظها "بأكدير.. يعني مثل البلكونة"؟!، شتان بين من يقدم تاريخًا وطنيًا بشعور من عاش أزمانه وترعرع في دهاليزه وبين من يقرأه مجتزأ ويسمع عنه محورًا في المرويات الانتقائية.  

المنامة - 10 نوفمبر 2024

الأربعاء، 6 نوفمبر 2024

بلقزيز بين "الأنا" و"الآخر"

 


منى عباس فضل 

تطرق المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز مؤخراً في محاضرة فكرية له أقيمت في مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث وهي بعنوان "نحن والغرب: المعرفة والصور النمطية المتبادلة"، تطرق إلى علاقة العرب بالغرب وما نتج عنها من تمثلات ذهنية متبادلة عبرت عنها الشعوب في صور نمطية وثقافية يعاد إنتاجها، وذكر بأن السؤال عن هذه العلاقة ينتمي إلى إشكالية الذات مع الآخر، وكيف يعي كل منهما نفسه في الآخر، إذا لا يمكن التفكير في "الأنا" إلا عبر التفكير في "الآخر"، فهما حدين لا انفصال بينهما ولا يمكن لأحدهما إقصاء الآخر، إنها علاقة ثنائية تطرح نفسها في صورة علاقات جدلية مركبة تلقائية حيث تتحد "الأنا" في سياق علاقتها بالآخر. 

تأسيساً على ذلك أشار بلقزيز إلى مبدأ للفيلسوف الألماني هيغل وهو أن "الأنا لا تعي نفسها إلا في علاقتها بالآخر" وشرح بأن الأخير تناول هذه العلاقة بالنظر إلى هذه الثنائية من منطلق حاجة الأنا إلى الآخر كي تحدد "نفسها -أي الأنا-"، ولأننا لا نعيها إلا بصفتها المتميزة والمتمايزة عنه، فالآخر بالنسبة لهذا للمبدأ الهيغلي هو الذي يحدد الأنا، بمعنى إننا لا نعي وعيناً إلا بوجود الآخر، ولكي تمر الأنا من لحظة الوعي الذاتي، فأن الآخر هو من يحْمل على انبثاقها خصوصاً في لحظة الصدام معه، وساق مثاله على ذلك؛ في عيش العرب مندمجين في المجتمعات الغربية، لكن شعورهم بالاختلاف الثقافي والديني، يتبلور وينكشف في لحظة وقوع الصدام فيصبح معها المجتمع الغربي بالنسبة لهم هو "الآخر".   

وأضاف، بأن إشكالية الأنا والآخر "ثنائية تقاطبيه" وهي ليست وليدة الوقت الحاضر، وإنما ملازمة لكل زمن وأمة، وتبرز في شكلها المتضخم المرضي في اللحظات التي تتأزم فيها العلاقات بين "الأنا والآخر"، ويتعرض فيها طرفي العلاقة إلى حالة صدام مادي تتسبب فيه المصالح والتباينات والتناقضات بينهما وما يتغذى عليه من أسباب في المتخيل الجمعي أو في الصور النمطية التي تحملها جماعة أو طرف عن "الآخر" وتبعاً للظّرف التّاريخيّ فيتحول؛ عندها هذا التقاطب إلى عدوان متبادل وإلى تعبير الذات عن نفسها "بالإنكار"؛ وبالتالي فإن ثنائية "الأنا" و"الآخر" تبرز في شيطنته، وهي موجودة في كل العصور لكنها اليوم مكتنزة بالمشكلات، ورأى بأن نزعة التفوق والمبالغة والمغالاة في التمييز بين "الأنا" و"الآخر"، تستند إلى "القوة" وإن العرب تعرفوا على الآخر "الغرب" كغازٍ، كما تعرفوا عليه في موطنه الأصلي أيضاً كوجه إنساني متحضر وديمقراطي، أما معرفة الغرب للعرب، فكانت عن طريق "الاستشراق".    

ثمة أمر مهم ذكره، بإن ادعاء معرفة "الآخر" تمثل "معرفة إيديولوجية" والتي تعني عنده بأنها "انتقائية"، ورأى أن "الاستشراق" نوعين، الأول منه يتمثل في المستشرقين الأوائل الذين كان من بينهم مفكرين يجيدون العديد من اللغات ويقرؤون بواطن الفكر والثقافة ويحققون في تاريخ المجتمعات التي يتناولونها، وإن "الاستشراق" قدم وظيفة أساسية للمؤسسة السياسية العسكرية "الاستعمارية"، منوهاً إلى إن أغلب تراثنا الذي تم تحقيقه قد اكتشفه هؤلاء المستشرقين الذين حققوه وكتبوه لنا، وقارن بين هذا النموذج من "الاستشراق" بما هو موجود حالياً من خبراء واستشاريين في مراكز الدراسات والأبحاث ممن يعملون مع المؤسسة السياسية؛ مشيراً إلى إنهم لا يجيدون فهم المجتمعات التي يقدمون حولها الاستشارات ويحررون التقارير كما لا يجيدون لغتها وكل ما يتناولونه عنها -أي المجتمعات- هو مجرد تصورات نمطية؛ فالمجتمعات الإسلامية والعربية لديهم هي فقط ذكورية وتضطهد المرأة وإرهابية ومتخلفة..الخ، وتحدث عن سيطرة المدرسة الألمانية "التأريخّية" وما تتميز به في الحالة الاستشراقية، وهي التي تؤمن بأن معرفة أي حضارة تفترض معرفة "لسانها" "لغتها" فاللغة هي المنفذ لأي حضارة، وأشار بأنه كان من المألوف عند المستشرقين أن يتعلموا لغة الإسلام أو اللغة العربية أو الفارسية أو التركية أو الكردية..إلخ من اللغات. 

وهو يعتقد بوجود تيارين عربين في مجتمعاتنا تتوزع بينهما الثقافة؛ وهما على طرفي نقيض، "تيار انكفائي" يؤمن بالماضي والعودة إلى الأصول حيث يركز نقده على شيطنة الغرب، أما التيار الآخر فهو يؤمن بـ"التثاقف" ولا يعتمد مرجعية ثقافية، لكنه منفتح على ثقافات الآخرين، وهذا منقسم إلى تيارين أيضاً، أحدهما يقلد الغرب؛ اجتراري له سردية وردية وتلميعيه عن الغرب، أما الثاني فهو "تيار نقدي" يأخذ من الغرب ما يفيد مجتمعاتنا، وإن الحالة بين هذين التيارين هي أشبه بالحرب الأهلية الثقافية الفكرية ونحو وضع ثنائي بين الأنا والآخر "أنا وأنت"، وهذا ما يؤدي إلى حروب أهلية بحكم المضاربات الإيديولوجية "الانتقائية". 

في السياق تناول بالتحليل "تعددية الأنا" و"تعددية الآخر"، وأهمية التمييز بين "الغرب الثقافي" و"الغرب السياسي"، وشدد على إن في باطن كل من الأنا والآخر حركة ديالكتيكية تحمل متناقضاتها، ففي الأنا ما هو حسن وما هو شر، وفي الآخر "الغرب" ما هو شيطان من جانب وما يمثل حضارة وعلم وتقدم، منوهاً إلى إن كل طرف يريد أن يقدم صورة واحدة عن الغرب، وتساءل هنا "ما العمل؟". 

أجاب: أن العمل يكمن في الخروج من "الوعي الأيديولوجي" "الانتقائي"، فالغرب لديه نفس الصور النمطية عن العربي بأنه "متخلف، إرهابي، ذكوري..."، وهو -أي الغرب- متعدد ومتناقض في داخله أيضاً، ونحن أيضاً متناقضين ومتعددين في داخلنا، ولا يمكننا نقد الآخر، ما لم نبدأ بنقد ذاتنا، إننا بحاجة إلى رؤية تؤمن بأن الاختلاف والتعدد هو من طبيعة الأمور. 

وأضاف إنه وبرغم أن "الغرب السياسي" اليوم يتنكر لثقافة عصر الأنوار، إلا إن هناك "غرب آخر" هو "الغرب الثقافي" الذي يفترض ألا نخلط بينهما، مشيراً إلى إن لدينا أيضاً عيوبنا كـ"الثقافة الذكورية" وهذه ليست وليدة العصر وإنما هي سابقة على ظهور الأديان، ويستوجب التخلص منها ومن "الاستبداد" الذي لا يمكن تبريره لكونه من ثقافتنا. 

ختاماً؛ نصل عبر الرؤية الفلسفية للمفكر بلقزيز؛ إلى إن العلاقة بين "الأنا والآخر" علاقة جدلية تفاعلية تبادلية غير ثابتة، وهي تستبطن التلاقي والتناقض في باطنها، والأهم أن لا وجود فيها للأنا دون الآخر، وإن مسألة القوة والتفوق لا تبرر الاستعلاء على الآخر المختلف، كما لا تسوغ احتقاره ولا تشرعن إبادته، "فالآخر المتعدّد" في نهاية المطاف، هو مصدر لوجود "الأنا المتعدّدة" بكل ثقلها المعرفي والحضاري. 

المنامة – 6 نوفمبر 2024


السبت، 12 أكتوبر 2024

الإعلام كأداة تنوير واستنهاض لقضايا الإصلاح السياسي

 

د.منى عباس فضل

 الحديث عن التنوير والاستنهاض لقضايا الإصلاح السياسي يعني ما يعنيه من وجود خللاً ما في المنظومة السياسية والمؤسساتية للدولة، هذا الخلل غالباً ما يترافق بدعوات للإصلاح من قوى التغيير في المجتمع كالأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والمثقفين والمفكرين الذين يعبرون عن حاجة المجتمع إلى إحداث التغيير والانتقال به إلى وضع أفضل في الأداء السياسي والمؤسساتي للدولة، بل وإنجاز أهداف تحقق تطلعاته واحتياجات أفراده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. 

بهذا المعنى يمكن القول؛ أن الاصلاح السياسي مفهوم دينامي يعبر عن رغبة ملحة في التغيير واستبدال الوضع السياسي القائم بوضع آخر أفضل منه؛ وبالتالي تحقيق أوضاع سياسية تلبي تطلعات قوى المجتمع واحتياجات أفراده وترتقي بهم، ما يعني أن الإصلاح السياسي حركة ارتقاء من وضع يشوبه الخلل والفساد وسوء إدارة مؤسسات الدولة وتوزيع الثروات العامة وغياب العدالة والمساواة في الفرص المبنية على القدرات والكفاءات، إلى وضع يحد من كل هذا الاختلال والفساد وسوء الإدارة ويحقق عدالة أكبر في التوزيع وتكافؤ الفرص.

كما يستند الإصلاح السياسي على ركائز للبناء الديمقراطي، لها علاقة بحرية الرأي والتعبير خصوصاً حرية الصحافة والنشر والإعلام، والتي يمكن قياسها عبر التعرف على مستوى سيطرة الدولة على وسائل الإعلام وممارسة دورها الرقابي على أداء السلطة التنفيذية، فضلاً عن التعددية السياسية والحزبية؛ إذ لا ديمقراطية من دونها، فهي التي تفضي إلى خلق تيارات وأحزاب وتكتلات وجماعات ضغط ومصالح، تنخرط في آليات العمل الديمقراطي الانتخابي، أما الركيزة الثالثة فتتمثل بوجود برلمان يراقب ويشرف على السلطة التنفيذية ويخطط معها، وقوانين انتخاب تحد من تدخل السلطات في العملية الانتخابية وتوجيهها، إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني، حيث لا يمكن إرساء قواعد الشفافية والمساءلة، دون نشاط الأخيرة الرقابي وبدون عوائق وضغوط. 

في هذا الشأن يشير الباحثين إلى إن من أصعب مراحل عملية الإصلاح السياسي، هو إحداث التغيرات البنيوية والقيمية المشار إليها والتي تمس البني الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، ذلك لأنها -أي عملية الإصلاح- مركبة ومعقدة ومتشعبة تتداخل فيها المصالح، وتختلف حولها الآراء والتصورات التي تتجاذب القوى السياسية والاجتماعية على اختلافها، وبالتالي فهي -أي قضايا الإصلاح السياسي-  بحاجة إلى تحديد رؤية واضحة بشأنها وأهداف محددة وخطة عمل طويلة، بل وتعاون وثيق ومستمر بين القوى السياسية والاجتماعية والفعاليات الاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني ومراكز صنع القرار السياسي؛ من أجل تقديم حلول للمشكلات التي تواجه المجتمع، هذه الرؤية لابد وأن تكون مدعومة بدارسات منهجية تحدد مكامن الخلل وماهيته في المجتمع السياسي السائد، كما تحدد القوى الاجتماعية المستفيدة من هذه العملية، بتحليل أولوياتها ومصالحها والبحث عن الآليات والمقاربات الإعلامية اللازمة لتنويرها وتوعيتها بشأن قضايا الإصلاح السياسي(1). 

وعليه لا عجب إن تعددت مسارات الإصلاح السياسي في المجتمعات وتداخلت بالمسار السياسي والاجتماعي والقانوني والإداري والاقتصادي، وذلك ضمن توازنات سياسية لها علاقة بتعديل التشريعات والأنظمة الانتخابية وإصلاح قوانين الأحزاب التي تعزز من هذه التعددية إضافة إلى الحريات الصحفية والإعلامية كشرط وذلك بإفساح المجال لها للنقد والمراقبة الجادة للسياسات والخطط والممارسات العامة لرموز الأنظمة الحاكمة، وإعادة ترتيب الأولويات التي تتبنى برامج تركز على مسارات الإصلاح السياسي والإداري والقانوني وبما تتطلبه العملية الإصلاحية برمتها من مهارات سياسية تعمق من نهج التوافق السياسي العام.

بين الإصلاح والإعلام

في هذا الشأن نجد إن بروز قضايا الإصلاح السياسي والمطالبة به برزت في بلداننا العربية خلال العقدين الأخيرين اللذين تخللتهما الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية وتفجرت فيهما الانتفاضات المتكررة بالمطالب النقابية والسياسية المعارضة لأنظمة الحكم، والتي تسبب فيها انتشار آفة الفساد واحتكار طبقة أو فئة قليلة بالثروة واتساع شرائح الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمحرومة من الخدمات الأساسية كـ"التعليم والصحة والعمل والضمان الاجتماعي ومن نصيبها في الثروة الوطنية" في ظل تقييد للعمل السياسي وتصحير لنشاط مؤسسات المجتمع المدني وتقييده، والحد من حرية الصحافة واحتكار وسائل الإعلام التي تعمل بلا هوادة على تدجين الرأي المجتمعي، حيث تؤطر الدولة النشاط الإعلامي وتخضعه بما يحدث من تشويش وإدارة من الدولة العميقة له؛ فأكثر الدول فساداً كما تفيد دراسة حديثة: "هي تلك البلدان التي يغيب فيها دور الإعلام كسلطة رابعة، وذلك لكونه مملوكاً للدولة ويبرّر سياساتها، وإمّا مملوكاً لمن يدورون في فلكها من أقارب ورجال أعمال لتحقيق الكسب الاقتصادي". 

وقد لاحظنا كيف إن مطالب الإصلاح والتغيير قد بلغت مداها في سياق ما أطلق عليه "بثورات الربيع العربي" ومع تأثيرات الأزمات الاقتصادية وانخفاض معدلات النمو ومع انتشار الجائحة؛ فكل هذه الأزمات وتلك كانت ولا تزال تنذر بكوارث مفتوحة تتسع دوائرها بما تكرسه من فوراق اجتماعية وطبقية وما تنتجه من فقر وهشاشة اجتماعية في ظل الفساد وسوء الإدارة؛ والحال هكذا يجوز طرح السؤال عما يمكن للإعلام القيام به من دور كأداة للتنوير واستنهاض لقضايا الإصلاح السياسي؟

التحولات الإعلامية

تتنوع وسائل الإعلام في مجتمعاتنا العربية كما غيرها، وتتعدد في أشكالها ما بين "التلفزيون والإذاعة والصحف والمجلات رغم تراجع دورها الورقي مع تقدم الإعلام الرقمي، والإعلام الرقمي من "ويب ومنصات التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية" التي توفر محتوى متنوع وتفاعلي من خلال تبادل الأخبار والفيديوهات والمقالات والصور، إلى جانب الوسائل الاجتماعية "فيسبوك، منصة أكس، الانستغرام، ولينكدان..إلخ"، وهي تستخدم للتواصل الاجتماعي ومشاركة المحتوى الشخصي والمهني، وهناك الأفلام والسينما، التي تعد أيضاً وسيلة لنقل القصص والتعبير عن الفن والثقافة، والكتب التي لا تزال وسيلة هامة لنقل المعرفة والثقافة سواء أكانت مطبوعة أو إلكترونية ووسائل الاعلام الاجتماعية، بما تشتمل عليه من "YouTube, TikTok, Snapchat" وغيرها من المنصات التي تسمح للأفراد بمشاركة مقاطع الفيديو والصور والمحتوى القصير وتلعب دوراً كبيراً كأداة تنوير وتشكيل للوعي المجتمعي وبلورته واستنهاضه نحو قضايا المجتمعات وأبرزها قضايا الإصلاح السياسي. 

تتفق الكتابات الكلاسيكية على اضمحلال الحدود وتقارب المسافات لعبور الأدوات الإعلامية مرحلة جديدة من التحولات الجذرية بسبب التقدم التقاني والثورة الاتصالاتية والذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت المنصات الإعلامية وأدوات التواصل الاجتماعي تقوم بدوراً مهماً وأساسياً في بناء الوعي وإعادة تشكيله من خلال استقبال المعلومات وإعادة بثها، وبالتالي فأن لدورها تأثيراً كبيراً في انتقاء محتوى المادة الإعلامية وتدويرها والارتقاء بالوعي أو الانحطاط به عبر نشر الشائعات وتزوير الحقائق وتزييف الوعي وتدجينه، لم لا والدور الذي تؤديه خطير في نقل الآراء والمواقف والأخبار بشكل متداخل فيما بينها؛ بصورة إيجابية أو سلبية، فهي أما أن تساهم في تعزيز الوعي الجمعي نحو قضايا الإصلاح السياسي وما يدور حولها من تداول ونقاش منتج واحترام الرأي الآخر وافساح المجال للمشاركة والمتابعة وتبادل الآراء؛ وأما أن ترسخ عبر ممارساتها وأهدافها من قيم واتجاهات سلوكية لا تتناسب وما تعمل عليه برامج الإصلاح السياسي، خصوصاً وإن أصحاب المصالح والمتنفذين في دوائر السلطة الرسمية ممن يحتكرون الإعلام ويسيطرون على المادة الإعلامية السياسية المتداولة والإيديولوجية أو التجارية التي يتم توجيهها للأفراد ولتشكيل الرأي العام للجماعات؛ وهم قلة قليلة، هذا من ناحية.

إشكالية أداة الإعلام

ومن ناحية متصلة، تؤكد الدراسات المتوفرة، بأن الشفافية وما ينتج عنها من قدرة على المساءلة تعتمد -إلى حدّ كبير- على وجود إعلام حرّ قادر على نشر الأخبار وإجراء التحقيقات، وكشف الأخطاء، فالإعلام المسموع والمرئي والمكتوب تتمثل مهمة أعضائه في تحفيز السياسيين على النزاهة والأمانة من خلال طرح الأسئلة بأشكالها ومتابعة الإشاعات والتدقيق على الإجراءات وتمحيص العقود والمناقصات، وعدم القبول بالإجابات العامة وغير المقنعة، فالإعلاميون كما يقول أحد المختصين –"يمكنهم تحويل الفساد من سلوكٍ ذي مخاطرةٍ منخفضةٍ وربح مرتفع إلى سلوكٍ عالي المخاطرة ومنخفض الربح"، وكذلك هم الذين يبثون روحاً في المعلومات إذا توفرت عبر نشرها على نطاق واسع، وتحليها وعرضها على المجتمع بأكمله، مما يلزم بقية المؤسسات -كالقضاء- بمتابعة من نشير هذه المعلومات إلى تورطه في الفساد، وينقل عن نيلسون مانديلا قوله في كلمه له في براغ عام 1992: "لا أستطيع أن أضع ثمناً على أهمية الإعلام الحر والمستقل.. فهذا الإعلام هو الذي يهذّب غرائز الحكومات في مراكمة النفوذ على حساب المواطنين"(2)، ويجمع الباحثين إلى أن أغلب وسائل الاعلام في بلداننا العربية لا تتمتع بأي استقلالية حيث تسيطر عليها الحكومات وتحتكرها؛ "فأكثر من (70%) من القنوات الفضائية" تعمل تحت إشراف الدولة التي تمتلك وكالات الأنباء وتخضع لرقابتها(3). 

في السياق تشير الدراسات إلى أن الأفراد يقضون معدلات عالية من ساعات يومهم أمام وسائل الإعلام مما يجعل تأثيرها عليهم عميق وجوهري، فقد كشفت دراسة حديثة بأن الاستخدام اليومي لوسائل التواصل الاجتماعي قد زاد بنسبة (55%) مقارنةً بالعقد الماضي في عام 2013 بساعة واحدة و37 دقيقة، وإن إجمالي عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في العالم يُقدر بنحو (4.76 مليار) وهو ما يمثل (59%) من سكان العالم(4)، فيما يقول مدير قسم الاتجاهات الرئيسية لدى "غلوبال ويب إندكس": "بات مستخدمو الإنترنت يقضون أكثر من ست ساعات على الشبكة يومياً، وثلث هذا الوقت مكرّس لوسائل التواصل الاجتماعي،.. كما بات معدل التصفح اليومي لوسائل التواصل الاجتماعي موضوعا له أهميته، وتُعدّ المدة التي نقضيها على تلك المنصات يوميا إحدى أهم وسائل قياس هذا النشاط، وقد ساعد التطور الذي تشهده الهواتف الذكية في سهولة رصْد ذلك الأمر"(5). 

أهمية الإعلام وخطورته

وهذا يقود إلى الحديث عن أهمية وسائل الإعلام وخطورة دورها كأداة في تنوير واستنهاض للرأي العام في قضايا الإصلاح السياسي؛ ومن كونه أداة لإعلام أفراد المجتمع بما يحدث ونقل المعلومات والأخبار إليهم من مصادرها المتعددة وبسرعة قياسية، وبالتالي فهي تمكنهم من الاطلاع على مجريات الأحداث ووجهات النظر والتحليلات والأفكار حولها عبر وسائل الإعلام المختلفة، إضافة إلى توجيه واستقطاب انتباههم إلى قضايا الإصلاح السياسي ومواضيعه المهمة وإشكالياته، من خلال نشر التقارير والتحقيقات التي تساهم في تسليط الضوء على قضايا الشأن العام وتوجيه الاهتمام نحوها، إلى جانب توعيتهم بكافة القضايا الاجتماعية والبيئية والصحية والسياسية والاقتصادية بما توفره من معلومات تساعدهم على فهم تلك القضايا بشكل أفضل. 

ما يعني أن أداة الإعلام تلعب دوراً مهماً في تشكيل الرأي العام وتوجيه آراء الأفراد من خلال تقديم معلومات وتحليلات وآراء مختلفة مما يخلق تأثيراً في عملية اتخاذ القرارات والتحفيز على التفكير والنقاش، وهناك قضية مهمة يلعب فيها الإعلام دوراً مهما أيضاً في قضايا الإصلاح السياسي تتعلق بالمساءلة والشفافية عبر مراقبة الحكومات والمؤسسات والشركات وضمان المساءلة عند حدوث فساد ما أو سوء تصرف، كما يمكنه الكشف عنه والمساعدة في تحقيق الشفافية، وكل هذا وذاك يعزز من الممارسة الديمقراطية ومفهومها خصوصاً بتوفير المعلومات للناخبين وتشجيعهم على المشاركة السياسية والمدنية. 

على مستوى البلدان العربية، صحيح أن هناك تقدماً قد أحرز في تطوير البنية التحتية لوسائل الإعلام والاتصال الحديثة وتقانة المعلومات بل وفي انتشار التعامل مع الانترنت وتوسيع هامش الحرية ومحاولات الإصلاح والانفتاح السياسي، غير إن الواقع أثبت خلال هذين العقدين بأنه لا يزال كل ذلك محكوماً بأمرين مهمين الأول منهما: 

الأول يتعلق بتدخل الحكومات العربية في وسائل الإعلام وتحكمها فيه لأغراض الدعاية والتعبئة السياسية والاجتماعية والفكرية وللشحن العاطفي والنفسي لصالح الأنظمة والقادة وتوجهاتهم السياسية والإيديولوجية التي تعالجها بصورة مباشرة ومعلنة أو غير مباشرة ومضمرة؛ وفي كلتا الحالتين تسعى هذه الأنظمة إلى قولبة الفرد في أطر معينة محددة في ضوء الأهداف التي يتصورها قادة هذه الدول وفي مصلحة مشاريعهم للإصلاح السياسي بذاته، وبالتالي تبقى هذه الأدوات الإعلامية تعبيراً فاقعاً عن احتياجات الأنظمة لا الشعوب، حيث تستهدف قولبة المواطن العربي في ذهنية معينة وبأبعاد محددة قد تزيد من سلبيته وقلة مشاركته في الحياة السياسية. 

ويرى بعض المحللين؛ بإن مضمون الاتصال في عالمنا العربي سواء -أكان إعلامياً، أو جارياً في إطار التثقيف العام- لا يحتوي في الغالب على ما يحتاجه عامة الناس أو ما يساعد على تكوين شخصية الإنسان العربي ووعيه بمشكلاته وقضايا وطنه، إلا في حالات استثنائية، حيث ترى هذه النظم الاتصالية أن من مصلحتها اطلاع المواطن على ما تريده هي في ظل تجاهل وعدم اهتمام بالاحتياجات الأساسية لفئات عريضة من المواطنين، فالطرح أحادي البعد للمسائل الحيوية في السياسات العامة ولا يعبر في الأغلب عن الواقع وهناك تجاهل تام للقضايا والمشكلات الحيوية التي تمس المواطن؛ مقابل الانغماس في القضايا السطحية وتحويل الانتباه وتغييب الوعي عن القضايا الأساسية، كما ينتشر الاسراف المبالغ فيه في الاهتمام بالرياضة لقولبة الاهتمامات، ويعمل الإعلام الرسمي على إبراز الإنجازات وتضخيم الانا الوطنية بصورة غير موضوعية، والنتيجة تزييف للوعي العام(6). 

وأما الثاني، فيتمثل في شيوع المادة الترفيهية على حساب المهمات والخدمات الأخرى، الأمر الذي يجعل مشاريع الإصلاح السياسي في مواجهة تحديات صعبة في ظل التحولات العالمية والتبادل الحر للمعارف على شبكات التواصل. 

محددات وضوابط أداة الإعلام

من هنا وحتى يلعب الإعلام دوراً مهماً ورائداً في استنهاض الوعي العام لقضايا الإصلاح السياسي، لابد وأن يقوم بمعالجتها وأن تحكمه محددات وضوابط من خلال خطاب واضح لقضايا الإصلاح السياسي وأن يترافق الأخير بممارسة ديمقراطية ضمن نموذج دستوري وسياسي كأولوية، فضلاً عن تشريعات وقوانين تعزز من هذه الممارسة وأن تطلق حرية عمل الأحزاب السياسية وتعددها وتمكين النقابات ومؤسسات المجتمع المدني من ممارسة أنشطتها بحرية؛ ولابد أن يكون لقضايا الإصلاح خطة متكاملة ذات أولويات واضحة، وحلول تتناول تعديل الدستور والنظام الإداري والقوانين والتشريعات. 

إن آلية الإعلام التي يمكنها مواجهة تحديات الإصلاح السياسي يستوجب أن تتوافر على سمات وشروط محددة للتأثير في استنهاض الرأي العام حول قضاياه وأهميتها(7)؛ ومن أبرز تلك السمات ما يلي: 

1.أن تتسم هذه الآلية بالدقة وبالكفاءة والفعالية والشفافية في إمداد الرأي العام بالحقائق التفصيلية المتعلقة بقضايا الإصلاح السياسي وفي قدرتها على التعبير بصدق وشفافية عن الحقائق والأحداث دون تحريف أو تزييف للمعلومات، فضلاً عن قدرتها على تحليل الأحداث وتقديم تفسيرات مفهومة وموضوعية للناس، ومواجهة نشر الشائعات والاهتمام بنقل الأحداث بالتواجد في مناطقها والاهتمام بالمادة المصورة المعبرة عن حقيقة الموقف. 

2.الاهتمام بالتقارير والتحليلات والتعليقات الإخبارية المتعلقة بقضايا الإصلاح السياسي وبالمواد الوثائقية المصاحبة للتغطيات الإعلامية والصحفية التي تفسر أهمية المشاركة في برامج الإصلاح السياسي. 

3.الاهتمام بالتصريحات الرسمية والسياسية التي تساعد على تشكيل اتجاهات الرأي العام تجاه قضايا الإصلاح السياسي، والبحث والاستقصاء للعثور على القصص والأحداث الهامة ذات المغزى الذي تفيد الناس والتفاني، بجدية واجتهاد في نقل الأخبار بدقة وموضوعية وتحقيق التوازن في التغطية. 

4.مواجهة التحديات والتهديدات والانتقادات والمشاكل التي قد تنشأ نتيجة تقديم المعلومات الصادقة والدقيقة، مع الحرص على تبيان النواقص والاختلالات لكسب المصداقية والتعامل بموضوعية مع الأحداث. 

5.الالتزام بالنزاهة وبمبادئ وقوانين وأخلاقيات مهنة الصحافة ومعاييرها وتجنب الفساد والتحيز وحماية خصوصية الأفراد. 

6. المحافظة على الاستقلالية وعدم التأثر بالتوجهات السياسية أو الاقتصادية أو الشخصية، خصوصاً وإن للإعلام تأثير كبير على المجتمعات في مجال خلق الرأي العام وما يبثه من رسائل ضمنية -عبر من يتحكم فيه من ممولين أو متنفذين أو عامل خارجي- يؤثر على المجتمع مباشرة وتوجيه الرأي العام نحو قضية ما. 

7. الالتزام قدر المستطاع بالمصادر الموثوقة؛ ومواجهة الضغوط والتهديدات التي قد يتعرض لها الإعلامي أثناء تغطيته للأحداث. 

8. المتابعة المستمرة، بفتح قنوات الاتصال المباشر بين وسائل الاعلام والجمهور لتلبية حاجتهم إلى الفهم والمعرفة، والتوازن في عرض وجهات النظر المختلفة وإتاحة فرص الحوار والنقاش حول ما يحدث على الساحة السياسية. 

خلاصة الأمر؛ الإعلام أداة تنوير واستنهاض لقضايا الإصلاح السياسي الذي يمثل مرتكزاً في البناء الديمقراطي في أي مجتمع من المجتمعات، ولا يمكن لهذه الأداة المهمة والخطيرة القيام بدورها بكفاءة وفعالية في هذه العملية دون إعلاميين ملتزمين بنزاهة وأخلاقيات المهنة بعيداً عن الفساد والمحسوبية والتفاهة.

- شاركتُ بهذه الورقة في مؤتمر الإعلاميات العربيات التاسع عشر في العاصمة عمان بالاردن في الفترة ما بين 7-8 أكتوبر 2024، والذي أقيم تحت شعار "فرسان الحقيقة". 

المصادر والمراجع: 

1.  خالد رحموني، الصراع السياسي حول الإصلاح: المنظور، أنماط الخطاب وتدبير المصالح، 11 فبراير 2013، أنظر رابط هسبريس:

https://www.hespress.com/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%88%D8%B1%D8%8C%D8%A3-116062.html

2.  د.يوسف خليفة اليوسف، الفساد في البلدان العربية النفطية: رؤية شاملة، ط1، جسور للترجمة والنشر: بيروت، لبنان 2020، ص 101.

3.  غدنز (أنتوني)، علم الاجتماع، ط4، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005، صفحة 500.

4.  أنظر "المتوسط العالمي ساعتان ونصف يوميا .. أطول الدول قضاء للأوقات على مواقع التواصل الاجتماعي"، 2023/08/20

https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/1664765

5.  أنظر؛ ما الدول التي يقضي سكانها أطول الأوقات على مواقع التواصل الاجتماعي؟ 10 سبتمبر2019، https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-49639603

6.   شجن العلك، دور الإعلام في مواجهة الأزمات السياسية pdf2019.

 


الاثنين، 5 أغسطس 2024

غزة بعد "الانتخابات الأمريكية"


منى عباس فضل

 ما وراء الحكاية؟ ما الرسالة الزائفة التي يروج لها مارثون الانتخابات الأمريكية في ظل خطاب معلن لسياسات الإجرام والإخضاع بما يمارس على الشعب الفلسطيني وبلدان المنطقة؟ ما الذي تبيته الولايات المتحدة لغزة في السباق الانتخابي الحامي الوطيس بين "كامالا هاريس وترامب"؟ 

قبل الإجابة على الأسئلة، من المفيد التأسيس على حقيقة فاقعة مفادها؛ إن انخراط الولايات المتحدة في الحرب على قطاع غزة وإدارة المعركة فيه قد انطلق من موقع الشراكة الاستراتيجية الكاملة بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، هذه الشراكة التي عبرت عن نفسها بمستويات متعدّدة؛ من دعم سياسي ومالي وعسكري وإعلامي؛ لم لا وأمن إسرائيل وقوة ردعها يمثلان قاعدة صلبة في السياسة الأمريكية للمنطقة العربية؛ وهذا الدعم يتكشف للعالم عبر مظاهر فاضحة لا جدال حولها؛ كيف؟

تماهٍ أمريكي إسرائيلي

منذ "طوقان الأقصى" وصمود المقاومة الفلسطينية؛ والولايات المتحدة تقدم دعماً مكثفاً لا حدود له للكيان الصهيوني، وهي لاتزال تفعل ذلك براً وبحراً وجواً، بل وتمنحها الضوء الأخضر لاستمرار الحرب وتبرير جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة، فيما يتدفق كبار المسؤولين فيها لزيارة إسرائيل وإظهار تضامنهم معها، وهي التي توفر لها غطاءً دبلوماسياً في مجلس الأمن باستخدام حق الفيتو ضد أي مشروع قرار لتأسيس دولة لفلسطين أو لوقف إطلاق النار، وتساندها في انتهاك القانون الدولي وتُفشل قراراته التي تدين ممارساتها في الحصار والتجويع ومنع دخول المساعدات.

 وهي -أي الولايات المتحدة- لم تتواني عن إرسال بوارجها الحربية إلى المنطقة وتدشين رصيف بحري عائم بحجة إيصال المساعدات الإنسانية على الرغم من اللغط الذي أثير حول أسباب تدشينه تمهيداً لتهجير أهل غزة ودعماً لمشروع المعبر البديل عن رفح، كما مارست ولاتزال ضغوطاً هائلة على حلفائها في دول المنطقة لحد إحراجهم مع شعوبهم وخلخلة أمن دولهم واستقرارها تحقيقاً لأهداف العدوان الإسرائيلي على غزة، وبوقاحة تطالبهم بوقف إصدار أي قرارات أو مواقف لها علاقة بوقف إطلاق النار على غزة وإدانة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وتدمير البنى التحتية التي يرتكبها جيشها في القطاع؛ فإذا كانت كل هذه وتلك مضامين للسياسة الأمريكية وعناوينها في علاقتها مع إسرائيل، وبما تعكسه فعاليات الحملات الانتخابية لمرشحيها "كامالا وترامب" وشعاراتها المنحازة بشكل مطلق للرواية الإسرائيلية ومغالطاتها وتضليلها؛ فما المتوقع منها بعد فرز صناديق الانتخاب؟

 -       ليس الكثير بل الأسوأ بالطبع!

غزة بعد استراتيجي

فما يحكم الموقف الأمريكي على غزة وفلسطين في سياق السباق الانتخابي ونتائجه؛ تحدده ودون شك المصالح الجيوسياسية الأمريكية في المنطقة والخطوط العريضة لاستراتيجيتها الراسخة التي تمس جوهر أمنها القومي، على الرغم من تشابك هذه الاستراتيجية وتفاعلها مع المدخلات الطارئة والمتغيرة في المشهد السياسي.

 لا يختلف المحللون على حرص الولايات المتحدة وسعيها إلى التفرد بالهيمنة على المنطقة وثرواتها وفرض نفوذها، وغزة في هذا الإطار تمثل منطقة حيوية لهذه المصالح الاقتصادية التي يكمن في جوهرها السيطرة على تجارة النفط ومناطق إمداده؛ خصوصاً وسط حديث الإعلام عن وجود حقول للغاز والنفط والاحتياطي منه بكميات تجارية قرب شواطئ غزة، وهذا سر سعي إسرائيل إلى السيطرة الأمنية والجغرافية الكاملة على قطاع غزة بما يتمتع به من ثروات المياه التجارية ولتمرير مشاريع كـ"قناة بن غوريون" لتأمين الملاحة الإسرائيلية الأمريكية في مواجهة المشروع الصيني الضخم مبادرة "الحزام والطريق" أو ما يسمى "طريق الحرير القديم"، وغزة أيضاً ممراً هاماً لتمرير طاقة الغاز والنفط  وكوابل الألياف الضوئية للاتصالات من الجزيرة العربية، الأمر الذي تخشى فيه إسرائيل من أي نشاط للمقاومة الفلسطينية في هذا الممر الاستراتيجي.

 ليس هذا فقط، فالولايات المتحدة تسعى ضمن استراتيجيتها إلى المحافظة على مستويات أسعار الطاقة بما يدعم اقتصادها، ما يعني إن تأمين إسرائيل وموقعها الإقليمي وحمايتها وتفوقها العسكري والتقني في مواجهة المقاومة الفلسطينية يشكل مسألة في غاية الأهميّة للسياسة الأمريكية، لم لا وهي تساند إسرائيل سنوياً بمبلغ "3.8 مليار دولار" وتمنحها حق الوصول إلى التكنولوجيا العسكرية دون قيود، وترسل إليها بوارجها وتعزز من وضع قواعدها العسكرية في المنطقة حماية لها، حيث تشير المصادر إلى أن عددها وصل إلى "63" قاعدة عسكرية يتواجد جزء منها في "12 دولة عربية". 

تطبيع لتأمين المصالح

ولدعم هذا البعد الاستراتيجي، ستواصل الولايات المتحدة بعد الانتخابات الرئاسية الدفع بقوة بمسار التطبيع بين دولة كيان العدو وبين الدول العربية وعلى الأخص الخليجية منها وتحديداً المملكة العربية السعودية، فهذا هدف استراتيجي لتأمين استمرارية الهيمنة الأمريكية على المنطقة وثرواتها، هدف لم ولن يتغير حتى بتغير الإدارات الأمريكية سواء ربحت " كامالا هاريس" جولة هذه الانتخابات أم منافسها "ترامب". 

إن اختلاف الآراء والتحليلات بشأن مدى تأثير التباين بين إسرائيل والولايات المتحدة حول الحرب على غزة أو تفاصيل إدارة معركتها وحجم عملياتها العسكرية أو ما يدور بشأن المفاوضات حول ملف تبادل الأسرى وتوزيع المساعدات الإنسانية وحتى مشروع إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة أو من يحكمها بعد الحرب..إلخ؛ لن يغير من اتجاهات الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية قيد أنملة، حتى مع التجاذبات التي جعلت من الحرب والتعامل مع مستجداتها وتداعياتها بنداً رئيسياً في سجالات الحملات الانتخابية بين " كامالا وترامب" للحصول على تأييد الناخبين للوصول إلى البيت الأبيض، وما أفرزته الحرب من مواقف مناهضة في المجتمع الأمريكي لسياسة بايدن الداعمة لاستمرار الحرب على غزة ومساندة الولايات المتحدة لإسرائيل.

اللوبي الصهيوني

إن ما عبرت عنه المواقف والاحتجاجات الرافضة التي انتشرت بين طلاب الجامعات الأمريكية سواء المؤيدة للحق الفلسطيني أو المطالبة بوقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية داخل القطاع، علاوة عن التحولات التي تحدثت عنها وسائل الإعلام  في مواقف الناخبين الأمريكيين وخصوصاً العرب منهم والأقليات، وما كشفته استطلاعات الرأي ومنها "لصحيفة نيويورك تايمز" بأن هناك تراجعاً في التصويت لصالح الديمقراطيين بسبب سياسة بايدن الخارجية وتحديداً الحرب على قطاع غزة، أو ما عبر عنه تصويت عشرات الآلاف بـ"غير ملتزم Uncommitted”" في العديد من الولايات ضد بايدين قبل انسحابه من السباق الانتخابي، ومع تحول القضية الفلسطينية ولأول مرة إلى مادة انتخابية داخلية، إلى جانب استياء شخصيات بارزة من أصول أفريقية ومن مثقفين من سياسة بايدين حيث طالبوا بالضغط على إسرائيل واحترام القانون الدولي وحماية المدنيين ووقف إطلاق النار، أقول؛ رغم كل ذلك، إلا إن قوة جماعات الضغط واللوبي الصهيوني وفي مقدمتهم (إيباك) وبخبرتهم في تمويل الحملات الانتخابية للمرشحين وبتأثيرهم المباشر على الناخبين وعلى القضايا التي يتبنونها فأن تأثيرهم إلى جانب الدور الذي يلعبه الإعلام المتعاطف مع إسرائيل ورجال الأعمال الصهاينة بنفوذهم المتغلغل في الاقتصاد الأمريكي وتمويلهم للحملات الانتخابية يلعبون جمعياً دوراً قوياً وعميقاً في التأثير على موقف الولايات المتحدة من الحرب على غزة بل وكل قضايا الصراع العربي الإسرائيلي. 

خلاصة الأمر، لا جديد فيما تبيته الإدارة الأمريكية لغزة وأهلها بل وللمقاومة الفلسطينية على المدى القصير؛ فعلى الرغم من أن حرب غزة قد هزت المشهد السياسي في الداخل الأمريكي نسبياً وقد تنعكس تداعياتها على نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية وتوجهها في الشرق الأوسط لكن بمزيد من الدعم والإسناد لإسرائيل. 

إن الاحتمالات الأكثر ترجيحاً ستكون بمواصلة الحرب المفتوحة، وتدفق الدعم الأمريكي السياسي والعسكري والاقتصادي لإسرائيل؛ خصوصاً بعد الاغتيالات الأخيرة التي نفذتها إسرائيل بحق الرئيس الفلسطيني إسماعيل هنية والقيادي بحزب الله فؤاد شكر؛ إذا لا خلاف جوهري بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي تجاه القضية الفلسطينية ودعم حليفهم الاستراتيجي إسرائيل، ولا عجب إن تورطت الولايات المتحدة هي نفسها بالتدخل المباشر لتحقيق أهداف الحرب الاستراتيجية؛ وهي لن تتواني من أجل ذلك في استنزاف حلفائها من دول المنطقة والعمل معهم على إيجاد منافذ لتنفيذ "خطة تهجير الفلسطينيين قسراً أو طوعاً من غزة" وبما يترافق مع محاولاتها المتجددة في استغلال الظرف السياسي لإعادة تشكيل الوعي العربي لإنجاز مخطط إعادة رسم "الشرق الأوسط الجديد" الذي يتمثل جزء منه في "تهجير سكان غزة" وإثارة الصراعات والنعرات الطائفية والإثنية لإضعاف المنطقة والقضاء على المقاومة الفلسطينية والضغط عليها بشتى الوسائل وإلى  تحريض حاضنتها الشعبية عليها بسبب سياسات الإبادة وقتل المدنيين والحصار والتجويع ومنع وصول المساعدات الإنسانية والطبية إليهم.

المنامة - 5 أغسطس 2024

 ينشر بالتزامن مع مجلة "الهدف" العدد (61) -(1535) - تموز (يوليو) 2024 النسخة الإلكترونية"

الرابط: file:///C:/Users/maf_2/Downloads/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AF%D9%81%20-%2061-%20%D9%86%D8%B3%D8%AE%D8%A9%20%D8%A5%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%B1%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9%203.pdf